الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

شهادة وذكرى


شهادة وذكرى
د. عبدالجواد عباس
    عندما حططنا رحالنا في مساء تلك الرحلة أخذت الريح تشتد وتشتد ، فقد كنا في نهاية فصل الربيع لم تصمد الخيام ، أخذت تتهاوى أثناء الليل ، لم تجد فيها المعالجة ، بات أصحابها في العراء، أو محتمين تحت شجيرات العرعر التي تعمر بها المنطقة... أما خيمتي أنا ومن معي من الكشافين فدعمنا أروقتها بكل الأحجار المحيطة ، لكن الريح كانت أثقل منها ، لقد نثرت الحجارة ، وأخيرا ً وقعت الخيمة على من بقى فيها ... كان بأيدينا – نحن الحراس – فوانيس الكيروسين التي سرعان ما انطفأت واشتعل بعضها .
       في تلك الرحلة الكشفية كانت بداية معرفتي للمر حوم إبراهيم الأشيكع ، كان ذلك في بداية الستينيات من القرن الماضي ، لقد عرفته قبل أن أعرفه مربيا ً ورفيق درب بمعيه التربية والتعليم .. في الكشافة كان من بين الممتحنين الذين امتحنوني فيما يسمى بدرجة المبتدئ ، في ذلك الوقت ، كان منذ ثمان وثلاثين سنة ، كنا معسكرين في (رأس الهلال ) قبالة جرف ينحدر على البحر مباشرة، فحذر المرحوم الجميع بأخذ الحيطة والحذر عند الاقتراب من تلك الجهة ، فقد كان قائدا ً من بين القادة الذين يرافقوننا في الرحلة ، أذكر منهم العزومي ، وفيتور ، وبوربيدة ، ورتب أخرى منهم عبد السلام المتريح ومسعود عبد الجليل ومسعود عبد الجليل وعبد القادر الشاظوف .. جاء المرحوم في بداية الليل لتفقد الحراس، ولما كنت مكلفاً بطهي الطعام إلى جانب ما أقوم به من حراسة ، تنتهي نوبتها الساعة الثالثة صباحا ً ، فقد نصحني بأن أضع الفاصوليا في الماء لتفقد صلابتها ريثما يحين تجهيز وجبة الغداء ، وفعلت ، والظاهر أنني أسأت تقدير كمية الطعام ، فلم يتناسب مع عدد الكشافين فبقى أكثرهم جائعين ، أو لم يطلهم الغداء أصلا ً .
       كان هذا بعضا ً من الذكريات عن تلك الرحلة التي جمعتني والمرحوم إبراهيم لأول مرة ... لم تنقطع العلاقة الطيبة بيننا بعد ذلك ، فبين الحين والآخر تجمعني معه علاقة عمل مشتركة ، فأنا معلم وهو معلم ، إلى أن أوصلنا إلى أعتاب التفتيش التربوي .. جمعتني معه أكثر أعمال الامتحانات ، كنا نجلس في أوقات الراحة، ولا نخرج من جلستنا إلا بمعلومة ثقافية أو فكرية أو نادرة ، أو خبر شارد عثر عليه في بطون الكتب أو روى له ، أو طرفة حدثت أمامه، أو سمع عنها ، خاصة أثناء رحلاته في أفريقيا  .
       من خلال علاقتي بالمرحوم الأشيكع ، عرفت فيه الهدوء والسكينة وكرهه للفوضى وتجاوز حدود الأدب .. لا يأخذ من الكلام الكثير إلا ما يفيد الموقف الذي هو فيه .. بكلمات قليلة .. وبأسلوب مقتضب يحسم المشكلة ، ويشعرك بان الأمر قد انتهى ، أو ليس في ملكك المزيد .. كل ذلك وأنت راض عنه تمام الرضا .. معاملته تقول لك يجب أن تحترمني ، أن تقف عند حدك ، هيبته تفرض عليك الاحترام ألا تلومه أو تتعقبه في شيء رآه هو صائبا ً .
       لم أعرف إبراهيم الأشيكع غضوبا ً ولا عربيدا ً ، إنه يتصرف مع عمله بهدوء ، ويظهر ذلك حتى في استعماله للأدوات المكتبية ، فلا تسمع فوضى ولا إرباك ولا وقوع أشياء ، حتى أنك لا تكاد تسمعه وهو يقلب الأوراق أو يفتح الحوافظ الحديدية أو يغلقها ... يلاحق من عرف عنهم الجد والأمانة في العمل ، ويحرص على ملازمتهم له ، فقد صادف يوما ً عندما كان رئيسا ً للنظام والمراقبة في أحد الامتحانات العامة حين راعه انصراف المعلم سليمان بولافيه عن عمله فجأة ، وهو من ذوي الكفاءة والحزم في أعمال الامتحانات ، وسرعان ما ذهب إليه المرحوم في منزله واسترضاه وأعاده إلى العمل .
       المرحوم إبراهيم كان إنسانا ً فاضلا ً ، وصديقا ً نبيلا ً ، ومربيا ً ، بكل ما في هذه الكلمة من معنى محبا ً للنظافة ومحافظا ً على أداء الصلاة ، كان ورعا ً ، صالحا ً ، جدير بأن بقى ، لكن الموت هذا الذي يأتي بدون استئذان كم فاجأنا من دون سابق إنذار ، وخطف من بيننا من نحبهم ونرغب في بقائهم وكان الفراق ، وكان الحزن ، وكم حانت ساعات الفراق الحزينة في هذا العالم ، غير أن الموت يبقى أمر طبيعي ومصير محتوم ، فوق رؤوسنا ، نعلمه منذ ولادتنا ، يجب أن نستقبله كما نستقبل أي قانون طبيعي في الحياة ، فإذا رحل أحدنا نودعه  بهدوء ونعود لأعمالنا لننتظر الدور على آخر .

سيدي امحمد المهندس


سيدي امحمد المهندس
د. عبدالجواد عباس
.. يفرح الجميع لحضوره مستبشرين بأن يسمعوا منه ما يسرهم من طيّب المزاح، يخفف عنهم ما انتابهم من هموم وتبعات الحياة فهو يثير فيهم الفرح والسرور أينما حل، حتى في الأوقات العصيبة.. فقد صارع الحياة وصرعته كثيرا فصار يعاملها بدون مبالاة، لا يعطيها ذلك الشأن الكبير من نفسه ولا ذلك الخاطر الذي يحيره.. لا يهمه أن يحصل من هذه الحياة على شيء أو لم يحصل ؛ فرغم ضيق ذات يده فهو لا يشكو ولا يتذمر، بل تراه في معظم الأوقات هاشا مبتسما للجميع، يتكلم مع أصحابه وغير أصحابه بنفس راضية وروح خالية من الخبث والأنانية.. في الواقع هو محبوب من الناس فبحكاياته الساخرة يجعلهم يضحكون، ويتقربون إليه كلما حانت الفرصة للقاء معه ليزيدهم من الدعابة والمرح ما استمرت الجلسة معهم، فكلماته واضحة وأسلوبه مغرٍ.. ينجذب الناس إليه لأنه يتحدث بلغتهم التي يعرفونها، فضلا عن معرفته الممتازة بمختلف الناس.. فمن يعرفه يفرح للقائه ويسرّ لوجوده فيسعى إليه ليستحثه على الكلام.. حتى وهو يرفض الكلام.. حتى وإن كان عكر المزاج سيقول كلمات تنشرح لها الصدور وتبتسم لها الثنايا.. فهم لا يملون استثارته ليحكي لهم عن المقالب التي حدثت معه، كمقالب على الحمّاس وسعد بوصهيبة أصدقاؤه المقربين.
يغطي رأسه بشنة لا يلبسها بطريقة اعتيادية، ولا شكلها كالشناني الأخرى فهي مستطيلة نوعا ما، ومما يزيدها تميّزا أنه يطوي مقدمتها الأمامية فتنحسر جبهته وجزء من رأسه.. يلبس عادة الملابس الإفرنجية بجاكة يميل لونها إلى اللون القاتم.. وقلما رأيته يلبس ملابسَ عربية.. ميزة أخرى عُرف بها، وهو تعوده ركوب الدراجة إلى عمله كل صباح، وقد شاهدته طيلة أعوام مدمنا على ركوبها، يعتليها في غدوه ورواحه، وربما هذه الرياضة هي التي جعلته سليم البدن حتى شارف على التسعين وهو لا يشكو من مرض، بل حتى الأمراض السارية اجتنبته كالسكر وضغط الدم فضلا عن روحه المرحة وحسن تقديره للأمور التي ساعدته على اجتياز مطبات الحياة المختلفة ؛ فهو ليس ممن يضخمون المشكلة أو ممن يجعلون من الحبة قبة كما يقولون.
دعته الحاجة ذات مرة للذهاب إلى درنة.. وذهب إليها ثم رجع فسأله أصدقاؤه عن الاستقبال الذي استقبل به، فبادرهم بأنه ما أن وصل إلى المنحدر المعروف بالعقبة الذي يؤدي إلى درنة حتى رحبوا به، فقد قوبل بالسيارات الصاعدة التي لابدّ أنها كانت تحييه وتستقبل قدومه.. ثم سئل عما إذا كان قد تناول الغداء هناك في درنة فقال : والله كنت على عجل جئتُ وتركت اللحم الوطني الذي ذُبح من أجلي معلقا بالمجازر لم أذقه.. نعم لقد كنت على عجل.
ومن مآثره أيضا التي يمتاز فيها بسرعة البديهة والرد المباشر الذي لا يبطئ إنه كان جالسا إلى جانب سور مسجد الخلفاء القريب من بيته فمر به أحد معارفه الشيّاب يهرول فقال له : لماذا تجري يا رجل ؟ فقال الشايب أريد أن أصلي.. فقال المهندس : أنت وصلت وستصلي فلِمَ العجلة ؟ فقال الشايب : أنا خائف، خائف من النار.. فقال المهندس بلهجته المعهودة : اللي تخاف منها ما تخطاك.
اسمه امحمّد طاهر السعيطي..أما سبب تسميته بالمهندس فلذلك قصة.. فقد لازم العمل مع محمد سالم العبيدي مهندس الأشغال في فترة الخمسينيات إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي، وله مع صاحبنا مقالب وحكايات طيلة تلك الفترة يجل الموقف عن الحديث عنها.. المهم أن الطـرّاد الذي يضخ المياه من عين الدبوسية إلى البيضاء مرورا بالقبة والأبرق قد تعطل.. ولزم هذا الحدث تجمّع المسؤولين من تلك المناطق للأشراف والمشورة على إصلاح تلك المضخة، وذهب صاحبنا برفقة محمد سالم الذي كان يحبه ولا يستغني عنه.. ووصلوا عين الدبوسية وجدوا جمعا خفيرا من الناس تنتظر وصول طاقم الصيانة.. وتعرّف امحمد صاحبنا على بعض من كانوا مشرفين على إدارة المضخة الذين كانوا ينتظرون المهندس الميكانيكي الذي سيصلح الآلة، وكان بيد صاحبنا عود التقطه عندما اقترب من المضخة وضربها به وقال لهم بلهجته المازحة (ولعوا الموتور يا أولاد) وكانت قد أعيتهم محاولات التوليع السابقة وقد باءت كلها بالفشل، ولكنهم قالوا ها نحن نولع جبرا لخاطرك فقط، غير أن المحرك اشتغل، نعم اشتغل بقوته الكاملة ورفع المياه سريعا إلى مناطقه البعيدة، مما جعل الواقفون جميعا يصفقون لعودة المحرك واستحسانا بالفأل الحسن الذي كان بقدوم صاحبنا وضربة عوده على المحرك.. ومنذ ذلك اليوم لصق به لقب المهندس ولم يذكروا اسمه الحقيقي إلا لماما.. ومقارنة بهذا الحدث فقد مرَّ سيدي امحمد بعد حادثة طراد المياه، وكان الخبر قد انتشر بين الناس وصار كل من يقابله يدعوه بالمهندس من باب المودة والاستظراف.. المهم إنه مرَّ على السينما الشرقية وهي في دور البناء، وقد كان ذلك اليوم هو يوم صب الخرسانة، فوقف سيدي امحمد قرب العجنة ولمسها وقرّبها إلى فمه كمن يتذوقها وقال لهم : هذه العجنة ليست جيدة، وهذه الألواح غير محكمة، أوثقوها جيدا وإلا ستقع ثم مضى ولم تغطي العجنة بعد مغادرته غير نصف السقف ثم تداعت مما جعل من سمع كلمة سيدي امحمد يقولون (من بدري قالها المهندس).
سيدي امحمد المهندس من رموز البيضاء التي لا يمكن نسيانها، فالناس الظرفاء الذين يحملون الود لجميع الناس على السواء، يحبون الخير المطلق للجميع ويكرهون الشر المطلق لهم لا يمكن أن ننساهم فدائما نحن في ذكرهم الطيب ومآثرهم التي لا تغيب عن الأذهان.

سريب أحمد الفيتوري


سريب أحمد الفيتوري
د. عبدالجواد عباس
لا يكاد يعرفني أو أعرفه، ألتقي وأيّـاه بصورة متقطعة في مناسبات ثقافية بعيدة عن بعضها البعض، وربما استرابني أو استربته.. كنت قد قرأت له (جدل القيد والورد أو ستون يوسف الشريف) وكتبت عنها فلم استكملها، وطالعتُ له عدة انطباعات في النقد عبر الانترنيت، وكذلك رواية(بيض النساء) لم استكمل قراءتها، ولكنني أكملت قراءة رواية (سريب) لموضوعها الشيق وقربها منّي.. تكاثفتُ عليها وقرأتها كلها لأنها ذكرت مواقف وأشياء حقيقية لا يعرفها الكثيرون من هذا الجيل لكنني أعرفها ومتحقق من حضورها في الزمن الذي حكي عنه.. أسلوب صادق، لم يتكلف فيه صاحبه الزركشة والتنميق واستجداء الجمل والكلمات، ترك أسلوب البريستيج والقوالب والجاهزة.. أعرض عن ذلك كله وترك نفسه على سجيتها فأعانه ذلك على صدق التجربة...
الكتاب أشار إليه بأنه رواية، ويصح أن تكون الرواية سيرة ذاتية كما هو ثابت.. ولمن هذه السيرة الذاتية ؟.. إنها جزء يخصه هو(الراوي)، فهو الشخصية المدورة المتحركة، وجزءٌ كبير يخص جـدّته لأبيه.. وأجاد في اختيار هذا العنوان الممزوج برائحة المحلية، فهو سريب بالفعل، اسم على مسمّى.
منطلق الرواية شوط طويل وطويل من معاناة الجـدّة التي مات عنها زوجها البشير مبكرا وترك معها أطفالا ستة في أيام العوز والشدّة.. هذه الجـدة التي حكت قصتها مستوفية منذ صباها حتى شيخوختها، ومن ثمّ فهي حياة كاملة  مما خوّل لسريب أن تكون رواية بغض النظر عن الشخصيات الفاعلة..لقد حكت قصتها كاملة على فترات من تهويمات الراوي وسكتاته وانشغاله بمسارب أخرى أو انشغالها هي، فأحيانا يصفو جوّها وتقول : " ولدت في غريان من أمّ اسمها عَرْبـيّة، وهي عَرَبِـيّة، وأبٍ جبالي بربري يُدعى بريبش، كما تزوجتُ البشير العَرْبي...64"، فالبربر لا يعدّون أنفسهم عربا، أو أنهم يفخمون على العرب لكونهم السكان الأصليين قبل الهجرات العربية من الشرق.. ولهذا السبب عندما تزوجت الجدة (البشير) العربي نبذها البربر فشعرت بالضيق، ولحاجتها أن تعيش وأولادها تركت موطنها الأصلي نهائيا في رحلة طويلة، تجشمت فيها الويلات والخوف تحت سياط الجوع والصحراء ومثقلة بستة أولاد.
في الواقع أن الجدة قد تحمّـلت الجزء الكبير من سرد السيرة منذ رحيلها من غريان ومرورها بمختلف المناطق النائبة الجافية، وقطعها لصحراء سرت فسلوق فقمينس حتى حطّ بها الرحال في بنغازي تحت ظروف مزعجة.. وبالتضافر مع حفيدها الراوي كانت السيرة وكان السريب وكان جزء من التاريخ يتكلّم.. التاريخ الليبي، الاجتماعي والاقتصادي والثقافي منه، البنية الفوقية والتحتية في أبسط صورها أثناء الحرب وبعده... الحرب العالمية الثانية، الانقليز والطليان والجوع وسنين الرماد مما تفقهه الجدة جيدا..مرّ بأشتات المجتمع الليبي في ذلك الزمن البعيد مستعملا قناة الاسترجاع قناة الفلاش باك.
          الجزء الأعظم من الذكريات كان في بنغازي مدينته، بنغازي رباية الذايح كما يقول، يقصد قوت يومه، وهو مكسبٌ كبير آنذاك، ولكن الذائح سيبقى ذائحا بمنطق اليوم.. فبنغازي لا تُؤوي اللصوص والفسّاق وكذلك الجهلة والحمقى فلا تعطيهم إلا بمقدار ما يقيمون الأود.  
الحفيد الراوي  لم يكن بمنأى عن الأحداث المفجعة التي ألْتاعتْ بها الجدة وإنما كان في أعقابها، لقد ناله شيء من أثرها ؛ فسيارة الكيول الباقية بعد الحرب داهمت أخاه..84، كما تعرّض لضيق ذات اليد رغم كون أبيه تاجرا، فهو يشتري صلصة الطماطم ـ كما الليبيين الآخرين ـ بنصف قرش الملعقة50..إنها أيام الفقر وقلة الموارد وانعدام الاستيراد والتصدير، بل وانعدام الدولة بتاتا، شعب بتماثل للشفاء بعد مرض عضال ران على الوطن.. إنه يغتسل في الليان27 وتلفه جدته في بطانية حمراء ليشفي من النمنم كما هي طريقة الليبيين53..يأكل القنّان أصغر فردة في التّنور20..وتكنس جدته الدار بعرجون النخل26.. وربما قلتُ أنا بالشبرقة والقزّاح.. وتطبخ المقطّع والرشدة في البرمة 24 وربما الدشيشة والحسا نكاية في الأكلات الفخمة..كما تأخذه الدهشة بصندوق جدته المزخرف 18 صندوق العروس في الزمن الغابر.. كما يتمتع بحلوة بر الترك من مصنع كانون 19.. وينغمس في عجاج سيدي المهدي 84.. هذا العجاج الذي نسيتْه ذاكرتي تماما منذ خمسين عاما وذكّرني به الآن..ثمة أشياء عديدة مجملة في الكتاب.. رؤىً بعيدة وقريبة.. ممارسات كانت وعادات وأشياء لم يبق منها إلا القليل القليل.. مقتنيات لا تتذكرها إلا طائفة على شفير (الانقراض).
وصاحبنا يتذكر سيارة الكارو المجرور والكاليز، وسيارة الكيول والبولمن، وربما أراد أن يقول الشيف كندا والـدّوج والفورد والأوستين.. ويذكر وردي مسه، وربما أراد أن يقول أبوللو والستيلاّ والهنكن وحتى بوخطيوة !...كما ذكر الطبيب بوردوشمو وعبارات وجُمل كثيرة وكلمات كانت تُقال أيام البركة صار يعرفها النخبة فقط..
          أود للجيل أن يقرأ هذا الكتاب (سريب) فإنه يعرض التاريخ والتراث بصراحة مطلقة وصدق خالص ؛ لأتني عايشت ما يقوله الراوي بالممارسة والسماع، فكل كلمة هي صحيحة.. إنه يحكي بل يبكي.. نعم إنه يبكي بكاء الأطلال، فمن الداخل يسب ويغضب ويرضى ويسكت، كل ذلك مختفٍ بين السطور.. كل حادثة تحتها همّ وضيق بال وانفراج وعراك واتهام.. كل ذلك أو بعضه كثّــفه في قوله : "العناد ديدني منذ عرفت نفسي في مرآة الآخرين18 ".    

ساعة التجلي


ساعــة التجلـّـي
د. عبدالجواد عباس
-1-
إنه لن يقول كان ذلك أو عندما كنت كذلك، أو حتى مررت بكذا فحصل ما حصل، ما كان في نيته فتح الحكاية وإنما ليـبُـثّ هموما أو ربما أحلاما قد ضاعت أو قد ستأتي. لا يدري ماذا يفعل وماذا يخمن لنفسه، إنه قد باع أفكاره في سوق البلاغة بالمزاد، لا يمكن تحديد ما أحبّ وما لم يحب مشكلة الذوق عنده قد دخلت في ذوق الآخرين رغم أنفه. ما أن ضُرب بالسوط الأول حتى قال إن الأرض ليست كروية.
المجاملات ضيعتْ عليه فرصا عديدة، التربية والمثل العليا عاشت هناك في المستنقع، خدعته حتى في حبه حين جابه تيار الواقع، تلقـّـى الصدمة الأولى في عشقه، اكتشف سذاجته وظل يقول سأظفر بك يا حبيبتي عندما تفقد الأشياء الثمينة لمعانها، الزمن لم يفعل، فما انتصر السؤدد ولا الإرادة الطيبة.
إنه يجترّ اللحظات السعيدة من الزمن الغابر والقريب مع من لهم معه رصيد كبير من الذكريات المشتركة. يالها من رتابة ونمط متكرر ؛ إلى البيت، إلى العمل، إلى السوق، لا بل ازدحام وطوابير تمسخه ذئبا وإلا... سنوات عديدة واجهها مدعوما بثرائه العاطفي، لكنه الآن ماذا ؟! قد جاوز الخمسين، تردد على الأماكن ذاتها.
كانوا معه عندما قال : آه، لو تعود عجلة الزمن إلى عربات الخيول ومواقد الفحم، فليذهب الدرهم والدولار إلى الجحيم عليه وعلى أعدائه. إنه يحلم بذلك الفانوس القديم، لكن من ذا ينادمه في شهقة هواء حقيقية، سيظلّ وحيدا منبوذاً، بل سيبقى نديم الفرقدين.
الآن ترك سيارته المهزومة وحلـّـق في فيافي المدينة مترجلا في حذائه الثقيل. خامرهم الشك حتى في سلامة عقله عندما طلب حرية غير مشروطة، سار على قدميه وكأنه يطل على العالم من شرفة. ربما دخـّـن سيجارته بملء رئتيه حتى أطفأها الأطفال ورياح الصبا بماء الشباب، وربما أطفأها البحث عن مركز الحياة على طريقة فرويـد.
الأصدقاء يستقرون ويفرون، فقد كشرت المصالح عن أنيابها حتما، لقد بدأ يصعد السلالم إلى الطابق العلوي المهجور كطائر بري ينشد الدفء في شقوق الخرائب. لقد اختفت من أمامه أمواج ريح السنابل، ربما إلى غير رجعة. إنه يجفف أوراقه ويدمغها بتوقيع نهائي : لن يتردد، لن يجوع بعد الآن، العقيدة وحدها ستظل الأصيلة وباختصار شديد.
-2-
بات لا ينتظر من الغد ودّا مذ أخذت صحته في الانسحاب. بدأ يجفوه أقرب الناس إليه، لم يعد ذلك مهماً ؛ الأسماك في بحارها والطيور في أجوائها كانت مَـثـَـلـَه الأعلى في الحرية حتى أنه لم ير أحدَها يشيخ. كذلك (مرزوق) عاش حياته يانعا مشرقا، أحبّ الحياة كما لو كان ابناً بارا للأرض، التصق بها كدودة الطين وراح يحفر ويحفر ستين عاما بطيئة. نعم، الأيام الأولى من عمره تمشي رويداً، يتملـّى بكل لحظة، يستطيبها على خيرها وشرها، لكن بقية السنوات مرتْ سراعا كالسحاب، عاشها في ظل تيّار المرأة المغرّد العاصف، لـُبـَد الغيوم تتجمع وتـنـزاح بالرأي حينا وباللـّـذة أحيانا.
وقف مرزوق على الشاطئ وأخذ يحسب مرات العنفوان، إنها كثيرة جدا, الأهداف رآها، وصلها وامتصّ رحيقها وردة ً وردة. الهزيع الأول يغدق على نفسه بدون حساب، لما شعر بإسرافه أمسكه وأودعه السجن، لكنه في كل مرة يخرج بكفالة زوجته أو بكفالة أولاده أو بكفالة العنفوان نفسه، غير أنه دمّر العنفوان ورماه جانبا ليشتريه باعة الخردة بدراهم معدودة. انزاحت من أمامه ضوضاء الحياة وبات يحصي بحزن ثلاثينياته وأربعينياته المفعمة بحرية النوارس وليونة السنونو. النورس سيد البر والبحر، ينتقل كيفما شاء، يعبر العالم من جهة إلى أخرى دون أوراق، إذا اشتهى غاص في مكمن اللؤلؤ حيث لا مكان لخشاش الطير. يا إلهي ! حتى شحارير الحديقة القابعة في الظل جعل يستمع إليها وهي تملى شروطها بتهكم، تترك المجلس متى شاءت. رقطاء المحاجر لا تعرف غير الظلمة، نهشته النهشة تلو النهشة ولم تترك في جسده سوى زعاف يطارد كل سنة من سنواته الستين.
ذات يوم عندما كان يسابق الريح، ربما أخذته العزة بالإثم وطـَـفِـقَ يصطاد الحجل في وقت تكاثره، أو لعله نصب الشباك الضيقة العيون ليغرف صيصان الأسماك المحظورة، لكن ما أن يشرع في ذلك حتى ترميه نفسه بوابل من الحكمة المرتعشة فلا يتقن هذا ولا ذاك. كما أسرفت أسنانه في سحق الحلوى الفاخرة والرديئة بعفوية وبدون تحفـّظ، بل استطاعت تهشيم حصى البحر واستطابة أملاحه بسبب وبدون سبب، فقط الهزيع الأول يناغيها، والآن ماذا ؟ يفت في عضدها ويتركها على قارعة الطريق وقد فات الأوان.

رماد السنوات المحترقة.. رومانسية عشق


رماد السنوات المحترقة.. رومانسية عشق
د. عبدالجواد عباس
إذا شئت أن تسمِّي مجموعة (رماد السنوات المحترقة) القصصية بثورة العشق أو خواطر الحب أو الرجل والمرأة أو أشباه ذلك فسمِّها، يحقُّ لك ذلك بدون تردد ؛ فالقصص ممزوجة بالمرأة وبالهواجس نحوها، بحبها والشغف بها.. فالقصة الأولى في المجموعة وهي بعنوان (ابتسامات) التي أجاد القاص اختيار هذا العنوان لها ؛ لأنها بالفعل ابتسامات، مبعثها تصرف يدعو لكثير من الابتسامات.. دهشة وتحيّر لمرأى رجل قد تعوَّد مخالطوه منه أناقة الملبس وأناقة الكلمة، ولكنه خذلهم فقد نسي هذه المرة وخرج إلى عمله بملابس النوم.. ولأنه منشغلٌ بموضوع تكريمه الذي تأخر عنه لوقت طويل فإنه لم يمر على ذكر المرأة في هذه القصة إلا مرور الكرام حين ارتدى تلك الملابس على عجل ومرّ بتلك " المعلمة العانس التي ظلت على الدوام ترسل نحوي نظرات معانقة " كما يقول.
أما في قصة (دروب) فنجد القاص يؤثث لجمال المرأة في أكثر من موضوع فيتغنى لمرآها وتفاصيلها وصوتها ومناغاتها وحتى هيأتها ومشيتها.. إنها هفوات جنسية تنتاب شخصياته، ولكن أسلوبها الراقي يمنعها من السقوط في الهاوية، فهي ترتفع على ركائز صوفية غارقة في حظيرة الذات، منساقة إلى التداعي في عبق الفكر والجمال..إنه يتحدث بلسان العاشق الحقيقي الذي استهوته المرأة وأصابه الحب إلى النخاع حين " رأى إلى وجهها المتألق.. كان يستضيف الشمس.. شعرها يستحم بالشقرة.. ابتسمت له.. شعر بطعم السكر في فمه.. اقتربت منه.. تثاءب عطرها في وجهه.. سرى إلى قلبه.. انتشى.. تسربت قشعريرة في جسده "(1).وفي هذه القصة لا يخلو الأمر كله من الفلسفة في الوصف واستخراج المعاني.
وفي قصة (ارتباك) تبلغ الفلسفة قمتها حول علاقة الرجل الكبير بالمرأة الفتية حيث التقنية السردية متداولة بين كلام المرأة وكلام الرجل بأسلوب تيار الوعي عن عاطفة الحب الحارة عندما ينظر الرجل الكبير إلى حاله يناقش عاطفته تجاه ما تدعوه إليها غريزته الفطرية تجاه أنثى مكتملة الأنوثة التقى بها، يحدِّث نفسه فيها قائلا : " يا الله ! ما هذا الجمال الذي يعرض نفسه على قلبي بعد أن أقلعت مراكب العمر نحو شطآن الكهولة..؟" (2) وكانت هي الأخرى تحاول فرض التبريرات للوقوع في حب هذا الرجل الكبير قائلة لنفسها : " سيمنحني هوىً دافئا دافقا استوى على مرجل التجربة.. إن التعلق به أجدى لي من عشق فتىً قليل التجربة، أمّيّ الهوى"(3).. لقد بذل القاص مجهودا فنيا كبيرا ليُوفـّق بين آراء ومرتكزات أسلوبية ولغوية عالية المستوى.. وقصة ارتباك عبّرت بهذه المعطيات عن كونها أحسن قصة بعد قصة (الألسن) التي تليها في الرتبة قصة (سباق جياد)، فقصة(الملك الذي هزمته الريح ) فقصة (الشجرة).. وهكذا.
كما نجده يشخّص الأشياء فيحوّل بعضها إلى إناث وبعضها الآخر إلى ذكور حيث الشبق يتمثـّل في كل شيء، حتى في الأحصنة والأشجار والثمار مما يشير إلى تشبُّع وغليان أذهان شخصياته بالجنس فيعقد بذلك سيناريو من الرؤى واللمسات والهواجس الدفينة ؛ كتلك البذرة في قصة (الشجرة)(1) التي عبّر عن حاجتها للماء بطريقة فنية لا تخلو من المغازلة؛ إذ وصف حاجتها للماء بأنه " في الاتجاه الآخر ثمة سحابة بكر خجول، يراودها رعد نزق عن أنوثتها.. لم تقاوم كثيرا، منحته موافقتها بغمزة من برقها.. استجابت لمراودته بدلال متصنّع.. ظل المطر المراهق يراود البذرة المتعرية عن نضجها وطراوتها مرسلا قبلا من رذاذ رقيق "(2).. وكذلك أجرى التشخيص في قصة ( سباق جياد) حيث حصان الأمير مغرم بابنة إحدى الأفراس، ولكنها تدعي بأنها ترفضه، قائلة : "إني أرفضه زوجا لابنتي.. لقد ظل يتشبب بها عبر صهيل مهووس متواصل منذ الليلة البارحة..لكني منعتها من أن تردَّ على هواتفه الملحاحة ولو ببنت صهلة..‍"(3)
وفي غمرة ذلك هو لم يترك التعبير الأدبي الذي يرقى إلى مراتب الصوفية بنثر يحمل نبرة الشعر، إذ كيف تميّز الشعر من النثر حينما نقرأ هذا العزف:"احمرّ خداها لقبلات النسيم العاشق، اهتزّ خصرها لمخاصرة الريح الطروب، راقت لها الرقصات الساحرة.. غنّت بهفيف كالوسوسة استجابة لمغازلات العصافير ونداءات الشموس المعانقة "(4).. إنها رومانسية خاصة من الجمال المعتـّق لكل من يهتزّ لجمال الربيع وبهاء السماء ونداء الطبيعة المشتاق حتى ولو غلـّـفه في هذا القميص الأنثوي.
وقصة ( الشجرة) من ناحية أخرى بها تكنيكات فنية خفيّة من التناص والرمز فصاحب الشجرة عندما رأى أنها أصبحت وارفة أسقطت بعض ثمارها داخل بستان جاره، حاول منعها فرفضت أن تستجيب لإغراءاته بالعدول عن نزق الإثمار الباذخ والظل المبدد بلا هوادة فاجتثها.. وهذا الحدث المتصوَّر يتناص مع حدث آخر عن طريق الشعر، بعنوان ( التينة الحمقاء)(5) لإيلياء أبي ماضي.. لكن تلك التينة رفضت أن تورق وتثمر على خلاف صاحبتنا الشجرة التي أسرفت في الإثمار والتوريق ولكنهما يشتركان في الرفض، وهذا هو وجه التناص.
كما هناك رمزٌ ممزوج بالتناص نحس به عندما اجتثّ البستاني الشجرة وحوّلها إلى فحم انبثقت من الأرض بذور شجرية أخرى كثيرة، وهذا يرمز إلى عموم تكرار وتداول الحياة والموت على وجه البسيطة.. وبهذا تتناص قصة الشجرة من جانب آخر مع قصة (الجثث)(6) لأحمد يوسف عقيلة، التي مؤداها أن جثة زحفت إلى كوخ حارس المقبرة وقتلته وأخذت مكانه.. وفي ليلة أخرى جاءت جثة وقتلت الجثة الأولى واحتلت مكانها، وهو ما يرمز إلى تكرار الموت والحياة، وهذا هو وجه التناص الثاني.
وعندما نأتي إلى قصة (الألسن) نجد شبقا طفوليا مبكرا لدى طفل لا يتعدى السنوات العشر، يأتمر طربا لطلب أم الفتاة الخرساء ؛ فيجمع لها سبعة ألسن يوم عيد الأضحى لتفكَّ بها خرس ابنتها الجميلة وديعة التي أشار الغلام إليها بأنها :"تلك الصبيّة الفاتنة التي تحتل عيونها ابتساماتها ركنا دافئا بقلبي إن لم تكن تحتله كله"(1).
قصة (الألسن) تُعتبر من أحسن قصص المجموعة، لأنها رُتبتْ ترتيبا سرديا شيّـقا، مما جعل الأحداث متوهجة نشطة وقد بدأ الحدث الأول في السرد باقتراح النسوة على أم بديعة بجمع سبعة ألسن.. والحدث الثاني هو تطوع الصبي بمهمة جمع الألسن من أجل عيون بديعة..والحدث الثالث هو حفلة شواء الألسن، وتناول الصبي أحدها مما أغضب الأم فقامت بطرده، ثم تكرار الأم السنوي للسبعة الألسن، ثم غياب الصبي مدة طويلة، وعندما عاد لم يجد بديعة، التي كانت لطيفة كالفراشة وإنما وجد كومة ً من اللحم غير المتناسق، كما بادرته بما يشبه السباب في لغة الخُرس، والبصق على وجهه، والصوت الذي يشبه الخوار حتى تخيل أن أمها كانت تطعمها ألسن البقر أثناء غيابه الطويل.. ولا تخلو هذه القصة وغيرها من التعبيرات الرائعة التي أعلت كيانها وزينت أسلوبها ـ وإن كانت كلها نوازع حميمة نحو المرأة ـ وعلى سبيل المثال، تعبير الصبي عن نفسه واصفا ما أصابه من لوعة وحزن عندما طردته أم بديعة من منزلها لأنه أكل لسانا قدمته له بديعة فأنقص بذلك واحدا من جرعة الألسن، ما اعتبرته الأم خسارة فادحة لا يُسكت عليها فنهرته وطردته ما جعله يقول في نفسه : " أهانت فيَّ الرجل قبل أن يزهوَ بممارسة رجولته البكر.. نتفتْ شاربيه بطريقة بشعة ".. أو قوله بعد غيابه الطويل ونسيانه تلك الواقعة : " وشيئا فشيئا صمت الرجل القابع في أعماقي..".. وفي قصة (الربيع) كاد الأستاذ أن يخون أمانته عندما استهوته تلميذته بعينيها الساحرتين ومطلعها البهي، كان يدعوها إلى كتابة موضوع عن الربيع ولكنها تعتذر لأنها لم تر الربيع كما وصفه الأستاذ فكان يردّ بعفوية قائلا : " لكنه رآك وعرفك.. استوطن عينيك وخديك تاركا قلوبنا للخواء" (2)
الملاحظ أن شخصيات جمعه الفاخري القصصية تذوب في عشق الجمالات إلى آخر قطرة، خاصة ما يسمّى منها بالمرأة، وقد أثـّث الأسلوب بتعبير يسيطر عليه التشخيص والتجسيد والاستعارة وكثير من التشبيه بمختلف أنواعه، وهذه المفردات البلاغية هي التي يرتكز عليها السرد الفني، فضلا عن تقنيات أخرى كالتناص والرمز أكثر وضوحها في قصص (الملك الذي هزمته الريح، والشجرة، وسباق جياد)، كما سيطر على السرد في معظم القصص ضمير المتكلم وضمير الغائب.. والملاحظ أيضا أن القاص قد جسّد السنوات فجعل لها رمادا، فهي محترقة، ليرمز ويلمّح إلى أن هذه القصص ما هي إلا أحداث مضت في حياته أو حياة شخصياته القصصية، ولكني أرى أنها لم تمض، ما زال لها دخان وجمر تحت الرماد.. أحسب أن ثمة أحداث تشير إليه بلا شك ولكنه أسقطها على غيره. ولا ينجوَ صاحب هذا السرد الجميل والقلم السيَّال من مخالفات طفيفة منطقية ومنهجية وشكلية، وهذه الأخيرة لا دخل له فيها، أحسب أنها نتيجة نسيان أو غفلة ؛ ففي قصة (لعنات) هناك مفارقة غير فنية ؛ ففي موقف واحد للقصة لا يتعدّى الزمن الروائي فيه العشر دقائق قال : " كان الليل الشتائيّ القارس يحتضن المدينة النائمة في هدوء شاعريّ..." ثم في نهاية الموقف القصير قال : " اندفعت السيارة بقوة مخلـّـفة غبارا مختلطا بدخان كثيف..." (1)، هذه واحدة، أما المخالفة الثانية فهي منهجية، وأعجب كيف لشفافيته أن تقبل مثل هذا الموقف المرعب الذي لا يتجانس مع بقية القصص ذات الأحلام الوردية بكل تداعياتها ؛ وأعنى بذلك قصة ( انتقام) الموسومة بالدماء والقتل وتقطيع الأوصال، إنها نشاز وسط بساط سندسي من القصص الرَّهيفة.. أما المخالفة الثالثة فهي شكلية ؛ فالقصص لم تـُـكتبْ بخط جيد على الرغم من هذا العزف الجميل ؛ فثمة كلمات باهتة، بالكاد أن تـُـقرأ، ثم هذا النوع من حروف الطباعة الذي لا يتلاءم وبهاء القصص وعلوّ أسلوبها.


(1) جمعة الفاخري ـ رماد السنوات المحترقة ـدار الأندلس 2004 ـ ص 9.
(2) نفسه ص15.
(3) نفسه ص19.
(1) تتناغم هذه القصة مع قصة أخرى بعنوان (الشجرة) أيضا لفوزي البشتي.
(2) رماد السنوات المحترقة ـ ص 66.
(3) نفسه ص 92..
(4) نفسه ص 67. (قصة الربيع).
وتينـة ٌغضَّـة ُ الأفنــــــــانِ باسقة ٌ قالت لأترابها والصيف يحتضرُ
ولستُ مثمــــــــرة ً إلا على ثقــة إن ليس يطرقني طيرٌ ولا بشــرُ
إلى أن قال :
ولم يطقْ صاحب البستان رؤيتـَها فاجتثها فهـــوتْ في النار تستعر
والقصيدة تعتبر من الأدب الرمزي، لأنها تبين مصير الإنسان الذي لا يفيد غيره فيؤول مصيره على هذه الشاكلة.
(6) عناكب الزوايا العليا ـ منشورات المؤتمر 2003 ص93.
(1) رماد السنوات المحترقة ص 77.
(1) رماد السنوات المحترقة ص 71، 72.

رسالة الى الربيع


رسالة إلى الربيع
د. عبدالجواد عباس
أنت أيها الربيع أعـزّ صديق في الصِّــغر، ولمَّـا كبرنا كنتَ أكثرَ إشراقـًا وأعظم الفصول حنينا إليك.. منذ عهدٍ عبر ونحن نتذكر مقطعا في كتاب المطالعة  يقول : " في الأسبوع الثالث   من شهر مارس يبتدئ فصل الربيع، فصل الزهر والحياة " هذه العبارة ما نسيناها، بل استقرت في أذهاننا..

إنك أيها الربيع لذو حظوة حقا، بك يستبشر الجميع.. تتجلـّى بمقدمك شقشقة العصافير وثغاء الشاه، يقبل الناس نحوك جماعات ووحدانا، يرتمي الأطفال هنا وهناك على الأعشاب، يقطفون ما شاؤوا من ورود.. زهورك لا تنتهي بل تزداد كل يوم.. الصغار والكبار يشاركون بهجتك، فأنت الكريم الذي يعطيهم جميعا.. أنت البراءة  وأنت السطوع الذي يكشف عن النفس غبارَها ويجعلها تتثاءب ساعيةً إليك في غير ارتياب ولا تردد.. مساحات واسعة في البراري تتراءى بالخضرة والنماء.. سهول  وسفوح ووديان عمّتها الصفرة والحمرة واللون البنفسجي، إنها ثورة الفرح تستنهض العالم الحي، تغريه بهدوء ليغرف من المتعة ما شاء ومتى أراد.

كيف لا تكون كذلك وأنت أيها الربيع حياة بنفسك  كما وصفك الخالق، يحيي به الأرض بعد موتها.. يهيج فتراه مصفرا، ثم ماذا.. تأخذ وقتك كما تأخذ الكائنات أوقاتها، ثم إلى أجل مقدّر محتوم.. هكذا ضُرب بك المثل لكنك ليس كالأشياء والمخلوقات تنتظر الوقت المعلوم، بل تعود وتبُعث من جديد ما دامت الدنيا، تطالعنا كل عام بوجهك الصبوح.
كم نحن مشتاقون إليك أيّها الربيع، إنّـك لتذكـِّرنا عبرَ أزمانٍ بعيدة بروعتك التي تألقتَ فيها بطلعاتك المتتالية منذ السنين الخوالي إلى الآن.. نهتزّ ونستوحي العشق والهيام بجمال الأشياء، وببساطك السندسي عشق الطير لطلوع الفجر..

إن كان ثمة من يتلقف رحيقك ويمتصّ رضابك فالأطيار أولى.. تسبق الجميع بتبكيرها، حتى النحل والحشرات المقيمة في سرادقك  ـ أيها الربيع ـ تنهض بعد الشروق فيزداد حينئذٍ جمالك.. يتوالى الفراش والنحل وجمهور من المخلوقات الطنـّـانة على أزهارك، ترشف من هذا وتنتقل إلى ذاك، إنها تكمل روعة المهرجان.. بعضها يظهر بقدومك وتختفي برحيلك فلم نعد نرها إلا في عام قادم، وكأنّها تحيَا بحياتك.

أيُّـها الربيع نستوحيك أكثر، نقرن حسنك بوجوه الحسناوات والعذَارَى مغمورةً بأزاهيرك في بطاقات المعايدة والخطوبة.. فأنت بسمة ثغر الوليد، أنت موسيقى العوالم البعيدة الطاهرة وصوت  مزمارٍ قادم من أعماق الجمال، نصمت جميعا لنسترق سمَاعَه.. أنت قصيدة شعر وبشارة أمل، ونسمة رطبة  ووجّــه حسن، بل أنت فنيسُ نفسها.

إلى اللقاء أيها الربيع الجميل، إلى ربيع جديد، إلى مستقبل عريض وأمل قريب، إلى حياة هناء ورخاء.


ديوان مهد الغلا


ديوان مهد الغلا
د. عبدالجواد عباس
عندما نقف عند هذا الديوان لعبد السلام الحجازي، وهو شعر غنائي الذي شاء أن يسميه (مهد الغلا).. وهو مهد الغلا بحق لأن معظمه أو كله يحوي خواطر شعرية نحو المرأة ؛ خواطر سرور أو حزن، خواطر غضب أو رضا ؛ خواطر صدّ أو قبول أو ما شئت من هذه المفارقات الرومانسية التي تنتاب كل الأسوياء من البشر.. فحمل هم المرأة في هذه المفارقات هو من قبيل كمال شخصية الرجل  وليس نقصا في حقه ؛ فنفور المرء من الجو الأنثوي مرض.
وإذا ما استعرضنا قصائد هذا الديوان سنجد هذه المفارقات العاطفية واضحة تمام الوضوح، فهو لا يألُ جهدا في عرض ما يحب وما يكره، بل رأيناه يتصدى للدفاع من أجل ما يعتقد أنه الصحيح.. فالحياة تجارب ودروس تعلم المرء كيفية أخذ القرار الذي يناسب حالته وثقافته وبيئته.
وفي الوقت الذي يأنس فيه لحب المرأة نجده يحوطه الحذر والاحتراس ؛ فالقصيدة الأولى بعنوان (تعملي معروف) بداية  الالتفات نحو المرأة، هذه القصيدة ليست البداية فقد قالها بعد أن مرت به تجارب سابقة، وإلا لما كان قد قال :
وانتي طريقك حيرة
 وانجي لدرب نلقى غيره..
فيه الدروب كثيرة.. بالخطر محفوف
تعملي معروف.
كما نجده في قصائد أخرى يجدد هذا الحرص ويحوطه الحذر  من كل جانب كلما فكر في المرأة، فما أن يقترب  منها حتى يأخذ في الابتعاد عنها، متهما عينه بالتغرير به وبقلبه  الذي لا يصبر عن  أوجاع أخرى، والانجذاب  نحو الجمال ودفء  العواطف، ويقترب ويقترب حتى يلامس عبق الغرام الذي يستحيل إلى حمل ثقيل رغم متعة البداية :
يا قلبي الغرام ايفوح..
بعطور البداية ..
ويداعب حنايا الروح..
وتكون الحكاية.
وتقول .. وتقول: الله و يا محلاه .. ويطول .. بالشوق اللى مولود معاه..
يا قلبي الغلا ممزوج بدموع الندايم..
وين يعلا عليك الموج تحتاج لعزايم ..
ويشده هذا الحرص والشك بين إخلاص المرأة  ووفائها في قصائد كثيرة كقصائد (كان لازم تاخذ قرار ـ نار الشوق ـ جرّات عيني ـ الرّحال ـ خطية عمري ـ ضحية وهم ).. ولا تخلو القصائد الأخرى  جزئيا من ورود هذه الخواطر في بعض أسطرها.
وتنفذ من بين هذه القصائد  الذاتية قصائد التزام بالقومية والوطنية مثل (حكاية الشهيدة سناء )  وقصيدة (درنة)، وقصيدة ( يا خير أمة)  التي حاور فيها كثيرا عن دوامة  المشاكل العويصة التي تورط فيها العرب منذ زمن طويل، والتي لا يمحو عارها إلا الموت أو النصر:
بالغضب، بالدم بالروح با صرارنا
بشعارنا يا نصر يا استشهاد
يا انعيش ننشر في شذى نوارنا
بحب وكرامة وللعدل روّاد
يا انموتوا بالموت نمحوا عارنا
مع رب واحد عندنا ميعاد
أما (حكاية الشهيدة سناء) فهي من قبيل القصة الشعرية بامتياز،  وتميزها يتمثل في أن لها بداية ووسط ونهاية، وقد أجاد حبكتها الفنية  في أن استدرجنا بداية بأسلوب الحكاية القديمة، وترميز للحب  الذي تحرص عليه الشهيدة سناء  بأنه حب الوطن لا غير، إنه حب وطنها لبنان :
كان ياما كان
في ماضي الزمان.. حكاية محبة وصوب
حكاية وفا وحنان
وعشق لثرى لبنان.. في قلب الجنوب
ثم يستمر في عرض المشهد البطولي على مهل، ويصورها عاشقة  تحرص على مواصلة الحبيب وتقترب  منه في خطى حثيثة....إلى أن يقع التواصل الحاسم بينها وبين حب الوطن .

حول الشكل والمضمون في مجموعة الخيول البيض القصصية


حول الشكل والمضمون في مجموعة (الخيول البيض) القصصية
د. عبدالجواد عباس

المجموعة للقاص أحمد يوسف عقيلة، صدرت عن الدار الجماهيرية للنشر سنة 1999، تحتوي علي عدد 23 قصة قصيرة. والمكان أول ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة بالنسبة للعناصر الفنية  للقصة، حيث أنها متخمة بأنفاس القرية والريف والبداوة معا.. مكان ذو سمة جبلية  في كل القصص، وحتى أكون منصفا أقول بأنها قصص متشبعة بنوع الحياة التي يعيشها سكان ريف الجبل الأخضر خاصة ً، وليس بالدرجة الأولى باديته تلك  التي تقع في طرفه الجنوبي، أو ما يعرف عندنا بمنطقة (البر)، تلك المنطقة الجرداء التي أسبلت على ساكنيها بعض الخشونة وحدة المزاج، وليس ذلك سبة ٌ في حقهم، وإنما هي الطبيعة هكذا، وإلا فإن دورهم في الجهاد لا يحتاج إلى دليل.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن بين سكان (البر)الشبه الصحراوي الأجرد وسكان الجبل المغطى بالغابات فرق دقيق لا يكاد يُرى بالنسبة لعابر سبيل ؛ إنه فرق في المعاملة وفي الحجة ؛ فسكان البر أكثر كرما وأوثق كلمة، ويبقى هذا الفرق قائما وإن اتحد سكان البر وسكان الجبل في كثير من سبل المعيشة، من عمل وأمثال وأقاويل، إلا أن سكان الغابة أكثر رقة وأكثر تفاهما فيما بينهم وأكثر فوضوية.
أحمد يوسف عقلية كانت قصصه تنطلق من عمق هذه الفئة من سكان الجبل الأخضر ؛ فئة الذين  يسكنون الغابة والقرى الواقعة فيها،  كـ(عمر المختار وباندس والوسيطة ومسه وقفنطة وقرنادة والفائدية وقصر ليبيا وزاوية العرقوب....) وغيرها، وإن شئنا فلا نستبعد قرى أخرى  كـ(الحمامة والحنية وطلميثة) مع أننا نلمح بعض الفروق الباهتة التي فرضتها طبيعة الشاطئ والبيئة الساحلية.
نقول أن بروز الطبيعة في قصص أحمد يوسف عقيلة يمثل طابعا سرديا مميزا بالنسبة للمكان الذي ساعد على تمرير كثير من قصصه، ليس ذلك عن قصد منه،  فهو ابن البيئة التي تشرّبها جيدا، ويتحدث من خلالها. والتأثر بالبيئة لدى الكتاب والشعراء سمة طبيعية وقديمة، فلا ضير علي أحمد يوسف أنه عزف على هذا الوتر, وغلـّف قصصه بشعاب الجبل الأخضر ووديانه ووهاده، غلفها بصور وأشياء يعرف أنها قريبة منا وعزيزة علينا، إنه أحاط قصصه بسياج من الدوح، به عبق الشماري والبطوم والخروب والعرعر.. إننا تلقفناها لأنها قريبة إلى نفوسنا، لأننا نحب الطبيعة مثله وأبناءها مثله. هذا عن المكان، أما عن الزمان فإنه في أية قصة قد يمثل الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ففي مجموعة ( الخيول البيض) فإن الزمن السائد هو الماضي كخصيصة سردية سائدة، في نحو : " أقبل الليل، تلاشت الأدغال والأودية ونتوءات الجبال "ص7   أو " كان (جيطول) يصف  لزبونه العاشر (جبة ثعبان) " ص47، أو  " هذا ما قالته جدتي بعد أن تحسست جبهتي " ص87،  وغيرها، كلها تثبت أفعالاً ماضية، محاكاة للواقع، إنما البناء الفني هو الذي أعطاها سبل النجاح، فتبدأ بعض القصص بمقدمات قبل الشروع في الحدث الرئيس، مما يخدم الحبكة التي تربط بين الأحداث، وهو قد وضع ذلك في قصص كثيرة مثل مقدمته لـ(كاتب الأماني).. يقول  " إمام قريتنا يمتلك مفاتيح الجنة... وهو في كل جمعة يلوّح لنا بالمفاتيح من فوق المنبر.. وفي آخر جمعة  من رمضان  توعّد الذين يتركون الصّلاة  بمجرد رؤيتهم لهلال العيد.. ووصف لنا أودية جهنم "ص29.. هذه المقدمة مع البناء اللغوي المتماسك استطاع بها النفاد إلى الغرض، وهو أن الفقيه يلعب على عقول الناس.. وكان تأثير المقدمة جيدا أيضا في قصص (الرؤيا ) و( الخيول البيض) و(تواطؤ)، لكن المقدمة في قصة (المرآة) كان نجاحها ضئيلا ؛ لأنه لا علاقة لموقف الحاج ( الداهش) بموقف زوجته العجوز (تكاميل) المختصة بكل أحداث القصة.. أمّا بدايات القصص الأخرى فمناصفة بين السرد المباشر والدخول في الحدث للوهلة الأولى، كقصص(وصفة) و(المفرش) و (اختيار) و ( تحولات) التي يقول فيها : "ذات مساء شرّفنا سيادة الوزير بزيارة مفاجئة, حتى إن المسؤولين في مدينتنا لم يأخذوا بذلك خبرا ليقوموا بتنظيف الشوارع والميادين الرئيسية " ص137.. وأكثر القصص على هذه الشاكلة، تبدأ بالسرد المباشر، إلا أن قصة (شوال التمر) تبدأ بحوار، ومجمل القصص تحتوي على حوار بعد المقدمات مباشرة.
لكن ماذا عن المشاهد العامة للجبل الأخضر، وتبيان التراث من خلال الصور، بما في ذلك العادات والتقاليد والممارسات اليومية التي تكاد أن تكون ثابتة.. إن أحمد يوسف عقيلة يقدم المشهد علي أنه تحصيل حاصل، أو أنه شيء عادي يحدث بشكل تلقائي، بحيث تبدو الفكرة مبتذلة ومتكررة ومعهودة.. فعن صورة البرد الذي يشتهر الجبل الأخضر بشدته وقسوته يقول في (الخيول البيض) : " في الليالي الأربعين تتجمد أطرافك،, تبتعد أصابع يديك عن بعضها.. تصطك أسنانك.. ترتعش شفتاك.. يزرقّ لونك ويتقلص جسدك، حتى  إنك تحسّ  بأن ملابسك غدت  فضفاضة بعض الشيء "ص23.. إلا أن قاصا آخر من خارج البيئة، ولكنه مغرم بالجبل ويحب السياحة فيه، هذا القاص هو عبد الرسول العريبي، إنه يعبر عن مشاهد الجبل بشيء من الفلسفة، فيها نكهة الطرافة والتعجب، إنه يقول عن البرد في الجبل الأخضر في روايته ( تلك الليلة ) :  " لا أحد  يقف في مواجهة البرد في الغابة إلا حطب الغابة نفسها " ص.. أمّا عن الذئب عند أحمد يوسف. فإنه يقول  في قصة (توطؤ) :  " قريتنا تقع وسط الغابة.. لذلك فنحن نسمع عواء الذئاب  كل ليلة. أصبح العواء مألوفا حتى  إنه لم يعد يلفت الانتباه، بل لم يعد يعنى شيئا لكلاب قريتنا. " ص101.. بينما يقول عنه عبد الرسول العريبي  :  " الذئب صعب التعرف عليه إلا ميتا " ص.. ومع أن طائر الحجل شيء عادي بالنسبة للجبل فلم يعرّج عليه أحمد يوسف في مجموعته إلا مرة واحدة، فيقول في قصة (هدهد) : "  " في  أواخر الربيع يعتليان قمم الصنوبر  ترقبا للحمام القادم مع القبلي، ويصغيان إلى زقزقة صراديك الحجل." ص 79، إلا أن عبد الرسول العريبي يقول عن الحجل في  روايته : " الحجل حين يكون جريحا يتحول إلى أرنب برّي، تحمل جراحها وتهرب في حمية اللحظة " ص.. هذه الصورة التي تبدو معهودة لدينا ولكن لم نكن لنعيرها اهتماما, وكأنما بتصوير الكاتب لها فكأنما فقدنا شيئا ووجدناه.. وعن الريح التي لا تخلو منها بيئة الجبل الأخضر يقول أحمد يوسف : " في ليالي الشمال الباردة. حينما  تعوي الرّيح  فوق الـذرى العالية يندسَّان تحت ألواح الصخور كطائر (نيسي) يطردان البرد بدفء الأجنحة " ص79.. في حين يعبر عبد الرسول العريبي عن الريح في الجبل بقوله : " نهضت من جديد عالية، تركض في الغابة، كل الغابة تتحرك  وكأنها تمشي.. هنا    تستطيع أن نرى الله في كل شيء "  ص  
لكن ماذا دسّ لنا أحمد يوسف عقيلة في المضمون، ماذا أراد أن يقول للمجتمع من حولـه ؟ ما الذي يختفي بين السطور؟.. إنه يدسّ ملاحظاته، يومئ لنا من طرف خفي بما يحب وما يكره من ممارسات هذا المجتمع، لا لأنه يخدعنا، لكنه يكشفنا ، إنه جعلنا نسرق الأسواق العامة بطرق ملتوية ونثري بها أنفسنا  كما في قصة (المسخ)، وباسم الوجاهة جعلنا نتحايل علي النساء والفتيات ونسلبهن أعز ما يملكن  كما في قصة ( الرؤيا)  وقصة (الصرّة). وبذلك فإنه لم يقف عند حد الطبيعة التي بهرتنا.. ومن الظواهر الفنية أيضا اتكاء القاص على بنية درامية، لأنه اعتمد على الحوار في كل قصص المجموعة. كما في قصة ( كاتب الأماني) إمام مسجد القرية الذي كان يخطب فيهم عن ليلة القدر، وقد  أوعز لهم إن لم يروا نور ليلة القدر أن يكتب كل منهم أمنيته في ورقة ويدسها تحت وسادته، فستأتي الملائكة وتقرأها، ومن لا يعرف الكتابة فعليه الحضور ليكتبها بنفسه. وازدحمت  دار الشيخ بعد صلاة التراويح، وجاءت الحاجة مسعودة فبادرها الشيخ قائلا :
ـ الحاجة (مسعودة).. أمنيتك ؟
تنحنحت.. سعلت.. حكت رأسها...
ـ أنا عجوز في آخر عمري.. وحيدة.. وقليلة والي..   
          ـ فهمتُ.. الحاجة مسعودة تتمنى أن تعيش في كنف رجل بقية عمرها.
          ـ يسلم فمك..  يا سيدي الشيخ.
          خرجت سألتها العجائز :
          ـ ماذا تمنيت ِ  يا مسعودة ؟
ـ وماذا يمكن أن تتمنى عجوز مثلي.. غير سترة وشهادة. ص 33 و 34.
          الحوار في القصة سمة سردية وجزء من الأسلوب،  وليس من الأمور المحتومة دائما فيها، فهو ثانوي بالنسبة للقصة، إلا أنه ضروري بالنسبة للمسرحية، إذ تروي الشخصيات قصتها بنفسها من خلال الحوار، بينما في القصة  ينوب عنها الراوي.. ولكن كلما تمكن الكاتب من إيراد الحوار في قصته بصورة مقبولة كلما أعطاها ألقا ووضوحا.