حديث للمعلمين
د. عبدالجواد عباس

أنتم الثمرة المرجوة ، أنتم من سيتقلد الأمور بعدنا ، سواء في ميدان التعليم أو الحياة العام بظروفها وتشابكاتها ومواقفها المختلفة .. صحيح أن لكل زمن ظروفه إلا أن الأمر لديكم الآن أهون مما كان لدينا في الماضي نحن عايشنا المرحلة التي كانت بعد الحرب العالمية الثانية بقليل ، كنا أطفال تلك الفترة ، وهي بداية الخمسينيات ، كنا نعي ما يدور حولنا إلى حدّ ما .. ومقارنة بحياتنا الحاضرة ، فإنه في تلك السنين الخوالي كان لا يوجد غير شعبٍ مهمل ، ممزق ومشرّد ، متروك في مهب الريح .. نزعت الحرب منه واستنزفت كل حصيلة للزرع والضرع ، فليس هناك حتى بذور للأرض إلا في ما ندر .. شعب عارٍ من الكساء والغذاء ، وأكثر الأيام تبيت وأنت جائع أو نصف جائع ..
أما بالنسبة للتعليم في ذلك الوقت ، فحدّث ولا حرج .. أكبر المدن الليبية لا توجد فيها أكثر من مدرستين أو ثلاث ناهيك عن جامعة ، فقد فتحت الجامعة أبوابها لأول مرة سنة 1957 في بنغازي .. الواحات والقرى لا توجد بها مدارس عدا دراسة القرآن على يد الفقيه أو ما يعرف بالكتاتيب ولكن فيما بعد صاروا يجمعون أبناء القرى والأرياف والبوادي في مدرسة داخلية بإحدى المناطق .. هذا كان في الماضي .
في بداية السبعينيات بدأت الدفعات الأولى تتخرج من الجامعات والمعاهد ، وهم التلاميذ الذين بدؤوا الدراسة بعد الحرب ، ولكن كانت أعدادا قليلة غير كافية لخدمة البلاد .. إلى هذه الفترة ونحن بلا كوادر علمية أو ثقافية .. كنا نستعين بخبرات من الخارج ؛ ابتداء من المدارس الابتدائية إلى الجامعة .. أغلب المدرسين معارون أو بعقود ، كذلك المحاسبين وحتى السائقين وأصنافا أخرى من العمالة ، ناهيك عن أعمال الورش والصيانة .
في الوقت الحاضر تقلصت العمالة تقلصا كبيرا ؛ فالكوادر العلمية التي تخرجت في السبعينيات وقبلها بقليل ـ كانت كوادر جيدة التعليم وواثقة من نفسها ـ خرّجت على يديها كوادر أخرى في مدى الثلاثين سنة الماضية وكل كادر جديد يستقل بخبرة جديدة .
هذا صحيح وإن اختلفت المعطيات والظروف ، وإن قال البعض ليس هناك أعظم مما كان ، إلا أن هذه العبارة فيها تعسّف وشيءٌ من الظلم للجيل الجديد .. الجيل الجديد أبناؤنا وبناتنا ومصيرنا وقدرنا ونصيبنا ، غير أن الزمن اختلف والحاجات تعددت ، فلم يستطع الإنسان ضبط الأمور النفسية في عصر السرعة والعولمة .. ولكن تستطيع أن تقول أن هذا الجيل لا ينقصه إلا شيءٌ من الصبر والتروِّي ، إنه جيل يريد أن يحقق عدة حاجات في وقت واحد .. هو قلق ومتوتر لعدم تلبية حاجاته تلك ، يلوم هذا ويعتب على ذاك ، ويغضب من المجتمع وأجهزة الإدارة ... ليس هذا هو السبيل لحل المشاكل ، الحل لا يأتي بصورة فجائية ، الحل الحاسم لا يتأتى بين الفرد والمجتمع إلا عن طريق الوعي الاجتماعي بتفهّم أسباب مشاكلنا والعمل جميعا على حلها ، هذا هو الوعي الذي ننتظره دائما ، والذي سيريحنا جميعا .. ولا يتحقق هذا الوعي إلا بعطاء المعلم ..
نحن لا نريد منكم أكثر من استطاعتكم ولكن صدق النية في العمل لا نقبل منكم أن تميلوا وتركنوا إلى التهاون في العمل ، نريد منكم العطاء بنية صادقة ، وإذا أردت عطاء مخلصا فلا تدع المشاكل الخارجية تؤثر على عملك كمعلم .. فإذا كان المعلم يدرّس للمرحلة الابتدائية مثلا ، نريد منه أن يخرّج لنا طالب يدخل إلى المرحلة الإعدادية وهو يتقن القراءة والكتابة ، ويحسن الجمع والطرح والضرب والقسمة للإعداد الصحيحة والكسور وتوحيد المقامات ، بل يحفظ جدول الضرب إلى جدول 12 عن ظهر قلب وما إلى ذلك من بديهيات الحساب المقررة في المنهج ، هذا هو الأساس الذي إذا أتقنه الطالب فلن يتعثـّـر في المراحل القادمة ...
بالنسبة للقراءة والكتابة مهمة ؛ ليس من أجل مادة اللغة العربية في حد ذاتها ، وإنما من أجل المواد الأخرى ، فمدرّس التاريخ أو الجغرافيا على سبيل المثال ، يحبذ أن يكتب الطالب هذه المواد كتابة صحيحة واضحة .. ونحن نلاحظ أن الطالب قد يرسب في المواد العلمية لسبب عدم إتقانه لقراءة المطلوب ، ومن ثمّ لا يفهم السؤال ، أو القصد والمطلوب من مسائل الرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء أو الأحياء .
وبالنسبة لك كمعلم لا نرغب في غيابك عن العمل أو حضورك إليه متأخرا ، فإذا دخلت إلى قاعة الدرس بعد فوات الوقت فعملك سيسوده الاضطراب والاستعجال ، أما الغياب فيكون في حالات نادرة ولظروف قاسية فقط ، لأن الغياب يسرق جزءا من المنهج ، وحتى لو حاولت أن تعوض عنه في وقت آخر فسوف تكون عجولا ومرتبكا ، سوف تغطيه تغطية مضطربة مشوشة ، لا يستفيد منها الطالب إلا النزر القليل .
وحتى تكون في راحة نفسية جيدة غير مضطرب في أداء درسك عليك بالاطلاع الجيد قبل إلقائه .. وأقول الجيد معناها الجيد وليس مرور الكرام ؛ فالمقومات الأساسية للنجاح في أداء الدرس إما الموهبة ، وهي نادرة ، أو تكرار التجربة والممارسة ، وهي الغالبة ، وينجح فيها الكثيرون .. فالموهبة والممارسة لا تخدمان الناحية العلمية فقط ، وإنما الناحية السلوكية أيضا ، والتي منها معرفة كيف تسيطر على الفصل بحكمتك وحلمك ، فكلما سيطرت على الفصل بالسياسة وضبط النفس كانت شخصيتك أكثر تألقا وكنت أكثر نجاحا في عملية التعليم ، أما إذا اتجهت إلى القسوة في جميع الظروف فأنت عاجز .
لتتذكروا دائما أنه لن يحفزكم على الإخلاص والجد في العمل رؤسائكم ، فهؤلاء يمكن مداراتهم بالوساطة والمحسوبية والقرابة والصداقة ، ولكن بحفزكم إلى الجد الضمير الحي وحده ، نعم الضمير الحي الواعي وحده يهيمن على الإنسان فيكون صوته هو الأقوى وحجته فوق كل الحجج ، فلن يكون الإنسان عبدا لنفسه طالما ضميره ينير له الطريق ويدعوه إلى أيسر السبل للإخلاص في العمل .
إذا كان المسجد والإذاعة وحلقات التدريب والندوات منابر للإرشاد والتعليم فإن المدرسة أقوى هذه المنابر جميعها ، لأنها تشمل كل أنواع التعليم ؛ تشمل التربية إضافة إلى التعليم ، فالبيت لا يقوم بالتربية وحده ، لأن حجة المعلم دائما هي الأقوى ، وهي المطاعة أكثر من سواها .. نعم إن التربية الجيدة مُهيّئ كبير لاستقبال عملية التعليم .. التربية ليست مقصورة على إعداد عقلية الطفل الصغير لتلقي الدروس في مراحله الأولى ، بل التربية عملية مستمرة تستوعب حياة الإنسان من المهد إلى اللحد ، هي عملية إعداد للحياة ، عملية نمو للبدن و للسلوك ، ورباه في اللغة بمعنى نشأه ونمّــا قواه الجسدية والعقلية والخلقية .. إذاً التربية عملية تعلـّم مقرونة بالتعليم من بداية حياة الإنسان إلى نهايتها ؛ منذ تعلـّم ما هو ضار وما هو نافع ، إلى تعلم العادات والتقاليد ، إلى تعلم القيم والمثل العليا ، إلى تعلم كيف تأخذ القرار ، وكيف تتصرف تجاه المواقف المختلفة في شتى ظروف الحياة .. وكلما تزوّد الإنسان بقدر كاف من التربية كلما كانت حياته أيسر ووقوعه في الأخطاء والمطبات أقل .. ولنذكر دائما إن عملية تلقي التربية مرهونة بالمدرس في أي مرحلة من مراحل التعليم ، لذلك كان عمل المدرس من أجل الأعمال وأعظمها أجرا ، ومن منا لا يريد الأجر ، ومن منا لا يريد الركون إلى الله ولو في آخر المطاف .
إيـّاكم أن تستمعوا إلى الأصوات المغرضة التي ربما ستلتقون بها وتدعوكم إلى التهاون والتخاذل في العمل ، فمن بين الحين والآخر ستصطدم بنداءات مثل (لا تحرق نفسك في العمل ـ أرخي ـ أنت حد الدنيا تبي تصلحه ـ دورلك تركينة ساهلة أو مالك أو مال ادواخ الراس) ...هذا انحطاط ، وهل يرضى الإنسان لنفسه أن يكون منحطا ، يصنف نفسه ويحطها مع الفاشلين ، مع أن العمل الدؤوب المخلص لا يزيدك إلا عزاً وقوة ونشاطا وشرفا .. لا يرضى العاقل لنفسه غير حياة الشرف.. والإنسان الذي يدعوك للتهاون والبطء واختيار الأعمال السهلة عدوٌ لك وعدو لنفسه أيضا بنص التنزيل "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ماذا سيكون المجتمع لو طلب أفراده لأنفسهم الراحة جميعا ، سيكون مجتمع أموات ، مجتمع لا يستحق الحياة .. لا أقول لكم هذا لأنكم أجرمتم أو لأنكم تخاذلتم ، وإنما لأقول لكم احترسوا فالذكرى تنفع المؤمنين .
هناك عدة أنواع من التربية ؛ هناك تربية أخلاقية وتربية عملية في التدريس وتربية عملية في الصناعة وتربية في الزراعة وتربية عملية وتدريبية في كل فن وعلم ، أدبيات مهنية وحرفية متلاحقة .. ولما للتربية الأخلاقية من فوائد تغذي أنواع التربية الأخرى فإن الإسلام أعطانا جرعات كافية شافية لتربية الفرد والجماعة كي نعيش في وئام ، وألزمنا أن نبث هذه السلوكيات ونعلمها للأجيال حتى تبقى المثل العليا والقيم مستقرة ، فلا يتزعزع المجتمع ولا ينحل الكيان الأسري .. حذرنا الإسلام مثلا من الجلوس في الطرقات حتى لا نؤذي أحدا بالقول أو الفعل .. علمنا كيف نرد التحية بأحسن منها .. علمنا ألا ندخل منازل الغير بدون استئذان علمنا حقوق الوالدين .. علمنا آداب الأكل .. علمنا كيف نتهذب مع الناس .. الإسلام دين ودولة معا ، ولا فكاك لفصل الدين عن الدولة كما أقدم على ذلك بعض الغلاة العلمانيين .. الإسلام لا يقف في طريق التقدم العلمي بل يدعو إليه في كثير من نصوصه.
ولا يصبح المعلم تربويا وفي نفسه شيء من الغش ، لتعارض ذلك مع الرسالة السامية المنوطة به ..فمهما لاقيت من عنت الآخرين أو ظلمهم لا يصرفنك هذا عن الاستقامة في عملك ، وتأكد بأنك تقوم بعمل سامٍ رائع ، لا يهمك من لا يجل عملك ويقدره .. وكلف نفسك المزيد من العلوم ، فمع صدق النية والتصميم على العمل وحفز النفس على الجد تـُفتح أمامك كل الأبواب التي تعتقد أنها مغلقة ، ويتيسر أمامك ما كان يصعب عليك فهمه من العلوم .
الأمنية الكبيرة أن يطبق كل معلم المنهج المسند إليه تطبيقا صحيحا ، ويحاول ما أمكن أن يسد جميع الثغرات التي يرى أنه يعجز عن سدها وذلك عن طريق الاطلاع على الكتب المتخصصة وسؤال أهل الخبرة من الزملاء المعلمين في المدرسة وخارج المدرسة .. المهم أن يحاول المعلم ما أمكن أن يغذي منهجه بكل السبل المتاحة ولا يترك منه شيئا إلا ودرسه بإتقان وصبر .. وبتطبيق المنهج تطبيقا صحيحا من جهة كل معلم سننتظر الرقي في البلاد .. وقد سئل أحد السياسيين رأيه في مستقبل أمّـة فقال : ضعوا أمامي مناهجها الدراسية أنبيئكم بمستقبلها .. وهذا يوضح أهمية المناهج الدراسية في حياة الشعوب ، وبمدى نجاح المناهج أو فشلها يزدهر أو ينخفض مستوى الخدمات والحضارة في البلاد فالنجاح في المناهج ككل له تداعيات ملحوظة في الصناعة والزراعة والتعليم وفي الثقافة العامة ، كما يؤثر في مرافق البيئة التحتية ، فطالما معظم الناس أخذت قسطا من التربية والتعليم النافع فسترى شوارع نظيفة وترى حدائق منظمة زاهية ، ومدينة لا تشكو نقصا في المياه أو الكهرباء , ولا إنسان بدون عمل ، ولا طفلا مشردا ولا شحاذا في الطريق ، ولا جشعا ولا أعمال أخلاقية سيئة ... كل ذلك مقرون بالنجاح في المنهج الدراسي في جميع المراحل وتمكنه من النفوس ..
فإذا نجحنا في توصيل المناهج الدراسية في كل المراحل على حقيقتها واستوعبها التلاميذ بمختلف تخصصاتهم فستكون النتيجة مجتمعا مزدهرا ، ونحن نأمل في نجاح التعليم بصفة مستمرة ، لا لسنة أو سنتين ، هذا إذا أردنا التقدم والرقي .. وإذا ما استمر التعليم في نجاحه ، معنى ذلك أننا كوّنا كوادر من المتخصصين الماهرين في نهاية المطاف ، كوّنا مرتكزا نعتمد عليه ونطمئن إليه في تعليم الأجيال القادمة ..
وإذا وصل العلم إلى طالبيه بهذه القوة وهذه الجدية ، فإننا قد قمنا حينئذ ببناء الفرد الذي هو بناء للوطن وبناء للدولة التي تستقطب كل جديد مفيد في العالم .. وإذا علمنا التلميذ تعليما جيدا نخضعه للامتحان ، الذي سيؤديه بكل رغبة وإمكانية عالية ، وحينئذ يختفي الغش ويختفي الطرد وتختفي كل المشاكل والتوترات بين التلميذ والمعلم من جهة وبين المعلم وأولياء الأمور من جهة أخرى والتقويم والقياس الذي نقصده في المناهج التربوية هو عبارة عن اختبار مدى الانجازات التي حصلت واستفادها الطالب من المناهج والمقررات ، وهل يستحق الطالب اجتياز المرحلة التي درسها إلى مرحلة أخرى ، هل الطالب جدير بأن ينقل إلى الصف الأعلى والطالب الذي يتعرض امتحانه لكثير من التعديلات بزيادة درجات لا يستحقها ثم ينتقل إلى الصف الأعلى وهو لم يهضم بعد المرحلة السابقة فتلك مشكلة المشاكل .. والسبب الرئيس في تردي التعليم ومشاكل الدور الثاني وحمل المواد واتخاذ إجراءات الفصل من الدراسة وتركها قبل استكمالها هو من مسببات إصابة الطالب بالفشل وخيبة الأمل التي قد لا يكون سببها وحده وإنما تنحصر أيضا في عدد من المعلمين الذين درّسوا للطالب ولم يؤدوا دورهم كما يجب خلال حياة الطالب الدراسية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق