مع قصص محمد الشويهدي
د. عبدالجواد عباس
لعل ما يميز محمد علي الشويهدي* هو تغطيته القصصية لمرحلة الخمسينيات والستينيات التي مرّ بها مجتمع بنغازي بالذات.. العادات والتقاليد ومجمل الحياة اليومية للمجتمع الذي كان في ذلك الوقت..عندما نقرأ لمحمد الشويهدي من قصص تلك الفترة نلمس قابليته الشديدة في تحليل النوازع والأوهام التي كانت تنتاب أفكار جيل تلك الحقبة من عامة الناس وخواصهم في مدينة بنغازي، بوصف يتغلغل ويعمق ويعمق لاستجلاب دقائق الحياة اليومية والعلاقات المتشابكة التي تحكم طبيعة المجتمع الليبي في محيط المدينة حينها.. وأقرب ما يتضح ذلك في مجموعاته القصصية )أحزان اليوم الواحد) أو (أقوال شاهد عيان) أم مجموعته (كحل العين) التي تحتوي إلا على قصتين بتوقيع مجتمع الستينيات وهما (ولْد الشيخ) و(الجُــرْذ).
فالشويهدي بهذا قد غطـّى أحداث تلك المرحلة بتفاصيل كثيرة من حياة مجتمع المدينة، ليس الجيل الحالي على دراية بها، فمن خلال قصصه بيّن لنا أحوال مجتمع برمته ؛ مجتمع مدينة بنغازي بالذات، فقد عاش فيه وامتزج به فعرف صفحاته البيضاء والسوداء معا ؛ ويتميز في قصصه الأولى بدقة الملاحظة، فهو يحسب كل كبيرة وصغيرة ويضمنها أسلوبه تمشيا مع التيار الواقعي الذي وجد نفسه فيه، فقد عرفناه قاصا مشاكسا يدخل البيوت وينبش أسرارها، ويصور هواجس الشباب من الجنسين ويكشف خططهم في عشقهم وصراعهم مع الحياة, ومن ثم مراميهم وآمالهم الصغيرة والكبيرة، ويبين لحظات السلوك الإنساني من خداع ونفاق وصدق في: ( أحزان اليوم الواحد ) 1972و(أقـوال شاهـد عـيان) 1976.. وقد طُبعت هاتان المجموعتان القصصيتان مرات عدة.
وبما أن قصص (أحزان اليوم الواحد) من بين القصص التي ساهم بها الشويهدي مساهمة كبيرة في تغطية نمط الحياة الاجتماعية في مرحلة الستينيات وكانت أحداثها تدور في مدينة بنغازي فقد استرعى ذلك انتباه الناقد والقاص خليفة حسين مصطفى فعلق عليها بأنها ذات نَفَسٍ واحد، وأن أحداثها حدثت في مكان واحد لا يبرحه فيقول : " تضم المجموعة خمس عشرة قصة، وكل قصة تكاد أن تكون امتداد للقصة التي سبقتها، ومكملة لها في الشكل والمضمون، وهذا الانطباع الذي نستمده من قصص (أحزان اليوم الواحد) يتبلور ببطء من قصة إلى أخرى، ثم يترسخ ويتعمق فلا يعود مجرد انطباع باهت وإنما يتخذ صورة قناعة حاسمة بأن الكاتب كان يمشي فوق رصيف واحد " (1)
محمد علي الشويهدي مميز في هذه الناحية من تاريخ مدينة بنغازي، وإن كان يشاركه بأنفاس أخرى عن هذه المدينة قاصون آخرون قاموا بتسجيل نمط الحياة فيها، في أزمنة مختلفة أمثال بن عيسى الجروشي في مجموعته القصصية:( الناس والحياة) ورمضان عبدالله بوخيط في (حكايات الماضي القريب) وأحمد محمد العنيزي في (حديث المدينة) وكذلك وهبي البوري ويوسف الدلنسي حتى نقف على أعتاب قاصين آخرين أدلوا بدلوهم بالحديث عن مدينة بنغازي، كخليفة الفاخري ومحمد المسلاتي وسالم الهنداوي وسالم العبار وعبدالرسول العريبي وعبدالله الساعدي المغربي، وكلّ له أسلوبه وذائقته عن هذه المدينة رسمها في أحداث مجموعته القصصيه..فضلا عن الشعراء الذين لهم باع فني ّكبير عن تجاربهم بمدينة بنغازي كرفيق المهدوي وحسن السوسي وعلي الفزاني وغيرهم.
هكذا الحديث عن مدينة بنغازي كما رصدتها عين الشويهدي وغيره في حُللٍ مختلفة ما بين العسر واليسر والرضا والغضب والاستعمار والحرية والفقر والغنى وسمو الأخلاق وهبوطها وثنائيات شتى كثيرة من هذا وذاك مرت بهذا المجتمع.
ومحمد علي الشويهدي من المجموعة الثانية التي أسست للقصة الليبية، ومن طبقته أحمد إبراهيم الفقيه وكامل حسن المقهور وإبراهيم الكوني وخليفة حسين مصطفى وخليفة التكبالي ويوسف الشريف، حين اعتبرنا أن المجموعة الأولى المؤسسة للقصة الليبية على التوالي هم: وهبي البوري ويوسف الدلنسي وخليفة التليسي وعبدالقادر بوهروس وعبدالله القويري وعلي مصطفى المصراتي.
وإذا بحثنا عن الاتجاه الفني للشويهدي نجد أنه من القاصين الذين يتخذون الواقعية اتجاها لهم ؛ فهو يضع المشكلة بين يدي القارئ كما صورتها عدسته دون أن يلزم نفسه بحل معين ودون أي استفزاز للقارئ إلى وعظ أو نصح، فالقصة تقدم نفسها بنفسها ويترك الباقي للمتلقي ليجد الحل حسب ثقافته ومدى إدراكه للخطأ والصواب..وهذه الطريقة ينتهجها كل من : كامل المقهور في (14قصة من مدينتي) ومحمد المسلاتي في (الضجيج) وأحمد إبراهيم الفقيه في (البحر لا ماء فيه).
والشويهدي وإن كان قد بدأ نشر قصصه مابين أوائل السبعينيات وأواخرها إلا أن أحداث القصص وبيئتها تشير إلى فترة الخمسينيات وبداية الستينيات ؛ فعند دراستنا لاتجاه القصة الليبية في فترة ما قبل النفط وما بعده اتضح لدينا أن قصص الفقر والتشرد تبدأ في التضاؤل كلما توغلنا في عقد السبعينيات عدا ما في جعبة القصاصين من حكايات احتفظت بها أذهانهم، وقذفوا بها في قصصهم علي اعتبار أنها تذكير بفترة ماضية ؛ كما في قصة (تساخير) من مجموعة (أقوال شاهد عيان) 1976.. عن الشاب مصطفي الذي يقطع دراسته لأجل تخفيف الدَين عن كاهل أبيه المدين لصاحب الدكان بالنقود التي استدان مقابلها مصروف العائلة.. ولم تكن هذه الحالة ماثلة كثيرا في الفترة التي طبعت فيها المجموعة. فمحمد علي الشويهدي قد نشر قصصه في السبعينيات، إلا أنها تشير إلى فترة ماضية بالنسبة إلى مضامينها كالحجاب والسفور وطريقة الحب ونوع المعيشة.. ذلك في مجموعاته: (أحزان اليوم الواحد) و (أقوال شاهد عيان ) وحتى (كحل العين), نلمح حالات من التعب والسعي وراء العيش، والشعور بالإحباط في الحياة، والحب غير المتكافئ، والحلم بالمستقبل السعيد، والكره والغيرة والنفاق وغير ذلك من مواجهات الحياة في ذلك الوقت.. فقصة ( أحزان اليوم الواحد), وهي نفس القصة التي حملت اسم المجموعة، توضّح علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع الليبي في الخمسينيات والستينيات، قصة امرأة شابة، في الواحد والعشرين من عمرها، تقضي أيامها بين الجدران كما تقضيه بنات ذلك الزمن. أخوها ضربها لأنها تنظر من الشباك، وأمها تصفها بالبائر، وأبوها يقول إن إنجاب البنات كارثة..وقصص الشويهدي تكاد تكون جميعها عن المرأة ومواجهتها للحياة.
وقصص الشويهدي تعطينا صورا واضحة عن حياة المرأة في الستينيات فنجد تحفظا شديدا في علاقة الرجل بالمرأة، كما ترسمها قصص الشويهدي عن مجتمع مدينة بنغازي نفسها ؛ فابن العم لا يستطيع مقابلة ابنة عمه بسهولة اليوم، كما هو واضح في قصة : ( بعض من تصورنا ) في مجموعة (أحزان اليوم الواحد)1972, وإذا التقيا فإنه يلتقي بها أمام أحد أفراد الأسرة في المنزل. ونجد للشويهدي أكثر من قصة تشير إلى هذه الحالات، كقصة( لمسات الهوى) وقصة ( ممنوع الخروج) وقصة ( الخفقة البكر ) التي تروي قصّة شاب اسمه أحمد يحب بنت الجيران، ويتردد كثيرا قبل أن يكتب لها رسالة يرميها عند قدميها ويمضي مذعورا " ومشى في اتجاه الشارع الذي تقيم فيه (خيرية) وما لبث أن وصله، ولاحت كما توقع علي عتبة البيت محتضنة حقيبتها المدرسية.. ووجد نفسه علي بعد خطوات منها، وامتدت يده إلى جيبه وأخرج الوريقة بأصابع مرتعشة ورماها بين قدميها، وكأنه يتخلص من كل عذاباته، وخطا إلى الأمام وكأنه يعدو في اتجاه النجاة.. رأى أن يتأكد في وصول خطابه مهما دفع من أعصابه، خطا خطوتين إلى أول الشارع ومسحه بعينيه وفرح لأنه لم ير خيرية، وسبقته قدماه، وبحث عن الرسالة حيث رماها فلم يجدها واعترته فرحة غامرة.. كان يمشي في خفة، وأحلام لقاء صبيحة اليوم التالي السعيد تدغدغ مشاعره... وسحقه صوت يقهقه قارئا:
ـ حبيبتي.. واغفري لي مناداتي لك بهذا اللفظ.. ورنَت ضحكات شابة في أذنيه، وانتبه إلى أنه سيجتاز بعد خطوة واحدة طالبين يسيران في ذات الاتجاه، وتسمرت عيناه علي وريقته في يد أحدهما يقرؤها للآخر.."(2).
ومثلها قصة ( حب شديد الوطأة)(3) في مجموعة ( أقوال شاهد عيان) التي يلجأ فيها المحب الي رش الرمل علي عتبة دار حبيبته بناء علي توصيات الفقي، الذي كلَفه بنشر الرمل علي العتبة حتى تقبله الفتاة زوجا لها، حتى أنها ستزوره في بيته، لكن الذي زاره هم شرطة الآداب.
ومن نماذج قصص غلاء المهور ما كتبه محمد علي الشويهدي في مجموعته القصصية (أحزان اليوم الواحد)1972 قصة ( رحلة الأحلام )، تلك الفتاة (فطومة) تحلم بعقد(سعيد) عليها حيث باتت تنتظر بفارغ الصبر وتعد الساعات التي تفصلها عن كتب الكتاب.. " وعلت في الشارع قهقهات وأصوات تتبادل النكات، ووقع أقدام يتخلله وقع عكاكيز، ودخل الرجال إلى المربوعة... وارتعشت لفكرة أنها قصَرت في حق (سعيد) وتمنت لو أنها صارحت أمها بحبها لسعيد، ورجتها أن تدفع أباها إلى القبول، وتألمت لعجزها عن أن تفعل شيئا، لكن أمها تعرف علي كل حال أنها لا ترفض سعيدا، وربما حدَثـــت أبـــــــاها، ربما " (4). وخرج رجال الوجاهة، وفطومة علي أحر من الجمر في أن تسمع النتيجة التي لابد أن تكون إيجابية، غير أنها سمعت أمها تقول لأبيها : " عيب يا حاج والله ما عندك حق تختلف معهم من أجل خمسين دينار.. خمسون دينارا يا حاج "(5) وللشويهدي في التيار الاجتماعي الواقعي الذي يسجل حال المرأة في الخمسينيات والستينيات قصته (بعض من تصورنا ) وهي من ضمن قصص مجموعة (أحزان اليوم الواحد) التي مضمونها موقف الفتاة التي لا تطمع أن تقف مع خاطبها أو تراه إلا بعد الزواج، وقد حاولت الفتاة أن تتصل بابن عمها (سالم) عندما كان يزورهم ويهم بطلب يدها.. يقول الراوي عن موقف من مواقفها وفي إحدى زيارات سالم لبيتهم :
" وأحست أنها تعطي الكثير في سبيل رؤيته، ولا تبخل في عطائها أبدا، وأنه ليس وحده الذي يعاني من ذلك الخليط الفظيع من أحاسيس تجربة عاطفية كاملة، ورأت أن تتحرك في اتجاه السقيفة، وفي حركة عفوية تدخل (المربوعة) وكأنها لا تعلم بوجود أحد، كما كانت تفعل أحيانا، وشرعت في تنفيذ خطتها، فما أن دخلت السقيفة حتى فوجئت بباب المربوعة موصدا، ودق قلبها دقات سريعة، تكاد تسمع لو أرهف السمع، أو هكذا خـيّـل لها، وصعدت الدماء إلى وجهها حارة فتوردت وجنتاها، وأحست بكل شعرة في رأسها وكأنها تنبت من جديد، وتراجعت بائسة، لأنه لا يمكنها أن تطرق الباب وتدخل، وإلا لكانت فعلتها وخيمة العواقب.." (6)
كما نجد الشويهدي في تلك الفترة يتناول الممارسات الخاطئة بشكل عنيف, وله في مجموعته القصصية (أحزان اليوم الواحد) أكثر من قصة تتجه إلى الرذيلة، مثل قصة (مريومة تغمز الحصان )، والحصان في القصة دلالة علي الرجل أو الفحل.. فمريومة التي مات عنها زوجها تناولتها العيون الشرهة الطامعة. كانت تعارك الحياة لتصرف علي صغارها فأعياها ذلك، يقول الراوي: " ودقَ باب البيت بعنف، ونفث صاحب دكان البقالة المجاورة دخان لفافته في وجه مريومة، وتقيأ ابتسامة، وصهل الحصان :
ـ عامان يا مريومة دمرني خلالها الانتظار، ادفعي ديونك وإلا فإني سأرفع الأمر إلى القضاء.. ألا تفهمينني ؟ ادفعي...
ـ ولكني لا أملك نقودا..
ـ لتكن مقايضة، بضاعة ببضاعة.
وفهمت مريومة، ومات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة، وحدقت مريومة في الفراغ بعينين مكحولتين وغمزت الحصان، أجل غمزت الحصان " (7).. وقد نعثر على قاسم مشترك بين قصة الشويهدي ( مريومة تغمز الحصان) وقصة محمد المسلاتي :( الطفلة والكلب ) في مجموعة (الدوائر) 1983 ؛ وذلك لأن كّلا من حصان محمد الشويهدي وكلب محمد المسلاتي بمثلان رمزا للذكر الهائج الباحث عن الجنس بأية طريقة.
.. وللشويهدي في هذا الاتجاه قصص مماثلة كـ(بندول الزمن) و(أقوال شاهد عيان) و(مسعود يعاكس مسعودة).
وبالتأكيد فإن محمد علي الشويهدي لا يريد السخرية لذاتها، وفي نفس الوقت لا يرغب في تسليتنا كهدف أساسي, إنه يريد أن يقول أن الدناءة والخسة مندسة بين الصفوف ؛ الاستغلاليون ومنتهزو الفرص يحيَون بيننا.
قد رأى الناقد سليمان كشلاف أن مجموعة الشويهدي القصصية ( أحزان اليوم الواحد) تهتم أكثر ما تهتم بوضع المرأة في المجتمع، وهو وضع رآه الناقد مزريا في جميع قصص المجموعة، يقول كشلاف: " إن وجود المرأة مرفوض بالنسبة للمواطن الليبي في حالتين : أن تكون ابنته أو أخته، مقبول في حالتين أيضا ؛ أن تكون أمه أو حبيبته وفي بعض الأحيان زوجته تلك الهوة هي التي تكشف الفارق الرهيب بين النظرية والتطبيق في تفكير صغار السن ممن يتكون منهم صلب المجتمع الجديد، كما تكشف عن تخلف فظيع في التفكير لدى كبار السن من حيث النظر إلى الأنثى، على أنها جهاز تناسلي فقط، هو مركز عفتها، وبدونه لا تساوي حبة خردل " (8)
ومع تسليمنا بأن الشويهدي قد رصد الحالات التي وجدها بالفعل والتي كانت كثيرة في تلك الآونة، وتسليمنا أيضا بأن النقد ما هو إلا هاديا ومرشدا وليس ملزما للأخذ به في كل الأحوال، والشويهدي قد استثارته الكتابة فكتب ما يحلو له في ذلك الزمن إلا أننا وجدنا الناقد والقاص بشير الهاشمي له رأي عن مجموعة (أحزان اليوم الواحد) ؛ فبعد أن أبدى إعجابه بمضمونها وأسلوبها يقوم بالتركيز على المضمون العاطفي الذي تحمله قصص الشويهدي مبينا ما مفاده أن الشويهدي لا يرينا الوجه الناجح للحب، وإنما يرينا الوجه الفاشل له قائلا " المشكلة الأساسية مع هذه المجموعة القصصية أن الوجه الآخر للأشياء غير موجود، فبالتأكيد مثلا أن الحب ليس هو فقط تلك الحالة من التقهقر والفشل في قصة : ( حب شديد الوطأة ) (9)، وإذا كانت تمثل موقف إدانة لنوع خاطئ ارتبط بالحب من مؤثرات التخلف الاجتماعي فإن هذا لا يمنع من وجود الحــب الحقيقي" (10).
وقد لاحظت من خلال تسلسل نتاج الشويهدي القصصي اختلاف أسلوبه، واختلاف الشكل والمضمون بطريقة أو بأخرى بعد أن تجاوز سن الشباب.. فقد هدأت عنده موجة التذمـّر والقلق فلم تعد الثورة على المواقف تتسم عنده بالعنف أو تصوير المشاهد الساخرة.. قد وجدت خطة هذا القاص في أسلوبه في مجموعته (كحل العين) التي ضمنها قصص عن مدينة بنغازي أن أسلوبه فيها يختلف عن أسلوب مجموعتيه ( أحزان اليوم الواحد) و(أقوال شاهد عيان)، فهما على وتيرة واحدة من حيث الأسلوب ؛ أما (كحل العين) فتختلف في الخواطر والأهواء، فهي تمتاز بالليونة وهدوء الهاجس والحنين إلى الحياة القديمة وذكر المعيشة في كنف الناس الطيبين، أمثال ما كان يحكيه عن أمه التي أبرز صورتها في صفحة الغلاف ـ ففي قصة ( كحل العين نفسها) التي هي عنوان المجموعة، بالموازنة بينها وبين مجموعتيه سالفتي الذكر (أحزان اليوم الواحد) و (أقوال شاهد عيان) نجد أنه كان واقعيا يصف المجتمع من خلال مشهد فوتغرافي، أما في (كحل العين) فقد خاض تجربة رومانسية فنية جديدة تختلف عن رومانسيات الخيالات المجنحة في الماضي.. فـ(كحل العين) قريبة إلى نفسه ضمنها أشجانه وأشواقه وأرانا فيها نفسه عن كثب، اسمعه في هذا الحوار بينه وبين أمّه عندما حضرته الذاكرة، وجاءها يوما ما، بعد سفره الطويل :
" ـ جئتَ يا حبيبي فلا تغادر.. كفاك ترحالا وكفاني عذابا.. ابق.
أجيب العينين الصغيرتين الكحيلتين الجميلتين دون أن أنبس بكلمة :
ـ أيتها الأغلى.. يا حبيبتي.. لا تغضبي.. فما جئت من الأقاصي لأوجعك.. جئت يا حبيبتي كي أغفو على صدرك طفلا هدّه التعب، دمرته المعاناة والترحال والغربة، لا يكاد يذكر أمسه ولا يكاد يعي يومه، لا يكاد يتبين آفاق غده.. جئت يا حبيبتي ككل مرة كي أغمض عيني وأسكن إليك فأرتاح، أغتسل أتوضأ، أتطهر، أتكحل، أصلي في محراب حبك ركعتي عشق، ألوذ بك شأن طفل لجأ مذعورا إلى حضن أمه إثر ضنك وفزع لتحتويني كل مشاعر السكينة والأمان (11)
تتسم قصص الشويهدي بمزية الاستهلال المباشر بكلام الشخصية، كقصة (شحنات الكراهية) التي يتقمص فيها شخصية طفل ويتخذه قناعا لسرد قصته، فالطفل يكره أمه لأنها تتزين بعد وفاة أبيه..." ومضت ستة أشهر، وألقيت في جوفي أول بذرة كراهية حقيقية، وأعلنت لأمي سخطي، ورجوتها أن تقلع عن الزينة والخروج إلى الأعراس والأفراح احتراما لأبي الذي كان يحبها كثيرا ويغار عليها من الطائر الذكر، ونبهتها أنه لو كان أبي حيا لما سمح لها بهذا السلوك، ولكنها كانت لا تعير صرخاتي وملاحظاتي اهتماما" (12)
مع التنبيه بأن القصة السابقة كمثيلاتها تحوي بطريقة عفوية تراثا وعاداتٍ وتقاليد مجتمع الستينيات من القرن العشرين المنصرم، فنره مثلا يشير إلى عادة كانت تمارس في المجتمع البنغازي ولكنها اندثرت الآن، وهي ضرب النادبات بالعصي على صندوق في بيت الميت كما في هذا المقطع:" وتخللت الهرج والمرج والوقوف والنساء المولولات والدقات على الصناديق.."[1]
كما تتسم القصص بتآلف الأحداث وتسلسلها ؛ فقصة (شحنات الكراهية) تبدأ وتنتهي بحديث الطفل دفعة واحدة ولا تبرحه إلى أحداث جانبية أخرى فالطفل يجمل الحدث كله في المقدمة ليجعلنا مشتاقين بعد ذلك إلى التفصيل، فيطلعنا في هذه المقدمة بأنه وإن كان طفلا بائسا الآن ويكره أمه، فقد كان طفلا مدللا إبّان حياة أبيه.. ثم يتلو ذلك بحدث آخر هو دخول سيدي سليمان في حياتهم.. ثم وفاة أبيه...ثم تزيّن أمه للأعراس..ثم أخيرا زواجها بسيدي سليمان وهي قمة مأساته.
وبهذا اكتسبت هذه القصة مزية فنية أخرى في طريقة السرد وهو بعدها عن الاستطراد والتفاصيل الزائدة فاحتفظت بالحدث متوهجا كما جمعت بين الحوار والسرد، وهو ما يميز جل القصص خاصة مجموعتي (أحزان اليوم الواحد) و(أقوال شاهد عيان).
ومن المزايا الفنية في القصة انسجام الشخصيات مع طبيعة الحدث حيث ملاءمة كل شخصية لدورها ؛ ففي قصة (زغاريد الملائكة) مثلا، نرى الكاتب قد أعطى لشخصية الحاج عثمان المزارع البسيط ما يلائمها من الوصف والحس الدرامي، ولم يخرج عن هذه الصورة التي أسبلها عليه في بداية القصة حين قال: "ورغم أن طبيعة حياته الريفية تحتم ارتداء ملابس متواضعة تشوهت بطين الأرض وزرعها، إلا أنه كان أنيق الهندام نظيفه، تفوح منه رائحة طيبة، تكسبه وشيب رأسه ولحيته وقارا وهيبة" (13)
وفي مكان آخر من هذه القصة نجد مزية أخرى من مزايا السرد الجيد وهو التلميح بدل التصريح والمباشرة ؛ فالحاج عثمان التقى بخالتي مبروكة الأرملة في إحدى الإدارات الحكومية التي تشكو إهمال أولادها لها واهتمامهم بزوجاتهم فقط وفي غمرة حديث جرى بينها وبين الحاج عثمان قال لها هذا الأخير من جملة ما قال أن زوجته قد ماتت منذ سنتين، وهو وحيد الآن.. "ورغم أن خالتي مبروكة شاركته أساه إلا أنها أحسّت بفرحة تزغرد في أعماقها إذ ربما.. ربما..من يدري؟
فهذه العبارة الأخيرة عبارة مغلفة ومفتوحة في نفس الوقت ؛ عبارة يطبعها التكثيف بطابعه، قادت الحبكة القصصية إلى رغبة ملحّة في معرفة الحدث وتكاد تصل بها إلى جل الأزمة.. ثم تكراره لكلمة(ربما) الذي يؤكد الخفاء والتكثيف، فضلا عن هذه النقط الفاصلة بينها التي ترمز هي الأخرى إلى احتمال متباطئ أو متباعد في التخمين بتحقق أمل ما لخالتي مبروكة.
_____________________
* ولد محمد على الشويهدي سنة 1942 ببنغازي وواصل بها تعليمه حتى أنهي المرحلة الجامعية.. نشر نتاجه الثقافي في الحقيقة والجهاد والأسبوع الثقافي والجندي والشورى والثقافة العربية والموقف العربي.. تولى رئاسة تحرير الشورى والجهاد والثقافة العربية ومديرا للمؤسسة العامة للصحافة، وأمينا للجنة الشعبية للإعلام والثقافة، وأمينا للمكتب الشعبي براغ، وأمينا لتحرير مجــــــــلة الموقف العربي وأمينا للدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان. ( عن موسوعة القصاصين الليبيين لعبد الله مليطان الصادرة سنة 2000 ـ ص420..
(1) ذاكرة الكلمات . ص15. .
(2) أحزان اليوم الواحد ـ ص138 و139.
(3) أقوال شاهد عيان ـ ص89.
(4) , (5) ـ أحزان اليوم الواحد ـ مؤسسة الانتشار العربي 1999 ـ ص25 ـ ط4 .
(6) أحزان اليوم الواحد ـ ـ ص14 و15 .
(7) المصدر السابق نفسه ـ ص149 .
(8) سليمان كشلاف ـ دراسات في القصة الليبية ـ الدار الجماهيرية 1979 ـ ص 10 .
(9) في مجموعة ( أقوال شاهد عيان) لمحمد علي الشويهدي التي يلجأ فيها المحب إلى رش الرمل علي عتبة دار حبيبته بناء علي توصيات الفقي , الذي كلَفه بنشر الرمل علي العتبة حتى تقبله الفتاة زوجا لها, حتى أنها ستزوره في بيته, لكن الذي زاره هم شرطة الآداب .
(10) خلفيات التكوين القصصي في ليبيا ـ ص 127 .
(11) أحزان اليوم الواحدص165.
(12) المصدر السابق نفسه ص 167.
(13) أقوال شاهد عيان ص49
د. عبدالجواد عباس
لعل ما يميز محمد علي الشويهدي* هو تغطيته القصصية لمرحلة الخمسينيات والستينيات التي مرّ بها مجتمع بنغازي بالذات.. العادات والتقاليد ومجمل الحياة اليومية للمجتمع الذي كان في ذلك الوقت..عندما نقرأ لمحمد الشويهدي من قصص تلك الفترة نلمس قابليته الشديدة في تحليل النوازع والأوهام التي كانت تنتاب أفكار جيل تلك الحقبة من عامة الناس وخواصهم في مدينة بنغازي، بوصف يتغلغل ويعمق ويعمق لاستجلاب دقائق الحياة اليومية والعلاقات المتشابكة التي تحكم طبيعة المجتمع الليبي في محيط المدينة حينها.. وأقرب ما يتضح ذلك في مجموعاته القصصية )أحزان اليوم الواحد) أو (أقوال شاهد عيان) أم مجموعته (كحل العين) التي تحتوي إلا على قصتين بتوقيع مجتمع الستينيات وهما (ولْد الشيخ) و(الجُــرْذ).
فالشويهدي بهذا قد غطـّى أحداث تلك المرحلة بتفاصيل كثيرة من حياة مجتمع المدينة، ليس الجيل الحالي على دراية بها، فمن خلال قصصه بيّن لنا أحوال مجتمع برمته ؛ مجتمع مدينة بنغازي بالذات، فقد عاش فيه وامتزج به فعرف صفحاته البيضاء والسوداء معا ؛ ويتميز في قصصه الأولى بدقة الملاحظة، فهو يحسب كل كبيرة وصغيرة ويضمنها أسلوبه تمشيا مع التيار الواقعي الذي وجد نفسه فيه، فقد عرفناه قاصا مشاكسا يدخل البيوت وينبش أسرارها، ويصور هواجس الشباب من الجنسين ويكشف خططهم في عشقهم وصراعهم مع الحياة, ومن ثم مراميهم وآمالهم الصغيرة والكبيرة، ويبين لحظات السلوك الإنساني من خداع ونفاق وصدق في: ( أحزان اليوم الواحد ) 1972و(أقـوال شاهـد عـيان) 1976.. وقد طُبعت هاتان المجموعتان القصصيتان مرات عدة.
وبما أن قصص (أحزان اليوم الواحد) من بين القصص التي ساهم بها الشويهدي مساهمة كبيرة في تغطية نمط الحياة الاجتماعية في مرحلة الستينيات وكانت أحداثها تدور في مدينة بنغازي فقد استرعى ذلك انتباه الناقد والقاص خليفة حسين مصطفى فعلق عليها بأنها ذات نَفَسٍ واحد، وأن أحداثها حدثت في مكان واحد لا يبرحه فيقول : " تضم المجموعة خمس عشرة قصة، وكل قصة تكاد أن تكون امتداد للقصة التي سبقتها، ومكملة لها في الشكل والمضمون، وهذا الانطباع الذي نستمده من قصص (أحزان اليوم الواحد) يتبلور ببطء من قصة إلى أخرى، ثم يترسخ ويتعمق فلا يعود مجرد انطباع باهت وإنما يتخذ صورة قناعة حاسمة بأن الكاتب كان يمشي فوق رصيف واحد " (1)
محمد علي الشويهدي مميز في هذه الناحية من تاريخ مدينة بنغازي، وإن كان يشاركه بأنفاس أخرى عن هذه المدينة قاصون آخرون قاموا بتسجيل نمط الحياة فيها، في أزمنة مختلفة أمثال بن عيسى الجروشي في مجموعته القصصية:( الناس والحياة) ورمضان عبدالله بوخيط في (حكايات الماضي القريب) وأحمد محمد العنيزي في (حديث المدينة) وكذلك وهبي البوري ويوسف الدلنسي حتى نقف على أعتاب قاصين آخرين أدلوا بدلوهم بالحديث عن مدينة بنغازي، كخليفة الفاخري ومحمد المسلاتي وسالم الهنداوي وسالم العبار وعبدالرسول العريبي وعبدالله الساعدي المغربي، وكلّ له أسلوبه وذائقته عن هذه المدينة رسمها في أحداث مجموعته القصصيه..فضلا عن الشعراء الذين لهم باع فني ّكبير عن تجاربهم بمدينة بنغازي كرفيق المهدوي وحسن السوسي وعلي الفزاني وغيرهم.
هكذا الحديث عن مدينة بنغازي كما رصدتها عين الشويهدي وغيره في حُللٍ مختلفة ما بين العسر واليسر والرضا والغضب والاستعمار والحرية والفقر والغنى وسمو الأخلاق وهبوطها وثنائيات شتى كثيرة من هذا وذاك مرت بهذا المجتمع.
ومحمد علي الشويهدي من المجموعة الثانية التي أسست للقصة الليبية، ومن طبقته أحمد إبراهيم الفقيه وكامل حسن المقهور وإبراهيم الكوني وخليفة حسين مصطفى وخليفة التكبالي ويوسف الشريف، حين اعتبرنا أن المجموعة الأولى المؤسسة للقصة الليبية على التوالي هم: وهبي البوري ويوسف الدلنسي وخليفة التليسي وعبدالقادر بوهروس وعبدالله القويري وعلي مصطفى المصراتي.
وإذا بحثنا عن الاتجاه الفني للشويهدي نجد أنه من القاصين الذين يتخذون الواقعية اتجاها لهم ؛ فهو يضع المشكلة بين يدي القارئ كما صورتها عدسته دون أن يلزم نفسه بحل معين ودون أي استفزاز للقارئ إلى وعظ أو نصح، فالقصة تقدم نفسها بنفسها ويترك الباقي للمتلقي ليجد الحل حسب ثقافته ومدى إدراكه للخطأ والصواب..وهذه الطريقة ينتهجها كل من : كامل المقهور في (14قصة من مدينتي) ومحمد المسلاتي في (الضجيج) وأحمد إبراهيم الفقيه في (البحر لا ماء فيه).
والشويهدي وإن كان قد بدأ نشر قصصه مابين أوائل السبعينيات وأواخرها إلا أن أحداث القصص وبيئتها تشير إلى فترة الخمسينيات وبداية الستينيات ؛ فعند دراستنا لاتجاه القصة الليبية في فترة ما قبل النفط وما بعده اتضح لدينا أن قصص الفقر والتشرد تبدأ في التضاؤل كلما توغلنا في عقد السبعينيات عدا ما في جعبة القصاصين من حكايات احتفظت بها أذهانهم، وقذفوا بها في قصصهم علي اعتبار أنها تذكير بفترة ماضية ؛ كما في قصة (تساخير) من مجموعة (أقوال شاهد عيان) 1976.. عن الشاب مصطفي الذي يقطع دراسته لأجل تخفيف الدَين عن كاهل أبيه المدين لصاحب الدكان بالنقود التي استدان مقابلها مصروف العائلة.. ولم تكن هذه الحالة ماثلة كثيرا في الفترة التي طبعت فيها المجموعة. فمحمد علي الشويهدي قد نشر قصصه في السبعينيات، إلا أنها تشير إلى فترة ماضية بالنسبة إلى مضامينها كالحجاب والسفور وطريقة الحب ونوع المعيشة.. ذلك في مجموعاته: (أحزان اليوم الواحد) و (أقوال شاهد عيان ) وحتى (كحل العين), نلمح حالات من التعب والسعي وراء العيش، والشعور بالإحباط في الحياة، والحب غير المتكافئ، والحلم بالمستقبل السعيد، والكره والغيرة والنفاق وغير ذلك من مواجهات الحياة في ذلك الوقت.. فقصة ( أحزان اليوم الواحد), وهي نفس القصة التي حملت اسم المجموعة، توضّح علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع الليبي في الخمسينيات والستينيات، قصة امرأة شابة، في الواحد والعشرين من عمرها، تقضي أيامها بين الجدران كما تقضيه بنات ذلك الزمن. أخوها ضربها لأنها تنظر من الشباك، وأمها تصفها بالبائر، وأبوها يقول إن إنجاب البنات كارثة..وقصص الشويهدي تكاد تكون جميعها عن المرأة ومواجهتها للحياة.
وقصص الشويهدي تعطينا صورا واضحة عن حياة المرأة في الستينيات فنجد تحفظا شديدا في علاقة الرجل بالمرأة، كما ترسمها قصص الشويهدي عن مجتمع مدينة بنغازي نفسها ؛ فابن العم لا يستطيع مقابلة ابنة عمه بسهولة اليوم، كما هو واضح في قصة : ( بعض من تصورنا ) في مجموعة (أحزان اليوم الواحد)1972, وإذا التقيا فإنه يلتقي بها أمام أحد أفراد الأسرة في المنزل. ونجد للشويهدي أكثر من قصة تشير إلى هذه الحالات، كقصة( لمسات الهوى) وقصة ( ممنوع الخروج) وقصة ( الخفقة البكر ) التي تروي قصّة شاب اسمه أحمد يحب بنت الجيران، ويتردد كثيرا قبل أن يكتب لها رسالة يرميها عند قدميها ويمضي مذعورا " ومشى في اتجاه الشارع الذي تقيم فيه (خيرية) وما لبث أن وصله، ولاحت كما توقع علي عتبة البيت محتضنة حقيبتها المدرسية.. ووجد نفسه علي بعد خطوات منها، وامتدت يده إلى جيبه وأخرج الوريقة بأصابع مرتعشة ورماها بين قدميها، وكأنه يتخلص من كل عذاباته، وخطا إلى الأمام وكأنه يعدو في اتجاه النجاة.. رأى أن يتأكد في وصول خطابه مهما دفع من أعصابه، خطا خطوتين إلى أول الشارع ومسحه بعينيه وفرح لأنه لم ير خيرية، وسبقته قدماه، وبحث عن الرسالة حيث رماها فلم يجدها واعترته فرحة غامرة.. كان يمشي في خفة، وأحلام لقاء صبيحة اليوم التالي السعيد تدغدغ مشاعره... وسحقه صوت يقهقه قارئا:
ـ حبيبتي.. واغفري لي مناداتي لك بهذا اللفظ.. ورنَت ضحكات شابة في أذنيه، وانتبه إلى أنه سيجتاز بعد خطوة واحدة طالبين يسيران في ذات الاتجاه، وتسمرت عيناه علي وريقته في يد أحدهما يقرؤها للآخر.."(2).
ومثلها قصة ( حب شديد الوطأة)(3) في مجموعة ( أقوال شاهد عيان) التي يلجأ فيها المحب الي رش الرمل علي عتبة دار حبيبته بناء علي توصيات الفقي، الذي كلَفه بنشر الرمل علي العتبة حتى تقبله الفتاة زوجا لها، حتى أنها ستزوره في بيته، لكن الذي زاره هم شرطة الآداب.
ومن نماذج قصص غلاء المهور ما كتبه محمد علي الشويهدي في مجموعته القصصية (أحزان اليوم الواحد)1972 قصة ( رحلة الأحلام )، تلك الفتاة (فطومة) تحلم بعقد(سعيد) عليها حيث باتت تنتظر بفارغ الصبر وتعد الساعات التي تفصلها عن كتب الكتاب.. " وعلت في الشارع قهقهات وأصوات تتبادل النكات، ووقع أقدام يتخلله وقع عكاكيز، ودخل الرجال إلى المربوعة... وارتعشت لفكرة أنها قصَرت في حق (سعيد) وتمنت لو أنها صارحت أمها بحبها لسعيد، ورجتها أن تدفع أباها إلى القبول، وتألمت لعجزها عن أن تفعل شيئا، لكن أمها تعرف علي كل حال أنها لا ترفض سعيدا، وربما حدَثـــت أبـــــــاها، ربما " (4). وخرج رجال الوجاهة، وفطومة علي أحر من الجمر في أن تسمع النتيجة التي لابد أن تكون إيجابية، غير أنها سمعت أمها تقول لأبيها : " عيب يا حاج والله ما عندك حق تختلف معهم من أجل خمسين دينار.. خمسون دينارا يا حاج "(5) وللشويهدي في التيار الاجتماعي الواقعي الذي يسجل حال المرأة في الخمسينيات والستينيات قصته (بعض من تصورنا ) وهي من ضمن قصص مجموعة (أحزان اليوم الواحد) التي مضمونها موقف الفتاة التي لا تطمع أن تقف مع خاطبها أو تراه إلا بعد الزواج، وقد حاولت الفتاة أن تتصل بابن عمها (سالم) عندما كان يزورهم ويهم بطلب يدها.. يقول الراوي عن موقف من مواقفها وفي إحدى زيارات سالم لبيتهم :
" وأحست أنها تعطي الكثير في سبيل رؤيته، ولا تبخل في عطائها أبدا، وأنه ليس وحده الذي يعاني من ذلك الخليط الفظيع من أحاسيس تجربة عاطفية كاملة، ورأت أن تتحرك في اتجاه السقيفة، وفي حركة عفوية تدخل (المربوعة) وكأنها لا تعلم بوجود أحد، كما كانت تفعل أحيانا، وشرعت في تنفيذ خطتها، فما أن دخلت السقيفة حتى فوجئت بباب المربوعة موصدا، ودق قلبها دقات سريعة، تكاد تسمع لو أرهف السمع، أو هكذا خـيّـل لها، وصعدت الدماء إلى وجهها حارة فتوردت وجنتاها، وأحست بكل شعرة في رأسها وكأنها تنبت من جديد، وتراجعت بائسة، لأنه لا يمكنها أن تطرق الباب وتدخل، وإلا لكانت فعلتها وخيمة العواقب.." (6)
كما نجد الشويهدي في تلك الفترة يتناول الممارسات الخاطئة بشكل عنيف, وله في مجموعته القصصية (أحزان اليوم الواحد) أكثر من قصة تتجه إلى الرذيلة، مثل قصة (مريومة تغمز الحصان )، والحصان في القصة دلالة علي الرجل أو الفحل.. فمريومة التي مات عنها زوجها تناولتها العيون الشرهة الطامعة. كانت تعارك الحياة لتصرف علي صغارها فأعياها ذلك، يقول الراوي: " ودقَ باب البيت بعنف، ونفث صاحب دكان البقالة المجاورة دخان لفافته في وجه مريومة، وتقيأ ابتسامة، وصهل الحصان :
ـ عامان يا مريومة دمرني خلالها الانتظار، ادفعي ديونك وإلا فإني سأرفع الأمر إلى القضاء.. ألا تفهمينني ؟ ادفعي...
ـ ولكني لا أملك نقودا..
ـ لتكن مقايضة، بضاعة ببضاعة.
وفهمت مريومة، ومات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة، وحدقت مريومة في الفراغ بعينين مكحولتين وغمزت الحصان، أجل غمزت الحصان " (7).. وقد نعثر على قاسم مشترك بين قصة الشويهدي ( مريومة تغمز الحصان) وقصة محمد المسلاتي :( الطفلة والكلب ) في مجموعة (الدوائر) 1983 ؛ وذلك لأن كّلا من حصان محمد الشويهدي وكلب محمد المسلاتي بمثلان رمزا للذكر الهائج الباحث عن الجنس بأية طريقة.
.. وللشويهدي في هذا الاتجاه قصص مماثلة كـ(بندول الزمن) و(أقوال شاهد عيان) و(مسعود يعاكس مسعودة).
وبالتأكيد فإن محمد علي الشويهدي لا يريد السخرية لذاتها، وفي نفس الوقت لا يرغب في تسليتنا كهدف أساسي, إنه يريد أن يقول أن الدناءة والخسة مندسة بين الصفوف ؛ الاستغلاليون ومنتهزو الفرص يحيَون بيننا.
قد رأى الناقد سليمان كشلاف أن مجموعة الشويهدي القصصية ( أحزان اليوم الواحد) تهتم أكثر ما تهتم بوضع المرأة في المجتمع، وهو وضع رآه الناقد مزريا في جميع قصص المجموعة، يقول كشلاف: " إن وجود المرأة مرفوض بالنسبة للمواطن الليبي في حالتين : أن تكون ابنته أو أخته، مقبول في حالتين أيضا ؛ أن تكون أمه أو حبيبته وفي بعض الأحيان زوجته تلك الهوة هي التي تكشف الفارق الرهيب بين النظرية والتطبيق في تفكير صغار السن ممن يتكون منهم صلب المجتمع الجديد، كما تكشف عن تخلف فظيع في التفكير لدى كبار السن من حيث النظر إلى الأنثى، على أنها جهاز تناسلي فقط، هو مركز عفتها، وبدونه لا تساوي حبة خردل " (8)
ومع تسليمنا بأن الشويهدي قد رصد الحالات التي وجدها بالفعل والتي كانت كثيرة في تلك الآونة، وتسليمنا أيضا بأن النقد ما هو إلا هاديا ومرشدا وليس ملزما للأخذ به في كل الأحوال، والشويهدي قد استثارته الكتابة فكتب ما يحلو له في ذلك الزمن إلا أننا وجدنا الناقد والقاص بشير الهاشمي له رأي عن مجموعة (أحزان اليوم الواحد) ؛ فبعد أن أبدى إعجابه بمضمونها وأسلوبها يقوم بالتركيز على المضمون العاطفي الذي تحمله قصص الشويهدي مبينا ما مفاده أن الشويهدي لا يرينا الوجه الناجح للحب، وإنما يرينا الوجه الفاشل له قائلا " المشكلة الأساسية مع هذه المجموعة القصصية أن الوجه الآخر للأشياء غير موجود، فبالتأكيد مثلا أن الحب ليس هو فقط تلك الحالة من التقهقر والفشل في قصة : ( حب شديد الوطأة ) (9)، وإذا كانت تمثل موقف إدانة لنوع خاطئ ارتبط بالحب من مؤثرات التخلف الاجتماعي فإن هذا لا يمنع من وجود الحــب الحقيقي" (10).
وقد لاحظت من خلال تسلسل نتاج الشويهدي القصصي اختلاف أسلوبه، واختلاف الشكل والمضمون بطريقة أو بأخرى بعد أن تجاوز سن الشباب.. فقد هدأت عنده موجة التذمـّر والقلق فلم تعد الثورة على المواقف تتسم عنده بالعنف أو تصوير المشاهد الساخرة.. قد وجدت خطة هذا القاص في أسلوبه في مجموعته (كحل العين) التي ضمنها قصص عن مدينة بنغازي أن أسلوبه فيها يختلف عن أسلوب مجموعتيه ( أحزان اليوم الواحد) و(أقوال شاهد عيان)، فهما على وتيرة واحدة من حيث الأسلوب ؛ أما (كحل العين) فتختلف في الخواطر والأهواء، فهي تمتاز بالليونة وهدوء الهاجس والحنين إلى الحياة القديمة وذكر المعيشة في كنف الناس الطيبين، أمثال ما كان يحكيه عن أمه التي أبرز صورتها في صفحة الغلاف ـ ففي قصة ( كحل العين نفسها) التي هي عنوان المجموعة، بالموازنة بينها وبين مجموعتيه سالفتي الذكر (أحزان اليوم الواحد) و (أقوال شاهد عيان) نجد أنه كان واقعيا يصف المجتمع من خلال مشهد فوتغرافي، أما في (كحل العين) فقد خاض تجربة رومانسية فنية جديدة تختلف عن رومانسيات الخيالات المجنحة في الماضي.. فـ(كحل العين) قريبة إلى نفسه ضمنها أشجانه وأشواقه وأرانا فيها نفسه عن كثب، اسمعه في هذا الحوار بينه وبين أمّه عندما حضرته الذاكرة، وجاءها يوما ما، بعد سفره الطويل :
" ـ جئتَ يا حبيبي فلا تغادر.. كفاك ترحالا وكفاني عذابا.. ابق.
أجيب العينين الصغيرتين الكحيلتين الجميلتين دون أن أنبس بكلمة :
ـ أيتها الأغلى.. يا حبيبتي.. لا تغضبي.. فما جئت من الأقاصي لأوجعك.. جئت يا حبيبتي كي أغفو على صدرك طفلا هدّه التعب، دمرته المعاناة والترحال والغربة، لا يكاد يذكر أمسه ولا يكاد يعي يومه، لا يكاد يتبين آفاق غده.. جئت يا حبيبتي ككل مرة كي أغمض عيني وأسكن إليك فأرتاح، أغتسل أتوضأ، أتطهر، أتكحل، أصلي في محراب حبك ركعتي عشق، ألوذ بك شأن طفل لجأ مذعورا إلى حضن أمه إثر ضنك وفزع لتحتويني كل مشاعر السكينة والأمان (11)
تتسم قصص الشويهدي بمزية الاستهلال المباشر بكلام الشخصية، كقصة (شحنات الكراهية) التي يتقمص فيها شخصية طفل ويتخذه قناعا لسرد قصته، فالطفل يكره أمه لأنها تتزين بعد وفاة أبيه..." ومضت ستة أشهر، وألقيت في جوفي أول بذرة كراهية حقيقية، وأعلنت لأمي سخطي، ورجوتها أن تقلع عن الزينة والخروج إلى الأعراس والأفراح احتراما لأبي الذي كان يحبها كثيرا ويغار عليها من الطائر الذكر، ونبهتها أنه لو كان أبي حيا لما سمح لها بهذا السلوك، ولكنها كانت لا تعير صرخاتي وملاحظاتي اهتماما" (12)
مع التنبيه بأن القصة السابقة كمثيلاتها تحوي بطريقة عفوية تراثا وعاداتٍ وتقاليد مجتمع الستينيات من القرن العشرين المنصرم، فنره مثلا يشير إلى عادة كانت تمارس في المجتمع البنغازي ولكنها اندثرت الآن، وهي ضرب النادبات بالعصي على صندوق في بيت الميت كما في هذا المقطع:" وتخللت الهرج والمرج والوقوف والنساء المولولات والدقات على الصناديق.."[1]
كما تتسم القصص بتآلف الأحداث وتسلسلها ؛ فقصة (شحنات الكراهية) تبدأ وتنتهي بحديث الطفل دفعة واحدة ولا تبرحه إلى أحداث جانبية أخرى فالطفل يجمل الحدث كله في المقدمة ليجعلنا مشتاقين بعد ذلك إلى التفصيل، فيطلعنا في هذه المقدمة بأنه وإن كان طفلا بائسا الآن ويكره أمه، فقد كان طفلا مدللا إبّان حياة أبيه.. ثم يتلو ذلك بحدث آخر هو دخول سيدي سليمان في حياتهم.. ثم وفاة أبيه...ثم تزيّن أمه للأعراس..ثم أخيرا زواجها بسيدي سليمان وهي قمة مأساته.
وبهذا اكتسبت هذه القصة مزية فنية أخرى في طريقة السرد وهو بعدها عن الاستطراد والتفاصيل الزائدة فاحتفظت بالحدث متوهجا كما جمعت بين الحوار والسرد، وهو ما يميز جل القصص خاصة مجموعتي (أحزان اليوم الواحد) و(أقوال شاهد عيان).
ومن المزايا الفنية في القصة انسجام الشخصيات مع طبيعة الحدث حيث ملاءمة كل شخصية لدورها ؛ ففي قصة (زغاريد الملائكة) مثلا، نرى الكاتب قد أعطى لشخصية الحاج عثمان المزارع البسيط ما يلائمها من الوصف والحس الدرامي، ولم يخرج عن هذه الصورة التي أسبلها عليه في بداية القصة حين قال: "ورغم أن طبيعة حياته الريفية تحتم ارتداء ملابس متواضعة تشوهت بطين الأرض وزرعها، إلا أنه كان أنيق الهندام نظيفه، تفوح منه رائحة طيبة، تكسبه وشيب رأسه ولحيته وقارا وهيبة" (13)
وفي مكان آخر من هذه القصة نجد مزية أخرى من مزايا السرد الجيد وهو التلميح بدل التصريح والمباشرة ؛ فالحاج عثمان التقى بخالتي مبروكة الأرملة في إحدى الإدارات الحكومية التي تشكو إهمال أولادها لها واهتمامهم بزوجاتهم فقط وفي غمرة حديث جرى بينها وبين الحاج عثمان قال لها هذا الأخير من جملة ما قال أن زوجته قد ماتت منذ سنتين، وهو وحيد الآن.. "ورغم أن خالتي مبروكة شاركته أساه إلا أنها أحسّت بفرحة تزغرد في أعماقها إذ ربما.. ربما..من يدري؟
فهذه العبارة الأخيرة عبارة مغلفة ومفتوحة في نفس الوقت ؛ عبارة يطبعها التكثيف بطابعه، قادت الحبكة القصصية إلى رغبة ملحّة في معرفة الحدث وتكاد تصل بها إلى جل الأزمة.. ثم تكراره لكلمة(ربما) الذي يؤكد الخفاء والتكثيف، فضلا عن هذه النقط الفاصلة بينها التي ترمز هي الأخرى إلى احتمال متباطئ أو متباعد في التخمين بتحقق أمل ما لخالتي مبروكة.
_____________________
* ولد محمد على الشويهدي سنة 1942 ببنغازي وواصل بها تعليمه حتى أنهي المرحلة الجامعية.. نشر نتاجه الثقافي في الحقيقة والجهاد والأسبوع الثقافي والجندي والشورى والثقافة العربية والموقف العربي.. تولى رئاسة تحرير الشورى والجهاد والثقافة العربية ومديرا للمؤسسة العامة للصحافة، وأمينا للجنة الشعبية للإعلام والثقافة، وأمينا للمكتب الشعبي براغ، وأمينا لتحرير مجــــــــلة الموقف العربي وأمينا للدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان. ( عن موسوعة القصاصين الليبيين لعبد الله مليطان الصادرة سنة 2000 ـ ص420..
(1) ذاكرة الكلمات . ص15. .
(2) أحزان اليوم الواحد ـ ص138 و139.
(3) أقوال شاهد عيان ـ ص89.
(4) , (5) ـ أحزان اليوم الواحد ـ مؤسسة الانتشار العربي 1999 ـ ص25 ـ ط4 .
(6) أحزان اليوم الواحد ـ ـ ص14 و15 .
(7) المصدر السابق نفسه ـ ص149 .
(8) سليمان كشلاف ـ دراسات في القصة الليبية ـ الدار الجماهيرية 1979 ـ ص 10 .
(9) في مجموعة ( أقوال شاهد عيان) لمحمد علي الشويهدي التي يلجأ فيها المحب إلى رش الرمل علي عتبة دار حبيبته بناء علي توصيات الفقي , الذي كلَفه بنشر الرمل علي العتبة حتى تقبله الفتاة زوجا لها, حتى أنها ستزوره في بيته, لكن الذي زاره هم شرطة الآداب .
(10) خلفيات التكوين القصصي في ليبيا ـ ص 127 .
(11) أحزان اليوم الواحدص165.
(12) المصدر السابق نفسه ص 167.
(13) أقوال شاهد عيان ص49
بارك الله فيك د.عبد الجواد لو ممكن تمدني بالقصص احتاجها في دراستي
ردحذفمعلومات جميلة !! لا أستطيع الانتظار إلى رسالتك التالية!
ردحذفتعليق بواسطة: muhammad solehuddin
تحيات من اندونيسيا