حول الشكل
والمضمون في مجموعة (الخيول البيض) القصصية
د. عبدالجواد
عباس

المجموعة
للقاص أحمد يوسف عقيلة، صدرت عن الدار الجماهيرية للنشر سنة 1999، تحتوي علي عدد
23 قصة قصيرة. والمكان أول ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة بالنسبة للعناصر
الفنية للقصة، حيث أنها متخمة بأنفاس القرية والريف والبداوة معا.. مكان ذو
سمة جبلية في كل القصص، وحتى أكون منصفا أقول بأنها قصص متشبعة بنوع الحياة
التي يعيشها سكان ريف الجبل الأخضر خاصة ً، وليس بالدرجة الأولى باديته تلك
التي تقع في طرفه الجنوبي، أو ما يعرف عندنا بمنطقة (البر)، تلك المنطقة الجرداء
التي أسبلت على ساكنيها بعض الخشونة وحدة المزاج، وليس ذلك سبة ٌ في حقهم، وإنما
هي الطبيعة هكذا، وإلا فإن دورهم في الجهاد لا يحتاج إلى دليل.. هذا من ناحية، ومن
ناحية أخرى، فإن بين سكان (البر)الشبه الصحراوي الأجرد وسكان الجبل المغطى
بالغابات فرق دقيق لا يكاد يُرى بالنسبة لعابر سبيل ؛ إنه فرق في المعاملة وفي
الحجة ؛ فسكان البر أكثر كرما وأوثق كلمة، ويبقى هذا الفرق قائما وإن اتحد سكان
البر وسكان الجبل في كثير من سبل المعيشة، من عمل وأمثال وأقاويل، إلا أن سكان
الغابة أكثر رقة وأكثر تفاهما فيما بينهم وأكثر فوضوية.
أحمد
يوسف عقلية كانت قصصه تنطلق من عمق هذه الفئة من سكان الجبل الأخضر ؛ فئة
الذين يسكنون الغابة والقرى الواقعة فيها، كـ(عمر المختار وباندس
والوسيطة ومسه وقفنطة وقرنادة والفائدية وقصر ليبيا وزاوية العرقوب....) وغيرها،
وإن شئنا فلا نستبعد قرى أخرى كـ(الحمامة والحنية وطلميثة) مع أننا نلمح بعض
الفروق الباهتة التي فرضتها طبيعة الشاطئ والبيئة الساحلية.
نقول
أن بروز الطبيعة في قصص أحمد يوسف عقيلة يمثل طابعا سرديا مميزا بالنسبة للمكان
الذي ساعد على تمرير كثير من قصصه، ليس ذلك عن قصد منه، فهو ابن البيئة التي
تشرّبها جيدا، ويتحدث من خلالها. والتأثر بالبيئة لدى الكتاب والشعراء سمة طبيعية
وقديمة، فلا ضير علي أحمد يوسف أنه عزف على هذا الوتر, وغلـّف قصصه بشعاب الجبل
الأخضر ووديانه ووهاده، غلفها بصور وأشياء يعرف أنها قريبة منا وعزيزة علينا، إنه
أحاط قصصه بسياج من الدوح، به عبق الشماري والبطوم والخروب والعرعر.. إننا
تلقفناها لأنها قريبة إلى نفوسنا، لأننا نحب الطبيعة مثله وأبناءها مثله. هذا عن
المكان، أما عن الزمان فإنه في أية قصة قد يمثل الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ففي
مجموعة ( الخيول البيض) فإن الزمن السائد هو الماضي كخصيصة سردية سائدة، في نحو :
" أقبل الليل، تلاشت الأدغال والأودية ونتوءات الجبال "ص7
أو " كان (جيطول) يصف لزبونه العاشر (جبة ثعبان) " ص47، أو
" هذا ما قالته جدتي بعد أن تحسست جبهتي " ص87، وغيرها، كلها تثبت
أفعالاً ماضية، محاكاة للواقع، إنما البناء الفني هو الذي أعطاها سبل النجاح،
فتبدأ بعض القصص بمقدمات قبل الشروع في الحدث الرئيس، مما يخدم الحبكة التي تربط
بين الأحداث، وهو قد وضع ذلك في قصص كثيرة مثل مقدمته لـ(كاتب الأماني)..
يقول " إمام قريتنا يمتلك مفاتيح الجنة... وهو في كل جمعة يلوّح لنا
بالمفاتيح من فوق المنبر.. وفي آخر جمعة من رمضان توعّد الذين يتركون
الصّلاة بمجرد رؤيتهم لهلال العيد.. ووصف لنا أودية جهنم "ص29.. هذه
المقدمة مع البناء اللغوي المتماسك استطاع بها النفاد إلى الغرض، وهو أن الفقيه
يلعب على عقول الناس.. وكان تأثير المقدمة جيدا أيضا في قصص (الرؤيا ) و( الخيول
البيض) و(تواطؤ)، لكن المقدمة في قصة (المرآة) كان نجاحها ضئيلا ؛ لأنه لا علاقة
لموقف الحاج ( الداهش) بموقف زوجته العجوز (تكاميل) المختصة بكل أحداث القصة..
أمّا بدايات القصص الأخرى فمناصفة بين السرد المباشر والدخول في الحدث للوهلة
الأولى، كقصص(وصفة) و(المفرش) و (اختيار) و ( تحولات) التي يقول فيها : "ذات
مساء شرّفنا سيادة الوزير بزيارة مفاجئة, حتى إن المسؤولين في مدينتنا لم يأخذوا
بذلك خبرا ليقوموا بتنظيف الشوارع والميادين الرئيسية " ص137.. وأكثر القصص
على هذه الشاكلة، تبدأ بالسرد المباشر، إلا أن قصة (شوال التمر) تبدأ بحوار، ومجمل
القصص تحتوي على حوار بعد المقدمات مباشرة.
لكن
ماذا عن المشاهد العامة للجبل الأخضر، وتبيان التراث من خلال الصور، بما في ذلك
العادات والتقاليد والممارسات اليومية التي تكاد أن تكون ثابتة.. إن أحمد يوسف
عقيلة يقدم المشهد علي أنه تحصيل حاصل، أو أنه شيء عادي يحدث بشكل تلقائي، بحيث
تبدو الفكرة مبتذلة ومتكررة ومعهودة.. فعن صورة البرد الذي يشتهر الجبل الأخضر
بشدته وقسوته يقول في (الخيول البيض) : " في الليالي الأربعين تتجمد أطرافك،,
تبتعد أصابع يديك عن بعضها.. تصطك أسنانك.. ترتعش شفتاك.. يزرقّ لونك ويتقلص جسدك،
حتى إنك تحسّ بأن ملابسك غدت فضفاضة بعض الشيء "ص23.. إلا
أن قاصا آخر من خارج البيئة، ولكنه مغرم بالجبل ويحب السياحة فيه، هذا القاص هو
عبد الرسول العريبي، إنه يعبر عن مشاهد الجبل بشيء من الفلسفة، فيها نكهة الطرافة
والتعجب، إنه يقول عن البرد في الجبل الأخضر في روايته ( تلك الليلة ) : "
لا أحد يقف في مواجهة البرد في الغابة إلا حطب الغابة نفسها " ص.. أمّا
عن الذئب عند أحمد يوسف. فإنه يقول في قصة (توطؤ) : " قريتنا تقع
وسط الغابة.. لذلك فنحن نسمع عواء الذئاب كل ليلة. أصبح العواء مألوفا
حتى إنه لم يعد يلفت الانتباه، بل لم يعد يعنى شيئا لكلاب قريتنا. " ص101..
بينما يقول عنه عبد الرسول العريبي : " الذئب صعب التعرف عليه
إلا ميتا " ص.. ومع أن طائر الحجل شيء عادي بالنسبة للجبل فلم يعرّج عليه
أحمد يوسف في مجموعته إلا مرة واحدة، فيقول في قصة (هدهد) : " "
في أواخر الربيع يعتليان قمم الصنوبر ترقبا للحمام القادم مع القبلي،
ويصغيان إلى زقزقة صراديك الحجل." ص 79، إلا أن عبد الرسول العريبي يقول عن
الحجل في روايته : " الحجل حين يكون جريحا يتحول إلى أرنب برّي، تحمل
جراحها وتهرب في حمية اللحظة " ص.. هذه الصورة التي تبدو معهودة لدينا ولكن
لم نكن لنعيرها اهتماما, وكأنما بتصوير الكاتب لها فكأنما فقدنا شيئا ووجدناه..
وعن الريح التي لا تخلو منها بيئة الجبل الأخضر يقول أحمد يوسف : " في ليالي
الشمال الباردة. حينما تعوي الرّيح فوق الـذرى العالية يندسَّان تحت
ألواح الصخور كطائر (نيسي) يطردان البرد بدفء الأجنحة " ص79.. في حين يعبر
عبد الرسول العريبي عن الريح في الجبل بقوله : " نهضت من جديد عالية، تركض في
الغابة، كل الغابة تتحرك وكأنها تمشي.. هنا تستطيع أن نرى
الله في كل شيء " ص
لكن ماذا دسّ لنا أحمد يوسف عقيلة في
المضمون، ماذا أراد أن يقول للمجتمع من حولـه ؟ ما الذي يختفي بين السطور؟.. إنه
يدسّ ملاحظاته، يومئ لنا من طرف خفي بما يحب وما يكره من ممارسات هذا المجتمع، لا
لأنه يخدعنا، لكنه يكشفنا ، إنه جعلنا نسرق الأسواق العامة بطرق ملتوية ونثري بها
أنفسنا كما في قصة (المسخ)، وباسم الوجاهة جعلنا نتحايل علي النساء والفتيات
ونسلبهن أعز ما يملكن كما في قصة ( الرؤيا) وقصة (الصرّة). وبذلك فإنه
لم يقف عند حد الطبيعة التي بهرتنا.. ومن الظواهر الفنية أيضا اتكاء القاص على
بنية درامية، لأنه اعتمد على الحوار في كل قصص المجموعة. كما في قصة ( كاتب
الأماني) إمام مسجد القرية الذي كان يخطب فيهم عن ليلة القدر، وقد أوعز لهم
إن لم يروا نور ليلة القدر أن يكتب كل منهم أمنيته في ورقة ويدسها تحت وسادته،
فستأتي الملائكة وتقرأها، ومن لا يعرف الكتابة فعليه الحضور ليكتبها بنفسه.
وازدحمت دار الشيخ بعد صلاة التراويح، وجاءت الحاجة مسعودة فبادرها الشيخ
قائلا :
ـ الحاجة (مسعودة)..
أمنيتك ؟
تنحنحت.. سعلت.. حكت
رأسها...
ـ أنا عجوز في آخر
عمري.. وحيدة.. وقليلة والي..
ـ فهمتُ.. الحاجة مسعودة تتمنى أن تعيش في كنف رجل بقية عمرها.
ـ يسلم فمك.. يا سيدي الشيخ.
خرجت سألتها العجائز :
ـ
ماذا تمنيت ِ يا مسعودة ؟
ـ وماذا يمكن أن
تتمنى عجوز مثلي.. غير سترة وشهادة. ص 33 و 34.
الحوار في القصة سمة سردية وجزء من الأسلوب، وليس من الأمور المحتومة دائما
فيها، فهو ثانوي بالنسبة للقصة، إلا أنه ضروري بالنسبة للمسرحية، إذ تروي الشخصيات
قصتها بنفسها من خلال الحوار، بينما في القصة ينوب عنها الراوي.. ولكن كلما
تمكن الكاتب من إيراد الحوار في قصته بصورة مقبولة كلما أعطاها ألقا ووضوحا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق