الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

تيارات الممارسات الخاطئة في القصة الليبية


تيار الممارسات الخاطئة في القصة الليبية القصيرة 1957 ـ 1987
د. عبدالجواد عباس
لا يخلو أي مجتمعٍ من المجتمعات من الممارسات الخاطئة ولحظات الضعف الإنساني، لكن لحظات الضعف إذا تراكمت وتكرر وجودها أصبحت ظاهرة من الظواهر التي ينبغي الكشف عنها ومعالجتها. هــذا ما حدا بكتـّاب القصة القصيرة في ليبيا إلى دق ناقوس الخطر للتنبيه على استشراء تيار الرذيلة، وبروز ظاهرة الخيانة الزوجية وممارسة الدعارة، مبررين أسباب الانحراف بشكلٍ مباشر حينا، وغير مباشر أحيانا أخرى.
لم تشغل الكتابة عن الرذيلة حيزا كبيرا عند كتـّاب القصة القصيرة في بادئ الأمر، فلا نكاد نعثر على ما يشير إلى الاتجاه إلا بنسب قليلة، فلا توجد عند عبد القادر أبي هروس سوى قصة واحدة تتضمن خيانة زوجية، وهي قصة(بضاعة مستوردة)، وتحكي قصة شاب يتباهى أمام زملائه بأنه سيتزوج من خارج البلاد، من بيروت التي أوفد إليها في دورة " ولكن. " كانت فتاة بيروت على صلة وفى الخفاء بأحد أبناء بلدتها، وهو يعمل في شركة من الشركات، وقد قابلته في جولة من جولاتها بالأسواق، وكانت على معرفة به في بيروت... كان( أعزب)، ويسكن في بيت وحده.. "(1)
ولم نجد لخليفة محمد التليسي في مجموعته [ زخارف قديمة ] 1986، سوى قصة [إلى أين ] التي تشير إلى الولوج في باب الرذيلة..وكما هو معروف فإن التليسي كان قد كتب قصصه هذه في فترة الخمسينيات عندما كان ينشرها في صحيفة طرابلس الغرب.. وتدور أحداث هذه القصة حول فتاة كانت وحيدة أبويها، جميلة، ولدت في أكواخ الفقر، كبرت مع أطفال الحي، وتناولتها يد الحجاب، ويقضي العرف ألا تتزوج حتي تتزوج أختها الكبرى حسب المتعارف عليه في ذلك الزمن.. تقدم إليها من تحبه ولكنه فقير، فرُفِض من قبل العائلة.. ثم تقدم لها رجلٌ مزواج، كان قد تزوج خمس مرات قبلها، لم يطل بقاؤها حتى ملـّها.. ولم تذهب إلى أهلها حين طردها مطلقها، لأنهم أنذروها بالعقاب الشديد لو هي تركت بيتها وعادت إليهم، فذهبت تلتمس طريقها في الظلام.. ويروي التليسي بقية المأساة على لسان الفتاة قائلا: " ومن خلال تلك الظلمة الحالكة برز رجل لم أتبينه إلا بعد أن اقترب منى، كنت أؤمل أن أجد عنده المساعدة ولكنه دنا منى وهمس في خبث : أين تريد الحسناء ؟ ولم أجب فقد أدرك من تخاذلي أنني ضحية سهلة، فأوهمني أن الرحمة طوع بنانه، والأمل في أحضانه، وأنه متى كان الغد سيأخذني إلى ضابط أجنبي يبحث عن خادمة. ومن تلك الليلة لم يعد يتردد في نفسي ذلك السؤال فقد عرفت طريقي.. إلى الهاوية "(2)
أمّـا يوسف الـدّلنسي فنجد في مجموعته (قلب وذكريات) قصتين تمثـّلان هذا الاتجاه ؛ أولاهما قصة ( راهب متمرد)، وهي تروي قصة فتاة أحبّت شابا ثم اعترض أهلها عليه، ولما أصرت على زواجه طردوها من المنزل فالتجأت إلى شاب عازب وباتت عنده.. وكان الشاب في طريقه إلى التنسك والتوبة ولكن. " رنت كؤوس الخمر على صحة العشيقة وصاحبها.. وجاء بعد قليل شريكة في الدار ولكنة آثر الانسحاب عندما عرف نهاية البداية إلـى أقـرب ( هوتيل ) "(3).. وأخراهما (أغنية من أفريقيا)، وهي قصّة فتاة إيطالية كان أبوها يتعاون مع الحلفاء في ( روما) سرا وقد أخذت هذه الفتاة تحكى عن مأساتها بعد مجيئها ألي أفريقيا صحبة زوجها، وكان أبوها قد اخفي ثلاثة من الأمريكيين في منزله مع أسرته المكونة من زوجته وثلاث بنات يافعات والرابعة هي الفتاة الراوية للقصة وكانت طفلة في ذلك الوقت. وتقول الفتاة الراوية في هذه القصّـة بأن أبي " قد ادخل النار إلى منزلنا يوم خبأ الجنود الأمريكيين عندنا اشتعلت أول ما اشتعلت في أمي ذات الجمال الروماني الأخّـاذ.. كانت آنئذ جذابة وأكثر من حلوة. وقعت في غرام ( كولونيل) أمريكي، كان هو رئيس الجنود الثلاثة الذين اختبأوا في بيتنا، وأصبحت لا تخفي غرامها عني وعن أخواتي، كانت تجاهر به، كأنما هي لا تستطيع أن تفعل غير ذلك ولحقت بها أخواتي.. وفي الثلاثة أشهر التي سبقت دخول الحلفاء إلى روما واستسلام الفاشيست قتل أبى ذات مساء بأسلوب غامض عندما خرج مع الكولونيل ليخبرنا بأنه نقل إلى المستشفي بعد إصابته برصاص من الثوار الذين احتلوا روما... ويوم خرج الأمريكيون من مخبئهم عندنا تركوا وراءهم أربع نساء حوامل... أمي وأخواتي الثلاث"، وكــــأن الدلنسي يطرق هذا الموضوع على استحياء، فينقل الأحداث إلى بلاد بعيدة، ومجتمعٍ غير المجتمع الليبي.
غير أن التطرق إلى تيار الرذيلة فيما بعد الخمسينيات كثير جداً، فما من مجموعة قصصية إلا وبها قصة عن ذلك أو أكثر ؛ بل إن من القصاصين من أسرف في تتبع التفاصيل الـدّقيقة للحدث القصصي، ومن أبرز هؤلاء القاص محمد بالقاسم الهوني، حتى أنه أثار حفيظة الناقد سليمان كشلاف، وقال عنه في بعض ثنايا نقده "يثيرنا بالمواقف الجنسية، يفجعنا بمآسي المومسات يداعب مراهقتنا بحكايات سندريلا والشاطر حسن، وبعلاقة الرجل مع المومس التي تنتهي إلي حب جارف، يحطم كل العقبات بعد أن تتوطد علاقة الاثنين، وبعد أن يمر بمرحلة التمنع، سواء من الرجل أو من المرأة "(4)، الحقيقة أنه ما من مجموعة لمحمد بالقاسم الهوني إلا وتطفح بالجنس الحرام، أو علي الأقل بالعلاقة الشهوانية بين الرجل والمرأة، حتى في العلاقة المشروعة.. ففي قصة ( سنوات العمر الضائعة)من مجموعته ( غدا يوم آخر ) 1986 يروي قصة أم تعول طفلين يتيمين، تعمل خادمة في أحد البيوت، يراودها ابن مخدومتها عن نفسها فتمتنع، حتي كان ذلك اليوم.. " فيما كانت منكبة علي حوض الغسيل وقد انحسر ثوبها حتى أعلي فخذيها المكتنزتين، فاعتراها الخجل والارتباك، فقامت من فورها تلملم ثوبها وصفقت الباب دونه فيما تضرج وجهها بالاحمرار، وعندما رآها علي هذه الصورة طاش لبه، وعربدت في نفسه الرغبة واستبدت به دهشة كبيرة، كأنه يراها لأول مرة، فقد كانت مغرية بذلك الوضع، فصمم علي امتلاكها واندفع إليها بعد أن ركل الباب بقدمه فانفتح بقوة حتي ارتطم بالجدار وأخذ يضمها اليه ويعتصر جسدها بين ذراعيه ويقبلها كيفما اتفق، فانبرت تقاومه بشدة، غير أنها – أمام قوته وإصراره علي امتلاكها – انهارت فجأة وأحست بالضعف والوهن يدبان في أوصالها، فيما أخذت الأشياء حولها تتراجع، وغدا كل شيء أمامها في صورة ضبابية "(5)كذا كان الأمر في بقية قصص محمد بالقاسم الهوني مثل : (دمية في المزاد) 1984، قصة ( حياة الآخرين)، وقصة ( رحلة النسيان ).. وفي مجموعة (الجسد الصغير) 1978 قصة (العـــــذاب ) وقصة ( لحظة ملل)، وقصة (المأزق) وغير ذلك.
غير أن هذا التناول لم يكن سمة غالبة عند جميع كتـّاب القصّة القصيرة فقد اختلفت درجات معالجتهم لظاهرة الممارسات الاجتماعية الخاطئة، وستبدو لنا طرق الكتّاب المختلفة من خلال استعراض نماذج من كتاباتهم في هذا المحور كما هي عند يوسف الشريف في قصتيه ( الجدار والأقدام العارية) ثمة ما يصادفنا عنده من قصص زاخرة بالرذيلة، إلى جانب المسحة الموحية برائحة الأنثى في بعض القصص الأخرى.. ففي الجدار هناك قصـــة ( الشيء الذي حدث ) ؛ فسعد وزوجته مبروكة التي ادعت أنها ذاهبة الي عرس بنت خالتها، وانتظر الزوج وطال انتظاره الي الساعة الثانية صباحا، " وفي اللحظة التي انسحبت فيها قدماه من السرير وقرر فيها أن يذهب إليها، سمع صوت سيارة تقف، وتحرك بسرعة. مرت لحظات تحركت فيها السيارة واختفي صوتها.. وامتلأت رئتاه برائحة العطر . كانت تهرب بعينيها بعيدا لئلا تلتقي بعينيه ويقرأ فيهما حقيقة ما حدث.. "(6).. ثم هناك في (الأقدام العارية) قصة ( الباب الأخضر ) وقصة ( عملية خطف علنية )، وقصة ( الكلاب ) التي أخذ مضمونها من ذاكرة طفل رأي أمه في وضع مزر عندما كانت الكلاب تنبح بشدة أمام بيتهم في الليل : " دبَت علي قدمين واهنتين، التصقت عيناها بثقب الباب – لم أنفصل عنها - تأرجحت بطرف ردائها، فتحت الباب قليلا، وببطء تراجعت ككرة صغيرة، اصطدمت بالجدار، دفعته بقوة : خش "(7)
وثمة معالجة أخرى، عن طريق الحوار عند القاص عبد الله القويري فـــــي مجموعة ( ستون قصة قصيرة ) هناك الكثير إلى ما يشير للمقاربات الجنسية المستترة التي لم يشأ أن يكشفها كشفا فاضحا، بل أنه يجمل ذلك في عبارات عامة ؛ وعلي سبيل المثال هناك قصـة ( قطرات من الأمل ) من مجموعة ( حياتهم ) 1960، وقصة ( البنت كبرت ) من مجموعة(العيد في الأرض ) 1963 وقصة (شريكان) من مجموعة (قطعة من الخبز) 1965.. وهذه الأخيرة تتحدث عن رجل فقير متشرد، جاء من القرية ونزل المدينة يبحث فيها عن معاش. جاء إلى أحد الأغنياء يطلب عملا، قال له من يضمنك، ولم يخطر ببال المتشرد غير راع في القرية هو الذي يضمنه، بينما الرجل المخدوم يريد الضمان من أحد الأغنياء مثله.. وقد حصل المتشرد علي العمل، ونال رضا مخدومه حتى سلّم له مفتاح المخزن، ولكن امرأة التاجر أصبحت تراوده عن نفسه قائلة له :
"_ لقد كبر.. والدنيا لنا.
_ ولكن لا أستطيع.
_ أمامك الدنيا، كل ما يملك تملكه.
_ انه...
ـ إنه رجل كبير، تعست معه.
كالقطران الأسود كانت نفسه تغلي، فقد تذكر منذ لحظات فقط ما يكنه له، رغم تعارفهما منذ زمن، ورغم معيشتهما معا منذ سنوات طوال لم يذكر يوما أنه كره وجهه أو تمنى له السوء، أو حاول خداعه، أو كذب عليه"(8)
بينما نجد محمد علي الشويهدي يتناول الممارسات الخاطئة بشكل عنيف، وله في مجموعته القصصية ( أحزان اليوم الواحد) أكثر من قصة تتجه الي رذيلة الزنا، مثل قصته ( مريومة تغمز الحصان )، والحصان في القصة دلالة علي الرجل أو الفحل .. فمريومة التي مات عنها زوجها تناولتها العيون الشرهة الطامعة. كانت تعارك الحياة لتصرف علي صغارها فأعياها ذلك. " ودقَ باب البيت بعنف، ونفث صاحب دكان البقالة المجاورة دخان لفافته في وجه مريومة، وتقيأ ابتسامة، وصهل الحصان :
ـ عامان يا مريومة دمرني خلالها الانتظار، ادفعي ديونك وإلا فإني سأرفع الأمر إلى القضاء.. ألا تفهمينني ؟ ادفعي...
ـ ولكني لا أملك نقودا ..
ـ لتكن مقايضة، بضاعة ببضاعة.
وفهمت مريومة، ومات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة، وحدقت مريومة في الفراغ بعينين مكحولتين وغمزت الحصان، أجل غمرت الحصان "(9).
وحالات أخري مشابهة من جرائم الزنا يقدمها الشويهدي في قصصه مع اختلاف دافع كل منها ؛ فـ(اعترافات جريئة) عن فتاة عاشت مدللة، حتى جاء بعدها أطفال فأهملها الوالدان. عندما أصبحت فتية مكنت جارها المراهق من نفسها بدافع الغيظ من والديها.. وقصة ( مسعود يعاكس مسعودة)، عن شاب يغازل فتاة حتي رآهما والدها معا. شك في الأمر وحملها إلى الطبيب فأثبت أنها ليست عذراء، مما جعل (مسعود) الشاب عندما ضاق عليه الخناق يصرح بأنه رآها تركب سيارة مع غريب في الشوارع الخلفية.. ويدخل في هذا الحيز قصتا : ( بندول الزمن ) و( أقوال شاهد عيان )التي صدر بها العنوان.. وبالتأكيد إن علي محمد الشويهدي لا يريد السخرية لذاتها، في نفس الوقت لا يرغب في تسليتنا، إنه يريد أن يقول أن الدناءة والخسة مندسة بين الصفوف ؛ الاستغلاليون ومنتهزو الفرص يحيون بيننا
وفي قصص كامل المقهور هناك قصة ( الممر المظلم ) في مجموعته (14 قصة من مدينتي )1979، حيث أن امرأة تعبر الممر المظلم إلى حجرة رجل عزب، والقصة يسودها جانب سياسي،، إلا أن قصة ( الكرة) في المجموعة نفسها أكثر ارتباطا بميدان الرذيلة كما تبين تأثير الرذيلة على أفراد الأسرة الأبرياء من الرذيلة.. فهي عن ولد صغير يعيش مع جدته، يعافه الأطفال عندما يريد أن يلعب معهم الكرة، يضربه بعضهم، وبعضهم ينعته بأنه ولد الفاسدة... " كلمات قبيحة كانت دائما تلصق بأمه، حتى النسوة كن دائما يشرن إليه ويقلن في غير حياء هذه الكلمة.
ولم يكن يصدق هذا الكلام فهو يحب أمه، ويراها جميلة صغيرة علي وجهها أصباغ لا تحلم بها نساء الحي، وتعيش بعيدا عن جوهن الموبؤ المملؤٍ مشاحنات، وعن التراب والجامع المتهدم والبيوت المنخفضة اللاصقة بالأرض، وكان يحبها جدا علي الرغم من أنها لا تسكن معه، ولا مع جدته حيث يعيش، ولم يتصور أبدا أن هذه الإنسانة الرحيمة الجميلة يمكن أن تكون ما يدَعونه في الحي. إنه يكرههم لذلك.. إنه يكره حتي شارعهم ... "(10).
أما موضوع الممارسات الاجتماعية الخاطئة عند خليفة حسين مصطفي فيأخذ أشكالا مختلفة، فمجموعة (صخب الموتى) تحتوي على أكثر من قصة عن الرذيلة، بالإضافة إلى ما في ثنايا موضوعات القصص الأخرى ؛ فقصة ( حيث تسقط الظلال )، عن رجل ورع تقي يعيش عيشة هادئة، متزوج وعنده ثلاثة أولاد. يذهب إلى المسجد، طويل ووسيم.. بعد هذا التدين والانسجام مع حياته وقع في محظور الحرام، أغرته امرأة غانية وهو سائر في طريقه، كان يشتهي جسمها الطري بالحلال، ولكن أنَى له ذلك !؟.. تبعها حيث أشارت إلى منزلها، وقف أمام الباب، وما أن دخل البيت حتى " تجرَد من كل ما يعوق حركة أعضائه، قفز إلى السرير، ضحك من نفسه، أزعجه أن يكون هكذا طفلا عابثا.. وكانت عملية الاقتحام صعبة، ولم يكن يتصور أنها صعبة إلى هذا الحد، فالسهل لم يكن منبسطا كما تصور، لن ييأس، فإنه ثمة فرصة للمراوغة، ومع هذا فكل حركة من حركاته تؤكد أنه خسر سلاحه في مواجهة جدار من الصلب.. رفعت المرأة رأسها، أدركها الملل، نظرت اليه بازدراء. شك مرعب في حقيقة وجوده كرجل يثق في نفسه. هبط إلى الأرض، ارتدي ملابسه كيفما اتفق وخرج. مشى فوق الرصيف ملتصقا بالجدران، يشم رائحة كريهة تحيط به، ويشعر برغبة في النباح "(11). فدرجة النذالة التي أحسّ بها أشعرته أنه استحال إلى كلب. أسفه العميق علي دينه ومكانته يضارع فشله الذريع في إثبات رجولته التي انهارت، وكأن عصا الانتقام الرباني تلاحقه وتقتص عـلي الفور منه.. وهكذا كان خليفة حسين مصطفي في قـصة ( ظل الظل ) في مجموعة ( صخب الموتى) 1975، وقصة (القضية) 1985 وغيرها.
وليس النغمة التي يعزف عليها خليفة حسين مصطفى هي الحب بأكثر من وجه كما استنتج سليمان كشلاف (12) وإنما يعزف علي الحب الحرام والسخرية بمثالب المجتمع.. ومن ذلك احتيالات الفقيه في المال والجنس، أشهرها في مجموعة (حكايات شارع كالغربي) 1979 إذ تتضح فيها الرذيلة بصورة جلية من خلال قصة ( عصفوران وحجر ) بغرقها الكامل في تيار الرذيلة، إذ تحكي قصة امرأة تزوجت ابنتها من رجلٍ مسن ذي مال، لكن ماله أخذ يقل مما الجأ الأم إلى محاولة طلاقها منه علي أمل أن تزوجها شابا غنيّا ظهر فجأةً، إلا أن الرجل العجوز متمسك بزوجته ولا يريد طلاقها.. وتذهب الأم إلى الفقيه ليفك العقدة " وضع الشيخ يده علي فخذها... نهض متوثبا للعمل، أطفأ ذبالة المصباح وألقي بقبضة من البخور في النار... التقط الفقيه الطبل وهزه عدة مرات.. دنا من المرأة، هبت أنفاسه السريعة في وجهها كرياح ساخنة.. ركضت أصابعه تتحسس صدرها وتنفض عن جسدها صدأ أعوام طويلة.. لا أمل في المقاومة، وها هي نار ناعمة تلهب عروقها، نار بالغة القسوة ولذيذة، تساقط مطر بطيء وخفت حدة الحرارة.. غالبت وهن عظامها ونهضت تلملم ثيابها المبعثرة، خرجت يلاحقها صدى آخر كلمات الفقيه :
ـ ضربت عصفورين بحجر واحد، فماذا تريدين أكثر من ذلك !؟ أكثر من ذلك.. ذلك ؟!(13)
وموجة الفقهاء في القصة الليبية القصيرة واضحة الملامح، فلضحالة الثقافة الدينية والعلمية ارتكب الناس أخطاءً ما زال لظاها يومض حتى الآن، وكم من قاص كتب قصة يكشف فيها أعمال الفقيه في الخفاء، ومن هؤلاء خليفة التكبالي في قصة ( الفقيه ) في مجموعته (تمرد) التي تحكي عن رجلٍ فقير تزوج فقيرة مثله، عندها بنت يافعة لكنها مريضة بالقلب. اقتنعوا بوجود الفقيه بدل الطبيب. أقنعهم الفقيه بأن يبيت معها ليطرد عنها الأرواح الشريرة، بحيث يبيت الرجل وزوجته خارج الدار... " وبينما هو في صراعه مع النوم، وقبل أن يتغلب عليه إذا بصرخة فظيعة تأتي من داخل الكوخ، تقطع السكون كنصل حاد، وتتصادى مع الأشياء وتنتشر كثغاء أليم.. فقام فزعا مرتعشا يقتحم الكوخ تتبعه زوجته ليجد الفقي مرتبكا مضطربا يطلب الستر ويعلن استعداده للزواج.. "(14). وهناك عدة قصص للتكبالي على نفس المنوال في مجموعته الكاملة التي تضم ( تمرد وغربة)، من هذه القصص (وجه الجريمة) وقصة ( سر ما حدث ) وقصة ( كان يعرفه ) وقصة ( حكاية صديقي ).
ولقد اهتمّ كثير من كتـّاب القصة بمعالجة هذه الظاهرة الهدّامة فكانوا يسخرون من الفقيه ويستخفون به ويستهجنون أعماله الشيطانية مثل خليفة الفاخري الذي عالج الممارسات السيئة في مجتمعه، وكان الفقيه إحداها، كما في قصة ( تذكرة إلى الجحيم) الواردة في مجموعته ( غربة النهر ) المذيلة بتاريخ 1969، تتضمن الفقيه كأحد المظاهر السيئة التي تسيطر علي عقول الناس .. لقد أٌتِـي له بفتاة تمزَق ملابسها وتضرب من حولها. ويوجه الفاخري كلامه إلى الفقيه بقوله : " وحينما أتيتَ كان وقارك في إمكانه أن يجعل قرون كل الجان تتهدل في خيبة وخجل. وعلي أية حال فقد جلست بجانبها وطفقت تتلو كثيرا من الكلام الغامض، متطلعا بعين واحدة مثل ديك إلى قميصها الممزق، وشعرها المتناثر، ثم طلبت من الآخرين أن ينتظروك خــــــــارج الغرفة ريثما يتم قهر الجن ابن الزانية "(15). وكذلك كان الفقيه موضوع الحكاية العاشرة في ( موسم الحكايات) .
والفقيه متهم دائما عند الكثيرين باللف والدوران وتحقيق المآرب والأغراض الخسيسة، ففقيه سالم الهنداوى في مجموعته ( علاقة صغيرة) الفقيه ( عبد الرسول)، على الرّغم من الصدمات والاتهامات التي تأتيه من الواعين والأقلام المثقفة لا يتزحزح من مكانه قي أعين النـّاس... فهو لم يكن في موقف الزنا وإنما كان في موقف الابتزاز، فما جاء في مجموعة ( علاقة صغيرة) 1985 كقصة باسم ( الفقيه عبد الرسول) إنما هو من ذكريات سالم الهنداوي نفسه، فقد كان يحكي عنها وعن أمثالها عندما أمضى طفولته هناك في بنغازي.. كان يتذكر جدته حين تأخذه إلى الفقيه عبد الرسول وتقول له : " إنه ولد مكلوب يا سيدي الفقي، جن مرسل بعيد عنك ’ لا يكف عن الشغب والثرثرة والكذب ؛ أريدك أن تكتب له حجابا بيدك المباركة ليعي ماذا يفعل. قال : هذه الشياطين عندي لها دواء يبيد أرواحها الشريرة، اطمئني سيكون ولدا صالحا !.. الفقي عبد الرسول ضحك كثيرا مستوليا علي نقود جدتي مقابل ورقته التي ذابت كلماتها الصفراء أول ما وضعت في الماء "(16).
وكما يلعب فقيه الهنداوي بعقول الناس، فإن فقيه المسلاتي يستثمر مكانته أيضا ليتزوج الفتاة التي يريدها، ولكن عندما دخل عليها لم يجد فحولته، وقهره أن يقول الحقيقة للناس التي تنتظر خروجه، إنه يريد أن يظل هو الفقيه عثمان الذي تعرفه القرية بهيبته وبركته.. اندفع نحو جسمها العاري عدة مرات ولكنه فشل، وراودته فكرة شيطانية ندم عليها بقية حياته ؛ إذ قال في نفسه : " لا يمكن أن أعجز أمام هذه المرأة، سأنتقم وأحطمها، سأظل أنا الفقي عثمان في نظر الجميع ورغم أنف الهزيمة، قفزتُ مندفعا إلى الخارج تاركا زينب تلتحف بجمالها وخجلها، حملتُ الفكرة وانطلقت كحيوان أبله، الجميع سيصدقون ما أقوله، لن يحاول أحد تكذيب الفقي عثمان، اقتربت من الزحام، الأبصار ترمقني بتساؤل ودهشة، لم أهتم بأحد، وأمسكت بذراع أحد شيوخ القرية وتنحيت به جانبا، همست في أذنه بضع كلمات ؛ قلت له أن زينب ليست عذراء... أبصرت أخاها يشق المتزاحمين مسرعا، رأيته يخرج سكينا مـن تحت سترته ويهوي علـي زينب "(17)
يتناظر محمد علي الشويهدي في قصة ( مريومة تغمز الحصان) في مجموعة ((أحزان اليوم الواحد) 1972 مع محمد المسلاتي في قصة ( الطفلة والكلب ) في مجموعة (الدوائر) 1983 ؛ وذلك لأن كّلا من حصان محمد الشويهدي وكلب محمد المسلاتي بمثلان رمزا للذكر الهائج الباحث عن الجنس بأية طريقة..
ومن قصص الرذيلة الصرفة عند محمد المسلاتي قصة ( الثمن مدفوع مقدما ) في مجموعة (الضجيج) 1977.. أما( الطفلة والكلب) فهي عن بنت في الرابعة عشر، أرسلتها أمها لشراء الخبز عند المغرب، عادت في الظلام، لكن الحاج المبروك صاحب الدكان اعترض طريقها لما رآها خائفة، وتقع الطفلة في فخ الحاج المبروك ؛ فتح باب الدكان وابتلع الطفلة، بينما الحاج المبروك يطمئنها ألا تخاف، ويدعوها للجلوس بقربه وهي تصيح بأن أهلها سيبحثون عنها: " وتلاشت الأصوات علي أثر سقوط شيء ما علي الأرض في الداخل، ولم تعد الطفلة تقدر علي الوقوف، أحست بالاختناق، تلاحقت أنفاسها باضطراب، علا النباح، اقترب منها الكلب، ألقى بثقله علي جسدها.. صرخت مرتاعة، أنيابه اخترقت لحمها، انبثقت الدماء علي فستانها الأبيض.. أحست الطفلة بأنفاس الكلب الساخنة تلفح رقبتها، تلوثت جبهتها ببصاقه، سمعت من خلف بكائها ولهاث الكلب الحاج المبروك يقول لها بنبرات متقطعة مجهدة : انتهي كل شيء، يمكنك الذهاب الآن.. لن يكتشف أحد أنك كنـت هنا، سأنتظرك هنا غدا "(18).
وتتكرر قصة الاغتصاب عند كثيرٍ من القصاصين كما في قصة (بدرية) في مجموعة (أحاديث تائه)1984، ليونس محمد الأمين.. و( سنوات العمر الضائعة) لمحمد بالقاسم الهوني في مجموعته (غدا يوم آخر)‍1986.
ولعل من أوضح مسالك القصاصين في تعرية سلبيات المجتمع ما صرّح به القاص خليفة الفاخري في كثير من قصصه بأنها تحمل سلبيات المجتمع ومثالبه وذلك في مقدمة مجموعته ( موسم الحكايات ) حيث يقول : "... حزمة صبار متفرقة أطفأت عيون الكثيرين حتي جفَ بريقها.. وفيما حملوا مقدساتهم في جنازة هزيلة لدفنها في إحدى الحانات، طفقت الشمس تحتضر، وفي سبيل ذلك حاولت أن أكتب هذه القصة المشوهة كي أعرض جانبا من الحياة أكثر تشويها وقبحا ونتانة داخل منطقة النفاق والغموض.."(19)
ومن السمات البارزة في قصص خليفة الفاخري أنها تحتوي على الغش والخداع والجنس.. أما احتساء الخمر بكل أنماطه فحدِّثْ ولا حرج !، هذه الظاهرة تعج بها معظم القصص الليبية في الخمسينيات وتقل تدريجيا حتى السبعينيات نتيجة هموم المواطن وعجزه عن التفكير وإدارة شؤون معيشته، في جو مازال الاستعمار يطل فيه بوجهه.. و " لم تخلُ قصة ليبية تقريبا من أن يكون أبطالها مخمورين.. نجد ذلك في قصص كل من : خليفة الفاخري وعبد الله القويري وبشير الهاشمي وكامل المقهور ويوسف الشريف ومحمد سالم الحاجي وسالم الهنداوي وفوزي البشتي ومحمد المسلاتي والسنوسي الهوني وإبراهيم الكوني وأحمد إبراهيم الفقيه وشريفة القيادي وداود حلاق وخليفة حسين مصطفي وعلي المصراتي الذي هو أكثر قصاصينا تعبيرا عن هذه الظاهرة التي تفشت خلال الخمسينيات لارتباطها الوثيق بوجود الاستعمار.. وهذه الأسماء تمثل غالبية القصاصين الليبيين.." (20)
الفاخري لديه قصص عديدة تمثل ظاهرة الرذيلة كما سبق القول، عن(موسم الحكايات)1974، ومن بينها قصة المرأة التي تخون زوجها وهي بمثابة جارة للراوي الذي لا يفعل شيئا عند مشاهدته الخطيئة سوى الصمت. زوج المرأة يعمل في حقول البترول البعيدة، أما العشيق فيملك حافلة من النوع المغلق الجوانب، وهو من سكان الشارع يقول الراوي: " وتبقى مؤخرة السيارة مجابهة لنافذتي، وعندئذ تكون (نواره)، قد استلقت في المقعد الأخير، وقد دخلته من الباب الخلفي.. يذهب هو حتى يصل بيته تقريبا، وفي أثناء سيره يكح ويعطس بصوت عال، حتى يوهم الجيران بأن شيئا لم يحدث ثم يرجع متلصصا كالجرذ، ويفتح باب السيارة الجانبي بحرص شديد ويقفله وراءه بحرص شديد أيضا، ثم يكون بين أحضان جارتنا العاهرة إلى الساعة الثانية أو الثالثة..."(21).
وتتعدد الحالات الجنسية في (موسم الحكايات) ؛ فمن قصة (الهوان) الي قصة ( حكاية فتاة جميلة).. وفي مجموعة (بيع الريح للمراكب) تجد قصة(طين البحر) مكانا لها بين قصص الجنس والرذيلة، وتحكي قصة امرأة حيث زوجها " رآها تخرج من البيت في أحد الأيام، قالت له إنها ذاهبة الي السوق، تطلع الي ساقيها في افتنان، ولاحظ أن جورب ساقها اليمني به خرق صغير.. ولكن حين عادت كان الخرق في الساق اليسرى "(22).. ومن أمثال هذه القصص قصة (ساعة في حضرة الشيطان) وقصة (ساعة الغروب) في مجموعة (أحاديث تائه) ليونس محمد الأمين 1984، وقصة (أقوال شاهد عيان) لمحمد الشويهدي 1976 وغيرها.
ومشكلة الخيانة الزوجية كثيرة جدا في القصص الليبية، ولها عدة أسباب(كما يبدو من القصص) علي رأسها طلب اللذة بأي ثمن، وعادة التذوق دون واعز من الضمير والدين، ثم سفر الزوج الكثير واطلاعه علي مغريات لم تكن متيسرة له من قبل.. هذه أشهر الأسباب للوقوع في مشكلة الزنا والخيانة الزوجية في القصة الليبية القصيرة علي أقل تقدير.. فذلك الزوج الذي دأب علي السفر لمرات متتالية في قصة ( الرسالة) للطفية القبائلي، في مجموعتها القصصية ( أماني معلبة) 1977 ؛ فامرأته فـي شهرهـا الأخير مـن الحمل، جاء (ساعي البريد) وأعطاها الرسالة، ورجع الزوج أحمد من عمله " وناولته الرسالة، وبمجرد أن صدر منها ذلك العطر المميز عنده عرف مصدرها، ففضها وبعد أن قرأها كاد يقبلها لولا وجود فاطمة أمامه. لقد كتم فرحته وسروره خوفا من إثارة شكوك حوله، وطواها مثلما كانت، وقام فوضعها في جيب سترته الداخلي. إنها شيء ثمين عنده ؛ رسالة من(ماريا) إحدى غواني روما.. "(23).
وقد ينجذب الرجل الزوج وراء مغريات في العمل نفسه، فالجو لا يخلو من المخدوعات أو من متصيدات الرجال ؛ ففي قصة (كلمة شرف) للطفية القبائلي أيضا، من المجموعة السابقة نفسها.. الزوجان يعيشان حياة هانئة يسودها الوئام والتفاهم ورضى كل منهما عن الآخر، إلا أن الزوج أراد أن يزيد من دخله بعثوره علي عمل بعد الظهر، وصار يغيب وقتا طويلا، حتى جاء يوم " قد كانت تلتمس لغيابه الأعذار، رأته بعينيها ولا داعي للإنكار أو المحاورة، يجب أن تواجهه، يجب أن تدافع عن أنوثتها المجروحة، عن كرامتها المهانة. وتغيرت حياتها، تغير العش الهادئ الحالم الجميل"(24)
وبطبيعة الأنثى، فإن لطفية القبائلي تحاول ألا تصف حالة الخيانة كما هي في حالة التلبس، إنها تبتعد عن وصف الحالة الجنسية ساعة وقوع الحادثة لا كما يصفها مثلا خليفة حسين مصطفي أو محمد بالقاسم الهوني أو حتى يوسف الشريف.. وكان هذا دأب لطفية القبائلي في قصة (وغفرت لك) حيث كان الزوج يستجدي زوجته أن تسامحه وتصفح عن حادثة ارتكابه للخيانة الزوجية ضدها ؛ وهي تقول : " إنه لا يستحق حبي، لقد حطم قلبي وجرح أنوثتي... ويزداد لهفة وإلحاحا وتزداد هــــــــــــي صدا فليست خيانته لها بالأمر السهل.. "(25).
وهذا آخر قد زار القاهرة، وجاء الي جميع المزارات تبركا، وكذلك الأماكن الشهيرة، تصرف كسائح.. ولكن التفت عليه جماعة السوء وتفـّهتْ طريقته ؛ إذ لم يكن للجنس اللطيف مكان في رحلته.. نكاية بهم ...ذهب الي مصر مرة أخرى، وهذه المرة لم يزر المزارات التي كان يرتادها ؛ وإنما، عاد ومعه ( ورقة العناوين)، وهي عنوان القصة " أخذ يطلع أصحابه علي الصور والعناوين.. واحدة تركية والثانية يونانية والثالثة أسكندرانية. ودس الصور التي ظهر فيها مع وطاويط الليل، دسها في حزامه مخافة أن تعثر عليها أصابع قلم النبش ومخابرات التفتيش زوجته حليمة الطويلة "(26).. واكتشفت زوجته مع الزمن العناوين والصور التي كان يخفيها في حزامه، وكانت الطامة وزرع المشاكل الخصبة في العائلة كلها والفضيحة التي لم تندمل.
وفضيحة أخرى وخيانة زوجية صريحة..... في مجموعة (5 يونيو حرب أولا حرب) لأبي بكر الهوني، ففي قصة (الفضيحة)، قصة الرجل ذي الأربع زوجات.. وبعد أن باع قطيعا من أغنامه فكر في أن يلج شارع المومسات، وبعد تخفٍّ ومراقبة وصل هناك: " جلس علي سرير متهالك ... واستلقت امرأة علي السرير.. تذكر زوجاته وشعر بالمرارة والندم، ثم تذكر أنه إذا لم يفعل شيئا فستمطره بوابل من الشتائم تطعن رجولته... صعد فوق السرير وحرك الجسد العاري جانبه فلم يتحرك، صرخ بأعلى صوته فلم يجب، ووضع أذنه علي جنبها الأيسر عند موقع القلب فعرف السبب، لقد ماتت العاهــرة "(27).
وأحيانا أخرى تكون الخيانة الزوجية من قبل المرأة، فهنا في قصة ( الرجل النورس) في مجموعة(مقبولة) القصصية لحسين نصيب المالكي ؛ قصة كاتب نشط يهجر الكتابة مدة من الزمن لحزنه الشديد بسبب خيانة زوجته له، وسندها أنه يتركها كثيرا ويتأبط الكتابة.. فمنذ يوم الفضيحة وهو سارح الأفكار علي شاطئ البحر، ينظر إلى حركة النوارس، وتيار داخل وجدانه يقول : " ترجع بذهنك إلى ذلك المشهد الذي لا يكاد يغيب عنك لحظة واحدة، كأنه كابوس ثقيل. تتذكر كيف أطفأت يومها محرك السيارة أمام المدرسة الغارقة في هالة من الصمت، ترجلت، نظرت في ساعتك، قد تأخرت عن ميعادك المحدد، لاشك أنها تكون قد عادت إلى البيت مشيا علي قدميها.. خطوات الي داخل الإدارة، تبدو مشرعة الأبواب، ما إن اقتربت من الباب أحسست أن قدميك غير قادرتين علي حملك، تسمرت في مكانك والعرق يتفصد منك.. أأنت في حلم مزعج أم ماذا، كأنك غير مصدق ما يقع أمامك .. ما أن لمحك المدير حتى ترك زوجتك التي كانت بين يديه في مشهد غرامي مؤثر "(28).
وقد يكون الفتور والتباعد في العلاقة الزوجية، وعدم اكتراث الزوجة بأمور الزوج، وعدم شعوره بالدفء الاجتماعي من ناحيتها مما يوقع بعض الأزواج في الحرام تعويضا عن العلاقة المفقودة، مثل ما حصل في قصة (رحلة النسيان) في مجموعة ( دمية بالمزاد) لمحمد بالقاسم الهوني، ذلك الزوج الذي اتخذ من إحدى الموظفات عشيقة له، لمدة ثلاثة أعوام.. " استطاعت (سعاد) أن تدخل حياته وتملأ قلبه حبا ودفئا متجددين، عرفت كيف ترضي غروره وتعطشه للحب .. فانصرف إليها كلية بعد أن وفرت له أسباب السعادة، وعرف عنها أشياء كانت تشده إليها باستمرار، وتكشف له جوانب جديـدة فـي شخصيتها "(29)
ومشاكل السفر وترك الزوجة لوحدها أو مع الأهل هو تصرف غير لائق عابته القصة الليبية القصيرة كتصرف غير معقول، اتخذه كثير من الليبيين الذين يدرسون في الخارج، وهو يتبين في القصص كاختيار إجباري، أجبرت عليه الزوجة في غير رضى منها مما يجعلها تعيش في قلق مستمر كلما تذكرت بعد زوجها عنها مما يجعلها تعيش في غربة نفسية
ومن النماذج التي عالجت هذه المشكلة قصة ( عندما تهتز المرئيات ) لشريفة القيادي في مجموعتها القصصية( كأي امرأة أخرى) 1984 وتحكي قصّة شاب ليبي اتخذ عشيقة تخدمه وترفه عنه في بلاد الغرب، وقد أهمل الرسائل الي زوجته التي كانت تكتب اليه كل أسبوع ؛ تكتب عن كل شيء يحصل في بلده لتربطه بالوطن.. كانت رسائلها آخر ما يقرأ، ولكنه انزعج جدا عندما وصلته رسالة منها قرأ في آخرها : " الملل يكاد يقتلني.. إنني أدور في دوامة تكاد تفقدني عقلي .. أعذرني فلقد عدت الي العمل، تحياتي يا حبيبي وأمنياتي بالتوفيق، زوجتك منيرة. أثارت فيه مشاعر شتى من القلق، وحانت منه التفاته إلى المطبخ، كانت الفتاة تدير ظهرها إليه منهمكة في عمل بعض أوراق الخس، وقد وضعت بجانبها بضعة قرون من الفلفل الأخضر .. إنه يعرف من الرائحة المنبعثة بأن العشاء كسكسى، وهي وحدها التي أعدته منذ أن علمه لها مثل غـيره من الأكلات الليبـية (30).
ومن موضوعات القصة الليبية في تيار الممارسات الاجتماعية الخاطئة استغلال السلطة للحصول علي مآرب جنسية، وهو من الأعمال الخسيسة التي انتقدها القصاصون في أساليبهم، كل منهم يبيّن حيلة ً من الحيل، وهذا ما تحويه قصة ( ساعة في حضرة الشيطان) في مجموعة (أحاديث تائه ) ليونس محمد الأمين وتحكي قصّة امرأة تريد استخراج رخصة قيادة، وقد أخبرتها صاحبتها فتحية، وهي ذات تجربة، بألا تتحير في ذلك، هناك رئيس القسم سيقايضها، فقط تفعل ما يريده، يكون كل شيء في جيبها.. و "... جلست بجواره، حيث ألقت بنظرة شاردة فيما بين رجليها، حين كشر هو عن أنياب لامعة بيضاء كمصاص الدماء.. كم يستغرق هذا من الزمن ؟! تساءلت نحوه، اللعين، لماذا رضيت بكل هذا، وهل تساوي الرخصة كل هذا الثمن الغالي : لا تجزعي ساعة فقط تكوني بعدها أمام منزلكم... ولمساته اللعينة حيث يكمن المجهول، وطريق قرجي، وأصابعه المتشنجة والممتدة الي كل مكان، وأخيرا وقفت السيارة البيضاء امام أحد المنازل ... اللعين غارق حتي أذنيه لتتم المقايضة، وبسرعة، في وضح النهار، ولتضع في شنطة يدها مظروفا حاويا لكل شيء، ولاشيء"(31).
وفي نفس مجموعة ( أحاديث تائه ) هناك قصة (بدرية)، وهي قصة طويلة تأخذ العديد من الصفحات، موضوعها أن الحاج (ع) ـ كما يرمز له القاص ـ رجل مستغل، يؤجر أكواخ الصفيح للفقراء، منهم أهل هذه الفقيرة (بدرية). شابة في بداية حياتها، اصطحبها هذا الحاج (ع) لتخدم أسرته في منزله الريفي. وحضرت بدرية لم يحضر أحد من أفراد الأسرة. كان المنزل خاليا.. كان عليه أن يأخذها الي أهلها بعد الظهيرة، وجاء العصر وهي تشتغل في المنزل.. وقد لبس الحاج (ع) ثياب النوم، تحايل عليها حتي أدخلها الغرفة.. : " علي قدمين مرتعشتين تحاولين الهرب.. وأي فرار عندما اتسعت حدقتا هذا الغراب، صائحا وهو يمسك بتلابيب ردائك، حاذيا إياك نحو الخلف، بقوة حتي رماك سرير الآهات...
ـ عمي الحاج (ع) حرام عليك، أنا مثل بنتك.
ـ سأتزوجك.. سأبني لك منزلا أجمل من هذا... ووعيها يغيب في دهاليز لم تعهدها من قبل .. بينما يباعد بكل قوة ما بين رجليها.. استمر صوته المبحوح يروي لها الحكايات من كتاب الشياطين.
ـ وسأشتري لك ذهبا وملابس.. وأعلمك قيادة السيارات.. "(32).
وأعتى من هذه القصة، قصة ( ساعة الغروب ).. أو ( جمرة نار يتلهى بها)، تعني هذه العبارة في القصة : امرأة يتلهى بها جنسيا.. فصاحب الدكان الذي أفسد معظم نساء الشارع وفتياته بهداياه وهدهداته وكلامه الرطب، يقضي أوطاره بعد المغرب ولا يقفل إلا بعد العشاء بوقت طويل ـ هكذا تعود منذ سبعة عشر عاما... فعندما يُسْـمَع صرير الباب يقفل " تدرك نسوة الحي أنه يتدفأ بجمرة "(33).. ولكن في يوم من الأيام رجع علي غير عادته، "رجع مبكرا منذ سبع عشرة سنة ليكتشف أن زوجته غائبة، وأنها كانت تغيب عن المنزل كل يوم طوال هذه المدة، لتعود مع آذان صلاة العشاء "(34)؛ هو يخونها وهي تخونه.
وهؤلاء الذين ينغمسون في الحرام بعد الزواج وقبله، أصبح الحرام طعما مباحا في حياتهم، لا يهمهم ما يفعلون، كذلك الشاب الذي يغشي المراقص والحانات، ثم يعود الي بيته مملؤاً بالسكر والعهر، قالت له الراقصة في قصة ( البحر الذي فقد ملحه): " أنت الوحيد الذي لا يصفق لي، في حين أنك تنظر نحوي بلهفة..و تدنو بأذنها نحو شفتيه.. يتمتم، تقترب بأذنها أكثر.. يتمتم، تلصق أذنها بشفتيه .. يتأوه، يقبَلها، تضحك، وتنهار أكوام
الجليد في داخله.."(35).
أما قصة محمد سالم الحاجي (القضية) الواردة في مجموعته القصصية ( ( ثلاثة وجوه لعملة واحدة) فهي عبارات عن ظنون وإثارة شكوك عن خيانة زوجية لم تثبت تؤدي الي كلمة الطلاق.. وبالمناسبة فإن القاص خليفة حسين مصطفي لديـــه قصة بالعنوان نفسه ( القضية ) 1985 وهي تجعل من كل الرجال ذئابا جائعة وراء النساء.. أما (قضية) محمد سالم الحاجي فمضمونها أن الزوج " كان يسير ببطء فشاهد سيارة علي بعد ما تتوقف وتنزل منها هي بالفراشية ذاتها ؛ بالتي لا تخرج بها إلا في الزيارات المهمة، تماسك كي لا يسقط، ودفع ساقيه نحوها ليتأكد، الأمل بسيط في ألا تكون هي، فهو يعرفها من بين الآلاف، أن الخلاص أن لا تكون هي بأية طريقة.. حاول دفع ساقيه وكانت قد دخلت المنزل.. غاب عن كل الأشياء وبجنون طرق الباب، لم يفتح ازداد جنونا وطرق الباب .. شم رائحة الخيانة.. عاد لأسرتها.. راعهم اصفرار وجهه، جرى نحو منزله لم تكن موجودة.. بللت شاربه الدموع ورن الهاتف، قال له والدها سلمي أضاعت مفتاح بيتكم فعادت.. كاد يعض السماعة، قال : سلمى مطلقة "(36)
وبعض الزوجات يداخلها شعور بالانتقام عندما تعرف أن الزوج قد أهملها واستغنى عنها بأخرى أو بأخريات، يستمتع بهن جنسيا.. وما حدث في قصة ( ساعة الغروب) ليونس محمد الأمين السالفة بوقوع الزوجين في الخيانة الزوجية هي نفس مضمون قصة عبد الله القويري ( وبقيت القردة وحيدة ) في مجموعته القصصية ( الزيت والتمر ) 1967.. فهي تمقت زوجها.. لديها طفل تركته مع حماتها وذهبت الي السوق، تلبس (الفراشية) وتظهر نصف عين " اليوم الأول لم تلتفت اليه.. اليوم الثاني نظرت اليه.. اليوم الثالث كلمها فلم ترد عليه، رغم أن كلماته غرست في لحمها.. اليوم الرابع ردت عليه بكلمة.. اليوم الخامس سارت عشرة أمتار لتركب سيارته .. لم ينته الأمر.. وتكرر، ولم تعد تتخلف عن موعده، وهناك في بيتها قد يوجد رجل ملت منذ شهور أن يكون زوجها.. ملها منذ شهور فملته بعد شهور.. سهراته تمتد معهن، ورائحته عندما يعود... "(37).
وكما جاء في قصة يونس محمد الأمين (بدرية) في مجموعته ( أحاديث تائه )، كخيانة زوجية من جهة الرجل فانه يورد أيضا قصته ( كلهم لصوص ) في مجموعته القصصية (الاختيار ) 1985 كخيانة زوجية من جهة المرأة .. فهي زوجة لمقاول غني، كانت قد أحبت من قبل شابا أصبح طبيبا فيما بعد.. ( نورية) هذه المرأة كانت تحضر عرسا.. لكنها حددت ميعاداً مع الدكتور إسماعيل علي اللقاء ليلة العرس.. منتهزة غفلة الجميع عنها أثناء زحام حفلة العرس .. لبست كل ذهبها وزينتها.. انتهزت الفرصة تلك الليلة وخرجت لميعادها مع العشيق الطبيب.. وتخطت الحواجز ومراقبة العيون ووصلت الي شارع قصي عن الرقباء حيث وجدت الدكتور إسماعيل وسرعان ما تلقفتها السيارة.. ذهبت لتروي ظمأ كانت متلهفة عليه من قبل، وهناك أدخلها منزله الخالي : " ويجذبها اليه فتريح رأسها علي صدره وتتنهد.. وعندها من المدخل المؤدي الي حجرة الاستقبال يأتيها الصوت واضحا ومؤدبا :
ـ آسف علي الإزعاج ..
يفاجأ الاثنان، فينظران الي بعضهما في هلع، وهما قد وقفا هناك في أول الرواق،
بين ظلمة وضياء، أحدهما يحمل حقيبة عرفها الطبيب للتو، ففيها يحفظ آلافا وبعض الذهب النادر، وفي يد الآخر مسدسا ضخما عتيقا :
ـ هيا يا مرا اخلعي اللي عليك.
ويكمل الآخر، مشيرا بالمسدس صوب إسماعيل :
ـ ما نظنش الدكتور عنده نية في فضيحة !! "(38)
وهكذا، فإن تيار الممارسات الاجتماعية الخاطئة المنصبّّ على الرذيلة والخيانة الزوجية في القصة الليبية القصيرة قد أخذ حيزا ليس بالقصير كمشكلة في موضوع الاتجاه الاجتماعي الواقعي، خاصة في فترة ما بعد السبعينيات من القرن الماضي . وقد نال حظه وافراً من حيث عرض المشكلات وإبراز آثارها الاجتماعية، مما يسهم في طرائق علاجها بالشكل الصحيح الذي يخدم المجتمع ويحقق غايات القصّاصين في الإصلاح.
*****************
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)عبدالقادر أبو هروس ـ نفوس حائرة ـ المطبعة الحكومية بولاية طرابلس الغرب1957 ـ ص 156.
2) خليفة محمد التليسي ـ زخارف قديمة ـ الدار الجماهيرية 1986 ص90.
3) يوسف الدلنسي ـ قلب وذكريات ـ الدار الجماهيرية 2000 ـ ص191 و 225.(القصص مذيلة بتاريخ الخمسينيات)
4) مجلة الفصول الأربعة العدد 11 لسنة 1980 ـ مقال بعنوان (ربع قرن من العبث ) لسليمان كشلاف ص 179.
5) محمد بالقاسم الهوني ـ غدا يوم آخر ـ الدار الجماهيرية 1986ـ ص 63.
6) يوسف الشريف ـ الجدار ـ الدار الجماهيرية 1979 ط2 ص94.
7) يوسف الشريف ـ الأقدام العارية ـ الدار العربية للكتاب ليبيا /تونس 1975ط2 ص19.
8) عبدالله القويري ـ ستون قصة قصيرة ـ الدار العربية للكتاب ـ 1977 ص284.
9) محمد ععلي الشويهدي ـ أحزان اليوم الواحد ـ مؤسسة الانتشار العربي 1999 ط2 ص 149.
10) كامل حسن المقهور ـ 14 قصة من مدينتي ـ الدار الجماهيرية 1979 ط2ص36.
11) خليفة حسين مصطفىـ صخب الموتى ـ الدار العربية للكتاب 11975ص 39.
12) سليمان كشلاف ـ دقات الطبول ـ الدار العربية للكتاب1978 ص85.
13) خليفة حسين مصطفـى ـ حكايات شارع الغربي ـ الدار الجماهيرية1979 ص106.
14) خليفة التكبالي ـ الأعمال الكاملةـ الدار العربية للكتاب 1976 ص46.
15) خليفة الفاخري ـ غربة النهر ـ الدار الجماهيرية 1994 ص88 ( القصص مذيلة بتاريخ السبعينيات).
16) سالم الهنداوي ـ علاقة صغيرة، الدار الجماهيرية 1985 ص 10.
17) محمد المسلاتي ـ الضجيج ـ الدار العربية للكتاب 1977 ـ ص37 و 38.
18) محمد المسلاتي ـ الدوائر ـ الدار الجماهيرية 1983 ـ ص71 و 72.
19) خليفة الفاخري ـ موسم الحكايات ـ الدار الجماهيرية 1974 ص7.
20) سالم العبار ـ ملامح البطل في القصة العربية الليبية القصيرة ـ ص99.
21) خليفة الفاخري ـ موسم الحكايات ـ دار الحقيقة 1974 ص 44.
22) خليفة الفاخري ـ بيع الريح للمراكب ـ الدار الجماهيرية 1994 ص 44.(القصص مذيلة بتاريخ السبعينيات (
23) لطفية القبائلي ـ أماني معلبة ـ الدار الجماهيرية 1977 ص 66.
24) نفسه ص 58 و 59.
25) نفسه ص 48 و 49.
26) علي مصطفى المصراتي ـ خمسون قصة قصيرة ـ الدار الجماهيرية1983 ص470.
27) أبوبكر الهوني ـ 5 يونيو حرب أو لا حرب ـ دار مكتبة الأندلس ـ 1968 ص 117.
28) حسين نصيب المالكي ـ مقبولة ـ مطابع الثورة بنغازي ـ 1992 ط2 ص 160.
29) محمد بالقاسم الهوني ـ دمية في المزاد ـ الدار العربية للكتاب ـ 1984 ص208.
30) شريفة القيادي ـ كأي امرأة أخرى ـ الدار الجماهيرية 1974 ص88 و 89.
31) يونس محمد الأمين ـ أحاديث تائه ـ الدار الجماهيرية 1984 ص 83 و84.
32) نفسه ـ ص34 و 35..
33) نفسه ص 122.
34) نفسه ص 125.
35) محمد سالم الحاجي ـ الوجه الآخر ـ الدار الجماهيرية 1982 ص 87.
36) محمد سالم الحاجي ـ ثلاثة وجوه لعملة واحدة ـ الدار العربية للكتاب 1978 ص 90.
37) عبد الله القويري ـ خيط لم ينسجه العنكبوت ـ الدار العربية للكتاب1981 ص 69و70.
38) يونس محمد الأمين ـ أحاديث تائه ـ الدار الجماهيرية 1985 ص 30 و 31.
"من كتاب "اتجاهات القصة الليبية القصيرة "للمؤلف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق