السبت، 26 نوفمبر 2011

شيبتني ليلة واحدة

شيبتني ليلة واحدة


د. عبدالجواد عباس



شمس الأصيل بوميضها الأحمر الواهن تنعكس على سطح الأرض المخضر فتكوّن مع الأعشاب الندية بريقا يصعد مع خيوطها، يتلألأ هنا وهناك وكأنه الذهب الملقى على رمال الصحراء يرسل لمعانه من بعيد... ورجلان يمشيان على حذر، لم يلبثا أن يتوقفا هنيهة بدون حراك كمن يسترقان السمع، يلتفتان يُمنة ويُسرَى صوب الغابة وصوب الربوة التي بدأا يرتقيانها.. لم يكن هذان الاثنان إلا مجاهدين أسندت إليهما مهمة اكتشاف الطريق الشمالي والتأكد من مواقع العدو إن كانت عن قرب أو بعد، وتأمين السبيل للمجاهدين.

وقد اختير هذان الشابان( حسن ومختار) للقيام بهذه المهمة التي كثيرا ما قاما بها.. لا يكاد يستبان شيء يحملانه سوى بندقيتيهما.. وبعد أن تأكدا أن الطريق خالية أخذا يزيدان من تقدمهما نحو الشمال صوب قمة الربوة ببطء متتبعين مناطق وجود الأعشاب البرية المثمرة.. وفيما هما كذلك إذا بضوضاء عرفا منها للوهلة الأولى ضوضاء عساكر الطليان، وقد قاربت وصولها من الجهة المقابلة فقفلا راجعين جريا لعلهما يوصلان الخبر الخطير إلى المجاهدين، إلا أن الرصاص أخذ يمطرهما بكثافة وهما يدخلان الغابة حتى ضيّق عليهما.. أبصرا مغارة فتوقفا عند بعض الشجيرات، ونظر كل منهما إلى الآخر وأشارا في وقت واحد نحوها فهم مُدركون لا محالة.

وأخذ الاثنان يلوذان بصخرة بعد صخرة، ويستتران بفروع الأشجار ولكن رصاص الدورية لازال يلاحقهم ويضيق عليهم الخناق، يئز قرب أرجلهم مثيرا التراب في وجهيهما واقتربا من المغارة، فإذا هي ذات فوهة صغيرة، فضّلا الاختفاء فيها ريثما تتوه الدورية عنهما وأخذا يزحفان نحوها، ودخل حسن، وكان عريض المنكبين فلم يدخل إلا بصعوبة جارفا بعض الأتربة إلى الداخل غير أن المغارة أصبحت تتسع قليلا من الداخل.. ثم دخل مختار بسهولة ولم يتوقفا عند المدخل فحسب بل أخذا يتوغلان في الظلمة إلى الداخل والأحجار تلكمهما، ولم يتوقفا إلا عند نهايتها حيث كانوا ينشدون شيئا من الاتساع.. كانت المغارة سرداب طويل مظلم، يضيق في البداية ويتسع تدريجيا إلى الداخل.

لم تمض لحظات حتى سمعا أصواتا آتية من الخارج، استبانا منها أصوات الدورية تجدّ في البحث عنهما.. وبعد قليل طرق سمعهما صوت بعضهم يأمرهما بالخروج، ويعدهما بالنجاة إذا هما سلما نفسيهما، فبقيا صامتين دون حراك لأنهما متمسكان بفكرة عدم رؤية الجنود لهما عندما دخلا المغارة.. ومضت دقائق والجنود على هذا الدأب، حيث لم يستطع أحدهم المرور من أمام فوهة المغارة لخوفه من رصاص الرجلين إذا ما كانا في الداخل.. في حين كان الرجلان بعيدين جدا عن الفوهة، يلمحان بابها كنقطة صغيرة من الضوء.. لم يمض بعد ذلك وقت كثير حتى حط الظلام سدوله.

سكت جنود الدورية عن محادثتهم، ولكن الاثنين أصبحا يحسان أنهم لم يبرحوا المكان، فأصوات الخيل والبغال تدل على وجودهم.. مكث الاثنان تلك الليلة في المغارة يلفهما الظلام الدامس، فما استطاعا رؤية شيء اللهمّ إلا سماع حديث خافت يجري بينهما بهمس وحذر، حيث ما يزال يحدوهما أمل في النجاة، فالجنود حسب توقعهما غير متأكدين من وجودهما داخل المغارة، وما أمرهم لهما بالخروج إلا جلاء للشك.

بقي الرجلان على تلك الحال إلى الصباح، مفترشين الأحجار والحشرات تدب على جسديهما،ويرتعشان مع كل لسعة.. لقد عرفا أن الليل قد حلّ حينما أظلمت فوهة المغارة.. وحينما عاد الضوء من جديد عرفا مطلع الصبح.. ودار حديث قصير بين حسن ومختار، فقال مختار :

ـ يبدو أن الدورية قد رحلت فلم أعد أسمع أصواتا.

ـ لا اعتقد أنها رحلت، ربما هذا من باب الخداع، خاصة إذا كنا قد شوهدنا ندخل

المغارة.

ـ رحلت أو لم ترحل، على أية حال هيّا بنا نخرج للموت في الهواء الطلق على الأقل.

ـ كيف ؟ تريدنا أن نخرج والجنود مازالوا متربصين لنا.

ـ قلت لك لا يوجد أحد في الجوار، وإذا هم حاولوا الخداع بسكوتهم فلا تستطيع

الحيوانات خداعنا.

ـ ربما أبقوا من يتربص بنا، فلنتمهل قليلا.

ـ أتصدق أن دورية سريعة تهتم لأمرنا هذا الاهتمام ؟

ـ نعم، يسرهم العودة بأسيرين للتباهي أمام رؤسائهم.

ـ أقول لك كلمتي الأخيرة وبعدها سأذهب بك أو بدونك.. فإن أردت الذهاب معي فهيّا

وسيكون مصيرنا واحدا.

ـ ولكن ماذا ستفعل إذا وجدتهم ؟

ـ سأحاول قتل ما استطيع ثم أتحمل المصير المحتوم.

ـ إني لا أوافقك، ليس من الشجاعة مثل هذا التصرف، فإذا انتظرت حتى الليل

فسننسحب معا فربما نجونا.

ـ لقد سئمت الكلام، كما سئمت هذا المكان، فهل لك في الخروج معي ؟

ـ لا، لن أخرج.

ـ إذاً الوداع.

قال مختار هذه الكلمة ثم مضى نحو باب المغارة تاركا رفيقه الذي لم ينبس بكلمة، والذي أخذ يراقبه وقد حجب عنه باب المغارة، فلم يتأكد من خروجه حتى بان عليه الضوء من جديد.. وما هي إلا فترة سكون بسيطة حتى سمع عدة طلقات عرف منها رصاص الدورية ووقوع رفيقه صريعا عند باب المغارة.. ولم يلبث حسن بعد ذلك حتى سمع جنود الدورية يأمرونه بالخروج ويعدونه بالأمان إن هو سلم نفسه وسلاحه.

مكث حسن في مكانه فلم يكلمهم.. وعند الأصيل أحسّ بأن الجو قد هدأ فلم يعد يسمع الأصوات التي كانت تنبعث من حركات الدورية في الخارج.. حدثته نفسه بالخروج واستقر رأيه أخيرا على ذلك ولكن سرعان ما غيّر فكرته، لقد فضّل البقاء حتى الصباح جلاء للشك وإبعادا للأوهام.

عندما كانت نفسه تضطرم بهذه الافتراضات كان الغروب قد أوشك وصار باب المغارة يشع وميضا ضئيلا من الضوء، ضوء في طريقه إلى الزوال السريع.. كان نظره في هذه اللحظة مصوبا نحو باب المغارة، إذ بدأ يبصر خيالا يعلو وينخفض، ليس في حجم رجل حتى يوجه إليه بندقيته، بل هو جسم يهتز غير ثابت.. أخذ ذلك الجسم يتوغل إلى الداخل نحو حسن الذي دهش لدخول هذه المصيبة الجيدة.. لم تمض ثوان حتى صارت الأحجار ترتطم في بعضها متأثرة بفعل الجسم الذي يتدحرج فوقها، لقد ظهر جليا أن ذلك الشيء لم يكن إلا حية تسعى، وإن هذه المغارة مسكنها.. التفّ حسن بجرده جيدا ولم يُظهر شيئا من جسمه.. لقد تمدد على ظهره وكأنه ميت مكفّن.. لقد تأكد له ملاقاة الموت حتما.. كان الجرد شفافا استطاع من خلاله رؤية باب المغارة وهو يتلقى آخر وميض من الضوء.. لقد رأى ألا يأتي بأية حركة، وأن يهدأ تماما، حتى أنه اقتصد في التنفس.. وقفت الحيّة وتشامخت برأسها، كان حسن يراها ظلمة سوداء وكأنها مأسورة قسمت فوهة المغارة البعيد إلى نصفين.. كانت عملاقة، بقيت رافعة رأسها بالقرب من حسن.. بقيت هكذا قرابة العشر دقائق وهي تمعن النظر إلى هذا الشيء الذي احتلّ مكانها مستنكرة وجوده.

بات حسن في حالة من الرعب، فلا منجاة من هذا الصل الهائل، لن ينفع معه صراع البندقية قد تخطئه، وإذا جرحته يصبح أكثر هياجا.. انتظر لتبدو منه أية حركة لتلتف حول جسمه وتحطم عظامه.. انتظر حسن هذا المصير وبدأت الحية تطاطئ رأسها ثم لامست جسم حسن وشعر بها تسحب جسمها ببطء، ومازال بقية جسمها يتوالى.. سكن حسن تماما، اللهم إلا ارتعاش داخلي لا يملك السيطرة عليه.. انتظر أن تطوي جسمها عليه ولكنها لم تفعل.. لقد تجاوزته إلى جانبه وانطوت حيث بدأت في سبات عميق.

لقد تعقد الموقف تماما، عدو في الخارج وعدو في الداخل، لقد صار عدو الخارج أهون لقد سمع الحية تتنفس وتصدر أصواتا غريبة.. لم يذق النوم تلك الليلة.. حشرات لا يدري من أية فصائل هي كانت تلسعه لسعا لاذعا دون أن يحك أثرها.. كان الموت نائما إلى جانبه، يدرك تماما أنه سيلقى حتفه بمجرد حركة بسيطة يقوم بها.

يا لها من ليلة ! لم ينم الليلة التي قبلها، لم يذق طعاما مفيدا، ليلة اشترك فيها لجوع والسهر والخوف الشديد.

باب المغارة بدأ يرسل شعاعا من الضوء مبشرا بقدوم الصبح، حينما بدأت جارته البغيضة تتحرك وتنتفض من مرقدها وقد رفعت رأسها إلى أعلى كما فعلت ساعة دخولها.. شعر حسن بحركتها فوقه، زحفت وتركته متوجهة إلى باب المغارة.. أخذت الأحجار تحتك تحت جسمها الثقيل إلى أن رآها صاحبنا المتهالك توقف رأسها عند باب المغارة لحظات ثم تغادر إلى الخارج.

كان العرق يتصبب من جسمه غزيرا إضافة إلى آلامه الأخرى، والهواء داخل المغارة حار وفاسد، زادته عفونة رائحة الحية، أما الجو خارج المغارة فهو غالبا ملتهب لأن الوقت هو آخر الربيع.

لقد افترض حسن أن هذا المكان هو مسكن الحية المعتاد وبالتالي إنها لم تأت الليلة الماضية لأن الدورية كانت موجودة فأقفلت عليها الطريق إلى المغارة، وعندئذ قرر الخروج قبل رجوعها من جديد، فأخذ يجر جسمه بين الأحجار متوجها نحو باب المغارة.. لم يسرع في الخروج بل توقف عند حافة الباب ووضع عمامته فوق مقدمة البندقية وجعل يرفعها فوق حافة الباب كمحاولة يائسة ليرى ما إذا كانت الدورية ما زالت له بالمرصاد فربما يفعل شيئا.. أخذ يحركها يمينا وشمالا دون سماع أي صوت، فجمع شتات شجاعته واندفع إلى الخارج فشعر بوهن شديد وغثيان.. تلفـّـت إلى جميع الجهات فلم يجد للجنود أثرا.. ألقى نظرة حزينة على رفيقه الملقى على وجهه في التراب.. وما أن مضت عدة أيام على تلك الحادثة حتى صار حسن ابن الثالثة والعشرين أبيض الرأس، وكان يرد على كل من يسأله عن السبب بأنه شاب من أحداث ليلة واحدة.





صبرا غاباتنا

صبرا غاباتنا


د. عبدالجواد عباس

الغابة مساحة واسعة، ذات أشجار كثيرة، مختلفة الأنواع والأشكال، أنشأتها الطبيعة وحدها في غير ما اتّساق ولا تخطيط ؛ فيها الأشجار الطويلة السامقة، وفيها الشجيرات القصيرة التي تفترش من الأرض مساحة حولها، وفيها ما بين ذلك وتلك. إضافة إلى أنواع شتى من الحشائش والنباتات المتسلقة والساحبة علي وجه التربة. يُجمَع إلى ذلك جيوش من الطير والحشرات، كلٌّ له صلة وثيقة مع الغابة، حددتها له الطبيعة منذ القدم يزاولها ؛ فهو يأخذ ويعطي، يفيد ويستفيد.. وبالطبع لا تخلو الغابة من الحيوانات الشرسة واللطيفة، ولها منوالها وأسلوبها الثابت أيضا في العيش والتكيّف مع الطبيعة من حولها.. هذا هو مجتمع الغاب.

منذ الخليقة الأولى كانت الغابة الغذاء والمأوى والحماية للإنسان ؛ فهي مسرح عملياته كلها في نهاره وليله. وهكذا كانت أحقابا من الزمن، حتى نشأت البشرية وترعرعت، فكان منها الوقود والدفء والقوس والرمح، والكوخ والسفين والمحراث والعربة، والآنية والأدوات.. " الغابات نعمة من الله، ذلك ما نتفق عليه جميعا، فقائمة المكاسب التي تقدمها لنا ابتداء من دعم التربة إلى الثروة الخشبية، ومن الأعشاب الطبية إلى الوقاية من الرياح، قائمة طويلة بالغة الطول. كما أنها تثير فينا شعورا بالإعجاب والامتنان"*.. والغابة أينما كانت لها سحرها وجمالها الخلاب الذي يستهوي أصحاب النفوس السمحة والميول المعتدلة، وما أكثرهم في هذا المعمورة المترامية الأطراف، إلى جانب إعجابهم بما يسكنها من طير وحيوان.. وقد دأبت دول العالم المتقدم إلى اتخاذ السبل نحو الاستغلال الأمثل للغابات في أوطانها، فعملت علي حمايتها واستغلالها معا ؛ فمن جانب تستهلك الغابات في شؤونها المختلفة، إلا أنها من جانب آخر تعمل علي تنميتها بالزراعة والاستنبات ، وكأنما هي كنز متجدد، وقد سنت بذلك القوانين منذ زمن بعيد، لا يتخطاها أحد، حتى صار تقديس الغابة عرفا ساريا بينهم يعتنقه المواطن مختارا لا مجبرا.. والغابات في العالم المتقدم تلقى عناية كبيرة، فهي تزرع الشّتـْـل مكان المساحات المقطوعة والأشجار المعفاة، وتعهد بذلك إلى من يهتم بها من أصحاب الخبرة والدراية، حيث يتصرف بها حسب شروط، تعود عليه وعلي المجتمع بربح وفير، خاصة في أوربا والأمريكتين، وقد يزيد طول الشجرة هناك علي ثلاثين مترا. وفي الصين تمكنوا بالطرق العلمية من زراعة كثير من سفوح الجبال الصخرية الجرداء.. وهذه كلها بلدان وفيرة المياه، ولقلتها لا تعدو الغابات في أكثر أقطار العالم العربي علي كونها أحراش، كما هو الحال في الجبل الأخضر، فمع أن غاباته قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرنا في العالم الآخر، إلا أنها تؤدي دورها في الاستمتاع والتنزه البريء، لكن من يؤدي هذا الدور بسلام، إننا لا نعدم أن نجد من يقطع ويحرق، بسبب وبدون سبب، إننا لا نعدم أن نجد حتى من يقطف خصنا أو أوراقا وهو يمشي، لا لشيء غير العبث، ليس إلا، لكن الموضوع مازال في متناول الأيدي، فالمحافظة علي الغابة وإنمائها مازالت قائمة، فما تبقـّى منها قابل للزيادة في المساحة وفي النمو، بدليل أن الذين سيجوا بعض المساحات بالأسلاك الشائكة أزدادت الغابة فيها ونمت بشكل ملحوظ، كما هو ماثل في منتزه وادي الكوف، ومساحات الغابات الملحقة بمزارع مسيجة، خاصة منطقتي الوسيطة وقندولة وشمال شحات وقصر ليبيا غربا حتى طلميثة.. وهي مناطق عامرة بمختلف النباتات التي عُرف بها الجبل الأخضر منذ أزمان؛ كالبطوم والخروب والشماري، والعرعر الذي يشكل النسبة الكبرى من الغابة، وهو إذا نزع من مكان لا يستخلف بالسهولة التي تعود بها النباتات الأخرى إلي حالتها الطبيعية .. وهذه السنة، والسنة التي قبلها لم ينبت شيء من ثمار الشماري، قد تعرض للإصابة، كذلك لم تثمر شجيرات البطـّوم ، ونقص المياه كان معينا على ذلك، وربما تعرضت سائر النباتات للجفاف في الماضي ولكنها تتماسك حتى مجيء سنة مطيرة، فإنها تنتعش من جديد، ويرى علماء النبات أن للملوثات دخل كبير فيما يحل بالغابة من أمراض.. وعلى كل الأحوال فلن يُرى الجبل إلا أخضرَ، غير أن كبار السن يؤكدون أن الغابات كانت غزيرة ومكتملة وشديدة الخضرة منذ سبعين عاما، وتعج بأنواع مختلفة من الطيور كالحجل، والحيوانات البرية كالشياهم (صيد الليل).. وقد أخبرني من أثق به؛ أنه في السنين التي حُشر فيها الأهالي في المعتقلات، إبّان الاحتلال الإيطالي الغاشم كان ينزل إلى الجبل فيجده خاليا، متهدج الغابة، ولا من صوت غير أصوات الطيور، والشياهم والذئاب والثعالب والضباع تمشي في النهار، مستترة بالظلال الكثيفة، وعسل النحل يُشتم في كل مكان، ولا تكاد تنتقل من مكان إلى آخر حتى تجد خلية، وقد فاض منها العسل إلى الخارج.. وهكذا أوت غابات الجبل الأخضر بعض الهاربين من عسف السلطات الإيطالية، فالمختفي يأكل ويصطاد مما يجد، وهكذا كانت الغابة تفعل منذ الإنسان الأول، والتاريخ يعيد نفسه.



ضعف التحصيل قاسم مشترك بين المعلم والطالب والمبنى المدرسي

ضعف التحصيل قاسم مشترك بين المعلم والطالب والمبنى المدرسي


د. عبدالجواد عباس



أولا :المــــعلم

سألقي الضوء على هذه القواسم المشتركة ، آملا في سد الثغرات التي يأتي منها تراجع مستوى التحصيل في المواد الدراسية بصفة عامة ولنأخذ أولا محور المعلم وتأثيره والسلبي في عملية التدريس عندما تقتحم عناصر غير مؤهلة حقل التعليم ..



فأول ثغرة غير مباشرة تفتح الباب لتراجع مستوى التحصيل العلمي هو تعيين معلمين في مجال التدريس تعيينا عشوائيا ، من حيث هو تعيين غير مدروس ، فقد رأينا أنه كل من حصل على مؤهل جامعي أو دبلوم متوسط يُدفع به إلى ميدان التدريس بدون معرفة جيدة بماهيته ؛ أي هل هو يصلح لهذه المهمة الخطيرة التي تصنع الأجيال ، أم سيأتي لنا بنتائج تعكس عدم قدرته العلمية وجهله بسبُـل التربية والتعليم ..



ومن ثمَّ إذا أردنا تعيين مدرسين علينا اختبار حالتهم النفسية وقوة شخصياتهم وتقبّلهم للمهمة ومدى معلوماتهم ، ومدى استيعابهم لمواد تخصصهم ، ويكون ذلك ـ كما كان معتادا وانقطع ـ من قِـبَـل لجنة من المفتشين التربويين .. لجنة لا تنقاد وراء العاطفة ، ولا تراعي قرابة ولا صداقة ، ولا تأخذها الشفقة فتعيّن معلمين لمجرد منحهم فرصة أكل العيش نعم ليأكل العيش ولكن في مجال آخر غير التدريس .. فإذا تراءى للجّنة في طالب عمل التدريس نقصٌ علمي أو عيبٌ عقلي أو جسماني فلا ترشحه للتدريس وإلا أخلت بمسؤوليتها ، ولم تمنح الوطن مودتها .



وللمعلم بعد ذلك علاقة ومسؤولية بمعالجة ضعف الطلاب في الإجازة الصيفية ، كما له علاقة ومسؤولية بالتعليم التشاركي الحر ، و ليس في المدرسة التي يدرّس فيها فحسب ؛ فمدرس الإجازة الصيفية ومدرس التعليم التشاركي كثيرا ما يكون تابعا لأمانة التعليم ، ويدرس للدورة الصيفة وللتشاركية معا ، وإذا وجد سبيلا ثالثا يمضي إليه ...وعلى هذا الحال كيف يمكنه التوفيق والأداء الصحيح بكل هذا العدد الكبير من الطلا ب .. التدريس في هذه الحالة المتفرقة الجهود لا يكون إلا ومضة سريعة ولمسة خارجية يؤديها المعلم أداءً قلقا ، وهو غير متأنٍ ، ينهب الكلاب نهبا ، وكل شيء عنده على عجل ... الشرح على عجل ، والكتابة على عجل .. هكذ ا غير متريث ، ينتظر بفارغ الصبر ليمضي الوقت ولينطلق إلى عمل آخر ومن قبيل تحصيل الحاصل ألا توجد كراسة متابعة عن حالة الطالب العلمية والتربوية ، مع عدم وجود كراسة تحضير الدروس لمعرفة ما دُرِّس من المقرر ، وما أخذ ذلك الفصل وما لم يأخذ ، ولا نعدم أن نسمع المعلم يسأل الطلبة ـ عند الدخول عليهم ـ إلى أين وصلنا في الدروس ، وفي أي صفحة نحن ؟..



هذا شأن المعلم الذي يمارس أكثر من عمل ، حتى ولو كان جيدا فإن تشتيت الجهود يُضعف أداءه ، فإما أن يستقل بالتدريس مع التعليم بمرتب يكفي حاجته ، وليس كما هو عليه الآن ، وإما أن يستقل بالتدريس مع التشاركية كعمل منفرد لا يزاول غيره ..



والحقيقة المدرس له وعليه ، فقد يتواجد في أكثر من عمل تحت دافع الحاجة ؛ الحاجة الملمحّة ؛ إطعام الأولاد ، ملابسهم ، فلا تقل ملابس الفتاة الجامعية مثلا أو حتى في الثانوية عن مئة دينار ، وكذلك الولد ، إضافة إلى مصاريف الصغار الآخرين ، ولا ننسى نفقات العلاج ، وأن كثرا منهم يشترون الماء طول السنة ، وهناك مصاريف المواصلات والكهرباء والهواتف ، إضافة إلى ذلك كله مصاريف المنزل والمناسبات الاجتماعية .. فماذا يفعل المرتب ، وماذا يفعل المعلم إذا كان متوسط معاشه ثلاثمائة دينار على الأكثر .. المدرّس لا شك يكون مهموما ، وبالتأكيد سيبحث عن طريقة تخلصه من هموم الحاجة ولو جزئيا ، ولو كان ضد صحته ووقته ، لذلك نلتمس له العذر في تعدد مهامه التدرسية ، ولكنه عذر على حساب مستقبلنا على حساب الكوادر التي سيقدمها للوطن ..



عن كثب وقرب وصدق أقول أن تشتت ذهن المعلم في أكثر من عمل هو من أجل توفير حاجياته الأساسية أولا ، ليس في أولوياته البحث عن هاتف أو حاسب آلى أو سيارة جديدة ، لا يبحث عن شيء من أدوات الحضارة الحديثة مع أنه جدير بها و توفر له الوقت والجهد ولكنه يبحث عن الأساسيات ..



فإذا أردنا من المعلم أن يوجّه كل إمكانياته وقدراته ، وكل ثقله نحو عمل واحد علينا أن نمده بمرتبٍ مجزٍ يوفـّـر له ضروريات الحيات العصرية ، ثم بعد ذلك نحاسبه حسابا عسيرا على كل هفوة أو تقصير في الواجب .. فمدرس القطاع العام ومدرس التشاركية بعد التأكد من صلاحيته للعمل من قبل لجنة متخصصة يكافأ عن عمله بأجر جيد ، على أن يكون متفرغا لعمله تفرغا كاملا للعمل بالمدرسة أو التشاركية ، ويحظر عليه مزاولة أي عمل آخر حتى من غير مهنة التدريس ، لأن تفرغه هذا يعطيه مجالا يسلط فيه قواه كلها ويستثمرها للشرح ولإجابة الأسئلة وتصحيح الاختبارات والكراسات وتقويم التلاميذ وفحص مشاكلهم على مهل وتروٍ ، وأخص ما أخص بالاهتمام معلمي الصفوف الأولى لأنهم يصنعون الأساس القوي تربويا وعلميا .



ثانيا : الطالب ـ

طلابنا ، أبناؤنا منذ وصولهم إلى الشق الثاني من التعليم الأساسي وما فوق تنمو في أذهانهم أفكار وتتنازعهم رغبات أكثرها غير سليمة .. أبناؤنا جلهم منجذبون وراء الأشياء البراقة ؛ كل شيء يريدونه بسرعة ؛ يريدون الدراسة بسرعة ، ويريدون الثراء بسرعة ، كل منهم يريد أن يكون شيئا كبيرا دون أن يعمل شيئا ؛ دون أن يخلص لدراسته أو يخلص لعمله وهذه المشاكل منبثة في مجتمعنا العربي بنسب متفاوتة ، ولم تعد الحلول المستوردة ولا المناهج الحديثة تصلح لتقويم طلابنا .. ولا أريد أن أقول أن لأبنائنا تركيبة خاصة لا تتناسب معها الحلول التي تتناسب مع خلق الله ، فلو تسامحت معهم وغفلت عنهم قليلا لحطموا الأدراج وكسروا المصابيح وقد يمدون أيديهم إلى المعلم اعتداءً ، وقد يهينون ويضربون من هو أكبر منهم دون تورع .. هؤلاء هم أبناؤنا .. هذا حظنا ، لذلك لا بأس أن نشدّد العقوبة ونقوي عليهم الرقابة بوعي وعدم تجاوز منذ الصغر والمراحل الأولى ، وأن يعود دور المشرف بأفضل ما يكون ، ويعود دور الأخصائي الاجتماعي بأفضل ما يكون ..



ثالثا: المبنى المدرس ـ

إعداد واستكمال المبنى المدرس بمرافقه الكاملة له تأثيره الإيجابي والسلبي في العملية التعليمية .. مشكلة بسيطة وهامة ـ بسيطة لكونها تعالج بالمال ، وهامة لأن عدم توفرها فيه إزعاج للطالب وإرباك له في دراسته ليس المدرسة فقط قاعات للدروس ؛ فهناك المعامل وهناك الملاعب الرياضية وهناك المكتبات .. ثم هناك شيء مهم وهو دورات المياه ، فكثير من المدارس بل والجامعات دورات المياه فيها مغلقة بسبب عدم صلاحيتها أو عدم وجود الماء فيها أو عدم وجود من يهتم بنظافتها أساسا ، لذلك أغلقوها فيظل الطالب فيها متضايقا حتى يعود إلى بيته في نهاية النهار ليقضي حاجته ، وعدم قضاء حاجته يقلل من تركيزه على الدروس .. فعدة أشياء إذا لم تتوفر في المبنى المدرسي فيها إزعاج للطالب ؛ فعدم وجود دورات للمياه إزعاج للطالب ، وعدم وجود مباشرين إزعاج للطالب ، ، والبرد الشديد داخل الفصل إزعاج للطالب والمعلم معا ، والمبالغة في أسعار الإفطار والمواصلات إزعاج للطالب ..هذه المشكلة والمشاكل السابقة لا تريد حلولا ذهنية معقدة بقدر ما تحتاج إلى الصرف عليها بحكمة .





ضلالة الضلالات

ضلالة الضلالات


د. عبدالجواد باس

بابان اثنان فـُتِحا علينا فأذعنا لهما وأعلنا الطاعة والاستسلام وكأنهما سيفان مسلطان علينا فلم نرفع رؤوسنا المنحنية المطيعة.. إنهما صالات الأفراح والهاتف النقال، أما الأولى ففرضها علينا سوء تدبيرنا، وسوء تقديرنا للأمور وعجزنا عن أخذ القرار المناسب لأنفسنا، وربما كان لدروشتنا وبساطتنا وطيبة عقولنا دخل في ذلك، بل وحتى طاعتنا لنسائنا وبناتنا وأولادنا السُّـذج.. وأما الثاني ففرضته علينا العولمة والسير في ركب المعاصرة، وهذا لا تثريب عليه لو أن ثمن الكروت في متناول الجميع، ولكنها تكاليف بالغة القسوة، ففي كل بيت لا تقل تكاليف النقالات مجتمعة في الأسرة الواحدة عن مئتي دينار، هذا باب جديد للصرف لم نعهده من قبل جعلنا مجبرين أن ندفع بطيب خاطر أو بعدمه.. وأصبح الكل يعز عليه رفض فكرة استبعاد النقال بعد أن عُرف به وصار ملازما له كشخصيته التي بين جنبيه، وبدونه أصبح المرء وكأنما فقد شيئا ما أو كأنما فقد الصلة مع العالم بأسره..التواصل مع المجتمع ومع العالم هذا جيد لو أن الخمسة دنانير التي هي ثمن أقل قسيمة للدفع المسبق لو أنها تتيح الكثير من المكالمات بتخفيض أجرة دقيقة المكالمة إلى ثمن أقل مما هي عليه الآن، وهو ثمن فاحش يمتص النقود من أيدي الناس، خاصة الفقراء والمعوزين منهم قبل غيرهم تحت وطأة غلو الأسعار لمواد المعيشة المختلفة، ما جعل الكثير منهم يعيشون حياة اجتماعية متردية، وهذا سبيل طويل آخر...



والآن وقد أصبح من الأمور الأكيدة أن المواطن لن يتخلى عن الهاتف النقال فإن ثمن الكروت لن ينخفض أبدا وإنما سيكون في ازدياد، بل تلحق به كل يوم ميزات واختيارات تقلل من قيمة الكرت وتنقص رصيده، فلن يعمر يوما أو يومين إلا ويتجدد.. وينضم الهاتف الريفي إلى الهاتف النقال في تعدد المصاريف فإنه بالغ التكلفة أيضا، وليس صحيحا أنه مريح بل إنه يعلن نفاذ القيمة بعد أسبوعين من تجديد الرصيد على الأكثر وإن قيل أن الناس يستغلون الهواتف استغلالا جائرا ويتناولون المهم وغير المهم فهذا شأنهم، دعهم أحرارا، ودع مسألة القناعة للزمن، ولكن لا تزيد الطين بلة، ولا نلذعهم بهذه النار المستعرة، وكأنما تمُنّ عليهم بشيء جادت به الحضارة والمعاصرة، كان من المفروض أن يتمتع به الجميع.. أما عن الكهرباء التي هي أهم مهمات حياتنا بعد الماء ولها علاقة وطيده بهذه الأمور وغيرها من الأمور الأساسية في حياتنا فحدّث ولا حرج، فالكهرباء باهضة الثمن، وهم لا يرحمون أبدا حتى ولو أبكيت الحجر أو كنت بكاء قبور في الأصل، والجدال لا ينتهي معهم، وفي نهاية الأمر يكونون هم الغالبون المنتصرون ؛ فليس بخافٍ عنهم مدى الاحتياج الشديد للكهرباء في تسيير أعمال ثقيلة وقـيّمة، ويدركون جيدا أنه بدون الكهرباء تتوقف قمة النشاطات فنعود للقرون الوسطى، نّبحث عن الحطب وزيب الاستصباح.



أما أصحاب الصالات، ومن هم أصحاب الصالات ؟ إنهم أيَادٍ جشعة، لا تشبع من النقود طالما هناك أغبياء يدفعون لهم بسخاء.. ليتهم أدّوا الخدمة بشيء من اليسر وتبسيط الثمن فلم يكن لنا عليهم بعد ذلك لومٌ أو مقت، بل سيكون الأمر مقبولا في حدود الثلاثمائة دينار فيستريحون هم ويستريح المواطن، بل يذهبون مشكورين لأنهم أدّوا خدمة للمجتمع مقابل مكسب معقول.. وليتهم فعلوا ذلك ؛ ولكنهم تمادوا وأخذوا في المقابل مبلغا ليس من حقهم، ولم يكن في حجم العمل الذي قدموه أو موازيا للخدمة التي أدّوها.. والأمر كله عبارة عن ساعة أو ساعتين أو حتى أكثر يبقاها صاحب المناسبة وضيوفه في الصالة ثم يغادرونها، إضافة إلى استغلال أوانِ لم تمسّ بسوء كبير، وحتى ولو حدث لبعضها شيء فإن مبالغ مثل 1300 دينار و1500 وقد يصل المبلغ في بعض الصالات إلى 1800 دينار أو حتى 2000 دينار.. هذه مبالغ فاحشة لا توازي الخدمة المقدمة حتى لو تشوهت بعض الفرش أو أصيبت بعض الأواني أو كُسرت أكواب.. علمت أن إيجار الصالات المرتفع قد استرعى انتباه بعض المسؤولين، وبرز من يفكر بالفعل في تخفيض هذه المبالغ، وعُقد اجتماع من أجل ذلك بين الإدارة المحلية وأصحاب الصالات، ولكني علمت أيضا أن ضغوطا كبيرة مارسها أشخاصٌ من عُِـلْـية القوم، يملكون تلك الصالات ما جعل ذلك الاجتماع يفشل، وبقيت مبالغ إيجار الصالات آنفة الذكر على ما هي عليه الآن وغدا وبعد غد إن لم يفق المواطن الغبي من نومه.



من المُلام في ذلك.. من المسؤول عن التبذير وضياع الأموال ؟ ليس أصحاب الصالات القابعين في مكانهم، فهم لم يضربوا أحدا على يده ولم يرغموا أحدا في السعي إليهم، هذا صحيح..المسؤول هو المواطن الغبي الذي طأطأ رأسه ودفع ويحسب أن عمله فيه من الفخامة ما فيه، وفيه من الكرم ما فيه، ويحسب أن هذا التصرف عملا من أعمال المروءة، في الوقت الذي لا يعدو فيه الأمر عن تقليد ومنافسة للأثرياء، ومباهاة و إرضاء لشهوات النساء والأولاد، واستحسانا للركون إلى الراحة والدعة، وعدم توسيخ الأيدي والثياب بالطهي وغسل الأواني ما جعله يرضخ في نهاية الأمر إلى دفع هذا المبلغ الكبير، وسبعون في المئة من هؤلاء الدافعين للصالات متحاملون على أنفسهم ويستقطعون من مرتباتهم المعاشية، وقد يلجأ كثير منهم إلى سلفة من المصرف أو استدانة من أحد معرضا نفسه للإفلاس والصغار..



ماذا لو عدنا إلى الطريقة القديمة وبقي الحفل في بيوتنا طالما هذه الصالات لا تقدم العون المناسب بالمبلغ المناسب الذي يستطيع المواطن دفعه عن رضا.. فلتكن الخيام إذن، ولا تقنعني أنها مقاربة لثمن الصالة فليس هذا صحيحا، فهي أقل بكثير، وإن لزم الأمر الحدُّ من غلوائها أيضا بخفض الأثمان التي عليها الآن.. فلتكن المناسبات في بيوتنا، ولا تتأفف النساء من الطهي وغسل الأواني الذي أصبح عملا مؤسسيا بالحجز المسبق.. ليس عذرا تبديلها بالصالات لتبقى البيوت نظيفة لا دوشة فيها ولا حوسة وتبقى فُرشه وأوانيه سليمة وبمنجاة عن العبث والضياع والفوضى، لا تكلمني في ذلك، فليحدث هذا كله، ولكن لا تصل الخسارة المزعومة إلى نصف المبلغ الذي تطالب به الصالات.. ولو طالبت بكشف صحيح صادق عن حساب المصروفات الحقيقية التي يتكبدها أصحاب الصالات نظير استعمالها لليلة واحدة فلن يفوت المبلغ الثلاثمائة دينار مقابل أجرة العمال والأواني والفرش.. وإن كان لا، فستكون الإجابة متلجلجة محرجة لهم، ولن تصل إلى نتيجة حتمية، عدا عذر الضرائب و الرخص.. وفي الواقع الملموس لا تفوت تكاليف الليلة الواحدة عن المبلغ المذكور، مغطية لكل التكاليف، بما فيها الإدارية.. هذا هو الحق الحلال، أما ما عدا ذلك فهو نصب واحتيال، ووقوع في حبائل المصيدة بالرضا وتحت السمع والبصر..



وفي هذا الصدد خطر ببالي أمثلة غير مسبوقة ـ وإن تباعد الزمن واختلفت ظروف الحياة ومتطلباتها ـ إلا أنها تمثل نوعا من الإيجابية التي كان لها أن تستثمر وتحسّن كانت بادرة طيبة للاقتصاد وعدم تبذير الأموال ؛ أولهم ما كان يقوم به بعض عائلات القطعان بمنطقة الوسيطة في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فقد كانوا يمارسون خطوة تعد في حكم زمننا هذا تقدمية.. كانت العائلات تجتمع وتجعل أفراحها في مكان واحد، على أن تحضر كل عائلة شاتين فقط، فتكون في مجملها شياه كثير بتضافر العائلات الأخرى، فيصبح عرسا فخما ممتازا، وبعد الانتهاء من الفرح يذهب كل إلى مكانه، هذه الطريقة رأيتها حديثا في بعض البلاد العربية.. أما المثال الثاني هو ما كانت تقوم به عائلة البجاجتة بالبيضاء، فقد كانت لهم خيام وأوانٍ للمآتم بالذات تملكها العائلة كلها، تُستغل لمناسباتها دون اللجوء إلى الإيجار، ولكن ذهب كل ذلك أدراج الرياح.. وهناك محاولات جادة قامت بها قبيلة الحاسة في التسعينيات، في شحات، تتمثل في موقفهم الترشيدي بعدم الذبح في المآتم بتاتا، وكنا ننتظر منهم بعض الترشيد للتوفير في الأفراح أيضا.. ولكن ذلك التصميم أخذ يتناقص ويتناقص حتى أصبح في خبر كان وعلى الله العوض والفرج وللحديث بقية.



طقوس العتمة .. دراسة نقدية

طقوس العتمة .. دراسة نقدية


د. عبدالجواد عباس



طقوس العتمة.. هذه المجموعة القصصية لعوض الشاعري، يجمع فيها بين القصة المحكية والخاطرة والتهويمات النفسية، فقصة عروس البحر.. هذا العنوان الذي فيه اشتقاق نوع كمية من الحشيش باسم (عروسة) متعارف عليها بين تجار المخدرات، ومفاد القصة أن راعي الغنم أراد أن يجرّب مصباحه اليدوي فأومض عن طريق الصدفة ثلاث ومضات ثم سقط المفتاح وتوقف عن الإضاءة نهائيا، مما حسبه تجار الحشيش القابعين في قارب وسط البحر إشارة متفق عليها لمستلم كمية المخدرات (العروسة) على الشاطئ، فما كان منهم إلا أن رموا ما يحملون في إطارات منفوخة، وجرجره الموج حتى توقف عند أقدام راعي الغنم في تلك الليلة، حيث أصيب بمفاجأة مدهشة أربكته وفتحت له في ذهنه طرقا شتى وتطلعات كان يحلم بها، من بينها الزواج بابنة شيخ القبلية، ولكن آماله سرعان ما تبخرت عندما سمع صوتا يقول له : " أيّها الراعي لا تعبث بما لا شأن لك به.. اخرج فوراً وألحق بشياهك " ص17.

هذه القصة التي لها بداية ووسط ونهاية، سواء أكان العنوان هو (عروس البحر) أم أننا تلمسنا لها عنوانا جديدا هو (ثلاث ومضات)، ومما يهزنا في بدايتها هذه الهوية الليبية التي تفرض حضورها وتشق طريقها بقوة، خاصة فيما يدور في البيئة الرعوية من حياة البادية، كتلك البساطة البارزة حين " راح الرعي يترنم بأرجوزة بدوية تحكي عن عاشق فقير، مصوراً ما سببه ضيق ذات اليد من بعد الأحبة وفراق الخلان " ص11.. وهي صورة من الصور التي غالبا ما تحدث بشكل اعتيادي بين شباب البادية الذين لا يَملّهم ضنك الحياة... ثم الاعتداد بالمثل العليا والتقاليد السارية المتمثلة في احترام شيخ القبيلة.. وربما كانت الهوية الليبية قويةً في قصة (الطريد)(1) ابن القرية الذي جرّب كل ما هو قروي، ومارس فيها أعمال الصغار والكبار منذ نشأته إلى يوم طرده.. إلا أن هذه الهوية أقوى في قصة (الولوج السرّي).. الهوية الليبية كانت أشد نصاعة في هذه القصة ؛ فالبطل دائب الحنين إلى بساطته الأولى، وهو يتمنى أن يعيشها مرة أخرى.. لذلك يكره التقيّد و(الأتيكيت) ويكره أن يفرض عليه النظام فرضا إذ هو دائب القول
" إن البدوي الذي يسكنني عنيد وشقي، لا يني يستدرجني نحو سطح مرآته المكسرة الحواف " وهذه العبارة الأخيرة (مكسرة الحواف) تكنس من أمامها كل بريق مصطنع، فهي رمز البساطة والبعد عن الالتزام بأناقة المدينة الجبرية التحكمية.. والهوية الليبية بالانتماء إلى البيئة والوطن نجدها ظاهرة عند كثير من الأدباء، وقد جسدها أحمد يوسف عقيلة بغزارة في مجموعاته القصصية، وعشقها سعيد خيرالله حتى قال : " أما هذا الذي اكتبه، فإنني أكتبه بعودِ عوسج أخضر، عَلِقَ بعباءة ذلك الراعي بينما كان يهشّ بعصا السِّدر الذئاب عن قطيعه(2).

وفي قصة عروس البحر تكنيك يقترب من تكنيك المشاكلة البلاغية الذي يؤدي بنا إلى تناص مفرغ في قول الراوي : " ضرب البحر بعصاه فانفلقت نصفين، نصف ذهب مع الأمواج ونصف راح يهش به على غنمه " ص11، مما يعطينا نوعا من الالتفات والصحوة في هذا التوافق بين عصا موسى وعصا بطل القصة.. ولا تخلو ثنايا القصة من شفافية رومانسية حيث كان البطل : " مستسلما في تواطؤ لنسائم الحلم التي هبّت من أقاصي الشمال مع آخر خيوط نهار يحتضر تحت عباءة ليل بهيم " ص12 فالتشخيص خصيصة رومانسية ناجحة لتوصيل التجربة والجو النفسي من الأديب إلى المتلقي .

وإذا أردنا أن نصنف هذه القصة من الوجهة النقدية فهي من الأدب الواقعي، ونقصد بالواقعية إحدى اثنتين : القصة التي وقعت بالفعل، أو القصة القابلة للوقوع، وهو ما ينطبق على قصة (عروس البحر) وما يجري مجراها من قصص أخرى.. وواقعيتها واقعية عربية، تدفع أمامك المشكلة وتترك لك القرار، دون أن تستكرهك أو تحببك في الحدث، أو تستفزك بكلام الوعظ والإرشاد وعدم الاقتراب... بخلاف الواقعية الغربية،التي تصوّر لك خير إنسان العصر وشره، ولكنها تنحاز إلى فقد الثقة به.. وكمثال لهذه الواقعية قصة (وجبة إفطار) (3) للقاص حسين نصيب المالكي ؛ إذ تجد فيها أكثر من عبارة منفّرة لتصرفات إنسان العصر وعدم الرجاء في عطفه وتسامحه، ونستدل على ذلك بعبارات في القصة تقول : " إنها مكتظة بهؤلاء المسعورين ـ كأنهم لا يأكلون إلا في رمضان ـ فقد أحسّ أن الاحترام ليس هنا مكانه ـ يتناول أجرا ضئيلا لا يساعده على حياة المدينة وغيرها.. أو الواقعية الاشتراكية الوطيدة الأمل بالإنسان، إذ توحي لك القصص من هذا النوع عدم فقدان الثقة بالإنسان مهما كان ضالا ومجرما، وتشعرك من طرف خفي بأن الإنسانية لا تزال بخير.. .

قصة (عينان) على الرغم من قِصرها فقد أجاد حبكتها دون القصص الأخرى، فقد تطور الحدث بتدرجٍ بطئ حتى وصل إلى حل العقدة ومرحلة التنوير.. هكذا في فقرات ذات جمل متعانقة، تسلّم كلّ منها المعنى إلى الأخرى، مما جعل الحدث متوهجا ناميا إلى النهاية.. فبطل القصة تضايقه كثيرا حدة النظرات التي يسددها إليه رفيقه الجالس قبالته على الكرسي المقابل في الترام.. ورغم أنه حاول تجاهله والتشاغل عنه بقراءة الصحف إلا أنه كلما لاحت منه بارقة رآه يحدّق إليه أكثر.. السبب الذي جعله يشك في نواياه نحوه.. وذهب البطل في شكه بعيدا، حيث تصوّر الرجل الجالس أمامه، المحدّق نحوه باستمرار يبحث عن طِلْبَةٍ له ليقتله في ثأر، مما أدخل في روع البطل أنه يشبه تلك الطلبة، وتحكّم هذا الشك في نفس بطل القصة فانهال على الرجل بضربٍ جنوني ولم يوقفه عن ذلك غير رفاق السفر الذين عابوا عليه ضرب رجلٍ أعمى.

هذه القصة تذكرني بأحداث قصص مشابهة، مع أنها تختلف شكلا وموضوعا مع قصة (عينان)، فلا يجمع بينها سوى أن للعميان يدّ فيها.. وكلها تمتاز بالطرافة والمفاجأة.. وعلى سبيل المثال قصة (رحلة هندية) (4) لروسكن بوند، عن شاب وفتاة جمعتهما الصدفة في قطار واحد، وأعلن الشاب عن نفسه بأنه أعمى، وصار يستفزّ الشابة على التحدث معه، وتحدثا طويلا، وصار الشاب الأعمي يتكهن عن جمالها وشكلها بعد أن استمتع بحديثها، ولكنها غادرت القطار في المحطة التالية، وجاء رجل آخر وجلس مكانها، فسأله الشاب الأعمى عما إذا كان شعر الفتاة التي نزلت طويلا فأجابه بأنه لا يذكر، وإنما عيونها جميلة ولكن للأسف بلا فائدة فهي ضريرة.. ولعلنا نذكر حادثة مشابهة ومشهورة هي ما جعلت الشاعر علي محمود طه ينشئ قصيدته (الموسيقية العمياء)، حين أُعجب بجمال فتاة أجنبية كانت تقود فرقة موسيقية، ولكنه يٌفاجأ بأنها عمياء رغم جمالها الباهر.. وإذ تتبعنا الأشباه والنظائر فسنجد قصصا يماثل بعضها بعضا.. فمحتوى قصة (الحبيب المجهول)(5) لوهبي البوري تكاد تكون هي نفس قصة (ذراعان) لمحمد أبوالمعاطي أبوالنجا (6)، فكلا القصتين تتحدث عن فتاة جميلة أعجب بها كلّ منهما بعد أن رآها مرة واحدة وفقدها في زحمة الناس، وأضناه التعب في البحث عنها.. ومن قبيل التشابه قصة (المصاغ)(7) لعلي مصطفى المصراتي، فهي تتوافق مع نفس فكرة قصة (العقد)(8) لجي دي موباسان.. عن امرأة فقيرة استعارت عقدا ذهبيا لتتزين به في حفلة عرس ولكنها فقدته فكانت الطامة.. وربما من قبيل التأثر المباشر بالقراءات الثقافية أو حتى توارد الأفكار؛ فقصيدة (أسيرة القراصنة) لبدر شاكر السّيّاب بدايتها : "أجنحةٌ في دوحةٍ تخفق// أجنحةٌ أربعة تخفق// وأنت لا حبٌّ ولا دار".. في حين نجد سعيد خيرالله يمارس هذه التراتبية في بداية قصته (شجون الغربة) وهي : "قدمان لرجل// كعبان لامرأة// وطأتان صغيرتان".. والتشابه قد يحدث بصورة طبيعية وغير مقصودة، فالأفكار جادة طريق ـ كما يقولون ـ عسى يكون في تواردها وقوع الحافر على الحافر .

أما قصّة (طقوس العتمة) التي صدّر بها عوض الشاعري عنوان مجموعته القصصية فهي قصة رمزية معلقة النهاية.. الجانب الواقعي المموه فيها عن إنسان وجد نفسه في الظلام، وأراد أن يتخلص مما هو فيه فلم يستطع.. الحدث فيها غير منته.. إنسان في ضائقة وما يزال في ضائقة.. والرمز سواء في النثر أم في الشعر يعتمد في قراءته على التأويل والحدس، غير أن الأديب لا يعترض بل يعتبر ذلك مقصدا من مقاصده.. يحدث هذا عند قراءة الرسوم التشكيلية أيضا، فهي تعتمد الرمز في قراءتها.. فإذا ما حللنا قصة (طقوس العتمة)، هذه القصة الرمزية التجريبية بمحتواها العام، فإننا نصطدم بسيرة ذاتية لشخص ما، ليس بالضرورة أن يكون هو الكاتب نفسه، فقولنا:

ـ هذا الشخص عندما فتح عينيه على الدنيا لم يجد أمامه غير التعاسة والشقاء، يقابلها في النصّ : "حين أراد أن يمشي كان الدرب معتما، مشبعا برائحة الوحل"، وهذا يذكرني بجزء من قصيدة لعلي الفزاني يعبر فيها بالرمز كيف استقبل الدنيا عندما فتح عينيه عليها في بداية الحرب وما آل إليه بعد ذلك :" وحين إليك هبطت تلقفني عرس الدم//... أطفئ القنديل ذابت كل أجفان الشموع// جثتي كانت لها كل الحصاد// يأكل الأطفال لحمي يكبرون// خلني سكران أمش فوق خيط العنكبوت// لزجٌ كل سؤال// وأنا حرفٌ طريد.(9).

ـ كان هذا الشخص يلعن المكان الذي عاش فيه ولا يباركه، إذ لم ير فيه غير النحس.. يرمز إلى ذلك من النص عبارة : " تلك البقعة من الأرض التي ضاجعها أكثر من شيطانٍ مريد "

ـ رضي بواقعه، وبات يمارس كل أعمال الحياة الشاقة.. يرمز إلى ذلك قوله : "استمرأ الرائحة "

ـ يسمع الإهانات ويُمارس عليه التهديد حتى من أحقر الناس.. نستوحي ذلك من عبارة : " تناوشته أقدام الكلاب التي تلغو في الماء الراكد، وحطّت على جسده أسراب البعوض والطفيليات "

والكاتب ألبس كل فقرة بعبارات زائدة على المعني عنوة وقصدا منه، ليوهن البنية السردية، وليوقعنا في متاهة حتى تكون القصة أكثر غموضا فتتعدد حينئذٍ التأويلات الأدبية..

ومن قبيل الواقعية في القالب الرمزي قصة (طوير الجنة)، فيها أنسنة وتشخيص للكائنات غير العاقلة والتي هدفها الأمانة التي تمثلت في الطائر الذي يحرس مخزن الحبوب دون أن يختلس منه شيئا لزوجته وابنه الصغير.. المعادل الموضوعي للإنسان الذي يسير في حياته سيرة حسنة فيكون الفردوس مآله.. وتتفق هذه القصة في رمزيتها مع قصة (مأدبة الشيطان) للناجي الحربي (10)، مع اختلاف الهدف والبناء السردي..ومع قصة (حكاية جورب) (11) لمحمد الأصفر.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) هناك قصة عنوانها (طريد) لبشير الهاشمي .

2) عيون الغزلان الخائفة ـ الدار الجماهيرية 1994 ـ ص7 .

3) مقبولة ـ مطابع الثورة بنغازي ـ ط2 ـ ص85 .

4) مجلة الجامعة الأردنية الثقافية ـ العدد 42 لسنة 1997 ـ ص193 .

5) د. أحمد إبراهيم الفقيه ـ بدايات القصة الليبية القصيرة ـ الدار الجماهيرية 1985 ـ ص 105 .

6) د. الطاهر أحمد مكي ـ القصة القصيرة دراسة ومختارات ـ دار المعارف 1992 ـ ط6 ـ ص 316 .

7) خمسون قصة قصيرة ـ الدار الجماهيرية 1983 ـ ص 176 .

8) هنري توماس ـ أعلام الفن القصصي ـ منشورات إدارة الثقافة مصر (بدون تاريخ) ـ ص221 .

9) ديوانه : دمي يقاتلني الآن ـ الدار الجماهيرية 1984 ـ ص 21 .

10) رائحة الجوع ـ مجلس تنمية الإبداع الثقافي الجماهيرية 2004 ـ ص 65 .

11) حجر رشيد ـ منشورات المؤتمر الجماهيرية 2003 ـ ص 25 .





علي الفزاني قنديل ضائع في المدن الوثنية



علي الفزاني قنديل ضائع في المدن الوثنية

د. عبدالجواد عباس





عندما تنازعك نفسك الكتابة عن مبدع ما , فإنك لن تفعل ذلك عفو الخاطر , إذ لابدّ من شيء أثارك للكتابة عنه , حتى ولو كنت ملزما ببحث أو دراسة حوله من قبل جهة أكاديمية.. نعم, من المجحف أن تكتب عن فنان أو شاعر أو كاتب كيفما اتفق , دون الوقوف علي جوانب كثيرة من إبداعه أو بعضٍ منه علي الأقل. لكن إذا تم لك ذلك مع مخالطته والتحدث معه وجها لوجه فإن الصورة ستكون أتمّ وأوفى.

هذا ما حدث لي مع الشاعر والأديب علي الفزاني.. ما جذبني إليه ليس لأنه كان يعرض أشعاره , فهو لم يتكلم عن أيً منها ؛ وإنما يتحدث عن أشياء أخرى.. عن معارفه من أولئك الذين بينه وبينهم رصيد كبير من الذكريات المشتركة , أو عن لقاءاته أو مواقفه مع أدباء عرفهم , ليبيين أو عرب. وهي مواقف لا تخلو من معانٍ وكياسة في مجملها , وبأسلوب لا يشعرك بالنفور ,

انتبهت إلى الفزاني أكثر حينما توفي صادق النيهوم , فبكاه الفزاني بكاءً مرّا ً , عبر أكثر من خمسة مقالات رثاء , إثر وفاته مباشرة , بنبرة تنم عن صداقة وعلاقة وطيدة بالأديب الراحل.. وشد انتباهي إليه أيضا حينما كان يذكر بنغازي القديمة , فكلما تحدث عن ذلك كلما استحضر في ذهني ذلك المجتمع الذي كان.. استحضرت أنفاس بنغازي في الخمسينيات والستينيات , وإن لم أكن من سكانها ولا من مواليدها , لكنني أتردد عليها باستمرار , مُــذ وأنا صغير , فثمة أقرباء كثيرون هناك , مما خلّف عندي انتماءً فكريا وجماليا لمدينة بنغازي , فالأديب علي الفزاني يحبها , وأنا أحبها أيضا.. بنغازي شعارها عش كما تريد , وتحرك حيثما شئت , لا تسلط ولا عيون ترقبك.. بنغازي لا تلفِظ أحدا , جئتها اليوم أو منذ عشرين عاما , سَـيّان عندها , أنت لست َ غريبا , لا أحدَ يتعقب خطواتك , الناس في غنىً عن حساب الحركات والسكنات و (تقييد الأحوال) , حتى ولا من يهمه أمرك.

علي الفزاني خير من يحدثك فترات مثيرة ممتعة عن مدينة بنغازي القديمة , عن الصابري وسوق الحشيش , أو دكاكين حميد و (جوليانا). أحسب أن اهتمامه مكثف علي شمال المدينة دون جنوبها , فهو قل ما يذكر الفويهات والبركة أو الرويصات.

شيء ما شدّني إلى التواجد في مجلس هذا الرجل (علي الفزاني) , تحديدا ما ذكرته , وربما بعده عن أسلوب التكلّـف , فهو لا يقطع حديثه ولا يغيّر لهجته مهما جلس إلى جواره أشخاص لا يعرفهم , وربما ردّ علي استفسار أحدهم أيضا , ودون أن يستنكر منه ذلك , علي عكس ما تلمسه من شخص ضيق الأفق أو جيهوي , غير أنه تعوّد أن يزيح عن عينيه النظارة نصف إزاحة كلما أراد أن يوجّه الحديث إلى مستفسر ما وبصراحة متقنة , وربما استحضر في نفسه قولـَـه :

لقد تعرّفت علي هذا العالم الرخيص

بثمن غال

وسأخرج منه بالمجان

وكأنه يقول : دفعت ثمن التجربة.. وقد يشد انتباهك شعوره بالتشاؤم , ربما لأنه عاش حياة مزحومة بالقلق والاضطراب والحاجة , فالتعب والموت والحزن , كل ذلك له صدىً واضح في عناوين دواوينه , ومن ذلك : رحلة الضياع ـ أسفار الحزن المضيئة ـ الموت فوق المئذنة ـ مواسم الفقدان ـ الطوفان آت ـ أرقص حافيا ـ ذاكرة الخلايا الميتة ـ القنديل الضائع... مما يحمل هموما ورَثـَها جزاء وقوفه في طابور جحافل جيش الحياة الطويل , أو كما أسماها هو (الطاحونة) :

كالرحى كانت تدور

تسحق الرؤيا وترمي بالقشور

هي في بدء اللقاء كانت (زليخة)

وأرى الآن حفـّار القبور

ولعل وعيه بما يدور من حوله وإلمامه الثقافي بأمور شتى , زاد من كم تعاسته حينما يفرغ إلى نفسه , فقصيدته بعنوان (دمي يقاتلني ) يومئ فيها إلى أن شعوب العرب ما تزال تحطم نفسها , وأن (القطة ما تزال تأكل صغارها ) فيعلن صيحة تمرد , وسخرية من عذابه الذي يلاحقه منذ ولادته , كما لاحقته التعاسة والحروب حين فتح عينيه علي العالم , إبّان الحرب العالمية الثانية :

وحبن إليك هبطت تلقفني عرس الدم

وحين مشيت تصدعت الأرض

وقام من جسم الأرض زبانية

التعاقب الدموي

وتبسم الرب , رأيته في ثياب حارس ملكي

وتلميح إلى غياب الذهن العربي , بكل لطافة البلاغة ينحي باللائمة علي بني جلدته , وعلى هذا الزمن المتجدد الصراعات منذ أزمنة غابرة :

إذن أبتي أنت الذي تفـرّد في اختلافات الجموع

أنت الذي يجرر الأبرياء في الق الفجر

يلقي بهم في سجنه الهمجي

لمن الملك وقد صار الإلــه عميل الخليفة

ما يفتأ علي الفزاني يطلق صيحات الثورة , صيحات الاعتراض على الظروف المتردية والوضع العربي المتورط في هموم السياسة الخارجية , فيستدعي (أبا ذر ) ويتفاءل بـ ( عشتار) لأن كل ثائر عنده بمثابة قنديل ضائع في المدن الوثنية , مثل (زرّوق و أبا ذر ) , ذلك لكثرة العاصيين والمذنبين , من أولئك الذين أظهروا عقوقا نحو الوطن.

وحينما يتحدث عن الثورة , أي ثورة فيها إصلاح للكون , لا يتكلم بمنطق السذاجة أو الإطراء المقيت , بل يفصح عما يريد بتلميح مقبول :

ها قد عاد للأرض المسيح

يبرئ الأعرج ـ الأعمى والموتور بالكلمات وحدها

تدب الحياة في الذاكرة

وتعود إلى الزمن بعض أحلامه السخيّة في قبضة الكوابيس

يبشرنا المارد الطيني عن زمن عاقل يرسل بساطه السحري

إلى أرض عشتار...

( نشرت في صحيفة أخبار بنغازي ـ العدد 30 لسنة 1425 م.ر)



عمر المختار والرحالة الدينمركي

عمر المختار والرحالة الدينمركي


د. عبدالجواد عباس



كنود هولومبو هو الرحالة الدينمركي.. كان من هواة الرحلات الطويلة ‘ وقد جاء إلى ليبيا إبّان الاستعمار الإيطالي ‘ في عهدهم الفاشستي ‘ بالأحرى سنة1930 وقد وصف في مذكراته رحلته المشوقة المليئة بالمفاجآت ‘ المحفوفة بالمخاطر عبر الأراضي الليبية أيام المعارك الدائرة بين المجاهدين الليبيين والإيطاليين.. كان يقابل في طريقه أفواجا من المجاهدين الذين لم يتعرضوا له بسوء، فقد كان يكشف لهم عن شخصيته بأنه ليس منهم ؛ أي ليس إيطالياً.. وحتى عندما أُسيء به الظن ووقع في أسر بعضهم بمنطقة الجبل الأخضر ما لبثوا حتى أطلقوا سراحه.. ليس لأنه يتكلم العربية، ولا لأنه مسلم بل لسبب تلاوته لسورة (ياسين) عن ظهر قلب أمامهم، إذ كانوا قد طلبوا منه قراءة شيءٍ من القرآن كإثبات لادعائه الإسلام.

يقول كنود هولمبو إن زعيم الجماعة لمّا سمع قراءتي للقرآن ولسورة (ياسين) كاملة، وسمع معها بعض قصار السور قال للمجاهدين : ليس من المعقول أن يكون قد حفظ كل هذا بدون إيمان ‘ أطلِقوا سراحه.

وأضاف كنود إنه كان يقدم أوراق هويته إلى السلطات الإيطالية، وأن السلطة العسكرية بالمرج حذرته من التجوّل وحده، وأمرته بملازمة كتيبة إيطالية ذاهبة إلى الجبل ولتكن سيارته وسط سيارات الحملة، وإذا ما أُطلق الرصاص من الغابات المحيطة بالطريق فليبق في سيارته ولا يحرك ساكنا.

وقد مر الرحالة كنود هولمبو بمنطقة مراوة وقابل حاكمها العسكري آنذاك الطاغية "بياتي" وقد طلب منه كنود أن يبني خيمته خارج سور المعسكر، فضحك منه الجنرال بياتي حتى وقعت قبعته العسكرية.

ومن خلال رحلة كنود عبر الجبل الأخضر كان يطرق سمعه باستمرار اسم عمر المختار.. وعندما خرج يتمشى من المقر الذي استضافته فيه السلطات الإيطالية "بمراوة" قابل هناك الكثير ممن يعج بهم المكان من العرب الليبيين المعتقلين وشبه المعتقلين ينتجعون المكان ـ شاهد في الأفق البعيد أعمدة دخان خلال الغابة فعرف أنها نيران أولئك الذين لا يزالون يتمتعون بحريتهم.. وسأل الرحالة أحد الليبيين عن مكان عمر المختار فأشار المواطن بسبابته مكوناً دائرة وقال: "عمر المختار توقعه في كل مكان"..



عن البخلاء .. و لا حرج

عن البخلاء .. و لا حرج


د. عبدالجواد عباس



قال الجاحظ : " وربما سمينا الصاحب بالبخيل إذا كان ممن

يمازح بهذا كثيرا , ورأيناه يتطرف بــــه "



البخل عريق جدا في التاريخ وله أبطاله الكثيرون عبر الزمن .. وقد سجل لنا أدبنا العربي نوادر عديدة لجهابذة البخل , وذكر لنا أشخاصا اشتهروا به أكثر من غيرهم ’ حتى قيل في الأمثال " أبخل من مادر " ومالنا ومال مادر هذا فهو شخص بسيط أكله الزمن وليس له في الأدب أثر كبير , لكن ماذا نقول عن علماء وشعراء اتسموا ـ بجانب علمهم وشهرتهم ـ بالبخل مثل أبي الأسود الدؤولي الذي بلغ من فصاحته في اللغة أن طلب منه الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وضع كتاب في النحو .. وماذا نقول عن أبي العتاهية الشاعر العباسي الذي بلغت شهرته الآفاق , غير أنه كان مقترا علي نفسه وعياله , وكذلك كان مسلم بن الوليد الشاعر الكبير يخيلا , وكذلك أشعب الذي طغت صفة الطمع والبخل فيه علي كونه من أبرز قرّاء المدينة المنورة للقرآن الكريم .. ولا أريد أن أحدثك عن عبدالله بن سوار الذي افرد له الجاحظ في كتابه (البخلاء) فصلا كاملا , ولا عن مروان بن أبي حفصة ... وقد كان الخلفاء يقربون بعض البخلاء المشهورين ببخلهم للتندر والمزاح .

سأل أحدهم ابن درّاج الطفيلي أن يهديه نادرةً من نوادره فقال : مرت بي جنازة ومعي ابني , ومع الجنازة امرأة تبكيه تقول : إنهم لا يذهبون بك إلى بيت عفاء , بل يذهبون بك إلى بيت لا فرش فيه ولا غطاء , ولا ضيافة ولا عطاء , ولا خبز فيه ولا ماء , فقال ابني : يا أبتي , إلى بيتنا والله يذهبون بهذه الجنازة .

ووقف أعرابي على أبي الأسود وهو يتغدى فسلم عليه فرد عليه ثم أقبل علي الأكل ولم يدْعُه ليأكل معه , فقال الأعرابي : مررتُ بأهلك , فقال له : كذلك كان طريقك , قال : وامرأتك حُبْلي . قال : كذلك كان عهدي بها . قال: قد ولدتْ . قال : كان لابد أن تلد . قال : ولدت غلامين . قال : كذلك كانت أمها قال : مات أحدهما . قال : ما كانت تقوى علي إرضاع اثنين . قال: ثم مات الآخر . قال : ما كان يبقى بعد أخيه . قال : وماتت الأم . قال : حزنا علي ولديها . قال : ما أطيب طعامك . فقال له : من أجل ذلك لا تذقه أبدا .

قال أشعب : خرجتُ أنا وزيد بن عمر إلى الحج , وكان أبخل قريشياً رأيته , وقد خرجتْ معه زوجته فلم تدعْ إوزةً ولا دجاجةً ولا فاكهة إلا حملته معها وأعطتني مائة دينار وقالت : يا أشعب اخرج معنا فخرجت ومعنا طعام علي خمسة أجمال , فلما أتينا بعض الطريق نزلنا , وأمرتْ بالطعام أن يقدم , فلما جئ بالأطباق أقبل أناس يسلمون علي زيد , فلما رآهم قال : أوه خاصرتي .. باسم الله , ارفعوا الطعام وهاتوا الترياق والماء الحار فجعل يشربه حتى انصرفوا .. قال أشعب ورحلنا وقد هلكتُ جوعا فلم آكل إلا مما اشتريته من السوق .. فلما كان من الغد أصبحتُ وبي من الجوع ما الله أعلم به , ودعا بالطعام وأُُتُي بالدجاجات , فأمر بإسخانه , فما هي إلا هنيهة حتى جاءته مشيخة من قريش , فلما رآهم اعتل بالخاصرة من جديد ودعا بالترياق والماء الحار , ورفع الطعام , فلما ذهبوا أمر بإعادته فأتي به وقد برد , فقال لي : يا أشعب هل إلى إسخان هذا الدجاج سبيل ؟ فقلت له أخبرني عن دجاجك هذا ؟ أمن آل فرعون هو حتى يعرض علي النار غدوا وعشيا .. يعني " وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " سورة غافر آية 46.

تحدث بخيل عن نفسه فقال : ولا أنسى يوم ناظرت يعقوب الحوراني في الشح والتقتير فتفوقت عليه برغم عراقته في هذا العلم , وقد ألـف كتبا شتى في هذا الصدد منها : ( الرأي الأصيل في محامد البخيل ) و ( الكلام المسموع في معالجة الأمراض بالجوع ) و ( الاستغناء بالهواء عن الشرب والغذاء ) و (معايب السخاء وغباوة الكرماء ) و ( نبذ الكساء والدعو الي الإعراء ) . ومما يؤثر عنه أنه قصد أحد أقطاب اللؤم عيس الترسيسي خاطبا ابنته , لا معجبا بجمالها بل طامعا في مالها .. وكان عيسي من طبقة بخلاء سمية الذي قال فيه ابن الرومي :

يقتّر عيسى علي نفسه وليس بباق ولا خالد

ولو يستطيع لتقتيـــــره تنفس من منخر واحد

ومن ميزاته الاقتصادية أنه كان يكثر الملح في الطعام ليملأ جوفه بالشرب المتواصل , فيشبع من الماء ويدخر الخبز . وقد آل علي نفسه ألا يصاهر إلا من يبزه في البخل فيكون عزاؤه الوحيد بعد الموت .. ودخل يعقوب علي عيسى وقد ألهبت الرمضاء ونضحت الجباه وابتلت القمص فلزقت بالأجساد , وبعد التحية نشر عيسى مروحته يجتلب بها النسيم واقتدى به يعقوب , فقال يعقوب : جميلة هي مروحتك فمنذ كم اقتنيتها ؟ قال منذ عشر سنوات وهي ما برحت جديدة كما ترى لأني لا أحركها إلا تحريكا رفيقا , وإني لأرى مروحتك أحدث منها فمنذ كم اشتريتها فابتسم يعقوب وقال : ورثتها عن المرحوم خالي منذ خمس عشرة سنة , ولا يأخذنك العجب , فأنا أنشر مروحتي ولا أحركها بل أحرك رأسي يمنةً ويسرة وهبوطا وصعودا فأجتذب النسيم فهبَّ عيسي واقفا وقال : أنت هو الصهر الذي أحلم به , بورك لك في في ابنتي زوجة لك .



فانتازيا التشاؤم والقلق والموت عند سالم الهنداوي

فانتازيا التشاؤم والقلق والموت عند سالم الهنداوي


د.عبدالجواد عباس

هناك من يستهوون العزف لفنتازيا المفارقات، يحتفلون بها وكأنما هي ملح الطعام.. ينبث في سراديب أسلوبهم، ربما بأوهام النفس المسروقة من الخيال الغاضب ؛ فما يشرع أحدهم في قصته حتى تتراءى صور البؤس والجفاء بروءى التشاؤم، واستشعار الشر والخيانة الآتية من الآخر.. الريح الموحشة والبحر الهائج والظلال السوداء.. ليست الظلال التي كنا نعرفها للرومانسيين، مبعثها الحب والهُـيام في مظاهر الكون، والاستشفاء بصوت الطبيعة وتعبيرها عن نفسها، لكنها أفكار أقرب ما تكون أنها وجودية الطلعة، تقلب الشعور نحو الطبيعة رأسا على عقب، فـ "الليل دخان أسود يحجب عنا السماء.. لا يمنحنا سوى ثقوب ذات أشكال مختلفة، يتوهج منها الضوء، تُسمَى القمر والنجوم"(1)

فسالم الهنداوي في المقطع السابق من قصة (التفاصيل) يتصرف بعوامل الطبيعة تصرفا خارجا عما نعرفه عنه من الهيام بالأشياء الجميلة، وكأنما هو في عداء معها، وكأنما الطبيعة لا تُشعّ ذلك الجمال القديم الذي لمسه الكتاب والشعراء الرومانسيون ؛ فبدل إسباغ الدخان الأسود على صورة الليل يراه الآخر عشقا ينتشي به ويقرنه بجمال حبيبته :

أنت كالليل فيه كَمَن النور ومنه مد الصباح تليله (2)

أو يجعل الليل كالصديق الذي يستر عيوب صديقه:

صديق لنا كالليل يستر الدخان ويبدي النور للمتنور(3)

لكن سالم الهنداوي على هذا النسق التجريبي المشع بالقلق السيريالي يناصب عناصر الطبيعة العداء، يسقط عليها جام قلقه، ولا يفتأ يصفها بنعوت لا تليق بها، وقد نزل بجمالها إلى الحضيص ؛ فالليل (دخان أسود).. ونجوم السماء الزاهرة (ثقوب).. والقمر والنجوم (تُسمّى) بدل أن تُعرف، استنكارا لوجودها وتجاهلا لعظمتها، فهو لا يقول خيرا في اللحظات الرومانسية الدافئة التي تنبع بالبساطة وسذاجة الطبية الطريّـة، وكأنما هناك تناص في الفكرة تذكّـرنا بـ(البير كامو) وتوجسه من الطبيعة كافة.



ويقابلنا هذا التشاؤم ضد عناصر الطبيعة في ثنايا قصصه الأخرى، فلا يفتأ يقابلنا بعبارات يوظّف فيها الريح والمطر لمواقف الخوف والتوجس مثل :

"لم يخش الأولاد عواء الريح المتوحش الذي قابلهم عند بوابة المعبد المهجور"(4). أو: " كنت أودّ النوم، الريح تصرصر في عتو، سحبت الخطاء على وجهي " (5). أو : " محاصران بالغيم والبرق والرعد والمطر" (6)

تجربة الهنداوي الشخصية مع الحياة لا تُحمد عنده، فهو حريص ومتوجس، غير واثق وغير طموح في عطف الآخرين، ولذلك نرى قلق المستقبل يتسلل في ثنايا قصصه ومقالاته، وكأنما يخاطب به ما بقي من إنسانية العالم المتوحش في حلـّه وفي ترحاله " وفي مدينة قدّمتني ذات مرّة في الحُلـُم على أنني ابنها.. ثم علمتني الخوف بسبب أناس لا أعرفهم، ادّعوا معرفتي في أول الطريق ؛ قرأنا معا القصص والروايات والأشعار، ثم تخلوا عني ودخلوا الجامعة، وبقيت وحدي أكتب عن الخوف والجوع. وهاهم مرّة أخرى يتخلـّون عنـّي، يقفلون الأبواب في وجهي، وينامون على أرصدتهم من النساء والنقود وتذاكر السفر‍‍‍." (7)

ضجّ الهنداوي كثيرا في قصصه من هموم الزمن وإن كان يسقطها على شخصياته، تقلقه المعاناة، تقلقه الحياة التعسة، لأنه يعرف الحياة السعيدة، إنه لا يحسّ إحساس الدهماء بالرضا والقناعة وكيفما اتفق، إنه يعرف الحياة الناعمة ولكن لم يظفر بها، وجد نفسه على الهامش، لذلك تمرّد، لم يسكت ويستكين، بل وزع مقته وحبه للأشياء في أكثر من نص، وخاصة في (العودة المحزنة)، حيث يقع في المفارقة، ففي بداية حياته الأدبية تكلّ يده من العمل المضني في النهار للحصول على لقمة العيش، و "في الليل تكتب عن المدافئ والمرافئ والحب، وتكتب عن الحدائق والأطفال والأحلام الشديدة، وتكتبُ عن حلمي الصغير ببيت وزوجة طيبة تطهو لي الطعام وتدثرني بحنانها.. أصبحت على الرصيف بلا شيء، إلا من الجوع والخوف "(8)

كلما شعر بالجفوة والخوف، يلجأ إلى خيال المرأة يهدئ بها قلقه.. وكثيرا ما كان يلجأ إلى هذا الخيال، فقارئ الهنداوي يكتشف مع طول الوقت أن المرأة هي مصدر إلهامه وتعبيره، يستعين بها على التشاؤم والقلق والخوف فهي مصدر الحنان الأكبر يمزجها في كل الخواطر ليستشعر بها الراحة والاطمئنان، عندما يفقد الود والأصحاب والأهل تبقى هي العزاء الأوحد الذي يستنجد به أينما حل..فقلما لا يصورها كالملاك، يعبر عنها بصور حداثية جديدة كل الجدة، أليس هناك أبهى من تصويرها بقوله : "ذلك الوجه الذي يأخذ كل المصابيح إلى وجنتيه"(9).. ولكي يأتي بالواقع والمتخيل معا نراه يقول: "وتذكرتني، ودون أن تنبس بكلمة، أخذتني من يدي وفؤادي"(10).. فالقلب أهم ما يقود إلى المرأة ولذلك كان لكمة (فؤادي) صدىً كبير في الأسلوب أعطاه الألق والتفوق.

كان الهنداوي متمرّدا لا مستكينا، يطالب أولئك وأولئك بقوة، بأنهم سرقوا منه أحلاما يجب أن يستردها بشرف.. يشعر في القرار بأن له عزّة نفس، ولكن الآخرين يمنعونها عنه، قسوة الحياة تصدّه للوصول إلى مرافئ السعادة، ويتوزع هذا التمرّد في قصصه ومقالاته، إنه لا يجحده بل يطالب به حثيثا :" هل أجد عندكم سريرا لأحلامي؟!.. هل أجد عندكم ماءً للشرب أو للغسيل؟!.. هل أجد عندكم ثيابا قديمة كانت لابنكم الكبير الذي له في بيتكم غرفة، وفي أحلامكم دار، وفي قلبكم حديقة أمنيات؟! هل أجد عندكم بنتا تقبلني زوجا بلا نقود؟!.. تقبلني هكذا بأحلام مؤجلة، تختارني أنا وترفض أصدقائي الذين سيختارون بنقودهم وشهاداتهم العالية من بنات الأعيان.. يقيمون لهنّ الأعراس في القصور العائمة، وأنا خلف السياج أتفرّج على العزّ!" (11)

أمّا فانتازيا الموت فإنها تداعيات سيريالية تغمر بعض الكتاب فتحيلهم إلى خواطر سوداء، حالة من التفرّد واليُـتم، حالة من الكآبة أو الرهبة، ربما نتيجة تعرضهم لمضايقات قاسية، أو مللهم من الثواء الطويل بلا طائل وبلا فائدة وبلا تأثير.. فالكاتب في قصة (التفاصيل) تلك يشكو الليل ويشكو السحاب والمطر، إنه يُسقط ألمه على هذه العناصر الطبيعية بدون مبرر، سوى مبرر التبرّم الملل أو حتى التمرد.

ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد من الألم النفسي الذي أدّى به إلى تمزيق سُـتُر الجمال الطبيعي من حوله، ولكنه يتمادى في عمق العتامة النفسية، ربما كان في حالة بين الحلم واليقظة، فهو يقول : " لم نكن نعلم ونحن نيام أن للّيل دخان مخيف من حرائق الأحلام البعيدة. ألهذا الحد يتملّك المدينة ويمشي في شوارعها كالتتري !" (12)

ولم تتركه تلك الخيالات السوداء حتى يرى نفسه مطاردا من قبل مجهول بشع، فاحش الخلقةً فيرديه قتيلا : " ما إن صاح أحد المارة في الصباح الباكر حتى تزاحمت الأصوات متلعثمة، تمتمات وهمهمات، ثم حملتني أيدٍ تتعوّذ وأيد تتصفح أوراق هويتي المبللة... في ذات اليوم بعدما اشتعل الشارع بالنواح والولولة حملوني بعد صلاة العصر إلى المقبرة، وكنت أسمع وأنا داخل التابوت صراخ أمّي الحاد الأليم يقلق راحتي، والتعاويذ ومقرئ القرآن والهمهمة (13)

الراوي/الكاتب دخل في جوّ من الهذيان الذي يعتري المأزومبن، معادل موضوعي لهستيريا الضحك نتيجة الإذلال والقهر.. أو أنه محض التصوّر الإرادي لتيار الوعي الذي وضع فيه الراوي نفسه ليرينا جزءا من حياته الدنيوية(14) في لمحة السرد الأخروي الذي تحدثت به نفسه أو قد رآه في الحلم، وهو متماهٍ بشيء من السخرية المرّة :

" هسهستْ الريح تعبث بأعشاب القبور المجاورة. فسمعت رفرفة أوراق خارج القبر، فقلت هذا أكيد حارس المقبرة يطالع دروسه، لكن الصوت الآن فوق رأسي مباشرة، فأدركت خلال حزن مرير أنها أوراقي وكتبي حزمتها أمي بإحكام في كيس نايلون ووضعتها عند رأسي لأقابل بها وجه الله إنها تعرف أنني لا أعشق غيرها.. لكنها لا تعرف أنني قد نسيتها منذ الليلة الماضية حين رأيت ذلك الرجل البشع ونفخ فيّ رائحته الكريهة " (15)

تراجيديا الموت التي تغرق وتوغل في عمق المأساة... تلك كانت بضمير المتكلم، وهي أقرب إلى خواطر الكاتب من المروي عنه، ومن ثم يلتبس الموقف بثنائية التأويل أو حتى بتعددها، في مثل هذه الفانتازيا السيريالية..وفي هذه الصورة لا تخفى مخايلة الأنين والألم النفسي والندامة والتمرد على شكل الحياة التي كان يمارسها أو تمارس عليه في الواقع، ولذلك سخر(16) منها في الحلم أو في تيار الوعي، على الاعتبارين.

هذا الشكل السردي، والتيار الفكري الذي سطره الهنداوي في قصة (تفاصيل) السابقة يخالف إلى حد كبير فانتازيا الموت عند القاص خليفة حسين مصطفى ـ مثلا ـ ؛ فهو في قصة (صخب الموتى) لم يتحدث بضمير المتكلم كما فعل الهنداوي، وإنما تحدث بضمير الغائب، مما يبعده عن الإسقاطات النفسية إلى حدٍّ ما، ولذلك جعل الراوي أبطاله في قصة (صخب الموتى) (17) محايدين. فهي إذن أحداث تبتعد عن الذاتية، وربما كانت تشير إلى الضمير الجمعي والجانب المشغوف بالمرأة عنده.، وبأن ممارسة الذكورية لا تنقطع من هذا العالم مقابل الأنثى، طالما يوجد رجال ونساء، ولهذا أشار إليها الكاتب بواقعية رمزية.

ولا سبيل للأموات غير مواراتهم التراب، هكذا جرت العادة منذ القدم حتى ولو كانوا أقرب الأقربين، وأحب الإنسان إلى نفسه.. فما الفكرة التي يرمي إليها القاص أحمد يوسف عقيلة في قصته (الشبح) (18)، التي مضمونها أن شخصا دفن، ولكن بعد انصراف الناس من المقبرة مباشرة وجد نفسه حيا.. عالج القبر حتى فتحه، ثم خرج فوجد الوقت نهارا، انتظر حتى حلّ الليل ثم خرج وقد لف نفسه بالكفن، حسبه الناس المجاورين للمقبرة شبحا فاستنفروا الناس وحارس المقبرة الذي كان قد أقرّ بوجود شبح في المقبرة من قبل.. وعلى الرغم من أن الرجل كان يستغيث، ويهتف باسمه: " صدقوني، دفنتموني هذا المساء، ألا تذكرون ؟ دفنتموني حيا.. لم أر ولم أسمع شيئا في القبر حتى الله لم يستقبلني، لا منكر ولا نكير، لسبب بسيط ؛ فالوقت لم يحن بعد "(19)

لم يُصدقه أحد، أطلقت عليه النار، ومات مرة أخرى موتة حقيقة..فماذا يريد القاص وراء هذا الحدث ؟.. ربما لمجرد استعجال الأحياء في دفن الأموات للتخلص منهم في الحدث الأول.. ربما لرهبة الإنسان من الكائنات الماورائية التي ورثها عبر أجيال وسنين فحاربها بمقت وكراهية كما في الحدث الثاني، وربما أيضا لرفض فكرة عودة بعض الأموات إلى الحياة لغرض مكتوم في النفس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



1) من ديوان فؤاد بليبل ـ الموسوعة الشعرية ـ المجلس الثقافي للإمارات العربية المتحدة دبي 2000 ـ ص 532

2) نفسه، والبيت من ديوان أسامة الشيزري.

3) ظلال نائيةـ ص 129.من قصة ( إلى مركيز قبل تورد الدم )

4) نفسه ـ ص 27 من قصة (سبع اتجاهات نحو الأفق)..

5) نفسه ـ ص 75 ـ ـ من قصة ( خط مائل تلاحقه ممحاة).

6) نفسه ـ ص 192 ( مصدر سابق).

7) نفسه ـ ص 193.

8) نفسه ـ ص (211) ـ قصة جسد روما.

9) نفسه ـ قصة(أغنية على جشر أبيض).

10) نفسه ـ ص194.

11) نفسه ـ ص180 من قصة التفاصيل.

12) نفسه ـ ص181 و 182 .

13) ربما كانت قصة(الخوف) ص37 بمجموعته القصصية (الدوائر) توحي بمثل ذلك.. فهي أيضا لكاتب شنق نفسه لأنه أصيب بالإحباط في حياته، ولم يتحمّل المقاومة والتأقلم مع الواقع.

14) ظلال نائية ـ ص 137.

15) وهي قريبة من السخرية في قصة ( حوار ميت حول رجل ميت) ص 55، للصديق بودوارة، في مجموعته القصصية (شجرة المطر).

16) خليفة حسين مصطفى ـ صخب الموتي ـ الدار العربية للكتاب ليبيا / تونس 1975 ـ ص17 (.وملخص القصة اثنان متجاوران مدفونان في مقبرة، تدب فيهما الحياة ويخرجان عاريين من قبريهما، ويكلم كل منهما الآخر.. وهما في حالة ذهول تخرج امرأة جميلة من قبرها أيضا وتنضم إليهما، فيتنازعان الظفر بها، فيسمع أحد الشرطة صوتهما وصوت المرأة فيفزع للمكان إذ حدثته نفسه بجريمة تدبر، فيعود الرجلان إلى قبريهما وتظل المرأة خارج قبرها، ويسألها الشركي فلا تعلم شيئا عن هويتها، فيطمع فيها ويحاول الإيقاع بها غير أنه وجد ميتا في الصباح وهو نصف عار.))

17) أحمد يوسف عقيلة ـ عناكب الزوايا العليا ـ منشورات المؤتمر2003 ـ ص 73.

18) نفسه ـ ص 75.

19) ربما نلمح ذلك في قصة (جديدة جداً) ص45. لنجوى بن شتوان، بمجموعتها القصصية بعنوان (قصص ليست للرجال)، ومضمونها أن الراوية تسكن بمنزل وتسمع جارتها تتكلم وتعمل بمنزلها بصورة أعجبتها، حتى رغبت التعرف إليها، ولكن زوجها قال لها أن تلك عبارة عن أشباح، فالمنزل خال، وإن سُمعت فيه صوت وحركتهم من حين إلى آخر.



في الصيف

في الصيف


د. عبدالجواد عباس



هو من الفصول المحببة لدى كثير من الناس ، ففيه تكثر الحركة في القرى والمدن ، وفيه يُنفــّذ الناس ما عندهم من أعمال حياتية مؤجلة كان فصل الشتاء قد منعهم إيـّاها .. وفيه تقام معظم أفراح الزواج .. يسافر فيه الناس ويقررون خلاله الحصول على إجازاتهم لسهولة التنقل والسفر، فقد يتحكم الإنسان في الحر بشتى الوسائل والطرق فلا يؤذيه كثيرا ، لكن الشتاء ببرده القارس ورياحه الهوجاء يعرقل الحركة وتبقى الناس في دُورها فلا يمكنهم عمل الكثير .. وفي فصل الصيف يرتاد الناس البحار فتكتظ الشواطئ ، ويقيم بعضهم قرب السواحل طلبا للجو العليل والنسيم الرطب ، فحبذا شمس وبحر.



في فصل الصيف تزدهر بعض الأعمال الموسمية خاصة المطاعم والمقاهي التي تستجد على شواطئ البحر ، وتزدهر أعمال كثيرة حتى داخل المدن والقرى لكونها قرب المصايف ..وخلاله يستطيع أصحاب الآليات الكبيرة تشغيل سياراتهم وجراراتهم أكثر مما لو كانوا في فصل الشتاء الذي يتعرضون فيه لبطالة مقنــّـعة قد تستمر لأشهر .



كان عرب قريش في الجاهلية يرحلون في الصيف إلى بلاد الشام لشراء ما يلزمهم من عروض التجارة .. وبلاد الشام تقع شمال الجزيرة ، وعندما يتوجهون إليها في الصيف تخفف الرياح الشمالية من حدة الحر ، وبالمقابل يوجهون رحلتهم في الشتاء إلى اليمن عبر الصحراء حتى لا يشعرون بالبرد الشديد فيما لو توجهوا شمالا ، ولهم في ذلك أسباب تجارية أخرى .



في الصيف يقبل الناس على السهر ، فتراهم منتشرين هنا وهناك يبتردون ويجلسون جماعات وفـُرَادَى في المنتديات والمقاهي وداخل المنازل ، لا تزعجهم الملابس الثقيلة ، ولا السعي وراء وسائل التدفئة سواء لأنفسهم أو لضيوفهم ، ولذلك فضيف الصيف هو أكثر حظا وقابلية من ضيف الشتاء .



في الصيف تنضج معظم الثمار من فاكهة وخضر ، وينتظر الزّراع هذا الفصل بأمل كبير ، فما أن يأتي حتى تهجم منتوجاتهم على الأسواق ، وقد يستعجل بعضهم فيقطف ثماره قبل استواء نضجها بحجة أن الطير ينقرها أولا بأول متى رآها طازجة في الشجرة .



في الصيف تكثر الرحلات بمختلف وسائل المواصلات ، ويحبذ شباب الكشافة وغيرهم من هواة المشي وحبّ الترحال المضي إلى أماكن بعيدة سيرا على الأقدام ، ويضربون خيامهم متى شاءوا في الصحراء أو الغابات أو على شواطئ البحار ، ويبيتون في العراء دون أن يمسهم أذى البرد .



في الصيف يشتد الطلب على الماء فيستهلك للنظافة وتلطيف الجو وأكثره للشرب وإطفاء الظمأ ، ولذلك كان العرب يطلقون اسم القيظ على فصل الصيف ، لأن الماء يقل عندهم في هذا الفصل ، كما يقل اللبن أيضا ويكون عزيزا ذي قيمة ، ولذلك ورد في الأمثال العربية قولهم :(في الصيف ضيعتِ اللبن) ، وهو يُضرب لمن يطلب شيئا ثم أضاعه على نفسه بسوء تصرفه .. كما يقولون : (سحابة صيفٍ عمّا قليلٍ تقشـّـعُ) للأمر الذي لا يستمر كثيرا...



في الصيف يزداد الإبحار ورسو السفن في الموانئ ، لأن في الشتاء تضعف الملاحة خاصة قرب السواحل ، ولا تستطيع السفن الاقتراب ، بل تظل في عرض البحر ولا تـُـقدم إلا إذا رأت ميناءً كبيرا يستوعبها .. أما الموانئ الصغيرة الموسمية فلا تستطيع استقبال السفن إلا في فصل الصيف وليس ذلك فحسب ، إنما تستطيع قوارب الصيد الصغيرة في القرى الساحلية الخروج عدة مرات في الأسبوع لانتشال الشباك والخيوط من أماكن الصيد ، كما تكثر على الشواطئ قوارب التجديف والتزلـّـج ومختلف الرياضات البحرية .



وفصل الصيف ـ كسائر فصول السنة ـ لا ينقطع عن العالم أبدا ؛ فإذا انتهى في مكان يظهر في مكان آخر ، فإذا كان هناك مناطق بها شتاء في الشمال يقابلها مناطق بها صيف في الجنوب ، والعكس بالعكس ، ذلك من رحمة الله ، إلا أن الصيف في المناطق الاستوائية حار جدا ، أما شتاؤها فلا برد فيه ، ومن اليسير مشاهدة الناس شتاءً في تلك المناطق وأجسامهم عارية إلا من سراويل قصيرة ، ولا يهتمون للمطر الغزير وهم يشتغلون دائبين في أعمالهم ، بل ربما نهلت أجسادهم بالعرق دونما أي إحساس بالبرد ، فسبحان الله .



قراءة في ديوان(أنفاس) لمفتاح ميلود

قراءة في ديوان(أنفاس) لمفتاح ميلود


د. عبدالجواد عباس

شكوى غير علنية ضد الحياة:

هذا الديوان الشامل لعدد خمس وعشرين قصيدة، الصادر عن منشورات (المؤتمر) سنة 2003.. هذه القصائد التي كان مفتاح ميلود قد نشرها في العديد من الصحف والمجلات، ثم رأيت أنه قد جمعها في هذا الديوان، ديوان ( أنفاس).. وهي في مجموعها العام تمثَّل قصائد عن الحياة والزمن ومعاناته، وبين هذا وذاك صحائف اتهام غير علنية وأنات حب ظاهرة ومطمورة وما إلى ذلك مما يتعرض له الناس، من تلك الشئون التي تعرض لنا جميعا،ومما نلاقيه في حياتنا من معاناة وصراع مع الحياة التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها كما نحب نحن أوكما يحب مفتاح ميلود.. ولذلك نراه ينظر هذه النظرة التي لا تخلو من التمرد والتشاؤم من حاضره، كما لا تخلو القصائد الأخرى من أثر من هذه الآثار كما في قصيدة (جدران) نسمعه يقول:

خلف الجدران العابسة

ثمة أنين

طالما ظننته

صفيرَ رياح

****

شق في الجدار

عنكبوت في الزاوية

ومسمار يراود

لوحته

على آخر لون تبقى

****

في لوحة الغيمة القاتمة بذرةُ قمر

تزهر بعيد

عن شرفات الشتاء

****

تغلغلَ الصدأ

في القضبان

تهاوت

وصعد من الهشيم

بخارُ دمعة حارة

انظر إلى هذا البؤس الذي تمثله، يستحضره في هذه البنية من الكلمات الدالة على الشظف.. دالة على ما يحس به من ضيق وتبرم لحاضره، ويكفيك عبارات مثل : عابسة ـ أنين ـ شق في الجدار ـ عنكبوت ـ آخر لون تبقى ـ الصدأ ـ تهاوت ـ الهشيم ـ وأخيرا (دمعة حارة)...



***********

نظرة من الداخل:

لقد استنبط مفتاح ميلود معايير للأشياء.. لم يسلـّط اهتمامه في شعره على شيء واحد وإنما سلط اهتمامه على أشياء عديدة في هذه الحياة.. تجارب وحكم ووصايا وتحذيرات وتحفظات.. وكأنما استخلص ماهيات ومُثل عليا وسفلى.. فلسفها بأسلوبه الخاص.



مفتاح ميلود من الجيل الجديد، جيل الحداثة والتجريب والخروج عن المألوف من الشعر، ولكنك تكتشف أن شعراء وقاصّي اليوم عندهم ما يقولون، ولكنهم يقدمون أفكارهم ورؤاهم طبقا لهذا الزمن المتسارع النبض، إنهم في أدبهم كمن يرمي لك شيئا وهو يجري، وقع في يدك أو لم يقع وإن وقع في يدك ـ وهذا هو المهم ـ فعليك التعرف عليه.. عليك التعرف على هذا الشيء، وهذا التعرّف ـ إن حدث ـ لا يكون إلا نسبيا، لأن ضغط الزمن يفرض على الشاعر نوعا من الضبابية في بناء أفكاره فيختلف تأويل ما يقوله بين شخص وآخر.. انظر مثلا إلى هذه المعادلة ذات النسج الثنائي في قصيدة أنفاس، فهي تبدو ذات جانبين سلبي وإيجابي :

"حَمَامٌ أبيض

غرابُ أسْوَد

لا فرْق َ

فالآفاقُ لا تعْترِفُ

إلا بخفقِ الأجْنحة" (1)

هناك ثنائية ومعنى مكثــّف لا يعني غير قانون الطبيعة في تواترها اليومي.. العالم من حولنا يجلُّ قوة الدينار.. قد لا تهم الصفات الإنسانية الإيجابية أو السلبية كثيرا عند هذا العالم الشـّره.. النفس البشرية تنحاز إلى دفء المادة إلا ما رحم ربي.. وخفق الأجنحة هنا، هذا المعادل الموضوعي للمال والجسم والجاه.. هو صورة محسوسة وملموسة معا نصطدم بها ونلمسها كل يوم..

الشاعر مفتاح ميلود يعزز حججه بصور أخرى مشابهة وإن اختلفت آليات التركيب اللغوي والمسميات، فقد أكـّد الصورة الأولى بقوله :

في الأزقـْة الخلفِية

عندما تفقدُ القططُ أصواتـَها

ترقـُصُ في الظلمة

أشباحُ الفئرانِ الضّخمة

إنها خفق الأجنحة من جديد، الكيل بمكيالين غير أنهما متساويين، وهكذا يحدث عندما تفقد القوة الرادعة قواها وسيطرتها.. تفقد القطط أصواتـَها، ومن ثمّ تسمع اللحن الردئ كنتيجة نهائية للصورتين عندما تجور سلبية الحياة.

********

الوحدة العضوية :

من يقرأ لمفتاح ميلود يقول للوهلة الأولى أن الوحدة العضوية لا تتوفر في قصيدته والوحدة العضوية هي العنصر الفني الأكثر شيوعا في القصائد الحديثة، ولكن لا تلبث حتى تعْـدُلَ عن هذه الفكرة، وتكتشفَ أنه يكتبها بطريقة خاصة قد لا نراها عند كثير من شعراء جيله الذين يكتبون على نفس المنوال الشعري.. فعندما تقرأ بسرعة في مقاطع قصيدته دون أن تتدبر ما يقول يدخل في روعك أنك تقرأ قصيدة مفككة الأفكار، ولكن عندما تقرأُها ثانية يجذب انتباهَـك تناظرٌ في الحدث العام لكل مجموعة من الأسطر التي يفصل بينهما فاصل، فالحالة الأولى تناظر الحالة الثانية كما (رأينا) في قصيدة أنفاس السالفة.. والتناظر هنا هو تسجيلُ نفس الحالة في المقطع الأول، يعيدها المقطع الثاني بشكل مغاير.. فكل مقطع يؤدي بنا إلى نتيجة سلبية مؤلمة مع اختلاف الحدث، كما رأينا في قصيدة (جدران).



يعتمد مفتاح ميلود كثيرا على نظام الثنائيات في النظام السردي لقصيدته، ففي قصيدة أنفاس ذات الستة مقاطع اعتمد هذه الطريقة وهي كالآتي :

ـ ثمة ثنائية معنوية شاملة وليست مفردة في المقطع الأول، نفهم منها (غليل ولا غليل).

ـ كتف صبّار وزهر مقابل كف حجر وشجرة في المقطع الثاني.

ـ في المقطع الثالث : كَنز ذهب مقابل كومة قش، أي (شيء ولا شيء).

ـ في المقطع الرابع : حمام أبيض مقابل غراب أسود، أي تفاؤل وتشاؤم، كياسة ونحس.

ـ في المقطع الخامس، ثنائية ضدية أيضا يمثلها القط والفأر.

ـ في المقطع السادس والأخير مُهرّب وشاعر على مستوى الخلاف بينهما في الخواطر والأمزجة.



مفتاح ميلود كسائر شعراء الحداثة تزدحم عليه الأفكار والثقافات فيأخذ طرفا من هنا وطرفا من هناك في حمية اللحظة وهجوم الأفكار عليه، ولذلك ينشئ السطر الشعري من أشتات أفكار قد تداعت عليه، وعندئذٍ لا يستطيع أن يبرأ مما يؤوله الآخرون من مقاصد في شعره، هكذا تجري الذائقة العامة، فلا يسعه إلا أن يقول ـ إنها أيضا من الأفكار التي تراءت له وراودته أثناء حميمية الشعر ساعة فترة الإلهام.. وعملية الإلهام هذه لا تخرج عن كونها عملية تخلـّـص مما يدور في القلب من أوهام ورؤى بعيدة وقريبة، يحس معها المبدع أنه قد أزاح عن نفسه حملا ثقيلا بإيداعها الورق.. وربما هذا هو السبب الذي جعل مفتاح ميلود يطلق على ديوانه عنوان (أنفاس)، لينفس عن نفسه ويبعد عنها شيئا من الكدر عندما يُـفـْرِغ ما في ذهنه من أفكار اهتمَّ لها وسهر من أجلها..

*************

البناء والهــــدم :

مفتاح ميلود من ناحية الموضوع نراه يذكر آمالا غير مؤكــدة، فما أن يبني الشيء حتى يهدمه.. أو يتراءى له أنه سيُهدم، فهو لا يسقط على الآخرين شيئا أو يتهمهم به، وإنما يحوّل كل حدث إلى نفسه، متهما ذاتـَه مباشرة بأنه الفاعل والمتلقي في آنٍ واحد، وحين نحيل الموضوع كلـَه على المستوى الذاتي، ونحوّله برمته إلى الشاعر ؛ فإننا سنجد أنه يعيش حياة تتقاذفها الشكوك وعدم الثقة وفقدان الأمل في الآخرين.. فبعد أن يوشك أن يبني أملا يجعله يفر في رمشة عين.. نجده يلمّح بذلك في مناسبات كثيرة كما في قصيدة (ترانيم) التي يقول فيها :

في لحظة صدقٍ

اشتبكتْ أصابعُهم

من فوقها مرَّ الأبناء

مرّ الأحفاد

ولم يتجاوز عمرُهم

اللحظة َبعدْ..

******

مات الشيخْ

انهدم الكوخْ

فرِحَ البومُ كثيرًا

من التراب انبثقتْ زهرة

وللسّهو..لا لشيء

أديرُ ظـَهْري

فاردًا ذِرَاعِي

لحفيف الضَّوء..

فهو إذاً كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى، يجمع هذا الحشد ثم يفرقه في لحظة واحدة، معترفا بأنه لم تقبض يداه على غير الهواء، ويا ليته حصل على ذلك الهواء صرفا إلا أن جملة تراسل الحواس تلك تقول لنا حفيف الضوء، والحفيف بحاسة السمع لا بحاسة الرؤية.

ولا تخرج بقية القصائد عن هذه النتائج، فهي شخصية جدا، تترجم عن ما يدور في ذهن مفتاح ميلود من مشاعر وأفكار وأوهام، فلو صَـدَقتْ تكهناتي ـ والشعر الحديث في معظمه تكهنات ـ أقول لو صدقت احتمالاتي فإن هناك عدة تأويلات..

هناك رسائل تنم عن عدم وضوح في الرؤية وتخبط في أخذ القرار المناسب فرضتها الظروف والوقت الراهن لدى مفتاح ميلود وقد كثــَّف ذلك في قوله :

حماقاتٌ ودراويش

استودَعوني سِـرَّهم ورحلوا(1)



وهناك حقائق تستحي أن تـُظهر نفسَها كقوله :

قطرةٌ باردة مرتْ

في صمت

تبلل الحُـلُـم

ومضتْ في صمت



وهناك رسائل عن أمل مفقود كما في قوله :

بسمة ٌ يتيمة حينَ تلوح

لا تشبهُ شيئـًا سوى الأمْنية

بسمة ٌ يتيمة سلبتـْها الأوجَاع

لحظة َ النـُّضْج

إنه يسخر من الزمن الردئ، مما دعاه إلى القول : " لم الحزن الآن" وكأنما لا يعبأ بالأحداث المتشابكة الإيلام، فبينما يحصد الآخرون يكتفي هو بالرؤية، جوع في زمن الحصاد على رأي الشاعر علي الخرم وفي هذا الشأن يختصر مفتاح ميلود الموقف في ثلاثة أسطر مكثفة :

لك الطريقُ

وليَ الذاكرة

لِـمَ الحزنُ الآنَ ؟

مفتاح ميلود مهووس بوصف رداءة الحال فهو لم يسقط شيئا على الآخر أو الآخرين، كل القصائد تخصه، جعلها تترجم عن نفسه مباشرة، وكأنما هو إنسان مخدوع مغلوب.. معظمها يشجب اللف والدوران والغـُبْن والخديعة وسوء الإخلاص إنه يقول :

على حافةِ الغياب

فراشٌ يتواطأ ُ مع الليل

وعرباتُ حَنين

تركضُ فوق الصدر

عرباتٌ تتوارى في الصمت

***

على مشارف الغد

خرافة ٌ تـُعيدُ للعُرْس سمعتـَه

للعمر سنواتِه المنهوبة

دائما هناك حواف(1)



مفتاح ميلود هنا في هذا الديوان (أنفاس) لا يبدو شاعرا التزاميا، لأنه لا يعالج قضية عامة تهمّ كل الناس، وإنما يمكن أن نطلق عليه شاعر الفن للفن، لأنه لا يرسم إلا هواجسه، أو تلك العلاقة التي تربط بينه وبين الآخر.

وتتوالي ترجمة حالات البؤس في القصائد التالية لقصيدة (حواف) كقصيدة (لو)، وهي أقصر قصيدة في المجموعة، يندب فيها حظه العاثر ويلوم فيها على الشعر الذي جعله يقف هذه المواقف التي وصفها، يقول :

لو أنـَّـك

علـْمْـتني شيئـًا آخرَ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

غيرَ امتهان الخيبة

لكنتُ ممتنـًا لكَ

أيـُّها الشِّعْر

‍‍









________________________________________

(1) أنفاس ـ مفتاح ميلود ـ منشورات المؤتمر ـ2003 ـ ص7.

(1) من قصيدة (تعب) ص63.

(1) من قصيدة (حواف) ص51.



قصة (الرؤيا) كعمل درامي

قصة (الرؤيا) كعمل درامي


د. عبدالجواد عباس



أحمد يوسف عقيلة قاص معروف، من القصاصين المتميزين في الجماهيرية، شهد بحقه النقّاد في أكثر من محفل.. وقصة (الرؤيا ) تمّ تحويلها إلى عمل مسرحي على يد المخرج شرح البال عبد الهادي..المسرحية قُدمت ضمن المهرجان الحادي عشر في شهر التمور الماضي 2008م تحت عنوان (يا مطر يا عمتي) موضوعها مستمد من الأوتار الشعبية التي يضرب عليها القاص أحمد يوسف عقيلة.. وهي لم تكن عن قصة الرؤيا مئة بالمئة، ولكن هي ـ كما اختار لها المخرج ـ تدخل تحت مُسمى : (عن قصة الرؤيا)، لأن كلمة (عن) لم يضعها اعتباطا، بل تعطي نوعا من الحرية والنفس من خارج النص، إذ لا تعطي عرض الأحداث كما كتبها القاص وإنما يكون للسيناريو والحوار مجالٌ أرحب للمخرج والمعد في أن يضيف أو يحذف ما يراه مناسبا، فقد استجلبت بعض الأحداث من قصص أخرى مشابهة لنفس القاص.. ولذلك قال عنها المعد فتحي القابسي : ".. جاءت من المناخ المسرحي الموجود في الحدوثة" وهو يقصد العمومية بطبيعة الحال.. هذا ما استخلصته من الورقة الجميلة التي تبين معلومات عن المسرحية قبل عرضها.. وربما كان هذا التغيير في أحداث القصة هو الذي جعل أحمد يوسف عقيلة يستهلّ بقوله : " لا أدري ماذا فعل المخرج شرح البال عبد الهادي بقصتي، لكنني أتمنى أن يكون قد أضاف إلى (الرؤيا) رؤيا أخرى."

ثمة سلبيات وإيجابيات ـ حسب رؤيتي ـ عن هذه المسرحية (يا مطر يا عمتي)، وليس ذلك جرحا ولا مكيدة ؛ فأنا أربأ بنفسي عن الخُبْث، أحب الخير المُطْلق وأكره الشر المطلق.. فأي مسرحية عندما تُعرض، وأي كتاب عندما يُنشر وأي عمل فني أو ثقافي لا يصبح ملكا لصاحبه فقط، وإنما ملكا للجميع يقولون فيه ما يشاءون حقا كان ذلك أو باطلا حسبما يتصوره صاحبه.. ويمكن عرض ملاحظاتي في هذه النقاط:

السلبيات :

• الاسترجاع أو ما يعرف بالفلاش باك لم يكن التعرّف عليه وشيكا (من شواهده المرأة المغدورة في شرفها).

• كان من الأحسن أن يُؤتى بأكثر من شاهد لما تناول موقف (الفقيه)، أو يٌؤتى بشاهد أقوى من قصص القاص كقصة (كاتب الأماني) مثلا فهي الأقوى في بيان ممارسات الفقيه.

• في حالة الاغتصاب كان عليه ألا يبالغ في التوضيح العملي، كان عليه أن يرمز إلى ذلك بانطفاء الأضواء مثلا.. ما يعادل تكسّر الموج على الشاطئ في السينما المصرية.. أو أي رمز آخر حتى لا نقترب من الإباحية.

الإيجابيات :

• المؤثرات الصوتية والمرئية المتمثلة في الموسيقى المصاحبة للمشهد والأضواء كانت ناجحة ومؤدية للغرض.

• أصوات الممثلين كانت مسموعة جيدا وواضحة الدلالة، فكنت أخشى من تمازج أو تجاوب صدى الصوت الذي قد يفوّت على المشاهد سماع بعض الكلمات مما يجعله يفقد جزءا من المعنى والدلالة المقصودة، وكثيرا ما كانت تزعجني هذه الحالة فيما شاهدت سابقا من مسرحيات بمسارح مختلفة بالجماهيرية.. ولذلك يراعى جيدا قبل تقديم العرض التأكيد على الأجواء، وبالأحرى الجدران المحيطة بالركح، يفضّل إلباسها بطبقة من الألواح الخشبية.. وهناك مادة أخرى لا يستحضرني أسمها، هي خليط من النشارة ومواد أخرى، ممزوجة وملصقة معا كانت تُلبّس بها جدران بعض قاعات العرض السينمائية.

• المهم أن مسألة توصيل الصوت للمتلقي من الأهمية بمكان، لنجاح المسرحية برمتها، بمعالجة أجواء الركح، إضافة إلى اعتناء الممثل بنطق الكلمة نطقا واضحا سليما بمخارج حروف يألفها المتلقي.. وهذه السمة كانت متوفرة في ممثلي مسرحية (يا مطر يا عمتي).

• الممثل إبراهيم إدريس الذي كانت له البداية، كان له عمل واضح في تقديم دوره سواء بالنطق أو توصيل الرموز التي كثيرا ما اهتزّ لها الجمهور وصفق، فالفرد يصفق لتأثره بحكم سابق في ذهنه، فما شاهده أو سمعه طابق معتقده المتأثر بثقافته وخبرته الاجتماعية، والجمهور لا يصفق ولا يهتز لشيء بدون أن يملك عنه خلفية ثقافية أو اجتماعية، ولذلك على المسرح التجريبي أن يحتمل صدمات الرفض في البداية.. وهذه المسرحية ليست تجريبا بطبيعة الحال وإن كانت بعض الممارسات تخرج بها عن التقليد.



كتاب الأغاني..تسمية تعسفية

كتاب الأغاني..تسمية تعسفية


د. عبدالجواد عباس



كنتُ أطلع من حينٍ إلى آخر على كتاب الأغاني للكشف عن موضوعٍ يخصّ بحثا أو دراسة وربما للتسلية أحيانا حتى سعيتُ أخيرا إلى إكماله.. ولمّا كنت أخصص وقتا لقراءة كتب التراث ككتاب الكامل للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ وزهر الآداب للحصري القيرواني وجدتُ أن جل ما في هذه الكتب من أخبار يكاد يجمعها كتاب الأغاني وإن كان تأليف بعضها كان قبله بزمن طويل.

لمدة عامين وأنا أعطي الساعة والساعتين لكتاب الأغاني حتى أنهيته لأكتشف أن المئة صوت المختارة في الغناء من قصائد شعراء شتى، والمعنية بالعنوان لا تشكّل إلا النزر القليل من الكتاب، وإنما هو في الحقيقة كتاب تاريخ للشعر والشعراء والسياسة والاجتماع، يبيّن حياة العرب القديمة على أصولها، تتفق وما قال عنه شفيق جبرى في وصفه لكتاب الأغاني : "الحياة التي أذاع لنا أسرارها مديدة الآفاق مختلفة الوجوه، تتصل بعصور وقصور وبدول وخلفاء وملوك وأمراء وعمال وأشباه ذلك.."

قال أبو محمد المهلبي في وصفه الأمور الإجرائية إثر الانتهاء من تأليف كتاب الأغاني : " كتب أبو الفرج كتاب الأغاني من نسخة واحدة وأهداها إلى سيف الدولة فأعطاه ألف دينار.. بلغ ذلك الصاحب بن عبّاد فقال: لقد قصّر سيف الدولة وإنه ليستحق أضعافها "

ولدى قراءتي لكتاب الأغاني طُفْتُ بخيالي عامين كاملين في الجزيرة العربية، ما بين مكة والمدينة والطائف وثقيف وربوع اليمن واليمامة وحضرموت وما إلى ذلك من أقسامها..ترددتُ كثيرا على البصرة والكوفة وبلاد ما وراء النهر.. عشتُ مع العرب في الجاهلية، وعشت معهم في إسلامهم وعصرهم الأموي والعباسي.. صادفتني متناقضات ؛ من خير وشر، وعفة وطمع، فقر وغنى، خيانة ووفاء، حرية وعبودية.. رأيت القيان والجواري وصعاليك وذؤبان العرب.. لكن يعاب على أبي الفرج الإصفهاني مؤلف كتاب الأغاني أنه نقل كل ما سمعه.. تحدث عن أشياء لا طائل وراءها كالفحش وسفاسف العرب، وأسند الحدث الواحد إلى أكثر من شخصية وعصر.. وربما لتحفّظات أمنية تخصه لم يؤرخ لمعاصرين له في الدولة الحمدانية كالمتنبي وأبي فراس، حيث خلافه مع المتنبي معروف، في حين أعطى لسابقيهم من الشخصيات مجالا رحبا، فهناك العديد من الصفحات عن أبي العتاهية مثلا والفرزق وجرير..

ويبقى أن نشير إلى فضل المحققين لكتاب الأغاني وهم كُثر، فقد خدموا اللغة العربية بتفسير المفردات الصعبة وتوضيح المعاني الغامضة.. ومن ثمّ فكتاب الأغاني إلى جانب ما يحمل من سلبيات وتاريخ غير مجيد إلا أنه مرجع لغوي أدبيُّ اجتماعي.



لا مولد سوى المولد النبوي

لا مولد سوى المولد النبوي


د. عبدالجواد عباس



يعتبر من العادات السيئة والتقليد الأعمى أن تحتفل طائفة من الناس بأعياد ميلادهم، فهذا الذي نراه عند بعض الأسر ـ غنيها وفقيرها، متعلمها وجاهلها ـ من إحياء لأعياد ميلادهم أو ميلاد أبنائهم هو مخالفة صريحة للسلف الصالح وإجماع الفقهاء، بل هو من قبيل المباهاة والتقليد الأعمى للغرب.. لكن المستحب أن نقتصر فقط علي الاحتفال بمولد منقذ البشرية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا نحتفل بمولد أيٍ كان سواه ؛ ليبقى هذا الشرف خالصا له وحده دون غيره، عيد نحتفل به جميعا، عيد ميلاد لا كأعياد الناس.. لم يكن أسلافنا الأوائل يحتفلون بأعياد ميلادهم، اقتصروا فقط في العصور الإسلامية المتأخرة علي إحياء المولد النبوي بمفرده، امتنعوا عن إحياء أعياد ميلادهم ليجعلوها خصوصية للرسول وتشريفا له.

وقد دأب المسلمون في إحياء عيد المولد النبوي، لأن هذا المولد يختلف عن مولد أي شخص مهما كان رفيع الشأن. وليس من الأدب أن يشارك الرسول أحد في هذا الاحتفال، لأنه النبي الذي اختاره الله لهداية البشرية وإنقاذها من ظلام الكفر إلى ضوء الإيمان، فله علينا الفضل الكبير مما يوجب طاعته والهداية بهديه والرضا بما جاء به من قول أو فعل ، حتى ولو لم يكن موجها لنا مباشرة في هذا العصر، لكنه درس مستفاد، نسترشد به علي سبيل القياس عليه والعظة به ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ).

ألا يحق لنا أن نحتفل بميلاد من بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، وقد تحمل في سبيل ذلك الطرد والاضطهاد والجوع والعطش، تحمل الاستهزاء والسخرية والتكذيب، حتى من أقرب الناس إليه، لكنه ثبت علي المبدأ الذي أمره به ربه.. ألا يحق له أن يكون عيد المولد خالصا له وحده ؟‍‍

إن احتفالنا بعيد ميلاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعبر عن مظاهر حبنا له وتقديرنا لعمله العظيم الذي لو نفّذه الناس علي الوجه الأكمل لكانوا أسعد الأمم ( تركتُ فيكم ما أن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنة رسوله ).. والنبي تلقى الرسالة في وقت كانت البشرية في أشد طغيان الشرور ؛ فالأخلاق في قمة الفساد، والمجتمع الإنساني آيل للتفكك والانحلال، ومشوه بالديانات الفاسدة كالوثنية في الجزيرة والمزدكية والزرادشتية في فارس، كأول شيوعية في العالم.. فلولا الرسالة وانتشارها شرقا وغربا لقضي علي المجتمع البشري بهذه الديانات التي كانت تفرض بالقوة .

فلا عجب إذن أن نحتفل بعيد ميلاده الشريف، وأن نخصه وحده بهذا الشرف، وهو الذي كان قدوة لأصحابه في الثبات علي المبدأ، فهم لم يبالوا عندما تعرضوا للقتل والتعذيب والتشرد والتهجير، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قدوتهم وسابقهم في تحمل الأذى والإهانة حتى تضرع إلى ربه قائلا : (... فإن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي..) لولا هذا التحمّل، لولا هذا الصبر علي المكاره لقضي علي الدعوة الإسلامية في مهدها.

الاحتفال بالمولد النبوي صورة رائعة وتعبير قوي عن محبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبجيلا له ، وهو حقيق بهذا التبجيل، حيث قال فيه سبحانه : ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )، وأجمل ذلك أيضا في قوله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ).. كما أوجب الله علينا طاعته حيا وميتا فقال : ( ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ). كما أوجب احترامه حتى في أدق الأمور فقال جل من قائل : ( الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ).

ونحن عندما نحتفل بعيد ميلاد نبينا الكريم إنما نحتفل بمبادئه ونطبق ما أمرنا به علي لسان ربه، وإلا فلا فائدة في الاحتفال بعيد ميلاده، إننا عندما نحتفل بالمولد إنما نعبر عن فرحنا بإسلامنا وتجديد إيماننا بذكر من بعثه الله رحمة للعالمين، إذ وطد أركان الإسلام بدعوته، فهدى قلوبا باغية وأنفس قاسية، وجمع شملا مشتتا، وقال : ( لا تعودوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ).. ونحن نمر بذكرى المولد النبوي الشريف يلزمنا الهدوء والرحمة فيما بيننا والاستقامة ليرأف الله بنا، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. يـُلزمنا الإسلام بالإيمان الخالي من الرياء، ويلزمنا أن نقول : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ).



لغة شبابية

لغة شبابية


د. عبدالجواد عباس

اختلق الشباب هذه الأيام عبارات جديدة للتحية فيما بينهم.. فكلما ودع أحدهم الآخر شيعه بقوله: "تبيش حاجة" سواء كان يحادثه وجهاً لوجه أو عبر الهاتف.. ولكثرة دوران العبارة كدت أقولها أنا الآخر – مع استهجاني لها – بل وقعت فيها عفو الخاطر ذات مرة.. ربما عبارة "تبيش حاجة" مرادفة لعبارة "أي خدمة" التي كانت شائعة الاستعمال في السبعينيات ومازالت على ألسنة البعض بشكل أو بآخر.. مع ملاحظة أن عبارتي "تبيش حاجة" و "أي خدمة" قد يريد منها الشخص أنه راضٍ عن محدّثة إلى درجة أنه سيخدمه أو يلبي حاجته أياً كانت تلك الحاجة.. مع أن العبارتين قد سيقت كل منهما للمجاملة وليس للحقيقة.. وإلا وقع قائلها في الحرج فيما لو قال الشخص الآخر أريد كذا و كذا.. فتكون حينئذ مجاملة مكلفة.. ولكن لا أرى إلا أننا منساقون لما يقرره الشباب من تكييف في تبادل التحية فقد فرضوا علينا التعانق في المناسبات وما كنا نعرفه قبل أوائل الثمانينيات.

ثمة لغة أخرى أختلقها الشباب فيما بينهم لم نأخذ بها بعد لكنها تمد خطاها نحونا.. هي رموز متعارف عليها فيما بينهم تستطيع أن تقول هي كنايات أو دلالات عن معانٍٍ نحن في غنى عنها لأن لدينا البديل.. والمؤسف أن تلك الألفاظ دالة على السلبية وسوء الخلق بل سوء الظن وربما تحمل الخيانة واللامبالاة وقد تحمل التهاون والهروب من المسؤولية وأخذ القرار وذلك كقولهم "فوجناه" : وتساوي أرغمناه على الخروج من بيننا.. "أنصغط " : غير رأيه.. "عنز" : "أمتنع".. زاد فيها : ذهب .. "عفس" : هرب.. "اسكرطاه": تخلى عنه.. "وزعه" : اختلق له طريقاً ليذهب من بيننا.. "ادلحه": تغاض عنه.. "امطرشق": مختل العقل.. "خط عليه" : انسه.. "وجيج": هرج ومرج.. "فك عليه" و " سل اسبينته" و"اجلده": لاتهتم به.. وأرجو ألا أقول: البقية تأتي .

للتمهل فقط

للتمهل فقط


د. عبدالجواد عباس



هل هو سعيد كل من له أولاد ؟ لا أعتقد ذلك.. كثير من الآباء متورطون في المعاناة والمشاكل، اللهم نسبة قليلة تتحامل على نفسها بالصبر والمصابرة واستشعار السعادة بأن لهم أولاداً أمام الناس وأمام أنفسهم بقناعة جوفاء.. أحسب أن بهجة الأولاد في فترة طفولتهم لا غير.. تدللهم، تمشي معهم، تلاعبهم، تناغيهم، تفرح بهم، تشتري لهم الحلوى، اللباس، تحملهم إلى المنتزهات وشواطئ البحار، تودهم بكل ما لذّ وطاب بأقصى ما تستطيع.. تفعل كل ذلك محمولا ببهجة السنوات الأولى ثم تكتشف يوما عندما يكبرون أنهم لا يتذكرون شيئا مما كنت تفعل.. جمائلك ضاعت، جهودك راحت هباء، وتتجرع الغصة وأنت قنوع رغم أنفك..وتتمثل صدق الحديث بأنهم مجبنة مبخلة محزنة.

عندما يكبرون قليلا تكتشف أن طموحاتهم أكثر من نقودك، وأن جهودك غير مرضيٍّ عنها حتى لو واصلت الليل بالنهار عملا فإن سعيك غير مشكور.. حتى نصائحك تأتي بعد نصائح أصدقائهم والناس الآخرين..

عندما يشبون عن الطوق ويكبرون لا يتعلقون بك إلا بمقدار مصالحهم.. تقوم بإدارة المنزل كلها على كاهلك، تشتري المصروف، اللباس الغالي الثمن مرغوب فيه ولو كان رديء الصنعة.. المهم أهمية بقائك مرهونة بمعاشك.. بالأحرى تصبح مشرفا بل خادما لهم رغم إحساسك بالجور، ومع ذلك تحل مشاكلهم وتشفق عليهم.

هل أقول لك أو لها اختصارا للمتاعب : أن لا تتزوج، قد تخالف السنة، وفي نفس الوقت لا ذنب عليك إن لم تفعل، لكن الذي أقوله : أنك طالما تزوجتَ أو كنت متزوجا أصلا فتحمّل واصبر فليست حياتك الأولى كالتي أقدمت عليها، قد غدوت الآن مصطفا في طابور جيش الحياة الطويل.. قد تلهث وراء المسكن.. وراء الأثاث.. وراء الدفايات والغاز.. ستتجدد لوازم وتفتح أبواب جديدة للحاجات مما يحوّل الحياة في كثير من أوقاتها إلى اشمئزاز وألم.. ربما بدافع الغيظ تلعن الحظ وتسب الزمان وتقفل الباب على كل رغباتك الشخصية، وتطأ على كل تطلعاتك الجميلة في الحياة.. فاخترْ، إما أن تقول بالرفاء والبنين، وإما أن تقول : "هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد ".



ليست خطيرة ولكن...

ليست خطيرة ولكن...


د. عبدالجواد عباس



أســـــــــوار

هذه الأسوار العالية التي تسـدّ مقدمة كثيرٍ من المنازل في مدينة البيضاء وحتى غيرها من الأماكن.. أنها أسوار عالية، أكثر من ثلاثة أمتار، تحجب ضوء الشمس كما تحجب الهواء والرؤية...

فممن نحن خائفون ؟ وعلامَ نحن خائفون ؟.. يكفي جدار بقدر طول القامة يصدّ عنا عيون المتطفلين، ولندع الهواء يمر، ولندع الشمس تنفذ، فالأغلب أن بيتا تدخله الشمس لا يدخله الطبيب.

مدينة حديدية

في ما جاورنا من البلاد العربية وغيرها من البلدان الأجنبية لا نجد هذا الحرص الشديد على تركيب حديد الحماية إلا في ما ندر، بل تكاد البيوت التي شاهدناها خالية من الحديد.. صحيح بالنسبة لنا قد كنّا في الخمسينيات والستينيات، وهي السنين التي بدأنا نتعرف فيها على العالم، فتحنا أعيننا على لا شيء، فلو دخل السارق بيوتنا فلا يجد فيها ما يسرق.. أما الآن فليس هناك بيت إلا ويحتوي على أشياء نفيسة يسيل لها لعاب اللص، وخاصة تلك التي يخفّ وزنها ويغلو ثمنها.. لذلك أخذ الناس يسارعون في سدّ أبوابهم وشبابيكهم بالحديد، حتى والمنزل ما يزال في طور البناء.. هذا أول شيء يفكر فيه صاحب المبنى وليس آخر شيء.. لمــــــاذا ؟ لأن الثقة تراجعت، وكَـثـُرَ أولاد الحرام وشذّاذ الآفاق والفاشلين الذين يريدون أن يكسبوا دون أن يتعبوا.. هذه فصائل اللصوص الظاهرة للعيان، وآخرون من دونهم لا نعلمهم الله يعلمهم..

الأذان

لا أحكي عن تحفيظ وحفظ القرآن، ولا عن الإمامة والخطابة، ولا حتى عن الفتوى، فكل هذه الإمكانيات متاحة وصحيحة لا تثريب عليها، لكن الأذان، الإعلان عن الصلاة هو الذي تدور حوله علامة استفهام كبيرة.. فباستثناء مسجد بلال والمسجد الأخضر... ليس في هذه البلاد مؤذن يؤدي هذا العمل بصورة صحيحة إلا ما ندر، المفروض أن تستقبله الأذن بسلاسة وتستمرئ معه الخشوع، إلا أن كثيرا من المؤذنين ـ وبدون قصد ـ عند بداية الأذان بمدون الألف الأولى في كلمة (الله) فنسمعها هكذا : (أاااااله).. ثم يمدون الحاء في (محمد) فنسمعها هكذا: (محاااااامد).. ويمدونها أيضا في كلمة (حيّ) فنسمعها هكذا: (حااااااي) على الصلاة.. وفيهم ـ أي المؤذنين ـ من يفتح مكبّر الصوت إلى آخر مدى.. وإذا ما كان هكذا فيكفي أي صوت عادي من المؤذن ليسمعه الناس.

صـــــلاة

دين الإسلام دين متحضّر وليس متعسفـًا ولا قاسيًا، فقد سمح للمريض أن يصلي في بيته إذا غلبه المرض، وبأي طريقة كانت فالأعمال بالنيّات.. والذي يغالبه سعال شديد لا حرج في ما لو صلى في بيته ريثما يُشـْفَـَى ثم يعود لصلاة الجماعة بعد ذلك.. والإنسان الذي لا يستطيع الصلاة إلا على كرسيّ عليه أن يختار مؤخرة المسجد لا مقدمته.. وكذلك يفعل الشخص الذي به تصلـّب برجله ولا يستطيع أن يجلس جلسة طبيعية.. وهناك من لا يشكو من هذا ولا ذاك ولكن يؤخذ عليه عند السجود ترديد تسابيح ووشوشات قريبة من الجهر مع أن الله يعلم السرّ وأخفى.



مع جمعة الفاخري

مع جمعة الفاخري


د. عبدالجواد عباس



جمعة الفاخري من الشباب المبدعين الذين ظهرت أعمالهم في بداية القرن الواحد والعشرين.. وهو يكتب القصة كما له هوىً كبير بالشعر , تأليفه وحسن إلقائه، و يمتاز بشجاعته الأدبية وبفصاحته وبراعته في التقديم والتعليق في الندوات الثقافية والأمسيات الشعرية.. كما اتّضحت قدرته على معرفة الأدب الشعبي الغنائي.. كما يمتاز جمعة الفاخري بكثرة الحفظ وسرعة البديهة والتأنّي، مما أسهم في نمو شخصيته وانتشارها بسرعة.. ألف أكثر من ديوان شعر، منها: (اعترافات شرقي معاصر) وأكثر من مجموعة قصصية منها: (صفر على شمال الحب ) و ( رماد السنوات المحترقة ) وغيرها.

نهج في قصصه نوعا من الرومانسية الجديدة، شقّ إليها طريقا غير الذي كنّا نعرفه من كلمات الحب الموروثة والعبارات العاطفية المؤثرة والآمال المبالغ فيها.. تشعر وأنت تقرأها أن العبارات تنثال عليه دون أن يصطنعها أو يتوقف لاختيار كلماتها، وهذه ميزة الشعراء القصاصين.

وقد أبدع جمعة الفاخري في مواقع عديدة من مجموعاته القصصية ؛ فهو يكتب القصة الواقعية المحتوى في البداية ثم لا يلبث أن يلبسها ثوبا من الخيال المجنّح وصورا ناعمة الملمس، من تلك التي تحسبها مألوفة في واقعيتها إلا أنها واقعية قدمت على طبق من ذهب.. يتّضح هذا مثلا في قصة (دروب) عن رجل خمسيني يخاطب نفسه عبر تيار الشعور، وكان جالسا على كرسي في مقهى وقبالته كرسيّ خالٍ، يقول على لسانه :

" كان من المفروض أن يُملأ بامرأة يحتويني عطرها، ترسلني عيناها إلى جزر المحبة والابتهاج.. تمنحني يدا دافئة رقيقة.. تغفو بيدي مثل عصفور.. تربتُ أصابعُها على رعشة القلب نفسها.. تهديني أصابعها حدائق وجداول وأزاهير زاهية ندية.. تمنحني عقد أمنيات قزحية.. تحقن عمري المثلج بدفء الحياة الذي لا يريم "(1)

جمال الأسلوب لم يؤثر فيه هذا الهتاف و هذه الخطابية، إذا ما استثنينا عبارة(الذي لا يريم ) التي كانت نشازا على هذه الترانيم الموسيقية، فإن كل عيب يختفي في خضم الكلمات الجميلة وكأن ليس لها وجود، أول مرة تتحول الخطابية الممقوتة في القصة من ميزة سلبية إلى ميزة إيجابية، قد تحدث المفارقة، ليس هناك شيئا ثابتا، هذا يذكرني بالنقاد الذين لا يعتبرون كلمة (أيضا) كلمة شعرية حتى وردت على لسان أبوبكر الشبلي فكانت ذات وقع جميل حيث يقول :

رُبّ ورْقاءٍ هتوف في ا لضُّحى ذات شجوٍ صَدَحتْ في فَنَنِ

ذكرتْ إلفا ودهراً سالفاً فبكتْ حُـــــزْناً وهاجتْ حَزَني

فبُكائــي ربمــا أرّقــها وبُكاهـــا ربــما أرّقـــني

ولقد تشكو فمــا أفهمُها ولــقد أشْكــُو فما تفهمُني

غير أنّي بالجـــَوى أعرفـُها وهــي أيضا بالجَوى تعرفني

فعبارة الفاخري تتميز ككل بميزتين ؛ ميزة الواقعية الملموسة في موضوعها، فهي تخص الجميع، فمن منا يخلو من هواجس الأحلام الوردية.. وميزة أخرى وهي التقديم الرومانسي الشّفاف " فثمة فرق بين من يتناول زاده في العراء وبين من يتناوله في شذى الورد والياسمين"(2).

ومعظم قصص جمعة الفاخري نلمس فيها المسحة الشعرية الواضحة، ذلك لكونه يحمل نفسا شاعرة رقيقة، فتظل الرومانسية الشعرية مجسّمة حاضرة، ذلك كما نلحظه في قصة (صفر على شمال الحب).. ومضمون القصة يدور حول شاب تعرّض لحادث فأحاله إلى مُقْعَد، أحبّ ممرضته بالمستشفى، استمالها فلم تتضح مشاعرها نحوه، وقد رمز لها عن حبه في عبارات شعرية عدة مرات فلم تنتبه لها.. وقد اتضح أنها كانت تلاطفه إشفاقا عليه.. وذات يوم أحضرت طبقا من المرطبات، وزعته وقالت : إنه من أجل خطوبتي، ومن يومها اختفى الشاب من المستشفى، واصبح الحب الذي يتغنى به صفراً على الشمال، وترك الشاب رسالة يناجي فيها نفسه الشاعرة بقوله :

" أيتها القصيدة الأخيرة، لقد تعبت وأنا أحاول أن أصطادك كقصيدة مدهشة

أعلقها أيقونة على جدران أيامي المظلمة..

لكن يا للمرارة فشلتُ فشلا ذريعا !!

ما أقسى فشل الشعراء.. إنهم يموتون حين تمضي القصائد عن حياتهم..

شكرا لحبِـّكِ.. شكرا لعينيكِ.. لقد أتعبتني كثيرا فقررت أن أغتالك... اغتالني... أغتال ما بيننا بالسفر.. و..د,,ا..ع..اً "(1)

وفي مجموعات الفاخري القصصية تتميز كثير من القصص بذكريات الطفولة، وهذا النوع يعد من أنواع التجديد في القصة الليبية القصيرة، إذ لا نجد هذه الميزة متوفرة بكثرة في قصص الروّاد.. ومن أمثال تلك القصص هذه الحوارية من قصة (الكابوس):

" أمرني بتسميع سورة (المسد).. تلكأت.. قضيت اليوم كله أحاول حفظها متوسدا فخذ جدتي التي ظلت تحشو وسادتي بالخرق البالية وبقايا ثيابي الرثّة فيما كانت تلومني على تركي الجديان تسرح وحيدة من غير راعٍ..!(2).

كذلك نجد هذه الروح الطفولية في قصص : المحروسة ـ الزيارة ـ الصورة ـ القادم ـ لعبة العشاء) وغيرها مما يستقيم معه عمل دراسة كاملة لهذا النوع من القصص.





________________________________________

(1) جمعة الفاخري ـ رماد السنوات المحترقة ـ دار الأندلس الإسكندرية 2004 ـ ص13.

(2) إدوارد الخراط ـ القصة والحداثةـ مركز الحضارة العربية (ب ـ ت) ـ ص17.

(1) جمعة الفاخري ـ صفر على شمال الحب ـ دار البيان 2003 ـ ص27.

(2) امرأة مترامية الأطراف ـ ص19.



مع قصص محمد الشويهدي

مع قصص محمد الشويهدي


د. عبدالجواد عباس



لعل ما يميز محمد علي الشويهدي* هو تغطيته القصصية لمرحلة الخمسينيات والستينيات التي مرّ بها مجتمع بنغازي بالذات.. العادات والتقاليد ومجمل الحياة اليومية للمجتمع الذي كان في ذلك الوقت..عندما نقرأ لمحمد الشويهدي من قصص تلك الفترة نلمس قابليته الشديدة في تحليل النوازع والأوهام التي كانت تنتاب أفكار جيل تلك الحقبة من عامة الناس وخواصهم في مدينة بنغازي، بوصف يتغلغل ويعمق ويعمق لاستجلاب دقائق الحياة اليومية والعلاقات المتشابكة التي تحكم طبيعة المجتمع الليبي في محيط المدينة حينها.. وأقرب ما يتضح ذلك في مجموعاته القصصية )أحزان اليوم الواحد) أو (أقوال شاهد عيان) أم مجموعته (كحل العين) التي تحتوي إلا على قصتين بتوقيع مجتمع الستينيات وهما (ولْد الشيخ) و(الجُــرْذ).

فالشويهدي بهذا قد غطـّى أحداث تلك المرحلة بتفاصيل كثيرة من حياة مجتمع المدينة، ليس الجيل الحالي على دراية بها، فمن خلال قصصه بيّن لنا أحوال مجتمع برمته ؛ مجتمع مدينة بنغازي بالذات، فقد عاش فيه وامتزج به فعرف صفحاته البيضاء والسوداء معا ؛ ويتميز في قصصه الأولى بدقة الملاحظة، فهو يحسب كل كبيرة وصغيرة ويضمنها أسلوبه تمشيا مع التيار الواقعي الذي وجد نفسه فيه، فقد عرفناه قاصا مشاكسا يدخل البيوت وينبش أسرارها، ويصور هواجس الشباب من الجنسين ويكشف خططهم في عشقهم وصراعهم مع الحياة, ومن ثم مراميهم وآمالهم الصغيرة والكبيرة، ويبين لحظات السلوك الإنساني من خداع ونفاق وصدق في: ( أحزان اليوم الواحد ) 1972و(أقـوال شاهـد عـيان) 1976.. وقد طُبعت هاتان المجموعتان القصصيتان مرات عدة.

وبما أن قصص (أحزان اليوم الواحد) من بين القصص التي ساهم بها الشويهدي مساهمة كبيرة في تغطية نمط الحياة الاجتماعية في مرحلة الستينيات وكانت أحداثها تدور في مدينة بنغازي فقد استرعى ذلك انتباه الناقد والقاص خليفة حسين مصطفى فعلق عليها بأنها ذات نَفَسٍ واحد، وأن أحداثها حدثت في مكان واحد لا يبرحه فيقول : " تضم المجموعة خمس عشرة قصة، وكل قصة تكاد أن تكون امتداد للقصة التي سبقتها، ومكملة لها في الشكل والمضمون، وهذا الانطباع الذي نستمده من قصص (أحزان اليوم الواحد) يتبلور ببطء من قصة إلى أخرى، ثم يترسخ ويتعمق فلا يعود مجرد انطباع باهت وإنما يتخذ صورة قناعة حاسمة بأن الكاتب كان يمشي فوق رصيف واحد " (1)

محمد علي الشويهدي مميز في هذه الناحية من تاريخ مدينة بنغازي، وإن كان يشاركه بأنفاس أخرى عن هذه المدينة قاصون آخرون قاموا بتسجيل نمط الحياة فيها، في أزمنة مختلفة أمثال بن عيسى الجروشي في مجموعته القصصية:( الناس والحياة) ورمضان عبدالله بوخيط في (حكايات الماضي القريب) وأحمد محمد العنيزي في (حديث المدينة) وكذلك وهبي البوري ويوسف الدلنسي حتى نقف على أعتاب قاصين آخرين أدلوا بدلوهم بالحديث عن مدينة بنغازي، كخليفة الفاخري ومحمد المسلاتي وسالم الهنداوي وسالم العبار وعبدالرسول العريبي وعبدالله الساعدي المغربي، وكلّ له أسلوبه وذائقته عن هذه المدينة رسمها في أحداث مجموعته القصصيه..فضلا عن الشعراء الذين لهم باع فني ّكبير عن تجاربهم بمدينة بنغازي كرفيق المهدوي وحسن السوسي وعلي الفزاني وغيرهم.

هكذا الحديث عن مدينة بنغازي كما رصدتها عين الشويهدي وغيره في حُللٍ مختلفة ما بين العسر واليسر والرضا والغضب والاستعمار والحرية والفقر والغنى وسمو الأخلاق وهبوطها وثنائيات شتى كثيرة من هذا وذاك مرت بهذا المجتمع.

ومحمد علي الشويهدي من المجموعة الثانية التي أسست للقصة الليبية، ومن طبقته أحمد إبراهيم الفقيه وكامل حسن المقهور وإبراهيم الكوني وخليفة حسين مصطفى وخليفة التكبالي ويوسف الشريف، حين اعتبرنا أن المجموعة الأولى المؤسسة للقصة الليبية على التوالي هم: وهبي البوري ويوسف الدلنسي وخليفة التليسي وعبدالقادر بوهروس وعبدالله القويري وعلي مصطفى المصراتي.



وإذا بحثنا عن الاتجاه الفني للشويهدي نجد أنه من القاصين الذين يتخذون الواقعية اتجاها لهم ؛ فهو يضع المشكلة بين يدي القارئ كما صورتها عدسته دون أن يلزم نفسه بحل معين ودون أي استفزاز للقارئ إلى وعظ أو نصح، فالقصة تقدم نفسها بنفسها ويترك الباقي للمتلقي ليجد الحل حسب ثقافته ومدى إدراكه للخطأ والصواب..وهذه الطريقة ينتهجها كل من : كامل المقهور في (14قصة من مدينتي) ومحمد المسلاتي في (الضجيج) وأحمد إبراهيم الفقيه في (البحر لا ماء فيه).



والشويهدي وإن كان قد بدأ نشر قصصه مابين أوائل السبعينيات وأواخرها إلا أن أحداث القصص وبيئتها تشير إلى فترة الخمسينيات وبداية الستينيات ؛ فعند دراستنا لاتجاه القصة الليبية في فترة ما قبل النفط وما بعده اتضح لدينا أن قصص الفقر والتشرد تبدأ في التضاؤل كلما توغلنا في عقد السبعينيات عدا ما في جعبة القصاصين من حكايات احتفظت بها أذهانهم، وقذفوا بها في قصصهم علي اعتبار أنها تذكير بفترة ماضية ؛ كما في قصة (تساخير) من مجموعة (أقوال شاهد عيان) 1976.. عن الشاب مصطفي الذي يقطع دراسته لأجل تخفيف الدَين عن كاهل أبيه المدين لصاحب الدكان بالنقود التي استدان مقابلها مصروف العائلة.. ولم تكن هذه الحالة ماثلة كثيرا في الفترة التي طبعت فيها المجموعة. فمحمد علي الشويهدي قد نشر قصصه في السبعينيات، إلا أنها تشير إلى فترة ماضية بالنسبة إلى مضامينها كالحجاب والسفور وطريقة الحب ونوع المعيشة.. ذلك في مجموعاته: (أحزان اليوم الواحد) و (أقوال شاهد عيان ) وحتى (كحل العين), نلمح حالات من التعب والسعي وراء العيش، والشعور بالإحباط في الحياة، والحب غير المتكافئ، والحلم بالمستقبل السعيد، والكره والغيرة والنفاق وغير ذلك من مواجهات الحياة في ذلك الوقت.. فقصة ( أحزان اليوم الواحد), وهي نفس القصة التي حملت اسم المجموعة، توضّح علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع الليبي في الخمسينيات والستينيات، قصة امرأة شابة، في الواحد والعشرين من عمرها، تقضي أيامها بين الجدران كما تقضيه بنات ذلك الزمن. أخوها ضربها لأنها تنظر من الشباك، وأمها تصفها بالبائر، وأبوها يقول إن إنجاب البنات كارثة..وقصص الشويهدي تكاد تكون جميعها عن المرأة ومواجهتها للحياة.



وقصص الشويهدي تعطينا صورا واضحة عن حياة المرأة في الستينيات فنجد تحفظا شديدا في علاقة الرجل بالمرأة، كما ترسمها قصص الشويهدي عن مجتمع مدينة بنغازي نفسها ؛ فابن العم لا يستطيع مقابلة ابنة عمه بسهولة اليوم، كما هو واضح في قصة : ( بعض من تصورنا ) في مجموعة (أحزان اليوم الواحد)1972, وإذا التقيا فإنه يلتقي بها أمام أحد أفراد الأسرة في المنزل. ونجد للشويهدي أكثر من قصة تشير إلى هذه الحالات، كقصة( لمسات الهوى) وقصة ( ممنوع الخروج) وقصة ( الخفقة البكر ) التي تروي قصّة شاب اسمه أحمد يحب بنت الجيران، ويتردد كثيرا قبل أن يكتب لها رسالة يرميها عند قدميها ويمضي مذعورا " ومشى في اتجاه الشارع الذي تقيم فيه (خيرية) وما لبث أن وصله، ولاحت كما توقع علي عتبة البيت محتضنة حقيبتها المدرسية.. ووجد نفسه علي بعد خطوات منها، وامتدت يده إلى جيبه وأخرج الوريقة بأصابع مرتعشة ورماها بين قدميها، وكأنه يتخلص من كل عذاباته، وخطا إلى الأمام وكأنه يعدو في اتجاه النجاة.. رأى أن يتأكد في وصول خطابه مهما دفع من أعصابه، خطا خطوتين إلى أول الشارع ومسحه بعينيه وفرح لأنه لم ير خيرية، وسبقته قدماه، وبحث عن الرسالة حيث رماها فلم يجدها واعترته فرحة غامرة.. كان يمشي في خفة، وأحلام لقاء صبيحة اليوم التالي السعيد تدغدغ مشاعره... وسحقه صوت يقهقه قارئا:

ـ حبيبتي.. واغفري لي مناداتي لك بهذا اللفظ.. ورنَت ضحكات شابة في أذنيه، وانتبه إلى أنه سيجتاز بعد خطوة واحدة طالبين يسيران في ذات الاتجاه، وتسمرت عيناه علي وريقته في يد أحدهما يقرؤها للآخر.."(2).

ومثلها قصة ( حب شديد الوطأة)(3) في مجموعة ( أقوال شاهد عيان) التي يلجأ فيها المحب الي رش الرمل علي عتبة دار حبيبته بناء علي توصيات الفقي، الذي كلَفه بنشر الرمل علي العتبة حتى تقبله الفتاة زوجا لها، حتى أنها ستزوره في بيته، لكن الذي زاره هم شرطة الآداب.

ومن نماذج قصص غلاء المهور ما كتبه محمد علي الشويهدي في مجموعته القصصية (أحزان اليوم الواحد)1972 قصة ( رحلة الأحلام )، تلك الفتاة (فطومة) تحلم بعقد(سعيد) عليها حيث باتت تنتظر بفارغ الصبر وتعد الساعات التي تفصلها عن كتب الكتاب.. " وعلت في الشارع قهقهات وأصوات تتبادل النكات، ووقع أقدام يتخلله وقع عكاكيز، ودخل الرجال إلى المربوعة... وارتعشت لفكرة أنها قصَرت في حق (سعيد) وتمنت لو أنها صارحت أمها بحبها لسعيد، ورجتها أن تدفع أباها إلى القبول، وتألمت لعجزها عن أن تفعل شيئا، لكن أمها تعرف علي كل حال أنها لا ترفض سعيدا، وربما حدَثـــت أبـــــــاها، ربما " (4). وخرج رجال الوجاهة، وفطومة علي أحر من الجمر في أن تسمع النتيجة التي لابد أن تكون إيجابية، غير أنها سمعت أمها تقول لأبيها : " عيب يا حاج والله ما عندك حق تختلف معهم من أجل خمسين دينار.. خمسون دينارا يا حاج "(5) وللشويهدي في التيار الاجتماعي الواقعي الذي يسجل حال المرأة في الخمسينيات والستينيات قصته (بعض من تصورنا ) وهي من ضمن قصص مجموعة (أحزان اليوم الواحد) التي مضمونها موقف الفتاة التي لا تطمع أن تقف مع خاطبها أو تراه إلا بعد الزواج، وقد حاولت الفتاة أن تتصل بابن عمها (سالم) عندما كان يزورهم ويهم بطلب يدها.. يقول الراوي عن موقف من مواقفها وفي إحدى زيارات سالم لبيتهم :

" وأحست أنها تعطي الكثير في سبيل رؤيته، ولا تبخل في عطائها أبدا، وأنه ليس وحده الذي يعاني من ذلك الخليط الفظيع من أحاسيس تجربة عاطفية كاملة، ورأت أن تتحرك في اتجاه السقيفة، وفي حركة عفوية تدخل (المربوعة) وكأنها لا تعلم بوجود أحد، كما كانت تفعل أحيانا، وشرعت في تنفيذ خطتها، فما أن دخلت السقيفة حتى فوجئت بباب المربوعة موصدا، ودق قلبها دقات سريعة، تكاد تسمع لو أرهف السمع، أو هكذا خـيّـل لها، وصعدت الدماء إلى وجهها حارة فتوردت وجنتاها، وأحست بكل شعرة في رأسها وكأنها تنبت من جديد، وتراجعت بائسة، لأنه لا يمكنها أن تطرق الباب وتدخل، وإلا لكانت فعلتها وخيمة العواقب.." (6)

كما نجد الشويهدي في تلك الفترة يتناول الممارسات الخاطئة بشكل عنيف, وله في مجموعته القصصية (أحزان اليوم الواحد) أكثر من قصة تتجه إلى الرذيلة، مثل قصة (مريومة تغمز الحصان )، والحصان في القصة دلالة علي الرجل أو الفحل.. فمريومة التي مات عنها زوجها تناولتها العيون الشرهة الطامعة. كانت تعارك الحياة لتصرف علي صغارها فأعياها ذلك، يقول الراوي: " ودقَ باب البيت بعنف، ونفث صاحب دكان البقالة المجاورة دخان لفافته في وجه مريومة، وتقيأ ابتسامة، وصهل الحصان :

ـ عامان يا مريومة دمرني خلالها الانتظار، ادفعي ديونك وإلا فإني سأرفع الأمر إلى القضاء.. ألا تفهمينني ؟ ادفعي...

ـ ولكني لا أملك نقودا..

ـ لتكن مقايضة، بضاعة ببضاعة.

وفهمت مريومة، ومات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة، وحدقت مريومة في الفراغ بعينين مكحولتين وغمزت الحصان، أجل غمزت الحصان " (7).. وقد نعثر على قاسم مشترك بين قصة الشويهدي ( مريومة تغمز الحصان) وقصة محمد المسلاتي :( الطفلة والكلب ) في مجموعة (الدوائر) 1983 ؛ وذلك لأن كّلا من حصان محمد الشويهدي وكلب محمد المسلاتي بمثلان رمزا للذكر الهائج الباحث عن الجنس بأية طريقة.

.. وللشويهدي في هذا الاتجاه قصص مماثلة كـ(بندول الزمن) و(أقوال شاهد عيان) و(مسعود يعاكس مسعودة).

وبالتأكيد فإن محمد علي الشويهدي لا يريد السخرية لذاتها، وفي نفس الوقت لا يرغب في تسليتنا كهدف أساسي, إنه يريد أن يقول أن الدناءة والخسة مندسة بين الصفوف ؛ الاستغلاليون ومنتهزو الفرص يحيَون بيننا.

قد رأى الناقد سليمان كشلاف أن مجموعة الشويهدي القصصية ( أحزان اليوم الواحد) تهتم أكثر ما تهتم بوضع المرأة في المجتمع، وهو وضع رآه الناقد مزريا في جميع قصص المجموعة، يقول كشلاف: " إن وجود المرأة مرفوض بالنسبة للمواطن الليبي في حالتين : أن تكون ابنته أو أخته، مقبول في حالتين أيضا ؛ أن تكون أمه أو حبيبته وفي بعض الأحيان زوجته تلك الهوة هي التي تكشف الفارق الرهيب بين النظرية والتطبيق في تفكير صغار السن ممن يتكون منهم صلب المجتمع الجديد، كما تكشف عن تخلف فظيع في التفكير لدى كبار السن من حيث النظر إلى الأنثى، على أنها جهاز تناسلي فقط، هو مركز عفتها، وبدونه لا تساوي حبة خردل " (8)

ومع تسليمنا بأن الشويهدي قد رصد الحالات التي وجدها بالفعل والتي كانت كثيرة في تلك الآونة، وتسليمنا أيضا بأن النقد ما هو إلا هاديا ومرشدا وليس ملزما للأخذ به في كل الأحوال، والشويهدي قد استثارته الكتابة فكتب ما يحلو له في ذلك الزمن إلا أننا وجدنا الناقد والقاص بشير الهاشمي له رأي عن مجموعة (أحزان اليوم الواحد) ؛ فبعد أن أبدى إعجابه بمضمونها وأسلوبها يقوم بالتركيز على المضمون العاطفي الذي تحمله قصص الشويهدي مبينا ما مفاده أن الشويهدي لا يرينا الوجه الناجح للحب، وإنما يرينا الوجه الفاشل له قائلا " المشكلة الأساسية مع هذه المجموعة القصصية أن الوجه الآخر للأشياء غير موجود، فبالتأكيد مثلا أن الحب ليس هو فقط تلك الحالة من التقهقر والفشل في قصة : ( حب شديد الوطأة ) (9)، وإذا كانت تمثل موقف إدانة لنوع خاطئ ارتبط بالحب من مؤثرات التخلف الاجتماعي فإن هذا لا يمنع من وجود الحــب الحقيقي" (10).

وقد لاحظت من خلال تسلسل نتاج الشويهدي القصصي اختلاف أسلوبه، واختلاف الشكل والمضمون بطريقة أو بأخرى بعد أن تجاوز سن الشباب.. فقد هدأت عنده موجة التذمـّر والقلق فلم تعد الثورة على المواقف تتسم عنده بالعنف أو تصوير المشاهد الساخرة.. قد وجدت خطة هذا القاص في أسلوبه في مجموعته (كحل العين) التي ضمنها قصص عن مدينة بنغازي أن أسلوبه فيها يختلف عن أسلوب مجموعتيه ( أحزان اليوم الواحد) و(أقوال شاهد عيان)، فهما على وتيرة واحدة من حيث الأسلوب ؛ أما (كحل العين) فتختلف في الخواطر والأهواء، فهي تمتاز بالليونة وهدوء الهاجس والحنين إلى الحياة القديمة وذكر المعيشة في كنف الناس الطيبين، أمثال ما كان يحكيه عن أمه التي أبرز صورتها في صفحة الغلاف ـ ففي قصة ( كحل العين نفسها) التي هي عنوان المجموعة، بالموازنة بينها وبين مجموعتيه سالفتي الذكر (أحزان اليوم الواحد) و (أقوال شاهد عيان) نجد أنه كان واقعيا يصف المجتمع من خلال مشهد فوتغرافي، أما في (كحل العين) فقد خاض تجربة رومانسية فنية جديدة تختلف عن رومانسيات الخيالات المجنحة في الماضي.. فـ(كحل العين) قريبة إلى نفسه ضمنها أشجانه وأشواقه وأرانا فيها نفسه عن كثب، اسمعه في هذا الحوار بينه وبين أمّه عندما حضرته الذاكرة، وجاءها يوما ما، بعد سفره الطويل :

" ـ جئتَ يا حبيبي فلا تغادر.. كفاك ترحالا وكفاني عذابا.. ابق.

أجيب العينين الصغيرتين الكحيلتين الجميلتين دون أن أنبس بكلمة :

ـ أيتها الأغلى.. يا حبيبتي.. لا تغضبي.. فما جئت من الأقاصي لأوجعك.. جئت يا حبيبتي كي أغفو على صدرك طفلا هدّه التعب، دمرته المعاناة والترحال والغربة، لا يكاد يذكر أمسه ولا يكاد يعي يومه، لا يكاد يتبين آفاق غده.. جئت يا حبيبتي ككل مرة كي أغمض عيني وأسكن إليك فأرتاح، أغتسل أتوضأ، أتطهر، أتكحل، أصلي في محراب حبك ركعتي عشق، ألوذ بك شأن طفل لجأ مذعورا إلى حضن أمه إثر ضنك وفزع لتحتويني كل مشاعر السكينة والأمان (11)

تتسم قصص الشويهدي بمزية الاستهلال المباشر بكلام الشخصية، كقصة (شحنات الكراهية) التي يتقمص فيها شخصية طفل ويتخذه قناعا لسرد قصته، فالطفل يكره أمه لأنها تتزين بعد وفاة أبيه..." ومضت ستة أشهر، وألقيت في جوفي أول بذرة كراهية حقيقية، وأعلنت لأمي سخطي، ورجوتها أن تقلع عن الزينة والخروج إلى الأعراس والأفراح احتراما لأبي الذي كان يحبها كثيرا ويغار عليها من الطائر الذكر، ونبهتها أنه لو كان أبي حيا لما سمح لها بهذا السلوك، ولكنها كانت لا تعير صرخاتي وملاحظاتي اهتماما" (12)

مع التنبيه بأن القصة السابقة كمثيلاتها تحوي بطريقة عفوية تراثا وعاداتٍ وتقاليد مجتمع الستينيات من القرن العشرين المنصرم، فنره مثلا يشير إلى عادة كانت تمارس في المجتمع البنغازي ولكنها اندثرت الآن، وهي ضرب النادبات بالعصي على صندوق في بيت الميت كما في هذا المقطع:" وتخللت الهرج والمرج والوقوف والنساء المولولات والدقات على الصناديق.."[1]

كما تتسم القصص بتآلف الأحداث وتسلسلها ؛ فقصة (شحنات الكراهية) تبدأ وتنتهي بحديث الطفل دفعة واحدة ولا تبرحه إلى أحداث جانبية أخرى فالطفل يجمل الحدث كله في المقدمة ليجعلنا مشتاقين بعد ذلك إلى التفصيل، فيطلعنا في هذه المقدمة بأنه وإن كان طفلا بائسا الآن ويكره أمه، فقد كان طفلا مدللا إبّان حياة أبيه.. ثم يتلو ذلك بحدث آخر هو دخول سيدي سليمان في حياتهم.. ثم وفاة أبيه...ثم تزيّن أمه للأعراس..ثم أخيرا زواجها بسيدي سليمان وهي قمة مأساته.

وبهذا اكتسبت هذه القصة مزية فنية أخرى في طريقة السرد وهو بعدها عن الاستطراد والتفاصيل الزائدة فاحتفظت بالحدث متوهجا كما جمعت بين الحوار والسرد، وهو ما يميز جل القصص خاصة مجموعتي (أحزان اليوم الواحد) و(أقوال شاهد عيان).

ومن المزايا الفنية في القصة انسجام الشخصيات مع طبيعة الحدث حيث ملاءمة كل شخصية لدورها ؛ ففي قصة (زغاريد الملائكة) مثلا، نرى الكاتب قد أعطى لشخصية الحاج عثمان المزارع البسيط ما يلائمها من الوصف والحس الدرامي، ولم يخرج عن هذه الصورة التي أسبلها عليه في بداية القصة حين قال: "ورغم أن طبيعة حياته الريفية تحتم ارتداء ملابس متواضعة تشوهت بطين الأرض وزرعها، إلا أنه كان أنيق الهندام نظيفه، تفوح منه رائحة طيبة، تكسبه وشيب رأسه ولحيته وقارا وهيبة" (13)

وفي مكان آخر من هذه القصة نجد مزية أخرى من مزايا السرد الجيد وهو التلميح بدل التصريح والمباشرة ؛ فالحاج عثمان التقى بخالتي مبروكة الأرملة في إحدى الإدارات الحكومية التي تشكو إهمال أولادها لها واهتمامهم بزوجاتهم فقط وفي غمرة حديث جرى بينها وبين الحاج عثمان قال لها هذا الأخير من جملة ما قال أن زوجته قد ماتت منذ سنتين، وهو وحيد الآن.. "ورغم أن خالتي مبروكة شاركته أساه إلا أنها أحسّت بفرحة تزغرد في أعماقها إذ ربما.. ربما..من يدري؟

فهذه العبارة الأخيرة عبارة مغلفة ومفتوحة في نفس الوقت ؛ عبارة يطبعها التكثيف بطابعه، قادت الحبكة القصصية إلى رغبة ملحّة في معرفة الحدث وتكاد تصل بها إلى جل الأزمة.. ثم تكراره لكلمة(ربما) الذي يؤكد الخفاء والتكثيف، فضلا عن هذه النقط الفاصلة بينها التي ترمز هي الأخرى إلى احتمال متباطئ أو متباعد في التخمين بتحقق أمل ما لخالتي مبروكة.





_____________________

* ولد محمد على الشويهدي سنة 1942 ببنغازي وواصل بها تعليمه حتى أنهي المرحلة الجامعية.. نشر نتاجه الثقافي في الحقيقة والجهاد والأسبوع الثقافي والجندي والشورى والثقافة العربية والموقف العربي.. تولى رئاسة تحرير الشورى والجهاد والثقافة العربية ومديرا للمؤسسة العامة للصحافة، وأمينا للجنة الشعبية للإعلام والثقافة، وأمينا للمكتب الشعبي براغ، وأمينا لتحرير مجــــــــلة الموقف العربي وأمينا للدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان. ( عن موسوعة القصاصين الليبيين لعبد الله مليطان الصادرة سنة 2000 ـ ص420..

(1) ذاكرة الكلمات . ص15. .

(2) أحزان اليوم الواحد ـ ص138 و139.

(3) أقوال شاهد عيان ـ ص89.

(4) , (5) ـ أحزان اليوم الواحد ـ مؤسسة الانتشار العربي 1999 ـ ص25 ـ ط4 .

(6) أحزان اليوم الواحد ـ ـ ص14 و15 .

(7) المصدر السابق نفسه ـ ص149 .

(8) سليمان كشلاف ـ دراسات في القصة الليبية ـ الدار الجماهيرية 1979 ـ ص 10 .

(9) في مجموعة ( أقوال شاهد عيان) لمحمد علي الشويهدي التي يلجأ فيها المحب إلى رش الرمل علي عتبة دار حبيبته بناء علي توصيات الفقي , الذي كلَفه بنشر الرمل علي العتبة حتى تقبله الفتاة زوجا لها, حتى أنها ستزوره في بيته, لكن الذي زاره هم شرطة الآداب .

(10) خلفيات التكوين القصصي في ليبيا ـ ص 127 .

(11) أحزان اليوم الواحدص165.

(12) المصدر السابق نفسه ص 167.



(13) أقوال شاهد عيان ص49