الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

سريب أحمد الفيتوري


سريب أحمد الفيتوري
د. عبدالجواد عباس
لا يكاد يعرفني أو أعرفه، ألتقي وأيّـاه بصورة متقطعة في مناسبات ثقافية بعيدة عن بعضها البعض، وربما استرابني أو استربته.. كنت قد قرأت له (جدل القيد والورد أو ستون يوسف الشريف) وكتبت عنها فلم استكملها، وطالعتُ له عدة انطباعات في النقد عبر الانترنيت، وكذلك رواية(بيض النساء) لم استكمل قراءتها، ولكنني أكملت قراءة رواية (سريب) لموضوعها الشيق وقربها منّي.. تكاثفتُ عليها وقرأتها كلها لأنها ذكرت مواقف وأشياء حقيقية لا يعرفها الكثيرون من هذا الجيل لكنني أعرفها ومتحقق من حضورها في الزمن الذي حكي عنه.. أسلوب صادق، لم يتكلف فيه صاحبه الزركشة والتنميق واستجداء الجمل والكلمات، ترك أسلوب البريستيج والقوالب والجاهزة.. أعرض عن ذلك كله وترك نفسه على سجيتها فأعانه ذلك على صدق التجربة...
الكتاب أشار إليه بأنه رواية، ويصح أن تكون الرواية سيرة ذاتية كما هو ثابت.. ولمن هذه السيرة الذاتية ؟.. إنها جزء يخصه هو(الراوي)، فهو الشخصية المدورة المتحركة، وجزءٌ كبير يخص جـدّته لأبيه.. وأجاد في اختيار هذا العنوان الممزوج برائحة المحلية، فهو سريب بالفعل، اسم على مسمّى.
منطلق الرواية شوط طويل وطويل من معاناة الجـدّة التي مات عنها زوجها البشير مبكرا وترك معها أطفالا ستة في أيام العوز والشدّة.. هذه الجـدة التي حكت قصتها مستوفية منذ صباها حتى شيخوختها، ومن ثمّ فهي حياة كاملة  مما خوّل لسريب أن تكون رواية بغض النظر عن الشخصيات الفاعلة..لقد حكت قصتها كاملة على فترات من تهويمات الراوي وسكتاته وانشغاله بمسارب أخرى أو انشغالها هي، فأحيانا يصفو جوّها وتقول : " ولدت في غريان من أمّ اسمها عَرْبـيّة، وهي عَرَبِـيّة، وأبٍ جبالي بربري يُدعى بريبش، كما تزوجتُ البشير العَرْبي...64"، فالبربر لا يعدّون أنفسهم عربا، أو أنهم يفخمون على العرب لكونهم السكان الأصليين قبل الهجرات العربية من الشرق.. ولهذا السبب عندما تزوجت الجدة (البشير) العربي نبذها البربر فشعرت بالضيق، ولحاجتها أن تعيش وأولادها تركت موطنها الأصلي نهائيا في رحلة طويلة، تجشمت فيها الويلات والخوف تحت سياط الجوع والصحراء ومثقلة بستة أولاد.
في الواقع أن الجدة قد تحمّـلت الجزء الكبير من سرد السيرة منذ رحيلها من غريان ومرورها بمختلف المناطق النائبة الجافية، وقطعها لصحراء سرت فسلوق فقمينس حتى حطّ بها الرحال في بنغازي تحت ظروف مزعجة.. وبالتضافر مع حفيدها الراوي كانت السيرة وكان السريب وكان جزء من التاريخ يتكلّم.. التاريخ الليبي، الاجتماعي والاقتصادي والثقافي منه، البنية الفوقية والتحتية في أبسط صورها أثناء الحرب وبعده... الحرب العالمية الثانية، الانقليز والطليان والجوع وسنين الرماد مما تفقهه الجدة جيدا..مرّ بأشتات المجتمع الليبي في ذلك الزمن البعيد مستعملا قناة الاسترجاع قناة الفلاش باك.
          الجزء الأعظم من الذكريات كان في بنغازي مدينته، بنغازي رباية الذايح كما يقول، يقصد قوت يومه، وهو مكسبٌ كبير آنذاك، ولكن الذائح سيبقى ذائحا بمنطق اليوم.. فبنغازي لا تُؤوي اللصوص والفسّاق وكذلك الجهلة والحمقى فلا تعطيهم إلا بمقدار ما يقيمون الأود.  
الحفيد الراوي  لم يكن بمنأى عن الأحداث المفجعة التي ألْتاعتْ بها الجدة وإنما كان في أعقابها، لقد ناله شيء من أثرها ؛ فسيارة الكيول الباقية بعد الحرب داهمت أخاه..84، كما تعرّض لضيق ذات اليد رغم كون أبيه تاجرا، فهو يشتري صلصة الطماطم ـ كما الليبيين الآخرين ـ بنصف قرش الملعقة50..إنها أيام الفقر وقلة الموارد وانعدام الاستيراد والتصدير، بل وانعدام الدولة بتاتا، شعب بتماثل للشفاء بعد مرض عضال ران على الوطن.. إنه يغتسل في الليان27 وتلفه جدته في بطانية حمراء ليشفي من النمنم كما هي طريقة الليبيين53..يأكل القنّان أصغر فردة في التّنور20..وتكنس جدته الدار بعرجون النخل26.. وربما قلتُ أنا بالشبرقة والقزّاح.. وتطبخ المقطّع والرشدة في البرمة 24 وربما الدشيشة والحسا نكاية في الأكلات الفخمة..كما تأخذه الدهشة بصندوق جدته المزخرف 18 صندوق العروس في الزمن الغابر.. كما يتمتع بحلوة بر الترك من مصنع كانون 19.. وينغمس في عجاج سيدي المهدي 84.. هذا العجاج الذي نسيتْه ذاكرتي تماما منذ خمسين عاما وذكّرني به الآن..ثمة أشياء عديدة مجملة في الكتاب.. رؤىً بعيدة وقريبة.. ممارسات كانت وعادات وأشياء لم يبق منها إلا القليل القليل.. مقتنيات لا تتذكرها إلا طائفة على شفير (الانقراض).
وصاحبنا يتذكر سيارة الكارو المجرور والكاليز، وسيارة الكيول والبولمن، وربما أراد أن يقول الشيف كندا والـدّوج والفورد والأوستين.. ويذكر وردي مسه، وربما أراد أن يقول أبوللو والستيلاّ والهنكن وحتى بوخطيوة !...كما ذكر الطبيب بوردوشمو وعبارات وجُمل كثيرة وكلمات كانت تُقال أيام البركة صار يعرفها النخبة فقط..
          أود للجيل أن يقرأ هذا الكتاب (سريب) فإنه يعرض التاريخ والتراث بصراحة مطلقة وصدق خالص ؛ لأتني عايشت ما يقوله الراوي بالممارسة والسماع، فكل كلمة هي صحيحة.. إنه يحكي بل يبكي.. نعم إنه يبكي بكاء الأطلال، فمن الداخل يسب ويغضب ويرضى ويسكت، كل ذلك مختفٍ بين السطور.. كل حادثة تحتها همّ وضيق بال وانفراج وعراك واتهام.. كل ذلك أو بعضه كثّــفه في قوله : "العناد ديدني منذ عرفت نفسي في مرآة الآخرين18 ".    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق