الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

ثروة أمي ( قصة قصيرة )

عبد الجـواد عبّاس

ثروة أمّـــــــــــي

قصص قصيرة



الخوف

        صَرّار الليل يدمغ المكان بطابعه , يعلَق إعلاناته على جدران الظلمة المتراَصة. خطوات صاحبنا مرتعشة وئيدة حذرة. أحس بنوبات الخوف تنتابه من كل جانب.. شفتاه تتحركان , تمتم لنفسه تحت ستار الظلام
 يا لهذا الليل البهيم ! الطبيعة تخيف كما يخيف أبناؤها .. مجنون ليلى كان مجنونا حقا حين دخل في روعة الاستئناس بصوت الذئب و الوحشة من صوت البشر, أما أنا فلا زلت أحمل بين طياتي قلبا طريا رغم هزائم الفقر و الحب والمرض.
همس بذلك إلى نفسه وهو يعبر الطريق الضيق بين أشجار السرو العالية, إنها تحتضن بؤرة الظلام الدامس , ما رأى من جسمه شيئا ولا أحسَّ له ثقلا فكأنما يخطو في الهواء أو يخطو للهاوية .. هبات النسيم تلامسه كأيد غريبة منكسرة منذرة بشر يتخطفه .لا بصيص من الضوء يؤذن بانتهاء غابة السرو  الممتدة إلى يمين ويسار الطريق. أوحت له نفسه بمصيدة اللصوص , ربما هنا أو هناك , خلفه أو أمامه أو حتى بقربه .. ربما عيون خفية تشقُُّ طريقها إليه , مطمئنة في مكانها لا  يراها, تترقب فرصة مروره لضربه في مقتل أو طعنه بسكين طمعا في إفراغ جيوب لا تكاد تحمل ثمن عشائه. 
يا للحسرة ! قالها بتساؤل إلى نفسه : ما الذي رماني في غابة الشيطان هذه!؟ .. ربما أوت الخمارين والحشاشين وحتى الشواذ,من يدرى كلهم فصيلة تمت إلى قطاع الطرق والمتسكعين بصلة .
خشخشة قوية وصوت انقضاض أمامه مباشرة .. تسمَّر في مكانه , تجلجل جسمه , تحرك شعره نتيجة ارتعاش فرائصه . انتظر أن يصطدم به شيء , يضربه إنسان  أو يعضه حيوان , لكن الحركة بقيت في مكانها وهو واقف حيث هو ..تبين من صوت الفرقعة أن ثمة كلب أو ذئب يكسر عظما .
 استمر في وقوفه واستمر صوت الأكل كما هو حتى هدأ شيء من روعه . شعر بالحرج والخجل , صاح داخله : أأخاف من كلب؟   تنحنح بصوت مسموع , تقدم إلى الأمام جفل الكلب محدثا عوية مكتومة , ترك طريدته , سمعه يعدو داخل الغابة ..



قام برسم اللوحات الفنان سعيد لصيفر
شجاعة اضطرارية  ألزم بها نفسه في الوقت الضائع , طاف على ذهنه المثل القائل ( مرغم أخاك لابطل ) .
 فترة غير وجيزة وهو يمشي على نفس الطريق دون أن يمر أحد أو حتى يسمع صوت إنسان غير أ نه اختار أن يترك المشي وسط الطريق الضيق المرصوف فحذاؤه يصدر صوتا مزعجا .. لزم الجانب الترابي لكن أوراق الأشجار اليابسة أخذت تتكسر تحت رجليه بغزارة مما ذكره بنبات العيشوم وأوراقه التي تخشخش عندما تذروها الرياح , بالضبط كما قال عنها ذو الرمة :
            للجن بالليل في حافاتها زَجل
                                     كما تجاوب يوم الريح عيشوم
  وعاودته حمى الخجل مرة أخرى وهو يسند ظهره على شجرة , تذكر خلال دراسته الأولى أن ذا الرمة كان رجلا شجاعا حقا .. كان يصف رحلة ليليّة  له في الصحراء ..لكن  صاحبنا استدرك بصيصا من الأمل رفع به الخجل عن نفسه , فقد اكتشف في البيت أن ذا الرمة كان خائفا أيضا , فقد تخيل الجن تملأ الصحراء وتصدر أصواتا حوله " إذْ  كان خائفا مثلي " هكذا قال لنفسه .. نعم كان خائفا مثلي , كما أنا الآن ..ردّد ذلك بصوت خافت هذه المرة  تلمس لنفسه المعاذير , قال هامسا " لحكمةٍ ما أرادها الله غرز في نفوسنا الخوف كما زودنا بكثير من الغرائز .. أجل من لا يشعر بالخوف ليس إنسانا كاملا , أبي دائما يقول ( من لا يخاف لا يخاف منه ) . لا يمكنني تسبيب خوف أو قلق طالما لا أعرف الخوف ولم أحس به من قبل .. نعم أنا لست جبانا , صحيح كنت شجاعا وأنا صغير , ربما لرعونتي أو تهوري أو حتى جهلي بالخطر .. المعرفة بالشيء قد تريك أوجه الخطر فيه فتخشاها أو تتجنبها , أما الجهل فيجعلك تقدم على الأمر خبط عشواء , لأنك لم تذق طعم الفشل أو حتى جزءًا منه ..
 انكمش على نفسه وهو يقول عليها  آخر معاذيره " نعم  الفشل خسارة معنوية أو مادية هذا حق , لكنها خسارة معوضة لأنها تقابل ثمن التجربة .  كم مرت عليَّ من ظروف منذ كنتُ صغيرا غير أن أكثرها كان قاسيا بالنسبة لحياة الآخرين من أندادي , لكن لم أعد أحفل بما يحدث لي بعد تجاوزي سن الشباب .. كانت أقسى فترة تلك التي أعقبت وفاة والدتي , فقد صار أبي كثير المشاغل , قلقا فقيرا لكنه يريد مني أن أصبح طالب علم على كل حال .
 استطعت الصمود وتحصلت على شهادة في الأدب وسط جو من القسوة والقوت القليل في أغلب الأحيان .. إني لأذكر تلك الحادثة التي كانت فيصلا بيني وبين قسوة أبي , رق قلبه بعد أن بكى بكاءً مرا عندما دخل في روعه أنني أنا الميت المسجى داخل دار الأموات بالمستشفى ..الطفل الميت كان يشبهني تماما .. أعقب ذلك النشيج والنواح ولمة الأهل والجيران وذبح شياه في تلك الليلة فامرأة أبي حريصة على إكرام مثواي لكنني ظهرت آخر الليل ! ..
 لا علم لي بما حدث , لوجود زحمة وخيمة أمام بيتنا , رأيتها من بداية الشارع , سألت أول طفل من معارفي كان يلعب تحت النور , لَمَّا كلمته رفع رأسه ليجيبني لكنه لج في الكلام , جحظت عيناه وكأنما اختلط عليه . ابتعد متقهقرا وهو يوشك أن يبكي , رأيته وقع في الطريق ثم دلف إلى الخيمة فيا لهول ما رأى السامرون تلك الليلة ! فما هي إلا لحظة حتى أحاطت بي أعداد غفيرة من الرجال والنساء , بين دهشة وزغاريد .. أخذت أختي الكبيرة تعانقني وتضمني إلى صدرها  مفرغة كل ما في جوفها من عبرة ونشيج .
                       *******


اللصوص
        استأنفت السير وفي منتصف الليل ازدادت خشخشة الأشجار  حركات لا تنقطع تنبعث في ثنايا الغابة , أصوات خفية مبهمة هزَّات  دقيقة وتحرك أغصان , ..كان خوفي من الذئاب هذه المرة , علمت أنها عندما تجوع تجتمع وتمزق كل ما يأتي في طريقها من إنسان وحيوان .
امتثل أمامي أفظع ما قرأت عنها , فذات يوم أبادت الذئاب فرقة من الجنود الفرنسيين قوامها ثمانون رجلا مسلحا , كانوا يكافحون الجليد للوصول إلى مخيمهم , وعندما وصلت فرقة للبحث عنهم عثرت على جثث ثلاثمائة ذئب , بيد أنه لم يكن هنالك أحد من الجنود على قيد الحياة . فإن كان أولئك الجنود كُثَرٌا ويحملون بنادق فأنا وحيد أعزل , لم أتعود على حمل أي نوع من أنواع السلاح طيلة حياتي .     
        وميض من بعيد رَمى بضوء سيارة ضعيف فوق الأغصان البارزة على جانبي الطريق .. لم أكن لأستلطف مرورها بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل .. فكرت في الالتجاء داخل الغابة غير أن السيارة اقتربت وكشفني ضوؤها فيما كشف . 
 بقيت أمشي جانب الطريق حتى لا يخامرهم الشك .. هدأت السيّارة من سرعتها , وسمعت صوتا عاليا لموسيقى أجنبية .. دنوت أكثر للجانب الأيمن لإعطائها فرصة المرور .. التفتُ في الوقت الذي ظننت أنها تجتازني غير أني فوجئت بالسيارة متوقفة بجانبي تماما , حتى أن ركبتي احتكت بها عند التفاتي .. كانت مازدا بيضاء حسبما تبينت , عندما عكست الأشجار الضوء عليها .
" تفضل يا أخ .. أركب نوصلك .."
        لم أتمكن من رؤية أحد , ولم أعرف عددهم , ربما كانوا ثلاثة فأحدهم بيده سيجارة بالكرسي الخلفي .. قبل أن أفتح فمي نهبوا حقيبتي انتزعوها بشدة حتى اصطدمت أصابعي بباب السيارة محدثة طرقا موجعا ثم ابتعدت بسرعة .
 فكرت بالصراخ وراءهم بكامل صوتي لعل أحد بالجوار ينتبه لكنني عَدلت عن الفكرة , لا فائدة من هذه الطريقة الساذجة , ربما رجعوا وأوسعوني ضربا أو قتلوني فلا أحد يدري بما يحدث وسط غابة مظلمة بعيدة عن العمران والسيطرة الأمنية .  



 كانت السيارة قد اختفت في حنايا   الغابة . شكرت الله لأن الحقيبة لا تحوي غير ثيابي وبعض الأغراض البسيطة , أما بطاقتي وأوراقي فأحملها معي دائما في جيبي الأمامي , لا  تكاد تفارقني حتى في النوم خاصة عندما أبيت داخل المنزل .
  
 طرأت لي فكرة ترك الطريق والدخول وسط الغابة لقضاء بقية الليل وسط الأغصان وبعيدا عن مكان اختطاف الحقيبة فقد بت أتحسب رجوع السيارة , فحينما يتم لهم تفتيش متاع الحقيبة سيعودون إلى تفتيشي .
 لم أتردد , دخلت الغابة فربما عادوا هم أو غيرهم .. قلة هم أولئك الذين يخرجون في هذه الساعة , إلا المضطرين أمثالي .. لأهدأ حتى الصباح وليحدث ما يحدث , ليس أمامي غير ذلك ..
 تحسست الأرض ثم جلست واقتربت لأسند ظهري على جذع شجرة لكن حشرة أو لعلها جرادة تملصت لما شعرتْ بي وخمشت رقبتي بملمسها الخشن .. أعتقد أنني نلت منها مقتلا , هناك لزوجة في كفي ورقبتي .
 الجو يتماثل للبرودة لكني لا أعبأ بذلك فجبتي تقيني من البرد  عندما جلست شعرت بجسمي يستجيب للراحة , وقل خوفي من الذئاب بعد حادثة الحقيبة .. شعرت بالنعاس ينتابني ويروق في عيني لكن علي مقاومته فالمكان غير آمن , تمثلت قول الشاعر :     
فلولا المُزعِجاتُ من اللّيالي 
                                     لما تركَ القََطاَ طيبَ المنامِ
غالبني النوم مرة أخرى غير أني استيقظت فجأة , رفعت رأسي عندما سمعت صوت فرامل وشاهدت أضواء قرب مكان اختطاف الحقيبة , كما توقعت , استدارت السيارة وامتدت أعمدة الضوء داخل الأشجار , يريدونني لا محالة, أرى أحدهم ينزل ويفتش الأماكن الواقعة على امتداد عمود الضوء .. توقفوا قليلا وكأنهم عقدوا اجتماعا صغيرا ثم ركبوا وانطلقوا مسرعين .
 صحوت على شقشقة الطيور الكثيفة , أطرافي متعبة متصلبة  لمتُ نفسي على هذا الضياع الذي سببته لها مرغما .. نتيجة عدم العلم بالشيء يقع الإنسان في المطبَّات , فالمكان الذي أقصده يقع وراء الأجمة هكذا قيل لي , وصف غير دقيق , أو لعل الذي وصفني كان على عجلة من أمره , أو أنا الذي كنت قد نسيت تفاصيل بعض ما قيل لي , كان علي السؤال عن وسيلة نقل موصلة إلى هناك بدل النزول على الطريق العام والقصد إلى المكان مشيا على الأقدام , غير أني حسبت المسافة قصيرة فقلت أوفر ثمن المواصلات .
       قررت ألا أسير على الطريق المرصوف , لم أعد أثق بسلامته , فقدت الأمان حتى في النهار , رأيت مواصلة طريقي وسط الغابة .. مشيت في نفس الاتجاه لكن بحذر شديد , صرت أطلق بصري إلى الأمام وتحت الأشجار قبل قطع المسافة التي أنوي عبورها .. أغصان الأشجار متداخلة من أعلى بعضها يمتد لأكثر من ثلاثين مترا .. أشعة الشمس غير نافذة بسبب تكدس الظلال بعضها على بعض , وجه السماء يظهر مِزَعًا من خلال الأوراق ولاوجود لبشر غير الطيور والحشرات , أفاعي أيضا , وربما ثعابين , فقد سمعت فحيحا عندما احتكّت ملابسي بأغصان شجيرة دانيه .
     
********************


الحقيبة

 مضت ساعة وأنا أتوغل صوب الشمال , قيل لي إن صديقي الذي أقصده يسكن بعد الأجمة في كوخ  جميل , هكذا ذكر لي في رسالته الأخيرة , كان ذلك منذ شهرين .

أبطأت خطواتي فقد سمعت صوتا ينادي من جهة اليمين توقفت للتأكد , انحنيت لأركِّز النظر تحت الأشجار ..  الصوت سمعته ثانية , من اليسار هذه المرة أو لعله أمامي , لم أعد أميـِّز  صار ينتقل من مكان إلى آخر , جلست , سمعت عودا يتهشم , ربما أحدهم يجمع الحطب .. من بعيد أمامي مباشرة رأيت فرع شجرة يهتز , اقتربت بحذر , لم أطلق كامل قامتي , انحنيت , مشيت بهدوء , اقتربت , واقتربت أكثر .. جزء من صندوق شحن لسيارة يبين وراء الأشجار , تفرست فيه ودنوت لكني ذهلت, داخلني الخوف عندما رأيت سيارة خاطفي الحقيبة تقف في مكان قريب منها احترت من أين سأسلك طريقي إلى خلف الأجمة , كيف أضمن عدم رؤيتهم لي .. كانوا يبحثون عني في الليل , يطلبونني وسط الظلام الدامس , كيف وقد أتيت إليهم على قدمي ؟ مكان مثالي للنهب والسلب تحت ستار الغابة .
        تواريت تحت غصن متدلٍ عندما دلف أحدهم لجهتي , لم يرني , وقف يتبول ثم رجع بسرعة حاولت الاتجاه لليمين بغية الابتعاد عن مكانهم وانسحب مُلتفتا نحوهم , استوقفني متاعهم , بل رأيت حقيبتي مفتوحة والثياب منكوشة بجانبها .. فكرت في استرجاعها من حيث لايروني  , كانت براميل الماء , بعدها مباشرة , اقتربت ببطء , شجعني عدم وجود أصوات أو حركة بالجوار  الحديث واللغط كان هناك بالقرب من سيارة الشحن , إنهم مجتمعون  الأقرب أنهم لا  يرونني .
       ظللت أعاين جرأتي , إذا امتدت يدي بهدوء استعادت متاعي , سأحاول والله يرعاني .. دنوت ثم دنوت , كتمت أنفاسي , امتدت يدي إلى ثيابي , لملمتها والحقيبة في ضمة واحدة ثم انسحبت على رؤوس أقدامي ..
     



كان بالقرب جهاز تسجيل مسموع كبير الحجم , فكرت في أخذه نكاية بهم لكني امتنعت , أنكرت على نفسي التفكير في هذا العمل , كلا , سأكون سارقا مثلهم .. لن تخلو الدنيا من عقلاء يرعون المثل العليا .. قد التقط شيئا يؤكل لأني جائع , جائع جدا , ربما كان الخوف والقلق بددا شيئا من شعوري بالجوع , لكن أن أشعر بميل إلى الطعام في هذه الظروف المريبة يعني أن بطني خاوية تماما ..
تلصَّصت عيناي في أنحاء المكان , رأيت بطاطين نتنه غير مطوية , ملابس هنا وهناك في حالة فوضى . يممت كيسا, رجَّحت احتوائه على نوع  من الطعام  .. ترددت , هل ألتقطه ؟ لا ألتقطه  لعنت في نفسي هذا التردد الذي كثيرا ما أعاقني في أخذ القرار المناسب , كم أضاع عليَّ من فرص , وندمت حيث لا ينفع الندم  وأخيرا التقطته .
 مضيت ابتعد عن المكان قبل الكشف على ما معي من طعام مسروق .. جلست موليا وجهي نحو جهة الخطر فربما كان أحدهم يقتفي أثري .. دسست يدي في الكيس , أخرجت بعض ما به , رائحة الفلفل المطحون انحشرت في أنفي , عطست مرتين قبل إخراج الملح , أملي في الباقي , كان منصفا هذه المرة إنه كيس من زبيب .. بدون تردد أخذت ألتهمه , أنهيت نصفه في لحظات , لم أستسغ الباقي فظمئي أصبح محتما . 
كان منتصف النهار قد ولى . دلفت مسرعا نحو الشمال , فقد تأخرت عن الوصول , تأخرت كثيرا اتسخت ثيابي ونهل العرق من جسمي . ظهر في الأفق متسع بين الأشجار , حاولت تجنبه والالتفاف حوله لرؤية ما فيه , استرعى انتباهي  خلوه من الأشجار  اتخذت طريقا جانبيا معتما .. قبل بلوغ المكان سمعت صوت نباح تنفست الصعداء , هناك أمان إذا , الكلب لا يكون في الغالب إلا مع  مستوطن , وإلا يكون كلبا ضالا .

*********


العجوز
         صوت دجاج وصوت مِدقَّة ,  أحدهم يثبت الزنك في مكان ما ,.. اشتم الكلب رائحتي , سيري كان في اتجاه الريح , قفز ناحيتي , كشر عن  أنيابه , راوغني للهجوم من عدة جهات كنت حريصا على ألا يقترب أكثر , أوهمته بإطلاق  حجارة ولم أفعل لأنه يبتعد مع كل حركة إطلاق مصطنعة .  اقترب شخص ودرأ الكلب , شخص رث الثياب  يملأ وجهه الشعر بكثافة غير عادية , لم أتبين غير أنفه , وبالكاد عينيه وجزءًا  بسيطا من حلقه ووجهه .. الشعر متصل حتى صدره مرورا برقبته .. تمتم بكلمات لم أفقه منها شيئا في البداية , لا أدرى إن كان يكلمني أو يكلم الكلب , فقط كان بصره موزعًا بيني وبين الكلب .   
       رفع يده ولوح بها في حركة انعكاسية  كمن يستفسر عما أريد , فهمت ذلك وقلت :
-   أريد ماء , رفعت يدي مصوبا إبهامي قبالة فمي .. لم يبدُ على الرجل أي ارتياب , ليس في عينيه ولا تصرفاته ما يشير إلى خوفٍ مني , أشار إلي وقال :
-         اتبعني ..
أول كلمة أسمعها من فمه خالصة صريحة . تبعته إلى حيث يذهب بي غير أن كلبه لا يزال يترصد ني ,عيناه تحومان حولي  يناور في الاقتراب .. زجره بشده فسكت عن النباح ودخل بين الأشجار.
المكان أوسع مما توقعت , به كوخ من الأنواع المجرورة التي تقتنيها الشركات عادة , مواسير حديدية بكميات كبيرة مختلفة الأحجام مكومةٌ في حزم جانب الكوخ .. ألواح وزنك وقناطر ومواد بناء .. من غير شك الرجل حارس لتلك المواد . 
قدم لي كرسيا , جلست قرب شجيرة بباب الكوخ , أحضر آنية ماء .. شربت وشربت حتى أتيت على ما فيها . ضحك الرجل بأريحية , ضحكة لا يبدو فيها تكلف .. قال :
-         يبدو عليك عطش حقيقي .




 لا يحب المجاملة , بانت أسنانه الصدئة , كلها موجودة ولم تسقط منها سن إلا أنها تميل  عند التحامها ببعضها إلى السواد .
أردف وقال :
-         أزيدك
كنت لازلت ممسكا بآنية الماء , قلت :
-         كلا شكرا لقد ارتويت .
-         إذن أُحضر لك شيئا تأكله , يبدو أنك غريب .
-         أنا لست من هنا , ضللت الطريق . 
من دون أن أجيب عن موضوع الأكل أحضر حلة بها مكرونة بدون لحم , وضعها على نار كادت تخبو .. تظاهرت بالأكل مجاملةً  له .. اتساخ ملابسه ويديه الملطختين بسواد الفحم صدت شهيتي . حركت المكرونة عدة مرات لأبيّن إني  أكلت .
 كنت متلهفا لفتح الحوار مع هذا الرجل الغامض فقد بدا لي شخصية فريدة وراءها سر , أم أنه مختل العقل ليظهر بهذا المظهر . فضلت سؤاله عن صديقي قبل سؤاله أسئلة تخصه وقلت :
-         هل تعرف سكان الشاطئ وراء هذه الغابة ؟
     أجابني وهو يحرك النار بأصابعه العارية :
   -أعرف ولا أعرف , يروني وأراهم , بعضهم يشتغل في هذا المشروع الذي أحرسه , يسمونني المهندس , أنا مشهور بهذا الاسم - مهندس ‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.
- لماذا هذا الاسم بالذات ؟
-   كنت أشتغل – فيما مضى – بسكة الحديد , أوجّه تقاطع الخطوط للقطارات القادمة والمغادرة و أساعد في الصيانة , رفاقي القدامى أطلقوا عليّ هذا الاسم , فظل عالقا بي حتى اليوم .
-         قبل أن أنسى , هل تعرف رمضان الََلواح ؟
-   أعرف  أحدهم باسم اللواح , معرفة سطحية , سمعتهم يذكرون هذا الاسم , يسكن هناك .. أشار نحو الشمال .
-         أين ومتى كان ذلك ؟
-   يشتغل بهذا المشروع , يسكن في منطقة الأكواخ على الشاطئ  هم يجتمعون هناك , جانب كوخي هذا يشربون الشاي , يفطرون , بعضهم كان يجلب الغداء معه , لكن كون اسم صاحبك رمضان فلا أدري .
-         لا , بل هو , هو , لابد أن يكون هو ولكن قل لي يا عمي .....
-         عمك فرج , اسمي فرج
        جنّبني الحرج فأنا لا أستلطف تسميته بالمهندس لما يحمل من نبرة تهكمية  .. قلت :
كنت أريد سؤلك – لو سمحت – لماذا تقسو على نفسك  هذه القسوة  ؟
-         أي قسوة تعني ؟
-   هذه الثياب المتسخة , هذا الشعر الكثيف المهمل و ... استحيت أن أقول : وجهك , جسمك لا يبدو أنك تهتم بالنظافة بتاتا . .
بهدوء قال :
-   أنا سعيد هكذا , أخرج من جيبه علبة حديد فيها تبغ  , بها أوراق صغيرة , لف منها سيجارة ثم أشعلها من حفرة النار .
دهشت لكونه مازال يمارس هذه الطريقة وقلت :
-         مادمت ترغب في التدخين لماذا لا تستعمل السيجارة الحديثة ؟
-   هذه ( بافرة ) , أتعرف ما هي البافرة ؟ عندي منها الكثير , لاأشعر بمتعة التدخين إلا بهذه الطريقة .. هذا ما أبقيه من الماضي , مبرزا علبة الحديد.
-         أي ماض يا عم فرج ؟
-         ذلك الماضي البعيد , لكنه قريب مني كأنه أمس .
قالها وهو يغض يغضّ من عينيه  وينظر إلى الأرض ثم يتجه إلى النار فينفخها فيملأ الهباب لحيته , ثم قال :
-   مالك وهذا يا بني , اذهب واطلب صاحبك عند الشاطئ , العمل هنا متوقف منذ عشرة أيام لا أدري , إذا كان صاحبك مسافرا  فأرجع هنا , على الرحب والسعة .
      نفذت ما قال العم فرج فورا , فقد كدت أنسى ما أتيت من أجله ..  عليَ أن أعبر مسافة ليست قصيرة خلال الأشجار ..وسرت حتى وصلت إلى مجموعة من الأجمات , شديدة الخضرة وقصيرة , أغصانها تفيض على الأرض , غير أنها أقل وحشة من الغابة التي كنت أجتازها , يبدو فيها وجه السماء أرحب وتتخلل بعضَ بقاعها أشعة الشمس .
                        
**********



الثكلى

    انتهت الغابة وأخذت أصعد إلى رأس ربوة .. الأرض لينة لكنها كثيرة  الحفر . نوبات قوية من الريح قذفت الرمال في وجهي , استرحت قليلا , جلست على حجارة ضخمة مستوية , يبدو أنها من العصر القديم , استدرت ووليت وجهي ناحية الغابة لأتجنب الرمال .. تحت رجلي آثار لجرار حمراء مكسورة , كان يستغلها الأولون . لكن الحاضر مختلط مع الماضي فهناك أيضا علب السردين والمشروبات وأعقاب سجائر .. أمكنة إيقاد النار والعظام
 سمعت صوت الأمواج وضجيج البحر عندما أوشكت اعتلاء الربوة , وأخيرا أشرفت على لجة الماء , دونها أكشاك وأبنية قصيرة وحوائط  للحيوانات .. الحركة قليلة , هناك شياه وبعض الدجاج ولم ألمح إنسانا بعد
وقفت قليلا , ثم توجهت إلى أقرب كوخ ..هناك ملابس منشورة على الحوائط , وقع أكثرها على الأرض .. من الدار خرجت امرأة فارعة الطول سمراء , بمجرد أن رأتني هرعت إليَ ثم توقفت فجأة تتفرس في وجهي أجهشت بالبكاء وجلست تنتحب نحيبا متقطعا .
 وقفتُ في حيرة من أمري , فأينما وليت وجهي هذه الأيام تبعتني نفحات التعاسة والبؤس .. بقيت في مكاني إلى أن خرج من الكوخ رجل في الخمسين أو بعدها بقليل ,امتد بصره إلى المشهد قلت له :
-         مالها تبكي ؟
-          تحسبك ولدها الذي رحل من ثلاث سنوات ولم يأت .
-         وهل هو يشبهني ؟
-         أجل , كثيرا , نفس الطول والقسمات , لذلك أسرعت إليك كما أظن , لما رأت في يدك حقيبة السفر .
 جلست إلى جانبها , ربتُّ على كتفها قائلا : سيأتي إن شاء الله .. عليك بالصبر .. ثم اتجهت إلى الرجل وسألته إن كان يعرف رمضان .. وقبل أن أتم الاسم قال: اللواح .. رمضان اللواح , كوخه مقفل من نصف شهر , ذهب إلى المدينة ولم يعد , وأشار بيده , ناحية الكوخ :


-        
انظر , هناك كوخه محاط بفناء خشبي .
-         كيف حاله ؟
-         هو هنا منذ عام ونصف , لكن من تكون أنت وما علاقتك به ؟
-         أنا صديق قديم له , صديق طفولة وصديق دراسة وما شئت من الماء والملح , اسمي سعد عبد الوكيل .
-         هل تعلم بزواجه ؟ قد تزوج منذ ستة أشهر ثم طلق .
-         لا لم يقل لي هذا في رسالته الأخيرة .. أشكرك سأرجع الآن .
لم يشأ صاحب الكوخ رجوعي قبل تناول العشاء , قال لي ستغادر في الصباح , يمكنك البقاء معنا إذا كنت ترغب في انتظاره ..
      رأيت البقاء لتناول العشاء فقط فربما طبخوا طعاما أشهى من طعام العم فرج , بعدها سأرجع للمبيت في الكوخ هناك عنده . 
 الريح الشمالية لازالت تهب وترش رمالها على أكواخ الصفيح , تجر العلب والصناديق الفارغة أمامها في الوقت الذي أذنت فيه الشمس للمغيب
 دخلت الكوخ , جلست في غرفة تكاد تكون الوحيدة عدا متسعين مسقوفين  بزنك غير منظم الترتيب , أحدهما غرفة المطبخ والآخر ربما كان مخزنا أو مأوى للعجوز
جلسنا وتحدثنا أحاديث مقتضبة و جاءت العجوز وتفرست في وجهي للمرة الثانية هزت رأسها عدة مرات  قالت كم تشبه ابني من بعيد لولا أنه يصغرك قليلا , سمرته أكثر وأنفك أقصر , لكن السمات العامة تطابقك تماما ..لم أدعها تكمل قلت :
-   ستنعمين برؤيته يوما ما , الشباب قد يكتمون أماكن إقامتهم حتى يتمكنوا من نجاحهم في العمل وإلا ظلوا مختفين .
 حكّت يديها ببعضهما وقالت :
-         قلبي يقول أشياء كثيرة  لكن يرجح كونه حيا
.. إيه , كم أنا مشتاقة لرؤيته ثم نهضت تراجع ما صنعت لنا من طعام
 ما إن جاء الطعام حتى هرعت إليه , لم أدر حتى انتبهت أخيرا إلى نفسي , كدت ألتهمه التهاما , لقمة تلو اللقمة دون أن أدري بالشخص الذي يأكل معي .. ويبدو أن الرجل اكتشف ما بي من جوع فراح يترك لي المبادرة , لم يضع يده إلا مرات معدودة .. اكتشفت ذلك بعد فوات الأوان , بعد آتياني على الطعام كله عدا لقيمات لا تقيم أود الرجل الذي أخذ يدعوني لإكمال الباقي .. طمأنني بأنه أكل منذ قليل وان الطعام اعد خصيصا لي .
                        **********
                         


الريح
 كنت على عجل وأنا أرتشف كوب شاي العشاء لألحق بالعم فرج والوقت لا يزال مبكرا , وما إن اجتزت عتبة الدار حتى ابتلعتني ظلمة حالكة السواد ..
 الجو مُشبع بغبار حال بيني وبين صفحة السماء , لم أرى ولا نجمة واحدة , ندمت حينئذ لتسرعي في إبداء عدم رغبتي للمبيت في الكوخ .. الرجوع غير ممكن , فيه تردد وريبة , ربما اتهموني بالخوف
 رياح ساخنة أَمطرت وجهي بنوبات من الرمال والغبار , وأخذت أمشي وابتعدت عن ضوضاء الأكواخ . بدأت أنزل المنحدر المؤدي إلى غابة السرو .. تعثرت في الطريق بالحفر والنفايات .. لا أبصر طريقا وإنما أمشي نحو الاتجاه متوجها نحو الجنوب , نحو العم فرج , لكن توقفت لأنصت لحظة , شيء ما أعتقد أنه يتبعني ,صوت بدأ يدنو مني في الظلام , انحنيت , وضعت كفي فوق حاجبي لأركز النظر غير أن شيئا لم يظهر , لكن الصوت يقترب ويقترب , يجلجل , يدفع أمامه بالأشياء الهشة .. علبة فارغة اصطدمت برأسي وأنا مازلت منحنيا ,الريح لم تترك لي مجال للتمييز , لا أدري كيف سمحت لي ذاكرتي المنزعجة باستحضار البيت الذي يقول :      
         فلولا الريحُ  أسمعُ من بنجرِ
                                صَليل البضِّ تُقرعُ بالذّكورِ
 سمعت الصوت يدنو ثانية , أطلقت ساقيَّ للريح ..الصوت غير المرئي أوشك أن يدركني .. وانحدرت وانحدر ورائي الصوت .. غيرت اتجاهي إلى اليمين فخيل إلي أنه غير اتجاهه أيضا , أردت المراوغة فاتجهت إلى عكس الجهة , عندما هممت بالدوران تعثرت رجلي فوقعت في حفرة بكامل جسدي .. رفعت يدي لأمسك بحافة الحفرة غير أن كيس إسمنت فارغ تدحرج بين يدي , عند ذلك توقف الصوت
 بقيت ممددا طريح الحفرة لدقائق أسترد أنفاسي وأعيد الثقة إلى نفسي التي أسررت لها بأن ذلك الصوت ما كان إلا كيس إسمنت تدفعه الرياح , فاستري ما ستر الله .



 وصلت الغابة , توقفت عند حافتها , كانت الرياح تَعصفها بقوة , تتشاجر أغصانها في معركة غير منظورة .. إنها أشد إظلاما , حفيف الأغصان هو المهيمن على جميع الأصوات .. خطوت إلى الداخل أمتار معدودة , ذراعي اصطدمت بفرع يابس فانكسر , وقفت .. العود الآخر ربما وقع في عيني ,.. حتى ولو مضيت فالظلام مخيف ومرعب هنا . لا لن أتقدم , المسافة لازالت بعيدة بيني بين العم فرج , لأرجع لكن إلى أين ؟ ليس إلى الكوخ مهما كانت الأسباب .
 رجعت مواجها الريح ,مُنكسا رأسي لأحمي عيني من وابل الرمال , مقصدي هو الشاطئ سأتحسس مكانا قرب الأمواج .. صعدت الربوة ثانية واتجهت للشرق مسافة تبعدني عن الأكواخ , انعطفت واتجهت ناحية ضجيج الموج .. حرصت على ألا أقترب كثيرا , ربما عَلا الموج وغمرتني المياه لا أريد تكرار الخطأ , فمنذ سنوات عديدة كنت أنا ورفيق آخر نبيت على الرمال قرب حافة البحر , وكان هادئا , حفرنا حفرتين في الرمال طلبا لمزيد من الدفء , ثم غطا كل منا نفسه بيديه , فما أيقظتنا إلا الأمواج تعلو وجوهنا عند الغسق .
      
 تبينت في الظلام شجيرة كبيرة , وتمددت على تل الرمل غير المواجه للريح الشمالية .. كم أحسست براحة غامرة عندما استجاب ظهري للراحة لكن الليل لا يزال يزعجني بظلمته المطبقة .. ترى هل أقضي الليلة بسلام ؟ لكن من يدري عني في هذه الخلوة مع نفسي , أم هل تراني أعطي الأمر أكثر من حجمه
  الأمواج تروح وتجيء مدحرجة معها الحصى وثانية أتذكر ذا الرّمة وقوله            
       تنفي يداها الحصى في كلِّ هاجِرَةٍ
                                نفي الدراهم تنقادُ الصّياَريْف
صوت الريح فيما حولها وضجيج الأ مواج جعلاني أميل إلى النعاس , ولو أن الخوف يمنعني , نعم يمنعني , فلم أستطع طرد هذا الهاجس اللعين من مخيلتي حتى بتذكري لذي الرّمة وتذكري لذؤبان العرب من هُـذيل ومن يليهم
من كانت الصحراء مسرحا  لنشاطهم وفروسيتهم . لم يسعفني هذا في شيء , فقد كنت أقرأ عنهم في بر الأمان .. أتذكر حياتهم وأنا بين البطاطين والوسائد , لم أفكر بأنني سأكون مثلهم يوما , أسكن العراء وأضرب في الأرض بحثا عن المغامرة .
                          **********
                       


الخيال
    نمت نوما متقطعا بسبب الكلاب الضالة , يبدو أنها تمشط الشاطئ بحثا عن غذاء . فما إن تصيبني سنة نوم حتى توقظني هرّة أو فرار مفاجئ . مجموعة منها حاولت مضايقتي فعلا , تبدو شرسة وتنبح نباحا متواصلا , حاولت الاقتراب مني مما أرغمني على النهوض ورمى الحجارة رميا عشوائيا
      منتصف الليل قد أوشك على الانتهاء عندما سمعت أشخاص يركضون من بعيد .. سمعتهم يتجهون نحو الشاطئ لكن أحدهم اقترب , يمشي مسرعا في الجهة السفلية من الربوة , يتوقف الصوت ثم يجد السير وكأنه مطارد .. عندما دنا مني سمعت تدحرج الحجارة بين خطواته ..
    
فات من أمامي , لم ألمح غير خيال أسود يتحرك , صوت قرقعة حجارة يصطك في شجيرة جانبي , إنه يدق أو يحفر ثم يعود الخيال ويتوارى عني في الظلام .
لم أكن مطمئنا لما فعله الخيال , لابد أنه عمل شيئا أخفى
 قتيلا أو شيئا مسروقا , أو أنه سحب ما كان قد أخفاه من قبل , ربما هذا وربما ذاك , إنه أمر دبر بليل , فما أعجبها صفحة الليل هذه ! لا تتبينها إلا إذا عايشتها وعاينتها عن كثب , للنهار شخوصه ولليل شخوصه , ليس جزافا قولهم : " كالفرق بين الليل والنهار " إذا قاسوا الأمور ببعضها . إِنها تتعدى حتى أعمال الناس وتفكيرهم واستجاباتهم مع أحدهم دون الآخر .. أنا مرغم في هذه الساعات لأن أكون أحد ضيوف الليل .

 أخذت أعمل وسادة من الرمال , حركتْ يدي غصنَ الشجيرة فسمعت كشَّة قوية , لم تكذبني أذني , ليس صوت الريح ولا صوت البحر ,إنه كشيش أفعى أو ثعبان, إنها ليلة من قال :       
 وبِتُّ كأن ساورتني ضئيلةٌ ٌمنَ الرّقشِ في أنيابها السُّم ناقِعُ
           لكن النابغة كان قد قالها حين وصف حالته النفسية عندما كان يُرهبه غضبُ النعمان بن المنذر , لا بكونه قد نام حقا صحبة أفعى عجوز هي خلاصة السم  ..  قالها وهو في الدثار والأغطية والمأوى .. أما أنا فقد ساورتني أفعى حقيقية , وها أنا نائم إلى جانبها .
 دعاني خاطري إلى الهيام في القديم ثانية , أستشعر الشجاعة من ذُؤبان العرب والفتاك الشجعان من هُذيل , من كان الضرب في الصحراء والنفاذ إلى جوف الليل من أعمال المروءة عندهم , يشحذون عزائمهم ويعاركون الحياة حتى بإطلاق الأسماء القوية على أبنائهم.. تلك الأسماء الدالة على الصلابة والشراسة أو الدهاء والفطنة وكفاني بأبي ذٌؤيب وصخر وأسد وفهد وثعلب , والأرقم والأسود وحنش , إنهم يقفون في وجه الحياة المرة, نكاية بالشظف وقسوة الطبيعة .
الفجر يرفض الدنو , والريح تشتد والغبار يعبق في أنفي وفمي , عيوني تقاوم النوم بعنف وجسمي لا يتماسك للجلوس الطويل . في نيتي الرقود لكن أخشى إذا أسندت رأسي يأخذني النوم , فكرت في التمشي على الشاطئ ثم ألغيت الفكرة .. فهل سيكون الشاطئ خاليا من الشر ؟ ربما داهية من هنا أو هناك تحل بي في جنح الظلام , ربما وقعت في حفرة أو نهشتني حية أو لسعتني عقرب  أو أبصرتني شلة أشرار استهواها الشاطئ , أو طغى الماء فغمرني أو أو أو....
إذن ما علي إلا الصبر أو المُصابرة حتى يحل الصباح .. بقيت في مكاني أحصي الحركات , التفت إلى كل هزة ونبأة..أينما وليت وجهي لطمتني الرمال المتطايرة و كأنما الرياح تتآمر ضدي , لا يقرُّ لها قرار .
 حاولت النزول خطوات أسفل التَّـلَة , أجلت النظر في الظلام لتكون البقعة التي أختارها بعيدة عن أي شجيرة توسدت الحقيبة هذه المرة , كنت أخشى أن يلتوي ما بها من ثياب غير أني قررت تنظيم لباسي كلية متى استرحت .
 النوم اقتحم جفوني وثقل رأسي , توهمت للحظات أني في منزلي حتى أني هممت بإغلاق باب كان يُـدخل الريح غير أن حجارة استقرت في ظهري , جعلتني أفيق .. وتلتها أخرى .. تدحرجت لليسار لأتجنب جهة الحجارة , كتمت أنفاسي وحدقت في الظلام نحو رأس التَّـلّة حينما تبين لي خيال قصير قريب من الأرض يحفر أو يخرج شيئا هو الآخر
حاولت الاقتراب أكثر مختفيا بالشجيرات .. كتمت في نفْسي غيضا من هذه الليلة التي ترفض الانتهاء بسلام , المكان الذي اخترته يعج بزوار مريبين .     تبين لي أن الخيال أخذ يختفي أو ربما نزل في حفرة لكن حركة ارتطام الحجارة لازالت مسموعة , قررت أن أظل مترقبا حفاظا على حياتي , يجب ألا يراني أحد من طُرَّاق الليل هؤلاء وإلا ظن حتما بأني أتعقبه لأكشف جريمته فيجهز علي بما عنده من سلاح .

**********
                       


الذهب
    
    كفت حركة الخيال فوق التَّـلّة نهائيا , غير أن مخاوفي ازدادت , فلم أره يغادر , ربما قفز إلى جهة أخرى ودب نحوي وضبطني مختبئا قربه.
 
 لزمت مكاني , انتظرت , حدقت حولي ,لقد لاح الفجر  الرؤية لازالت غير واضحة , حاولت الاختفاء في مكان حصين قبل أن يكشفني ضوء الصباح , وبقيت ساكنا حتى أخذت بقع من الرمال البيضاء تبين على ضوء الصباح , وبدأت من حين إلى آخر أسمع صوت عصافير, وطيور قادمة من البحر يصدر بعضها صوتا غليظا .
 
هدأت الريح  واستراحت الأمواج مع إِفصاحة الصباح ,ودخلت بين شجيرات متقاربة لأتوارى عن  الأنظار لكن حجرة تدحرجت من أعلى التَّـلّة .. صوبت النظر , كانت الرؤية واضحة إلى حد كبير .. خرجت من المكان سلحفاة بحرية ضخمة , اتجهت كدبابة نحو البحر .. عندها وضعت يدي على بعض الأسرار التي حيرتني طيلة الليل , السلحفاة حرمتني من النوم آخر الليل, كما حرمني الخيال الأسود في أوله, ولمَّا تذكرت الخيال داخلني شعور بأنه قد أخفى شيئا , ونظرت حولي ,  لا أحد يلوح بالجوار , ذهبت لأستطلع الشيء المخفي , لكن تذكرت , لقد كنت تحت حفرة السلحفاة بالمنحدر عندما رأيته, كانت حركته قبالتي مباشرة .. ورشحت شجيرات ثلاث يكون قد أخفى أو أخذ ما يريد من إحداها .
     
 حاولت تتبع أثر الأقدام بدون جدوى , الريح أماطت كل علامة , اقتربت من الشجيرات الثلاث , هناك أحجار واضحة في الشجيرة الوسطى الرمال أقفلت الفجوات بينها غير أن صفحات بعض الأحجار تدل على أنها وضعت حديثا .. رفعت الأحجار الصغيرة إلى أن وصلت إلى صخرة عريضة , أزحت من على



جوانبها الرمال رفعتها فظهر طرف كيس من الخيش , قلبت الصخرة نهائيا وحررته , حملته إلى جانب الشجيرة , لم  يكن ثقيلا , فتحت فوهته , نظرت بالداخل , هناك حقيبة جلد بسحابة , التقطتها من داخل الكيس , فتحت السحابة , أسورة ومجوهرات , خواتم وأقراط وسلاسل صغيرة .
    
 أعدت ترتيب الذهب بسرعة وأقفلت السحابة , رميت بكيس الخيش ووضعت حقيبة الذهب داخل حقيبتي .. نظرت فيما حولي ثم انطلقت مسرعا نحو كوخ العم فرج .
  
  كانت طريقي هادئة وساكنة سوى من جلبة العصافير وقد أخذت رائحة الدخان تداعب أنفي , يبدو أن العم فرج يعد الإفطار , فكم أنا مشتاق للأكل والنوم .. وكما حزرت العم فرج جالس على النار يعد الشاي ويسخن الخبز .. لمحني من بعيد , هش للقائي , سمعته يقول :
-         غيبة لم تطل , عدت بسرعة , فقلت :
-   حكاية طويلة يا عم فرج , وما نطقت حتى انطلق الكلب نحوي .. جلست قبالة العم وصببت الشاي بنفسي وامتدت يدي إلى الخبز تنهشه وقلت :
-   يا عم فرج أنا الآن بحاجة ملحة إلى النوم .. باختصار صديقي لم أجده , بت الليلة الماضية في العراء عند الشاطئ
نظر إليَّ باستنكار وقال :
-         لماذا لم ترجع وتبيت هنا ؟
-         بعد أن أشبع من النوم سأحكي لك كل ما حدث بالتفصيل  فقط أرجوك لا توقظني حتى أصحو بنفسي .
-         دونك الكوخ , نم فيه غايتك .
-         بل سأنام بجانبه هنا .

حملت الحقيبة ووقفت وأنا أجر نفسي جرا فالنوم يكاد يصرعني , وضعت الحقيبة تحت رأسي ونمت فورا دون خيالات أو وساوس ولو عن المال الذي أحمه .
 سارت عقارب الساعة وأنا نائم فتحت عيني على ظلمة لم تمزقها سوى نار متأججة يوقدها العم فرج , إنه يستعد للعشاء .كان في نيتي أن أصحو مبكرا قبل الغروب لأسلم الحقيبة إلى أقرب مركز للشرطة, صاحب الذهب لابد أن يكون بالجوار , غير أني قلت لا بأس , سأبقى هذه الليلة و سأستمع لحكايات العم فرج . نهضت , نفضت ملابسي من غبار صندوق الورق الذي كنت قد جعلته فراشي وقلت :
-         عم فرج , ألا يوجد مكان قريب نشترى منه وجبة عشاء دسمة ؟
-   أنا أذهب إلى السوق بعد كل يومين أو ثلاثة , ولا يوجد أي محل بالجور , أما لحومي فمن هذا الدجاج , ولا أشتري البيض أيضا .
-   يا عم فرج ستذبح دجاجة , ولكن لابد من أن تأخذ ثمنها , وفوق ذلك أيضا .. هذه عشرة دنانير , حلال عليك , فأنا أبيت وآكل وأشرب .
-   لا, لن آخذ منك شيئا , لازلت أعرف حق الضيافة , الدجاجة ستذبح , ستشرب الشاي وتستريح , تصرف وكأنك في بيتك , ها هي معدات الطبخ والشاي , اعمل ما شئت وعلى ذوقك أنت ,أنا كبير- ربما أنسى شيئا أو أضيف شيئا لا يناسبك  . 
-   لا يا عم فرج, أنت كلك خير وبركة , لكن سأقوم أنا عنك بإعداد العشاء أريدك أن تستريح , سوف لن أطبخ ولكن سأقوم بشواء الدجاجة , فقط أريد بعض التوابل إذا كان عندك .
    
                   ***********


التدخين

 كانت دجاجة العم فرج سمينة وأنا أحسنت إعدادها , النار كانت قوية , نضجت كما يجب رائحة شهية ولحم محمر , لكن حز في نفسي أن العم فرج لم يتناول منها سوى قطعة فخذ , لم يزد على ذلك , قال إن شهيته لم تعد كما كانت , منذ سنتين صار يضايقه الأكل .
  
ونحن نرتشف الشاي بدأ العم فرج بإخراج صندوق التبغ  لفَّ سيجارة , عندها خطر ببالي فتح الحديث معه ولو عن سبب تدخينه , وقلت :
-         يا عم فرج , أتدخن منذ مدة طويلة .
-         أوه .. يا بني منذ جيل , دخنت جميع الأنواع التي مرت من هنا , من أيام طفولتي .
-         وكيف كانت بدايتك معه ؟
-   الرفاق , الرفاق يا بني هم السبب .. أذكر ذلك الزمن , كنت أنا وزميل لي نساعد حدادا متخصصا في حدوات الخيل , في وقت الاستراحة نجلس لنتناول الوجبات , زميلي يدخن بشراهة , طلبت منه أن يلف لي سيجارة كما يلفها لنفسه .. أخذت أسحب من السيجارة غير مبال راقبني , هز رأسه وهو يبتسم وقال :
-   لا, لا هذا ليس التدخين الحقيقي , شرب الدخان لا يكون هكذا ..  تساءلت , ماذا يكون غير ذلك ؟ ثم قال :
-          أنظر ما أصنع أنا , قلده ..

وسحب من سيجارته مدخلا هواء مسموعا من بين أسنانه , وأبقى الدخان لحظات لا يخرج من فمه , ثم خرجت كبوات متقطعة كثيفة على مهل , ثم تنفس وقال :
-         اصنع هكذا أتستطيع ؟


وفعلت , طبقت ما قال دخل الدخان في جوفي ,جاءتني   نوبة سعال , رقرقت عيناي , رأيت الحصان الذي أمامي كما لو كان في وضع مقلوب .أبعدت الدخان عن فمي , هممت برميه عندما قال صاحبي :
-لا ترمه , لا ترمه , فقط خذ نفسا آخر كالسابق ستتعدل الأمور .  وعلى مضض أخذت مصّة أخرى تحت إصرار زميلي , وبالفعل اعتدلت الأمور كما قال بالضبط , وعندما رآني قد انتعشت قال :
هذا هو التدخين الحقيقي, وغير ذلك شرب عيال .. وهكذا استمرت معي عادة التدخين إلى اليوم .
قلت للعم فرج :
-         أما فكرت يوما في تركها ؟ فقال وهو يلف سيجارة رابعة :
-   بلى , فكرت مرات , لكني كنت أعود ,آخر محاولة كانت منذ عشر سنوات , عندما كنت أنا وثلاثة من رفاقي نلعب(  السكمبيل ) كنت ممتنعا عن التدخين يومها .. فصرت كل ما رميت ورقة رمى منافسي أقوى منها , وكأن الفوز يسعى بين يديه أو كأنه ينظر إلى أوراقي .. اغتظت لذلك وحز في نفسي . حاولت  الالتفاف والمناورة بما تبقى لدي ولدى زميلي من أوراق ( الكوز ) الضعيفة .. لم أفلح رغم المحولات المستميتة .. غضبت ورأيت حاجتي الملحة لأفرج كربتي بسيجارة  سيجارة واحدة فقط لا أعود بعدها إلى التدخين . وبسهولة أخذت سيجارة من أحد الزملاء , سحبت نفسا عميقا , كما أسحبها الآن من هذه السيجارة .. تراءى لي أن الدار ازدادت بهاءا وأن الدنيا نورت وأضاءت , داخلني زهو ورغبة في مواصلة اللعب . ومواصلة التدخين أيضا .
       زادني العم فرج كوبا من الشاي , صرت أتفحص وجهه وهو يلملم النار ويقوِّيها ببعض الحطب الصغير , ورحت أقول لنفسي لكم تخفي هذه التجاعيد من أسرار.. هذا الشعر الأبيض وراءه قصة طويلة .. سبعون عام أو أكثر كتاب مسطر بالحكايات والمواقف , يعيش وحده هنا بعيدا عن الناس والضوضاء , اعتزل البشر واستقر في هذا الكوخ . لابد أن تكون الأقدار قد طوحت به هنا بعد معارك طاحنة مع الحياة .. كيف تخطى شبابه ووصل إلى هنا , لذلك درب طويل بلا شك .
     
 قلت لنفسي هذه فرصة لأقصر الليل , سيحكي لي عن رحلة حياته , لأستمع إلى ما يقول كيف ما كان .. وهممت بسؤاله غير أن الكلب أخذ ينبح نباح استغاثة ونجدة .
   
 العم فرج غطى النار بقطعة من الصفيح وسحب نفسه بحذر ناحية الكلب .. نباح متصل غاضب يصدره .. تبعت العم فرج قليلا , لا أريد الابتعاد عن باب الكوخ مخافة أن يدخله أحد ومخافة أن يهاجمني الكلب فهو لا يعرفني .
   
 سكت الكلب فجأة وعاد يحرك ذيله للعم فرج الذي عاد بخطوات متباطئة .. عند باب الكوخ وهو يهم بالجلوس سألته عن الخبر فقال إن ثمّة ثعالب كثيرة في الجوار , إنها تريد الدجاج , يحدث هذا من حين إلى آخر .
   
 أخذت  أذكي النار من جديد فقد كادت تموت تحت قطعة الصفيح التي وضعها العم فرج الذي دخل إلى الكوخ يفتش عن شيء ما في الوقت الذي عاد فيه الكلب من جديد إلى نباحه الغاضب .. وقفت وخرج العم فرج ناحية الكلب , أما أنا فقد انطلقت مهرولا للجانب الغربي .. سمعت ضربة حجر أصابت الكوخ .. رأيت الكلب يقترب من العم فرج ثم يهجم جهة إطلاق الحجارة .

   ليست الثعالب هذه المرة , إنه شخص كان يوجه حجارته لإسكات الكلب .. ربما كانوا اثنين أو ثلاثة  فالكلب صار يجري نحو اتجاهات متعددة .  نادى العم فرج : من يكون؟ ماذا تريد ؟ .  ولتعزيز العم فرج  وخلق نوع من الهيبة رفعت صوتي أيضا وقلت :  إذا لم تكفوا سنطلق النار ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

رجعنا إلى الكوخ , العم فرج قال ونحن في الطريق :
-   متسكعون .. يأتي بعضهم من المدينة لقضاء أيام وليالٍ في الغابة .. يأكلون بفظاعة , يحتسون الخمر , يعربدون , وقد يتقاتلون ويتجول بعضهم ليلا لسرقة متاع الآخرين أو حتى سياراتهم .

عند ذلك تذكرت حادثة مشابهة , فقد كنت ذات مرة في رحلة أنا وبعض الأصدقاء , بنينا خيمتنا في الخلاء قرب الساحل .. وفي الليل تجاذبنا أطراف الحديث , فجأة اقتحم علينا اثنان باب الخيمة , لا ندري إلا وهم ببابها واقفان دون أن نسمع حركة أو صوت أقدام , قالا بأنهما يريدان إشعال سيجارة كانت النار عند باب الخيمة , لم نعترض , لم يتكلم أي منا كلمة واحدة , ارتبكنا , فوجئنا فهما لم يفشيا حتى السلام إلا عند وقوفهما بباب الخيمة , أخذتنا الدهشة من هذا التصرف غير المتوقع , أشعلا سيجارتيهما قبل أن نأذن لهما , ثم ذهبا بعد أن جالا ببصرهما قعر الخيمة .. في الصباح فقدنا محرك الكهرباء الذي كنا قد وضعناه بعيدا عن مكاننا كي لا يزعجنا صوته .

                    **************


المرأة

    لم أنم خارج الكوخ هذه المرة , قال لي العم فرج بأن المكان متسع والباب متين والكلب في الخارج , هذا ما عندي ضد اللصوص .. قطعت حديث العم فرج وقلت :
-         رأيتك تدخل الكوخ مرتين أثناء تحرش اللصوص بالكلب .
-         نعم , لأطمئن على مكان بندقية الصيد أتظنني أعيش وحيدا في هذا المكان المنعزل من دون سلاح ؟
-         من أين حصلت عليه ؟
-         اشتريته منذ زمن طويل , عندي ترخيص بحمله من ثلاثين عاما .

رأيت نفس العم فرج منطلقة للكلام وكأن الإزعاج الذي حدث لم يهزه , ذلك جعلني أتشجع لسؤاله عن حياته الخاصة , فبادرته وقلت :
-         كم مضى عليك في هذا المكان ؟
-         أعيش هنا منذ أربع سنوات .
-         قلت أنك كنت تشتغل بسكة الحديد فيما مضى ولم يمهلني لأكمل فقال :
-         بسكة الحديد وغيرها وغيرها .. رحلة طويلة يا بني .
-         والأسرة أين هي من أحداث الرحلة الطويلة ؟ أم أنك عشتَ وحيدا ؟
-         نعم , كان لي أسرة , وكان لي ولد كبر وترعرع , التحق بالعسكرية ..
قد رأيت أنه سكت , يبدو أنه اكتشف في الماضي ما لكمه فقلت :
-         وبعد ذلك يا عم ؟
-         أصيب بداء الصدر ومات .
هكذا قالها العم فرج جامدة من دون تعليق فقلت :
-         آسف يا عم فرج , فقد ذكرتك بالماضي وفتحت جروحا قديمة .


-        
لا يا بني , الماضي قد فات بخيره وشره لا ضير من الخوض فيه .. أخذت نصيبي في الأسرة والزواج ومضت الأيام السعيدة , لقد عشت حياتي ولست نادما على شيء , هكذا الدنيا معي ومع غيري .
-         آسف للمرة الثانية , آسف لأنك تعيش هذه العيشة وقد عرفت المرأة طريقها إلى قلبك .
-   وأي طريق ,‍‍‍‍‍‍‍‍‍ كان دربا جميلا , مفروشا بالورود , لحظات سرقتها من الدهر , لم أنعم بمثلها ولا يمكن لها أن تعود .
-         الظاهر أنك كنت سعيدا في زواجك .
-   عندما كنت مستخدما في سكة الحديد كانت عندي في نفس الوقت عربة نقل خفيفة ( كاليز ) البعض يسميها (حنطور ) .. أوليت اهتمامي بها وبالحصان الذي يجرها  أستخدمها بعد الدوام داخل المدينة , كسبت من المال أكثر مما أتقاضى من العمل .كنت فتيا وسعيدا وحسن الهيئة وقتها , ألفني الناس ومن في الجيرة حتى نلت ثقتهم .. أكثر زبائني من النساء , يذهبن لزيارة أهلهن أو لبعضهن البعض عند المناسبات والزيارات .. هكذا جرت العادة في ذلك الزمن .

كان لي صديق اسمه محمود , نعمل معا في نفس المكان  أحمله معي في العربة كلما انتهينا من العمل , ذلك حينما أصطحب العربة وأقوم بعلف الحصان قريبا مني ريثما ينتهي دوامي . كنت مسرورا برفقته كما كان مسرورا برفقتي أيضا .. أخلاق ومروءة وشهامة وكل معاني الرجولة تتجلى فيه . كان يدعوني لتناول الغذاء معه من وقت إلى آخر.. ولن أطيل عليك فقد أبصرت بأخته ذات يوم , عن طريق الصدفة , فلا يستحق المُخاتلة رجل حازم كمحمود .. والحقيقة استلطفها قلبي منذ أن شيعتني بعينيها .. انجذبت وراء تلك النظرة الساحرة , فلم أستطع نسيانها .
      
منذ ذلك اليوم صرت أكثف الغدوة والروحة على صديقي محمود , لا أتردد في أي دعوة يوجهها إلي , أهرع إلى خدمته حتى أخمص قدمي .. أتصرف كما يريد محمود , أتمثل بما يحب وأهاجم ما يكره حتى انتقدت نفسي وخشيت عليها من هذا الانهماك غير المحدود .. لكنني كنت مدفوعا كل يوم تحت تأثير قدها المعتدل وصوتها العذب , تأسرني منها كل حركة ونبأة حتى دقات حذائها كانت تناغي أذني وتثير نوازعي .. لفة جردها وأناقتها بات لهما بريق خاص يجذبني إليها .. كل يوم أزداد نحوها قربا إلى قرب .
     
 وسكت العم فرج قليلا ثم استأنف كلامه وقال : ربما كان لكبر سني تأثير في استحضار عواطف الشباب .. قد لا أستطيع أن أصور لك كيف استولت على كياني .. هاجس ملك عليَّ أمري .. حرارة الاهتمام بها أرقتني وزعزعت أفكاري .. صورتها في خيالي ليل نهار .. هل تسمعني أم أنك نمت ؟
-         لا لم أنم , أنا منسجم مع حكايتك الشجية .
لقد شعر العم فرج بأني توقفت قليلا عن التعليقات القصيرة حيال كل حدث مثير من حديثه حينما وقع في شباك الغرام . لم أنم ولكن جاء على بالي قول الشاعر :
             
 لقد كنتُ ذا بأسٍ شديدٍ وهمَّةٍ
                                     إذا شئتُ لَمساَ للثُُريَّا لمستُها
              أتتني سهام من لِحَاظٍ فَأَرْشَقَتْ
                                 بِقلبي ولو أستطيعُ رَدًّا ردَدْتُها

ولأثبت أنني متحمس للحديث قلت :
-         نعم , وبعدئذ يا عم فرج , الفرصة سانحة لتطلبها من أخيها .
-   أخوها يعرفني جيدا فأنا لا أتوقع منه غير القبول لكن كان يهمني رأيها هي .. نعم , رأيها عن صدق وقناعة .. أنا لا أتزوج بامرأة لا تريدني سيتمرغ كبريائي في التراب لو طلبت يدها ورفضتني .. هذا ما تراءى لي .
-         أبعد هذا كله لا تعتقد أنها تحبك ؟
-   صحيح أن الوجبات التي تعدها لذيذة ومقدمة بطريقة تنم عن عناية خاصة , حجرة الجلوس منسقة ونظيفة .. ردها كان مؤدبا وحنونا كلما قرعت الباب أبحث عن أخيها وعندما كان صوت الجرس المعلق برقبة الحصان يعلن عن قدومي كانت هي السَّباقة لفتح الباب رغم وجود آخرين .. لكن ذلك كله لا يعني أنها تهواني , لابد من علامة واضحة تبرهن عن قبولها ورضاها بي قبل القدوم على طلب يدها .

أبعدتُ الغطاء عن فمي وقلت :
- بل الأمور مهيأة لقبولك ولكنك تتعسف مع نفسك أكثر من اللازم , فحالتك وشبابك و... ولم أتم الجملة فالكلب أخذ في النباح فجلست , لكن العم فرج نصحني بعدم الاكتراث وقال :
-   هو لا يسكت في الليل , الغابة لا تخلو من الحركة أبدًا ..قطط وثعالب , ذئاب , كلاب وقنافذ , البشر أخطرها جميعا .. قلت :
-         ربما هم عائدون , جماعة أول الليل .
-         إذا استشاط في النباح وقرب الكوخ سنفعل اللازم , تلك ظاهرة قديمة لم تعد تضايقني .
-         طُرَّاق الليل كثيرون على هذا المكان فكيف وفقت في النوم طوال هذه السنوات ؟
-   تعودتْ أذناي نباح الكلاب , كما تعودت على عصف الرياح والأشجار , لا أنهض إلا إذا ثابر الكلب في النباح     

                      *********


المحاولة
      
            لملم العم فرج غطاءه ونشره على جسمه الطويل , وبكل هدوء جلس ولف سيجارة و كأنه لا يأبه بما حدث حوله من محاولة اقتحام ..
   
شعر بسكوتي فقال :
-   سُرق الكوخ مرتين , كنت غائبا في المدينة حينها , اللصوص جاءوا في النهار , أخذوا الزيت والطماطم وكل ما هو معلب وجاهز .. كما أخذوا حذاء جديدا وثيابا ليس هناك شيء بعد ذلك .
السرقة الثانية حدثت في الليل , تحت إصرار صديق قديم بقيت للعشاء , لما رجعت وجدت حضيرة الدجاج قلبت رأسا على عقب , بقيت ثلاث دجاجات فقط لم يتمكن اللصوص من إمساكها .
-         ربما الثعالب أو الكلاب فعلت ذلك .
-   لا , ليست هي , فقط تفعل الذئبة عندما يخونني الكلب , يدعها تفعل ما تشاء مقابل أن تقوم له بدور الكلبة .
-         والكوخ ؟
-         لم يفتح هذه المرة طلبت منهم أن يجعلوه من الحديد بعد السرقات السابقة , غير أن محاولة فتحه ظاهره .
-         لقد ابتعدنا عما كنا فيه , اقصد حديثـك عن الأيام الخوالي وعن تلك المرأة ...
-   يالها من أيام سعيدة .. كنت إذا عزمت على أمر أظل وراءه حتى أنهيه .. همة الشباب وحرصهم وقوة تحملهم .. ماذا أقول لك , لن أُبطئ :

ذات يوم قصدت نحو منزل محمود , شعرت ببعض الارتباك في المنزل ,الحركة غير عادية , كلام يعلو وينخفض , حديث نسوي مهيمن , رجل متوسط العمر يخرج غاضبا ويقول : سأحضر عندما يأتي محمود لي معه كلام . ثم يمضي الرجل مسرعا .


بعد ذهابه بقليل , وكنت لازلت واقفا فوق العربة لا ادري ما عليَّ فعله و محمود صديقي يتحتم حمايته وحماية أهله في وجودي على الأقل .. لم يطل التخمين خرجت من المنزل امرأتان ونادتني إحداهما باسمي ..

كانت دهشتي كبيرة , إنها هي , أخت محمود , برنية بقوامها الرشيق وصوتها الحنون , وإن كان فيه شيء من شدة , لكنه صوت حلو المذاق .. كانت أمها وراءها وبسرعة أجبت :
-         سيدتي , لا بأس إن شاء الله , ماذا تريدين ؟ أنا في الخدمة . فأجابت بصوت رخيم :
-         تحملني أنا وأمي إلى الجانب الآخر من البلد.
-         ومن هذا الرجل الذي خرج معربدا ؟
-         إنه خالي  .
نزلت أمها بسرعة , قالت دقيقة , يبدو أنها نسيت شيئا  عندها قلت لبرنية :
-         ما المشكلة ؟
-         سكتت قليلا ثم قالت : خالي يريدني زوجة لابنه بالقوة .
-   لا , مثلكِ لا يُظلم ولا يُرغم على شيء لا يُريده , الزواج عشرة عمر , لابد من الاقتناع جيدا بالشريك قبل الارتباط .. وحاولت أن أقول شيئا يوقظها إلى ميولي نحوها قبل وصول أمها, فرصة نادرة لكني لم أوفق في الإفصاح عن خبايا قلبي .. جاءت أمها وانطلقنا إلى بيت خالها .. أنزلتهما أمام البيت وغادرت قبل أن يفتح الباب على أمل أن أحضر بعد ساعة لإرجاعهما .
     
 تأسفت جدا لأني لم أجد منفذا أنفذُ به إلى قلبها , تمنيت لو تأخرت أمها قليلا , فربما ساقنا الحديث إلى نقطة أكثر قربا .. وظللت أقود العربة , لا أدري إلى أين غير أني وجدت نفسي عند منزل محمود ثانية .. خرج محمود بمجرد سماعه لجرس الحصان قائلا :
- متى سيعودان ؟ , يبدو أنه فهم الموقف الذي جاء من أجله خاله .. قال لي : أنا ذاهب إليه لاسترضائه راجيا أن يفهم الموقف ويدرك الظروف , الأمر ليس بيدي كله , لا أستطيع إجبارها على زواج لا تريده .
      
 لم أتكلّم , بل لم أجد ما أقوله في أمر أنا على أحر من الجمر حياله .. ماذا أقول له ؟ لا تزوجها له لأني أريدها !.. لالا , ربما سمعت مالا يرضيني , الرجل يحترمني وقد يستغرب ذلك مني في هذا الوقت المبكر , إذا بادرته بهذا الأسلوب يفسد ما بيني وبينه وعندها يضمحل أملي ..
     
عندما ابتعدت قليلا من المنزل إذا بعربة مثل عربتي تعترض محمودا في الطريق , بها رجلان , تحادثوا قليلا  ثم اتجهوا إلى منزل محمود .. لم يرقني ذلك ولو أن قلقي كان قد هدأ كثيرا عندما سمعت رأي محمود في الموضوع  هي ترفض , هو لن يجبرها .. هذا في صالحي .
      
 توجهت ببطء نحو منزل خالها لاستهلك الموعد المحدد  أحدهم استوقفني يريد الوصول إلى مكان ما , اعتذرت .. لا أرغب في شيء يشغلني , إمكانياتي كلها موجهه لما أنا فيه , تصرفاتي رهينة بما يوسوس صدري من أزمة برنية وأزمتي .

        عند وصولي كان الباب قد فتح , الجرس أعلن عن قدومي كالعادة , لابد أنها برنية ,هي من يعرف الإشارة , قلبي يقرأ أنها هي التي استعجلت أمها لدى سماعها لجرس العربة , خرجت برنية وتوجهت نحوي , بادرتني بابتسامة هزت جوانبي , ابتسمت أنا أيضا , لم ابتسم في حياتي ابتسامة عريضة أصدق من تلك الابتسامة.. ابتسامة ود ورضى , قلت في نفسي هذه هي الساعة المباركة .. فرصة أخرى قد لا تتكرر , دقائق وتأتي العجوز وينقطع الكلام .. استجديت خيالي أفتش عن حجة مناسبة أدخل بها الطريق , كلمة واحدة فقط لكن لا طائل . فـَّر جميع ما كنت أحشده من عواطف وتخمينات , هرب ما جال في خاطري لأيام وليال . هجرني كل ما حاك في عقلي وقررت بأنني سأقوله .. فقط لو وفقت في فاتحة الحديث لانهمرت بما يلزم قوله في صميم الموضوع .

هممت بقول جملة وقلت : إنك ... ثم سكت , خامرني شك بأنها ليست الجملة المناسبة .. وبدون توقع جاءني صوتها سلسا عذبا , كأنما ينتشلني من بحر هائج , قالت :
-         نعم يا فرج .
-   التفت نحوها , وجهها أقرب من أي وقت رأيتها فيه من قبل , لا يفصلني عن الوجه الجميل غير ذراع .. ابتسامة دافئة ووجه جمعت فيه الحسن كله , عندها قلت :
-         أرجو أن تكون أمورك قد سارت على ما يرام .. وبصوت عذب وعيون مقبلة قالت :
-         ليس هناك ما يعيب ابن خالي لكن أخشى أن تتضاءل قيمة كل منا في عين الآخر بجانب هذه القرابة .
أحسست بقشعريرة وغبطة داخلية عند سماع ذلك , شعرت بالأمان , أمدتني بالشجاعة .ومع ذلك جعلت أفكر في كلام يزكيني ويرفع من شأني في عينيها , إنها أكرم من أن تنال بالسفاسف والكلام الرخيص فقلت على الفور :
ـ قيمتك محفوظة , فقط لو كان باليد حيلة . قلتها بصوت منخفض , فقد خفت أن تشمئز من هذه العبارة , لكنها قالت :- مثلك لا يحتاج إلى حيلة , شباب وصحة وعمل . زادني ذلك إصرارا وأحكم الحبل على رقبتي .. أعطتني عبارتها دفعة أكبر فقلت :
-   والله لو تنتهي هذه الزوبعة من حولك سيكون لي شأن في الموضوع .. وفي الوقت الذي قالت فيه أنها منتهية خرجت أمها بصحبة امرأة عند الباب .. لذنا بالصمت ورجعنا إلى المنزل .

                   ***********


البوابة

      وصلنا إلى المنزل وبين جوانحي فرح غامر .. سرور حل بي لم أعد معه لأتماسك , شيعتني بتحية صامتة , ابتسامة تمطر بأنوثتها , تلك اللمحة من عينيها قرت في قلبي , تؤذن بالموافقة وتدعوني أن ألج الباب على مصراعيه .
     
 نزلتْ وتبعتها أمها ..لدى الباب رمتني برنية بنظرة , إنها إيماءة أخرى تنبئ بقبولها لي .. إيماءة استفزت عواطفي , أفصحت بها عن رضاها المكتوم .

      ما كادت برنية تتوارى حتى خرج محمود ودعاني للعشاء في الدار صحبة خاله , هو يريد أن يسترضي خاله ويصالحه , يقنعه بعدم إرغام أخته على ما لا تريد , أما أنا فأعرضت بشدة هذه المرة على العشاء ! غدا سأخطبها , لا أريد لخالها أن يعرف وجهي لئلا أحرج معه إذا جرت المقادير وتزوجت برنية .

      تثاءبت فسمعني العم فرج , حينئذ قال سأحكي لك بقية القصة غدا إن شاء الله .. نم ما تستطيع فجسمك متعب . كان رأسي قد ثقل وغلب علي النوم بالفعل فقلت باقتضاب : تصبح على خير .

صحوت على صوت احتراق الأغصان اليابسة يلقيها العم فرج تباعا في وسط اللهيب , جلست , تذكرت الحقيبة  سأنتهي من موضوعها هذا اليوم , لم أخبر العم فرج عن شيء .. تناولت الإفطار , أخذت الحقيبة , وعدَتَه بالرجوع , لم يسألني إلى أين سأذهب ولا ماذا سأعمل , فقط قال لي طريقك بيضاء .
       
 وصلت إلى الطريق العام , ركبت سيارة كانت ذاهبة إلى أقرب قرية بها مركز للشرطة .. شخص بجانبي في السيارة غدا أكثر الركاب ثرثرة , يكلم هذا ويتكئ على ذاك وكأنه يعرفهم منذ زمن طويل , لكن جل حديثه كان موجها إلي رغم أنفي .. أنا  لا نية لي في الكلام , خاصة أن المواضيع  التي طرقها كانت ركيكة وساذجة , المشكلة أنه لا يلقي حديثا فحسب وإنما يريد إجابات عن جميع تساؤلاته .. أجبت وأجبت الكثير , اقتضبت الإجابة واختصرت في الرد لأجعله يتعب أو حتى يمل لكن حديثه اتصل , أحلته على راكب آخر كان ورائي , استرحت منه قليلا لكنه رجع مرة أخرى وطلب مني إقراره في كلمة قالها لم يصدقها الراكب الآخر .. وليته كان يستعمل لسانه فقط , لكنه يدفعك بمرفقه أو يلمسك بركبته كلما أراد إشراكك في كلامه , وربما فعل بالراكب الآخر كذلك .

لم يخلصني من ذلك الفضولي سوى وقوف السيارة في محطة القرية , نزل ركاب , انطلق بعضهم إلى غايته وبقي في السيارة من يريد مواصلة الرحلة.. ولمَّا تحركت السيارة من  جديد إذا برفيقي المزعج يناديني من داخلها ويأمر السائق بالوقوف قائلا :

-   حقيبتك نسيتها ! حينئذ أحسست بخذلان وأسى وفي نفس الوقت رضيت أشد الرضى على رفيقي الثرثار .سألت أول مار بي عن مركز الشرطة .. إنه لا يعرف , هو ليس من سكان البلد . سألت آخر فأشار عليَّ بأخذ سيارة أجرة .. المكان بعيد على الأرجل .. وصف لي حافلة صغيرة , توجهت نحوها وجدت بها بعض الركاب , ما هي إلا دقائق حتى امتلأت وسار بنا السائق عبر طريق مليء بالمطبات ثم التأم على الطريق العام مرة أخرى .

          لم نلبث كثيرا حتى وقفت السيارة عند بوابة .. نظر الشرطي إلى وجوه الركاب ثم أمرهم بالنزول للتسجيل , يبدو أن شيئا يحدث , مجرم هارب أو دخول أشخاص غير مرغوب في دخولهم أو ظرف من الظروف الأمنية التي تحدث أحيانا ...
       نزل الركاب ونزلت أنا أحمل حقيبتي , كان حرصي عليها شديدا بعد الذي حدث .. جاء دوري في التسجيل , كل شيء على ما يرام , غير أن  الشرطي ساوره الشك .. ألقى نظرة استغراب على الحقيبة , لا أحد يحمل حقيبة غيري , كلهم تركوا أمتعتهم في السيارة عداي ..

     افتح الحقيبة .. هكذا قال الشرطي . يكتب وكأنه لا يأبه , أو كان الأمر من الأمور الروتينية , لكن أنا اشتعلت في رأسي نار الخوف من جديد , الصورة المتوقعة مربكة , يخامرني الشك في كمية الذهب .. ولم أتردد حتى لا أُضاعف على نفسي المتاعب , شاهد الثياب أولا ثم فوجئ بالكثير من الذهب .

        أمرني بإغلاق الحقيبة و أشار إلى زميل له كان على يده المشهد , أمره بمصاحبتي إلى مقر البوابة .. ذهبت دون اعتراض ودون أن أدفع للسائق أجرة أو حتى أخبره بانتظاري تحسبا بأني سأقضي فترة بين سين وجيم , ربما تطول أو تقصر .

      سألني الضابط المناوب عن شأن الذهب , إجابتي كانت معروفه , فأنا ذاهب لتسليمه إلى مركز الشرطة . إجابة مختصرة .. ابتسم الضابط بسخرية وقال :
-         ماذا ؟ تسلمه ! أهو ليس لك ؟
-         وجدته
-         آه , وجدته , أمين والله , يا لصحوة الضمير !
شعرت أنه يستخف بما أقول , حتما لا يصدقني قلت :
-         أنا وجدته بالفعل .
ضم الضابط الذهب وقال :
-         حسنا حسنا , هذا ليس من شأننا لكن ستصحبك سيارة إلى مركز الشرطة , قل هناك ما تريد .
 ركبت السيارة مع اثنين من الشرطة , نزلنا ودخل أحدهم إلى مكتب , بينما بقى آخر معي ..
استدعيت فورا , وجدت رجلا يلبس ملابس مدنية دعاني للجلوس وقال :
-         لا يبدو عليك التأثر , قل ما عندك عن قصة الذهب , أم تريد أن نسألك وتجيب , قلت :
-   يا سيدي القصة وما فيها أني قضيت ليلة في الخلاء عند الشاطئ , جاء أحدهم وخبأ هذا الذهب , كنت أراقبه من حيث لإيراني , في الصباح أخذته وقررت تسليمه للشرطة , وقد كنت متوجها إليكم حين ضبطني التفتيش .
ضحك الضابط بصوت مسموع قائلا :
-         قصة بديعة ..
        وفي هذه الأثناء انحنى أحدهم على الضابط يسر له حديثا ثم أخذ الحقيبة إلى مكتب مقابل وسمعت صوت المحتويات وهي توضع على الطاولة , كما سمعت شخصا يقول  " هذا هو,  إنه ذهبي , هذا كل ما سُرق مني , لم ينقص منه شيء , أشكر العيون الساهرة على الآمن  ".

رجعوا جميعا إلى مكتب الضابط , أحد الشرطة أشار نحوي وهو يقول لصاحب الذهب : " هل تعرف هذا الشخص أو رأيته من قبل" . تفحصني الرجل وقال : يا سبحان الله حتى الكبار اصبحوا لصوصا ! كلمة وخزت كبريائي , موجة أسى وألم أحاطت بي وأردف الرجل يقول

-   لا أعرف هذا الرجل ولا رأيته من قبل , هو ليس وحده بالتأكيد , منزلي محكم ومحروس , السرقة التي تمت عملية مدبرة ومدروسة لا يقوم بها شخص واحد .. عندها قلت :
-   أنا لا أعرفك ولا رأيتك من قبل ولا رأيت منزلك ولا سرقت ذهبك, أنا دوري كما قلت للضابط , وجدت الذهب مخبأ حيث وضعه السارق الأصلي .
ابتسم الرجل وقال:
-   هذا تلفيق قديم , عندما ضبطوك متلبسا تظاهرت أنك متوجه لتسليمه , عذر مكشوف  لا تركن إليه اعترفْ ودلهم على أفراد العصابة وإلا انتزع الاعتراف منك انتزاعا .
هنا تدخل الضابط وقال :
-   مهلا مهلا , ستتضح جميع الأمور , هناك تحقيق , ومازال دور النيابة وغرفة الاتهام وربما محكمة الجنايات , كل شيء في حينه .

     لم أستطع الصبر على كلمات الضبط الأخيرة فقلت :
-   أنا لا أستحق هذا ولا أستحق ذاك , أنا رجل شريف , والحقيقة الناصعة هي التي قلتها لكم ولكن ساقتني الأقدار وساقتني أمانتي إلى هذه التهمة الخسيسة التي وضعتموني فيها .. أنا أستحق مكافأة من هذا الرجل بدل من أن يرميني بالسرقة ويصمني بالعار .. حسبيَ الله ونعم الوكيل .

                   *********



السجن


           أُجرِيَ معي تحقيق طويل , كدت أسرد فيه قصة حياتي  وتحدثت عن مجيئي للمكان , وعن رحلتي ابتداء من منزلي إلى أن أصبحت في قبضة الشرطة .. لم يفد ما قدمته من قناعات , أصابع الاتهام تشير نحوي , والناس في غليان وغضب فالبقعة تعرضت مؤخرا لموجة من السرقات المختلفة .. سمعتهم يذكرون اسطوانات غاز , مضخات مياه فرش وأثاث وسيارات وأحذية وحتى ملابس منشورة على حبل الغسيل ...
أُحِلْتُ إلى النيابة العامة وبدأ تحقيق جديد , قلتُ فيه مــــا قلته في مركز الشرطة وزيادة .. أُودِعْتُ بعدها فــــــي السجن بصفة احتياطية لاستكمال بقية التحقيق ..

        هناك في لسجن التقيت ببعض المحبوسين أكثرهم أُدينوا في جرائم حقيقية , أما أنا  فأعرف براءتي , متأكد من أنني مظلوم , لكن من ذا يصدق , كلهم استبعدوا مبيتي في العراء اعتبروا نهب الحقيبة تلفيقا , باتت معظم الدلائل ضدي .
       كان نصيبي أن أذوق طعم الحبس , بتُّ ليلة مزعجة , شخير وعربدة , حرّ وعرق , رطوبة ممزوجة برائحة الدخان .. كدت أنفجر لولا أن أحد المساجين شدّ انتباهي , قد تمدد على فراشه, نظره مسلط نحو السقف , يحرّك يده , يتمتم كأنما يتحدث مع نفسه , يمسح بيده على وجهه, لا بل يمسح دمعة ًانحدرت على صدغه , اقتربت منه لعلني أفقه كلمة مما يقول , لكن رأيت دموعا , دموعا حقيقية , أو ربما هو يحاسب نفسه على خطاياه التي اقترفها في حق نفسه وحق الناس , لعلها صحوة الضمير فهي تهز المشاعر وتستدر عبرة الندامة .

     جاء في بالي أن أسأله ولم أفعل , رأيت إعطائه الفرصة ليشبع خاطره غير أنه التفت فأبصرني , بدأت يده تمسح دموعه بسرعة عندها بادرته وقلت مبتسما :
-          لا بأس عليك يا رجل , لكل منا همومه وأحزانه ما الذي يبكيك ؟ الدنيا لا تستحق منا كل هذا العناء ..
قال كلمات بصوت منخفض لم أسمعها في البداية , ثم رفع صوته قائلا :
-         كان رفيقي منذ ثلاث سنوات , كلها نشاط ودأب وحيوية

ظننته تذكر عزيزا عليه قد مات أو رحل , لكن من عساه يكون هذا العزيز ؟ أهو هنا أم خارج السجن؟ فقلت :
-         ماذا حدث له ؟
-         مات , انتهى بعد حياة كلها كفاح وصراع يقظة وترقب .. كان شجاعا , ليل نهار لم تغمض له عين .
-         عرفت الآن صديقك , كان جنديًًّا معك .
-   جنديا, أكثر من جندي , ذكي وحازم صامد , لا يعرف المزاح ولا التخفّي , يستميت في سبيل كسب الانتصار .
-         أرى أنكما قاتلتما معا , من المحزن أن يدخل الإنسان السجن عقب حياة حافلة بالعسكرية والشرف 
-   ماذا تقول يا أستاذ ؟ قاتلنا معا !.. صحيح أنه قام بسلسلة من التضحيات التي لا يقوم بها حتى البشر , ذلك لأن سلاحه سري ورهيب ..

أشحت بوجهي مخاطبا نفسي : لا يقوم بها البشر , سلاح سري ورهيب , خامرني الشك في سلامة عقله , ولم يخرجني من حيرتي وارتباك عواطفي إلا قوله :
-         العنكبوت ! جاري منذ ثلاث سنوات وأشار إلى أعلى وأردف : نعم ثلاث أعوام من الجوار المحترم .
تنفست الصعداء , رثيت لحاله , رجل يحمل هذا القلب الرقيق ويودع السجن , يـبكي من أجل عنكبوت مات ..

      قال لي وهو يشير إلى السطح وزاوية الحجرة .. هذه الخيوط المتشابكة كلها من أعماله , هو أنجزها خيطا خيطا .. أول يوم جئت فيه إلى السجن كان بيته هناك ثم البيوت التي تراها حولـه , يبادل بينها في الإقامة .. كلها تصلح للصيد , كلما اهتـزّ خيط منها في جهة ما هرع إلى الفريسة واقـتـنصها .. هناك خيط يوصل بينها جميعا , أي هزة بسيطة تكون النتيجة عنده , يحدد من أيـن جاءت بالضبط فيقصدها من دون تردد , ألم أقل لك إنه ذكي .. أي حشرة أراها تضل الطريق إلى بيته أدفعها إليه , أسد عليها الجهات حتى تعلق بشباكه , ناحيتي يهابها الذباب والبعوض مقابل ذلك .

       رأيت نفسي شغوفا لأسأله عن الأسباب التي أودعته السجن , لمست ما يشجع على ذلك بعدما رأيت من رقة قلبه , فقلت :
-         ما عملك قبل قدومك إلى هنا ؟
-         عملي , كنت مدرسا , مدرس فلسفة .
-         مدرس, المدرس يزن الأمور , أتهتز مشاعرك إلى هذا الحد من أجل عنكبوت .
-         عامل الوحدة يا أستاذ, العزلة وقلة الأصحاب والأحباب جعلت مني صديقا للحشرات أسامرها وتسامرني
-         نعم, والليل يا صديقي :
الليل ممتد السكون إلى المدى لاشيء يقطعه سوى صمت بليد , لحمامة حيرى وكلب ينبح النجم البعيد .

**********


القتل  
 كان النزلاء قد ناموا , لم يكن صاحيا غيري وغير هذا المعلم, وعجبت من هذه الصدفة التي تجبرني في كل مرة على سهر الليل ...
    وبالمناسبة وجهت كلامي إلى الأستاذ فقلت :
-         أتركك إن كنت ترغب في النوم , أم أنك تفضل السهر؟
-         على كل حال , السهر جزء من الحياة , النوم جزء من الموت , " أنا أفكر إذن أنا موجود ".
-   أرجو ألا تهبط معنوياتك, أنت في نظري مازلت أستاذا وإن جارت عليك الظروف .. ها أنت مازلت تفسر الأمور بالمفاهيم الفلسفية .
-         مع ذلك لي نصيب في السجن .
-         على فكرة ما الجرم الذي دخلت من أجله السجن ؟ اسمح لي بهذا السؤال وإلا أعفيك من الإجابة .
-   لا, لا حرج في ذلك, كل شيء معروف وواضح أنا محكوم بسبع سنوات في قضية قتـل .. دخلت أحد المساجد في الطريق لأداء صلاة الظهر كان الوقت صيفا في يوم شديد القيظ, وعند دخولي وجدت في زاوية المسجد رجلا منبطحا على بطنه يهز رجله في الهواء, كان يتحدث إلى شخص آخر.. اقتربت منه وقلت له بصوت خافت: لا يليق أن تبقى بهذا الوضع وأنت في المسجد, بيوت الله لها حرمتها .

وقف الرجل غاضبا مما تفوهـت به وقال:
-   المسجد واسع إذا كنت تريد الصلاة , أم أنك وصي على الدين .. وصرت كل ما أقول له كلمة في الموضوع يكاد يجن ويزيد غلوائه, وأخيرا أمسك بخناقي وأخذت  اتجه نحو الباب وهو ممسك بي لئلا أفسد صلاة الناس, غير أنه دفعني بكلتا يديه فوقعت, ولما نهضت مسرعا ظن أنني سأضربه فهـجم عليّ فأبعدته بيدي.. وتشاء الصدف وأن يصطدم رأسه بقضيب حديد في الجدار فيشجه.. وفصل بيننا الناس وجاءت الشرطة وعملت المحضر, ثم سعى أهل الخير بيننا وتصالحنا وانتهى الأمر .

          بعد مرور سنة على الحادث, كنت قد تركت سيارتي في المستودع الملحق بمنزلي ولم أقفل عليها الباب.. في منتصف الليل سمعت حركة عند السيارة, خرجت, وجدت أحدهم يحاول تشغيل المحرك في الظلام بعد أن دفع السيارة خارج المستودع بالفناء الداخلي.. لما شعر بي لاذ بالفرار وقفز فوق سور المنزل, وقبل أن ينزل في الجهة الثانية قذفته بحجارة.. يبدو أنها أصابته, سمعت وقوعه على أرضية الشارع, لما فتحت الباب وخرجت وجدته يتخبط في دمه, مات عند وصوله للمستشفى .

        اعترفت بكل شيء, كل ما حدث بالتفصيل, إلا أنه لم يخطر ببالي أن الرجل هو نفس الرجل الذي تشاجر معي في المسجد, أقرباؤه استدلوا بصفحة الأحداث اليومية في مركز الشرطة الذي فضّ بيننا تلك المشاجرة..
                  
         قدمت إلى محكمة الجنايات, اعتبرت النيابة القتل عمدا مع سبق الإصرار والترصد, طالبت بأقصى عقوبة إلا أني بعد مرافعات ودفوع وتأجيلات حكم علي بسبع سنوات. هذه هي القصة التي جاءت بي إلى السجن. شعرت بأني أصدقه, فقلبي لا يدلني على نفور منه, أحسست بأن كلماته بريئة فقلت:
-   أسفي عليك, أنت لست مجرما إطلاقا, ولا قاتلا يستهويك سفك الدماء, كل شيء, كان قضاء وقـدَرا, ما كنت تريد قتله.
-   أطلقت الحجارة بدافع الغيظ فقط, مقتّ عليه لاعتدائه على منزلي, لم يكن وراء ذلك شيء.. على كل حال مضت السنون وتحطمت الآمال.. رفضت نفسي حياة السجن في البداية, تشوقت إلى الحرية, الحرية التي كنت أنعم بها ومع الأيام أصبحت أمنية تبتعد, صورة تبهت, صار السجن منزلي.

أقرب المسجين إلينا كان في مقتبل العمر, تثاءب في فراشه, التفتُّ نحوه فإذا هو يبتسم قائلا:
-   هذه أول ليلة تقضيها في السجن, سهرت لأنك جديد مثلي.. إذا كنت تنتظر الأستاذ لينام فسوف يطول انتظارك فهو مشهور بالصمود.

*********



الزوّار

     بدأت اتجه إلى هذا الصوت الجديد, فقد استرعى انتباهي كونه من المحبوسين الوافديـن حديثا فقلت:
-         هل أنت محكوم أم مازالت قضيتك معلقة مثلي؟
وبدل أن يجيب قال:
-         قبل ذلك قل لي بأي جرم جئت إلى هنا؟
أخبرته باختصار, لكنه لم يصدق أيضا, استبعد بشدة كوني جئت لتسليم الذهب لمركز الشرطة, قال إن ذلك لم يكن نيتي الخالصة, لم يقل كلمة دفاع لصالحي ولو على سبيل المجاملة ..  لا نية له في تصديقي ولو أقسمت له بأغلظ الأيمان.
قلت له دعنا من هذا, وهات ما عندك قال:
-   تقصد قضيتي, هي ليست قضية, لا أساس لها من الصحة, لكن نصيبي أن أدخل السجن, الأقدار نسقت لي حتى وصلت إلى هنا.
-         كيف كان ذلك؟
-         اسمع يا سيدي, أنا لم أخبر أحدا في هذه الحجرة عن مشكلتي رغم مضي أربعة أيام على سجني.
-         أربعة أيام فقط , إنك جديد بالفعل, يا للأسف! لازالت حريتك طرية, لازال وجدانك ينبض بها.
-   أنا محكوم بستة أيام فقط بعدها أعود للتحقيـق.. كان من الواجب أن يحجزوني في التوقيف وليس مع هؤلاء وكذلك أنت, قالوا التوقيف يحتاج  لترميم وصيانة.
-         ما تهمتك الموجهة إليك؟
-   كنت ذاهبا لأداء صلاة الصبح مع الجماعة , أمسك بي رجل في الطريق مدعيا بأني سرقت بضاعته, القفل قد كسر وقطع البضاعة منثورة أمام الباب وفي الطريق.
-   هاأنت قلتها بنفسك, قضيتـنا تكاد تكون واحدة, نفس الظروف والنوايا مع الاختلاف في المظهر, وأراك استبعدت حكايتي مع أنها لا تختلف عن حكايتك.
لم يعلق على كلامي بشيء بل قال:
-   تصبح على خير, نم فغدا يوم طويل, والله يعلم ماذا سيجري لك, قضيتك مهدده, لا شاهد لك, كما  لا شاهد لي, يمكن أن نلبس الجريمة رغم براءتـنا.
لم أتكلم, سوى قولي تصبح على خير.
      هاجس يشعرني بعدم الاكتراث, طمأنينة انتابتـني أبعدت عني الشعور بالهم, قلبي يقول لي بأني سأنجو من هذه التهمة, لذلك استلقيت في الفراش وكأني في بيتي أو حتى في كوخ العم فرج.
    
  في الصباح جعلت أطل من نافذة السجن نحو الخلاء الواسع الحر, خلف القضبان الغليظة, وطيور النورس قرب النافذة العتيقة المكسورة بصفرة معتمة.. وعجبت لهذه المفارقة حرية في الخارج وعبودية في الداخل, لا تفصل بينهما سوى سنتيمترات.. طائر هو أكثر المخلوقات حرية في هذا الكون يرتاد الحبس, يطل وكأنه يحيي تحية الصباح.. ليس النورس فحسب مغرما بأسوار السجن بل هناك الحمام الوديع وجمهور من العصافير الشقشاقة.
       
 في هذه الأثناء جاء إلى العم فرج ثلاثة زوار, ذلك بمجرد خروج ضيفه السجين سعد عبد الوكيل.. سألوه عما إذا مر به شيء مثير للشبهة, مما جعل العم فرج ينظر إليهم باستغراب ودهشة.. قلبه يقول هم, انهم هم, جماعة البارحة, هم من شاغل الكلب, هم من ضرب الكوخ بالحجارة.. قال لهم:
-         لا لم يمر أحد بهذا الوصف, قالوا:
-         إذن من كان عندك الليلة الماضية؟
-         ومن أدراكم بالليلة الماضية إن كان عندي أحد أم لا؟
-         نحن نعرف كل شيء فقل لنا ما تعرف أرجوك.
-         وإن لم أقل لكم ماذا ستعملون؟
-         بل ستقول أيها الشيخ, فقط دلنا على من كان عندك, اللهم إلاّ إذا كنت شريكا له في العملية.
-         أية عملية وعمّ تتحدثون ؟
-         أحدهم سرق ذهبنا, ونحن نتهم كل من جاورنا.
-         ومن أين أنتم؟ ومتى كنت جارًا لكم؟
-         الليلة الماضية ونحن نفتش كان معك شخص , أرشدْنا إليه لنتأكد أنه ليس صاحبنا.
-         إذن أنتم زوار الليلة الماضية, لماذا لم تحضروا في النهار ما دام الأمر سليم الطوية؟
-         كنا على عجل وإلاّ أخفى اللّص ما سرق.
-         ومن أدراكم أن اللّص مرّ من هنا؟
-   شُوهد رجل يدخل الغابة في الصباح الباكر من جهة البحر, هو في أحد خباياها الآن أو قد فرّ نهائيّا, عساه يكون الرجل الذي كان عندك.
-         ربما لا يكون صاحبكم, سيأتي إلى هنا غدا.. قالها وهو ينظر إلى باب الكوخ ويقترب نحوه خطوة خطوة.
-         فقط قل لنا أين توجّه وماذا كان يحمل وما حكاه لك.
صاروا يقتربون منه أكثر وهم يتحدثون معه.
وفي هذه اللحظة قفز العم فرج نحو الكوخ يريد البندقية لكنهم كانوا أسرع منه, سبقوه على الباب, حالوا بينه وببن الدخول, لكنهم لا يعلمون ما يريد, أوثـقوا كتافه, ولجوا إلى الداخل وعاثوا بالأثاث... لم يجدوا البندقية لحسن حظ العم فرج, قد وضعها تحت أخشاب ملاصقة لأرضية الكوخ.

**********


التحقيق

      ذهب اثنان من مقتحمي الكوخ إلى مكان ما, وبقي واحد لحراسة العم فرج من الإفلات ولانتظار حضور ضيفه سعد عبد الوكيل الذي وعده بالعودة, ذلك في صبيحة اليوم الذي أُحضر فيه سعد إلى المحكمة لاستيفاء بقية التحقيق.

      أخذ وكيل النيابة يقلب الأوراق ووقف عند بعض الصفحات ثم قال لسعد عبد الوكيل:
-         قلت أنك قضيت ليلة الثلاثاء في العراء لكنك ضبطت ليلة الخميس, فأين قضيت ليلة الأربعاء؟
-         عند رجل في غابة السرو.
-         ما اسمه؟
-         فرج.
-         فرج, فرج من؟
-         اسمه فرج فحسب,  لا أعرف بقية الاسم, يلقب بالمهندس.
-         هل يسكن في غابة السرو؟
-         نعم, هناك مقر عمله وسكنه معا .
-         هل هو موجود الآن؟
-         أعتقد ذلك, فهو لا يغادر المكان إلاّ نادرا .
-         وكيف عرفت ذلك؟
-         هو أخبرني .
-         هل لديه علم بما لديك من ذهب؟
-         لا, لم أخبره بشيء.
ضمّ وكيل النيابة أوراقه قائلا:
-         الآن جهزوا لنا سيارة لنذهب جميعا إلى غابة السرو لنرى فرج المهندس.

          


 توجهت سيارة الشرطة مع وكيل النيابة وبعض الجنود المسلحين إلى مقرّ سكنى العم فرج بغابة السرو..
عندما دخلت سيارة الشرطة المكان لم يهاجمهم الكلب, يبدوا أن الجماعة تدبروا أمره, وكان الرجل الذي بقي لحراسة الكوخ يحاول في هذه اللحظة إقناع الرجل العجوز باقتسام الذهب إذا هو دلّ على مكانه, ولم ينتبه إلى سيارة الشرطة وهي تقتحم المكان حتى أنه لم يجد مجالاً للفرار.

قاموا بفكك قيد فرج المهندس بعد أن أخبرهم فورا بما حدث, وفي نفس المكان أجري معه تحقيق قصير حين بادره وكيل النيابة قائلا:
-         هل تعرف هذا الرجل؟ وأشار إلى سعد
-         كان يـبيت عندي في الليلة قبل الماضية
-         ما اسمه؟
-         لم أسأله عن اسمه ولاعن عمله ولا حتى من أين جاء.
-         هل تعرف ماذا يحمل في حقيبته؟
-         ما الذي يدعوني أن أعرف, ليس من حقّي الاطلاع على محتويات حقيبته.
-         هذا الرجل يقول أنه بات ليلة في الخلاء قبل المبيت عندك, فهل ذكر لك ذلك؟
-   نعم, قال أنه ذاهب إلى صديق هناك عند الشاطئ, ولما لم يجده بات ليلته في العراء ثم جاء إلى هنا صبيحة اليوم التّالي , نام طول ذلك اليوم عندي وقضى الليل أيضاً , وفي الصباح توجه إلى غرض يريده بعد أن وعدني بالعودة.
-         هل قال لك إلى أين سيتجه؟
-         لا, لم يقل لي شيئا ولم أسأله أنا عن وجهته الّتي يقصدها.

عند ذلك أمر وكيل النيابة الجندي الّذي بجانبه بإحضار الرجل الذي ضبط بالكوخ بعد أن أوزع للعم فرج بمراجعة المفقودات من كوخه.
وبمجرد مجيء الرجل قال وكيل النيابة :
-         قل لنا اسمك, عمرك, عملك, رقم بطاقتك, مكان إقامتك المعتاد.
بعد أن تم كل ذلك قال الوكيل:
-   الآن الدور دورك, إذا كنت صادقاً معنا وقلت كل شيء على حقيقته فستستحق الظروف المخففة, فأنت الآن وصراحتك.
ونطق الرجل بنبرة فيها ارتباك وقال:
-         يا سيدي أنا رجل محايد.
ابتسم وكيل النيابة وقال:
-         وكيف كنت محايدا وقد وجدنا الرجل العجوز معك وهو مقيد اليدين؟
-          قد غُرّر بي , ولا أكتم أنني كنت خائفا بعض الشيء.
-         وممن تخاف؟
-         معي شخصان, ربما سيحضران بعد قليل, هذا إذا لم يخافا منكم ويهربا.
قال ذلك ثم سكت, فنظر إليه وكيل النيابة وقال:
-         ثم ماذا؟ ما سبب خوفك منهما ؟
-   ربطتني بهما علاقة تجارة, نبيع ونشتري خردة وقطع غيار قديمة وجديدة, أثاث , ملابس, غلال حيوانات... كل ما يصادفنا...
-         منذ متى تعرفهم؟
-         منذ عشرة أيام فقط.
قال وكيل النيابة:
-         فسر لنا بالضبط سبب وجودك هنا.
-   لما كنت مقيما معهما في نفس المنزل فقد زارهما شخص ليلة الثلاثاء الماضي , تـناول العشاء معنا.. بعد العشاء خرجا معه أمام باب الدار وبقيت أنا بالداخل, وقد احتدمت المناقشة بينهما حتى خشيت أن يتشاجروا.. بعد ذلك دخل صاحباي وذهب الرجل الآخر, ولما سألتهما عن السبب قالا بأنهما يتاجران في الذهب مع الرجل, فهو يبيع ويأتي ليسلمهما النقود. في هذه المرة قال إن ما لديه من ذهب قد ضاع, وإن قيمته تربو على خمسة عشر ألف دينار, عندئذ قال وكيل النيابة:
-         لكن ما علاقتك أنت بهذا المكان وبهذا الرجل العجوز؟
-   صاحباي يقولان بأن ذهبهما المسروق قد عرفا مخبأه , وذهبت معهما إلى المكان المزعوم عند الشاطئ, لكنهما فوجئا بأن المخبأ قد نبش, ولما سألوا سكان الأكواخ قال أحدهم إنه عندما صحا في الصباح الباكر وتوجه نحو حضيرة أغنامه رأى رجلاً يحمل حقيبة ويدخل الغابة.. لما راقبوا الطريق المؤدّي إلى خارج الغابة لم يروا أحد يخرج منها.. في الليل فتشوا قرب المكان الذي دخل منه الرجل صاحب الحقيبة فوجدوا هذا الكوخ.

توقف المتهم عن الكلام ليمسح بعض عرقه غير أن وكيل النيابة قال :
-         وكيف عرفوا بأن صاحبهم في الكوخ؟
-   كانوا يعرفون هذا المكان من قبل, ويعرفون أيضاً أن الرجل العجوز يسكن وحده منذ مدّة طويلة, فلما حاموا حوله في الليل سمعوا عنده شخصاً آخر, ظنوا أنه ربما يكون صاحبهم.
-         وهل كنت معهم في ذلك الحين؟
-         كنت معهم.
                     ***********



الحرية

         كان قد كُلِف بعض الجنود لمراقبة الطريق المؤدي إلى الكوخ , بحيث يكمن أولئك الجنود في الغابة حتى إذا ما رجع الرجلان اللذان يدعيان ملكية الذهب.. وكان وكيل النيابة ينوي الانتقال إلى مكان مخبأ الذهب الذي ادّعاه ضيف العم فرج في الوقت الّذي سمعوا فيه إطلاق النار على الجهة الجنوبية من الغابة. هرع الشرطة إلى المكان الذي سمعوا فيه إطلاق النار فوجدوا المسألة قد حسمت.. الجنود الذين كانوا يراقبون الطريق قد قبضوا على ثلاثة رجال كانوا في حالة هرج وشجار.. أحاط بقية الجنود بالرجال الثلاثة وساقوهم إلى وكيل النيابة ليرى فيهم أمره.
" ها هما الرجلان أصحاب هذا " بذلك صاح العم فرج مشيراً إلى الرجل المقبوض عليه في البداية.. كان الرجلان يساقان في المقدمة أما الرجل الذي تشاجر معهم فقد كان وراءهم , لم يستطع العم فرج رؤيته جيدا, غير أن ضيفه استطاع رؤيته ومعرفته أيضاً, فقال سعد للعم فرج: هذا صديقي رمضان اللّواح إنه هو يا عم فرج, أرجو ألاّ يكون مع الشلّة.
     
هشّ وكيل النيابة لهذه المعرفة الطارئة بين سعد عبد الوكيل والرجل وأمر الجنود بحجز الرجلين وصاحبهم الذي كان يحرس العم فرج كل على حده , وأن يقدّم إليه رمضان اللّواح قبل أن يعانق صديقه سعد عبد الوكيل.
قال وكيل النيابة لرمضان اللّواح:
-         يقول ذلك الرجل إنه يعرفك.. أتراه؟ وأشار بيده إلى سعد عبد الوكيل.
-         إنه أحد معارفي الموثوقين؟
-         أقصد أنه صديق عريق منذ الطفولة.. استمرت صداقتـنا مدّة طويلة .. إنه سعد عبد الوكيل.
-         لماذا كنت قادما مع الاثـنين هناك؟


-        
لست قادما معهم في الأساس, لكنهم فاتوا مع نفس الطريق واستوقفوني يسألون عمّا أحمل وماذا أعمل هنا بالضّبط, وأن عليّ أن أخرج ما خبّأتُ وإلاّ... وأين الحقيبة وأين الذهب ويسألون وكأنهم مهووسون, يقولون أشياء لا أعرف عنها شيئاً, ثمّ جاءت الشرطة وقبضت علينا جميعا.. هذا ما حدث.
-         إذن كنت قادما إلى هنا على أي حال.
-         نعم, هذا مقرّ عملي.
-         مقرّ عملك!
نادى وكيل النيابة على العم فرج, وقبل وصوله قال لرمضان:
-         هذا الرجل القادم هل تعرفه؟
-   نعم, إنه العم فرج, فرج المهندس خفير هذا المكان وجاء  فرج وتعرف على رمضان اللّواح, وأقر بما قاله لوكيل النيابة , كما قال إن ضيفه سعد عبد الوكيل كان يبحث أساساً عن رمضان هذا.

    الرجال الثلاثة الذين كانوا قد أوثقوا كتاف العم فرج قد لفوا وداروا أثناء التحقيق وأخذوا يلقون التهم على بعضهم البعض حتى اعترفوا في النهاية باشتراكهم في سرقة الذهب من المنزل, كما قال أحدهم أنه هو الذي خدع زميله وأخفى الذهب عند الشاطئ تلك الليلة.

      توسم وكيل النيابة الصدق في أقوال سعد عبد الوكيل, خاصّة أن الجماعة السارقة لم يتعرفوا عليه, ولم يعد هناك إلاّ إثبات صدق النية حيال تسليم الذهب إلى مركز الشرطة, وستتخذ بعد ذلك إجراءات لإطلاق سراحه نهائيّا.
      ونادى وكيل النيابة على سعد عبد الوكيل قائلاً :
-         كيف تثبت لنا أن تسليم الذهب إلى مركز الشرطة لم يكن أمرا خارجا عن إرادتك؟
-         لقد أخبرت بذلك سائق سيارة الأجرة.
-         أأخبرته بأن معك ذهباً؟
-   لا, لم أخبره عن الذهب بتاتاً , لو أردت إخبار أحد لكان العم فرج أولى بذلك , لكني أخبرت سائق سيارة الأجرة بأنني أريد جهة مركز الشرطة,  قلت له ذلك فقط.
-         على كل حال, أين تقيم الآن إذا نحن أطلقنا سراحك اليوم, لأننا سنحتاج إليك فيما بعد؟
-   سأذهب صحبة صديقي هذا رمضان اللّواح إلى منزله قرب الشاطئ , وربما وجدتني هنا عند العم فرج.. لن أذهب إلى مكان آخر هذه المدة.
         أمر وكيل النيابة الجنود بالعودة بعد التأكد من حمل كل المتهمين, كما أبقى رمضان اللواح وسعد عبد الوكيل والعم فرج قرب الكوخ.

        نظر سعد عبد الوكيل إلى العم فرج وشدّ على يده قائلا:
-   آسف لما سببته لك من مشاكل أنت في غنى عنها.. لم آت إليك وأنا متورط في جناية أو هارب من عصابة, لم يكن هذا الذي حدث من شأني طيلة حياتي.. أنت قلت الحق وأنا أيضا قلت الحق, لذلك نجا كلانا من هذه العصابة المشؤومة.
قال العم فرج في هدوئه القديم:
-   وأنا أيضا لا أتهمك في شيء , المؤكد عندي أنك لم تفعل ما يشين, لذلك تركوك وشانك فخذ راحتك كما كنت في السابق لم يحدث ما يزرع الشك بيننا.
عندئذٍ نهض رمضان اللّواح وقال:
-   سنحتفل بهذه المناسبة, وصول صديقي سعد عبد الوكيل ورجوعه من السجن, ونجاة العم فرج من  شر اللصوص, ثم نجاتي أنا منهم أيضاً, ألا يستحق هذا كله الاحتفال؟.... استريحا أنتما, سأعد أنا كل شيء..
وتدخل سعد عبد الوكيل قائلاً:
-         الآن يا عم فرج بقية قصتك مع برنية لابد من سماعها قبل ذهابي.
قال العم فرج:
-         سأبدأ الآن مادام رمضان اللّواح سيتولّى كل شيء, اجلس هنا لألقي عليك بقية الحكاية.

          يجب أن تعلم أني قد تزوجت تلك المرأة برنيّة, صارت لي زوجة, كأنّي في حلم حتى بعد وصالي بها, كل يوم هو أروع من أخيه.. صارت هي أيضا أبهى وأجمل من ذي قبل.. تغير مجرى حياتي بحذافيره كانت لي الزوجة والأهل والأقارب.

       لما كنت أعيش وحيدا في منزلي,  لا قرابة دانية تعيش معي أو تزورني, لكن لما صارت عندي برنية ملأت كل الفراغ, صرت وكأنني أملك العالم بأسره.. أقبلت على العمل بشهية ومثابرة, أخذت برنية تستـثمر كل ما أحصل عليه في بناء حياتـنا.. تشير إلى توسيع الدار فاتسعت, إلى شراء قطع أثاث فاشتريت, إلى غرس الحديقة, إلى شراء بقرة حلوب, إلى حضيرة دجاج.. إلى إلى إلى ..
كانت تحبني, تريد لي النجاح, تريد بيتنا مستوراً ترفرف عليه السعادة..

      في هذه اللحظة أخرج العم فرج صندوق التبغ وأخذ يشرع في لفّ سيجارة, ثم ابتسم وقال:
-   أترى هذا الصندوق, كان جميلاً ولامعاً, كان برّاقا ورائحته زكيه منذ خمسين عاماً.. أعطتني إيّاه برنيّه عندما كانت تخرج مقتنياتها في اليوم الثالث من زواجنا كانت تحتفظ فيه ببعض الحلي الصغيرة, قالت لي خذه, ضع فيه تبغك وأوراقك الصغيرة, هو أحسن مكان لها.. أخذته, استبركتُ به, احتفظت به جيدا لأنه من برنية.. قيمته كبيرة عندي وإن جار عليه الزمان وبهت لونه ودخله الصدأ و.. وو..

          لم يتم العم فرج ما همّ بقوله, لكنه انحنى, أمسك صدره, رفع رأسه قليلا, نظر إلى سعد عبد الوكيل نظرة ألم, شدّ على أسنانه, اقترب منه سعد, أسنده لئلاّ يقع وقال:
-         عم فرج, بماذا تحس, أتسمعني؟ ماذا بك؟
لم يتكلم الزجل, ارتخى جسمه, مال رأسه لم ينفع معه إنعاش, لقد أسلم الروح.. مات العم فرج.
                                                           
                                                          تمت.....
                          **   
                           
                    


ثروة أمي

       إن غابَ عن ذهني شيء في تلك السنين الخوالي فلن تغيبَ عني الدّجاجاتُ وبيضُها كل صباح , فما تكاد  تصيح إحداهن معلنة ً عن ولادتها بيضة جديدة حتى أسرعَ  إلى الحظيرة لجلب تلك البيضة في غير استحياء , ودون أن يوجّه إليّ عتاب . أحضِـرُ تلك البيضة وأضعها في سطل التجميع الذي يمتلئ بالبيض في غضون أيام ٍ قلائل , ثم أذهب به إلى السوق لأبيعه لحساب أمي , بعد أن تكونَ قد أوصتني  بأن أشتريَ لها كذا وكذا من حاجيات البيت .

       كانت أمي مشغوفة ً بتربية دجاجاتها إلى درجة أنها كانت تقلي لهن الشعير وتطعمها مرتين في اليوم , إضافة إلى فـُـتاة الخبز وبقايا الطعام والحشائش حتى بلغ ذلك الدجاج أروع ما يكون من منظر وشكل , فبالإضافة إلى سمنه وكبر حجمه فكأنما دُهِـنَ ريشه بالسمن , فهو يبدو لامعا ً من بعيد .

       لقد كنتُ أظفرُ بنصيبٍ كبير من البيض , خاصة ذلك  الذي يبيضه الدجاج خارج الحظيرة , تحت شجيرات البطـّوم  وبين أكوام الخبّيز وداخل  تجمعات الأعشاب الغزيرة , إضافة ً إلى ما تخصني به أمّي من فواتح بيض الدجاج , حتى يفتح ذهني للدرس والتحصيل , ولكني كنت غبيا بليد الذهن على الرغم من التهامي لعددٍ كبير من البيض البكر في كلّ عام .

       يوما واحداً فقط امتنعتُ  فيه عن أكل البيض , يومَ لامتني فيه أمي , بل غاظتني عندما ذكرتْ كسلي وخمولي , حين قالت بأني لا أحسن غير أكلِ البيض , أما الدفاع عن الدجاج فلا ... فقد كنّا في ليلة من ليالي أي النار الممطرة , إحدى الليالي الأربعين المعروفة ببرده القارص ورياحها الهوجاء , حين ساقت أمي عنزاتها إلى حظيرة بجانب كوخنا , لا تبعد كثيرا عن حظيرة الدجاج , والعنزات من بين الأشياء  التي تعتبرها أمي ملكا لها طالما تشملهن برعايتها . عندما أغلقت على عنزاتها الباب واطمأنت على دجاجاتها دخلت لتنام بعد أن أبعدت كانون النار ,  ودفنت أكبر جمرة فيه وسط رماده المتكدس لتبقى حيةً حتى الصباح فتذكي بها النار من جديد .

       لقد خلدنا جميعا إلى النوم فالجو لا يشجع على السمر , حتى أنك إذا تركت جزءاً من جسمك غير مغطى  فسرعان ما تشعر بتجمده , فالكل ملتفّ بغطائه ويميل إلى النعاس , خاصة أن رخات المطر على الكوخ وعصف الريح القوية يغريان بالنوم .

       في الهزيع الثالث من الليل بدا لي وكأني أسمع صياح دجاجة , وكان النوم ما يزال يسيطر عليّ , مما جعل صوت الدجاجة غارقا وكأنه يأتي من غور عميق . إنها إحدى دجاجات أمي بالتأكيد , وجزءٌ من رأس مالها الذي تفخر به , فلماذا لا أنهض واستطلع الأمر ؟ لكن النوم يغالبني على النهوض لنجدة الدجاجة التي تستغيث . لقد نازعني قلبي ولكن النوم غلبني والبرد منعني واختفى صوت الدجاجة فركنت إلى الدفء وعدت إلى أحلامي .

       في الصباح صحوت على صرير الميزاب المثبت في الكوخ بسلك من الحديد , لا يكف طـَرْفـُه عن إصدار نقرات متوالية مستمرة ما استمرتْ الريح , وصوت أمي المبحوح ممزوج بصوت العاصفة وقرقعة الأشياء من حولها تبينت منه أن الثعلب قد سطا على حظيرة الدجاج .  لمّا سمعت ذلك قفزت من فراشي دون مقدمات واندفعت نحو مكان الحادث , فرأيت الريش مبعثرا في كل مكان , كما رأيت أمي ترميني بنظرة فيها سخرية وفيها ندم على فقد دجاجتها بين فكيّ الثعلبِ اللئـيم . وليتني سكت  ,  ولكني قلت :  هذا الصباح كأني سمعت صياح الدجاجة المفقودة , فقالت أمي بغضب :
       ـ لماذا لم تنهضْ وتخلصها , أين شجاعتك , أين مروءتك ؟ لقد غدرت  بالماء والملح , فكم أعطتك هذه الدجاجات من بيض . *

سائق الشاحنة

يا إلهي ! لا أستطيع النسيان ,  كيف أبعد هذه الحادثة عن خاطري ؟ لا أَقـْـدِر , دوما  أتذكرها مُـذ حدثت إلى اليوم , إنها لا تغيب عن خاطري , تحضرني ولو مرة واحدة في ثنايا النهار , إنها تنغّص  عليّ حياتي وتكدر صفائي كلما استقامت ليّ الأمور.

       قال لي الحاج محمود إن ذلك نصيب ومقدر لا ذنب لك فيه , لا بدّ لما حدث أن يحدث , هو سجل القدر هكذا . على الرغم من ذلك لم أفلح في النسيان , لم أفلح في إبعاد الحدث عن ذهني , أشعر دائما بأني الملوم في ذلك . ما يفتأ ضميري يؤنبني ويترك الحسرة تعشّش في كياني , لم يرحمني انشغالي وكثرة أعمالي عن التفكير .

       جلس (حسن) مجهداً بجانب سيارته المحملة , إنه يستظل بظلها بعد رحلة دامت أربع عشرة ساعة متواصلة , لم يتوقف خلالها غير أوقات بسيطة لتناول بعض الغذاء . استند على الإطار الأمامي ليأخذ وضعا مريحا ؛  فبروز بطنه يمنعه من الجلوس عموديا , ذلك من كثرة الجلوس  في غرفة القيادة , شأنه في ذلك شأن معظم سائقي الشاحنات القدامى .

       شارف حسن على الخمسين وهو يمتهن القيادة وأعمال السيارات , تردّد على الورش وهو صبي , يناول الميكانيكيين المفاتيح ويرفع الحديد والعُـتـل الخاصة بالتصليح , يرفع المحركات وينزلها , وما أن صار في سن العشرين حتى حذق المهنة , وأصبحت له شخصيته المستقلة  وزبائن يثقون به .
       وتمر الأيام وتتحسن حالته المادية , اشترى سيارة أجرة سرعان ما ملّ العمل عليها , شعر بأنه عمل قريب من الطمع , لا تنجو منه الذمّـة أو فساد المروءة , كما هو الحال لدي بعض المقاولين والسماسرة والجزارين وسائقي  سيارات الأجرة ومن لهم غرض ملحّ في الكسب ... ترك ذلك واشتغل سائقا بشركات النفط فتحسنت حاله أكثر حتى اشترى الشاحنة التي يملكها الآن . أحبّ عمله والعمل كثير , وهو واجدٌ حريةً وانطلاقا في عمله ؛ لا زوجة ولا أولاد يُشغلونه , لا أحدَ يسأله  عن تبكير أو تأخير , يغادر متى شاء ويرجع متى شاء , قلما يحصل منه تأخير أو مخالفة ’ الكل يذكره بخير , غير أن حدثا  ينغّص  حياته ويوقعه في حزن عميق كلما خطر بباله ؛ فمنذ سبعة عشر عاما , عندما كان  يقود شاحنة معبأة بالنفط عبر الصحراء بصحبة مساعده (عادل) ونتيجة لوقوع السيارة في مطب رملي انكسر عمود نقل الحركة  فجثمت في مكانها .

       اسودّت الدنيا في وجه الرفيقين , فالمسافة شاسعة بينهما وبين أقرب عمران , والقطعة المكسورة لا يستعاض عنها إلا بمثلها . صعد حسن إلى أعلى مكان في السيارة وجعل ينظر  إلى جميع الاتجاهات , لم ير شيئا غير السراب والشمس المحرقة , أما عادل فجلس في ظل السيارة يهز رأسه أسفا وحزنا .
       حدث ذلك في منتصف النهار تماما , في فصل الصيف والشمس في أوج حرارتها لم يكن بوسعهما غير الجلوس في المكان وانتظار ما يأتي به القدر . جلسا في ظل الشاحنة واستدارا مع الظل حيث يدور . قد نفد الماء في القربتين المعلقتين  في مقدمة السيارة , ثم نفد باقي الماء من البرميل الملحق بالشاحنة  في الأيام الثلاثة التالية .
       انتظرا بلهفة  مرور سيارة أو قافلة  أو أي أحد ينجدهما ,  استغلوا جزءا طويلا من الليل في الانتظار مضرمين النار في سطل مملؤ بالنفط , عسى  يسترعيا انتباه أحد .
       في اليوم الرابع  دعا حسن مساعده إلى مغادرة المكان لعلهما يعثران على شيء أو يبصران أحدا , رفض المساعد عادل , رفض المغادرة بحجة اتساع الصحراء وبأن المكان في ظل الشاحنة  أفضل مكان للحياة والموت معا . أحسّ حسن بتصميم رفيقه على البقاء فمضى لوحده وهو ينوي العودة  إلى رفيقه متى وجد العون .
       بدأت محنة حسن التي أخذت من نفسه ما أخذت , كما يفكر فيها الآن , وكثيرا ما كان يحكيها ويقول : مشيت حتى صعدت ربوة صغيرة أمامي , ثم وقفت والتفت إلى الشاحنة فرأيت مساعدي مستندا عليها , ينظر نحوي كمن لا يريد ذهابي , لوحت بيدي وقلت له  : سأعود إن شاء الله متى وجدت العون .  أسرعت الخطى متوجها  ناحية الشمال , وقد لففت رأسي بقطعة من القماش اتقاءً لحرارة الشمس .
       جلست عدة مرات على الرمال لأريح قدميّ اللتين دبّ فيهما التعب , شعرت بثقلهما وقد مالت الشمس إلى جهة الغرب , على الرغم من أنها الساعة الخامسة فإن الحر ما يزال غير محتمل , إنه وهج يصدم وجهي بل بجسمي كله . هناك هبوب ريح لكنه هبوب ساخن رغم إتيانه من الشمال , كثيرا ما تعرضت لزوابع رملية في السابق ولكن كنت بداخل السيارة , أما الآن فكأنني أواجهها لأول مرة . تأثرت عيناي من حبيبات الرمل الكثيرة  وغرقت في زوبعة كثيفة من الغبار المتصاعد بحيث لو جلست دقائق لأغرقني الرمل , أطنان من الرمال تنتقل مع الريح من مكان إلى آخر في وقت قصير , يتشكل وجه  الأرض في كل مرة بتموجات وكثبان  من نسيج جديد .
       توارت الشاحنة , لم أعد أرى شيئا سوى السراب ؛ لا طيور , لا حشرات ولا أصوات , وإنما بدأت السماء كقبة مغبرة تطبق على الرمال , وكلما اقتربت الشمس من المغيب كلما صَغـُرَت القبة . ضاق بالي , شعرت بأنني مخلوق تافه صغير يموت عطشاً قنينة ماء تفوق عندي هذا العالم وما فيه .
       كان تقدمي إلى الأمام تقدما عشوائيا , لم أتوجه إلى هدف معين , فقط آمل أن أجد في طريقي من يعينني . ابتعدت عن الشاحنة كثيرا ولم أعثر على شيء . وأطبق الظلام الدامس في أرجاء الصحراء , أصبحت في وحشة , وحشة لم أتعرض لمثلها في حياتي , وما كنت في يوم من الأيام أحسب حدوث ذلك , فالشاحنات التي قمت بقيادتها في الماضي كانت كلها  بحالة جيدة ومجهزة بقطع غيار للطوارئ , غير أنه لم يكن في الحسبان  أن ينكسر عمود نقل الحركة , إنه أمر بعيد الاحتمال ولكنه القدر .
       جلست على الرمال وقد أصبحت باردة قليلا , كل جسمي يطلب الراحة , أطرافي متعبة من كثرة الحركة , رجلاي ضعيفتان , أزيز في أذني , دوار في رأسي يزداد إذا رفعته , أما جسمي فكأنما تعرض لكدمات . ريثما جلست استحسنت الجلوس , لكن أيّ جلوس ! فسرعان ما أخذت الوساوس تنتابني وقد أطبق سواد الليل وابتلع كل شيء.
       تراءى لي ضوء بعيد من جهة الشمال , يتضاءل ويتضاءل حتى يختفي ثم يسطع من جديد , يخيل إليّ إنه متوجهٌ نحوي , لقد قذف في نفسي أملا كبيرا , فأنا في حاجة ملحّة  إلى من ينجدني بالماء , ولو بقطرة أبل بها حلقي الجاف . لقد أخذت حرارتي ترتفع وجسمي يضعف عن الحركة , رجلاي لا تريدان حملي .

       انتظرت طويلا اقتراب ذلك الضوء , لم يصل رغم أن مظاهر الحركة بادية عليه , قد تبين صعوده وهبوطه مما يدل على أنه ضوء سيارة قادمة نحوي لا شك , إلا أنها انحرفت قليلا إلى اليمين فعدلت مساري نحوها , لكنه مسار غير متواصل , فجلْساتي أصبحت كثيرة .
       مع دنو الفجر بدا الجو يهب بريح فيها سخونة , تزداد تدريجيا مع مرور الوقت , إنها تنبئ بيوم شديد الحرارة , إلا أن ذلك بات لا يزعجني استئناسا بذلك الضوء الذي يدنو مني , عيناي لا تبرحانه , سمعت الصوت أيضا , إنه صوت محرك لا محالة . ويدنو الضوء ويشتد الصوت , لقد لمحتها , سيارة على بعد قريب . اتجهت يمينا لأصبح في طريقها  بالضبط .
       كانت تسير ببطء عندما أضاء مصباحها في وجهي , ويبدو أنهم رأوني فقد غيروا الضوء إلى المدى القصير . رفعت يدي عند اقترابها , ليس بيني وبينها إلا أمتار توقفت ونزل منها ثلاثة رجال دفعة واحدة كأنهم يقتحمون عليّ المكان , سمعت أحدهم يذكر اسمي بصوت مرتفع .
       لمّا شعرت بالأمان ونجاح الأمل خارت قواي ووقعت جاثيا على ركبتيّ , مددت يدي إلى قربة الماء التي يحملها أحدهم , لكنه أخذ يبعدها عني . برقت عيناي وشعرت وكأنه عدوٌ لدود يريد قتلي , غير أنه سكب شيئا من الماء في يده ثم بلّ به فمي , واستطعت أن أرشف منه القليل , ثم نهبت القربة ووضعتها مباشرة في فمي وشربت مقدارا كبيرا قبل أن يخلصها من بين أصابعي . شعرت بالغثيان ثم فقدت الوعي.

       تماثلت للراحة والشفاء بعد ساعة من الوقت وأمرتهم بالتوجّـه إلى الشاحنة لإنقاذ المساعد فتوجهوا فورا . ولم نأخذ الكثير من الوقت حتى عثرنا عليها في مكانها , إلا أن المساعد لم يكن موجودا . أصبت بدهشة وحيرة , ولم تنقشع الدهشة حتي نادى أحد الرجال من فوق كثيب عالٍ بأن المساعد هاهنا . أسرعنا الخطا جميعا نحوه , لكنه كان قد فارق الحياة .
       وأسفاه ! لقد تألمت كثيرا لموته , ومما زاد حزني موته منذ مدة قصيرة كما يبدو على مظهره , فلو إني لم أشرب , لم أعبّ ذلك الماء ما كان لوعيي أن يغيب , لكنت وصلت إليه بالمدد قبل فوات الأوان .  ليتني ما شربت , ليتني تحملت العطش ساعة واحدة ,  ساعة واحدة فقط تضاف إلى هذه الساعات الكثيرة التي قضيتها في الصحراء .
       لم يخرج حسن من ترسمه للواقعة وتفكيره فيها إلا عندما وقفت شاحنة أخرى إلى جانبه  ليستريح سائقها ويتناول الغذاء  مع حسن الذي نسي أن يصنع غذاءً كان قد وعد بإعداده قبل وصول السائق الآخر .  لقد وصل حسن منذ ساعة  لكنه لم يصنع طعاما , لقد أخذه السهو واجترار الحادثة فأغفله صنع الطعام .  قال له زميله إنك تحمّـل نفسك المسؤولية  ولا مسؤولية , وتعطي للموضوع حجما أكبر من حجمه , فالأعمار بيد الله , لقد حانت ساعة مساعدك  ورحل وسترحل أنت وأنا ويرحل الجميع . *        
ـــــــــــــــــ




المعلم رافع


       ما قصتك ؟ ما لك تتهرب من الأعمال الحقيقية ؟ إنك تنأى بنفسك عما أنت له من المهمات  ! ... هكذا قال المتحدث إلى رافع  الذي  أمضى عشرين عاما في مهنة التدريس وما زال يحمل الطباشير  . كتب آلاف الكلمات , بل ملايين الحروف , أجاب عن العديد  والعديد من الأسئلة , صحّح مئات الكراريس , لكنه وقف مشدوها عندما سمع رافع وبكل أريحية يقول : أنا .. أنا  شخصيًّا ضقت ذرعا منذ البداية من تصحيح الكراسات , وكدت لا أطيق البقاء في الفصل كل زمن الحصة , لاحظوا ذلك  , وتقلصت أعمالي حتى أصبحت إداريـّاً أو قل مشرفا , لم أوفق لتدريس شيء أو لقول شيء , أو حتى لإسداء النصائح , أقـْـدِر فقط على العقاب ؛ عقاب صغار الطلبة , ثم أخرج من الفصل بعد توجيه وابل من الشتائم .  لم أكسب أصدقاء  من التلاميذ عل مرّ السنين , معذورون , لم يؤثروا عني سوى معلومات خاوية .
       لم يترك رافع لصديقه فرصة للكلام , بل استأنف قائلا : فضّـلت دائما أن أكون هامشيا , لا يمكنني أن أكون أصيلا , لم أصمد حتى اصبح مدرسا عاملا كبقية المدرسين أتريد مني يا صديقي حمل الطباشير من جديد  !  ماذا سأقول ؟  معلوماتي كلها هشّة , حياتي كلها زخارف , مدرس , نعم في نظر الناس , ويدعونني أستاذا  حينا ؛ يقولون جاء الأستاذ وذهب الأستاذ  والحقيقة لا أستاذ , أنت تعرف ذلك , تعرف مقدار إمكاناتي العلمية , لا أقف على أرضية صلبة كي أواجه التلاميذ , فاقد الشيء لا يعطيه يا صديقي , عرفت ذلك في نفسي مذ  كنت أدسّ  في جيبي قسائم  الأوراق الصغيرة ذات الخط الدقيق الرقيق . لقد ضعف بصري  نتيجة  استخلاص وكتابة المعلومات من بطون الكتب المقررة في كل عام دراسي , بعد نوم طويل وسهرات في القيل والقال . 
             يا صديقي إنك تنصحني بأن ألُـمّ أطرافي وأذاكر وأراجع مادة تخصصي , أسأل هذا  واستفهم من ذاك  ثم استأنف عملي ... إنك ترى لي ذلك خير من الإشراف والاحتياطي وما شابه ذلك من الأعمال الإدارية التي ليست من صميم عملي . هذا يا صديقي حسن ,  لكن التطبيق صعب  صعوبة المشكلة نفسها .
       يا صديقي أنت مثلا بدأت عملك منذ سنوات بمعدل أداء عشرين حصة في الأسبوع , ربما كانت أقلّ هي الآن , لكنك تعودت على العمل الدسم , أما أنا فلا , لقد بدأت عملي بمعدل عشر حصص , ثم صرت أطمح في أقل من ذلك فجعلوها ست حصص فحسب .  أجهِدتُ أشد الإجهاد , مع ذلك لم أصحح كراسات التلاميذ إلا في حدود ضيقة وبطريقة رديئة , لم أشارك في وضع الأسئلة ولا إشراف الامتحانات , كنت آخر الداخلين إلى فصولهم  إذا ضرب جرس بداية الحصة , وأول الخارجين منها إذا ضرب الجرس لنهايتها . لم تحركني  ملاحظات المفتش حين ذكر لي  أن هناك من يدرسون إحدى  وعشرين حصة في الأسبوع  , ومع ذلك فطلابهم  فاهمون , وتدريسهم جيد وأعمالهم التحريرية علي ما يرام , منضبطون ولا غياب عندهم .
       لا تلمني يا صديقي  حين أرفض أن أكون مدرسا حقيقيا , لقد عشت حياتي الدراسية متلصصا على أجوبة التلاميذ , فحينا أُطرَد وحينا أرحم , وحينا يلغي امتحاني ولكني في النهاية أنجح . لقد كان المعلمون يصدقونني علي مضض عندما كنت استلم ورقة إجابة الاختبار  بعد تصحيحها , وبسرعة استخلص الإجابة الصحيحة من الكراسات الموزعة وأملأ بها الصفحات الخالية , ثم أدّعي أمام المعلم بأنه قد نسي تصحيحها , فلا يكون أمامه  بـُدّ سوى رفع الدرجة , فالخط نفس الخط والقلم هو نفس القلم .
       عندما كنت في السنة النهائية استعرضت أرقام الجلوس وعرفت مَنْ أمامي ومن خلفي , وطـّدتُ علاقتي بهما حتى يوم الامتحان فكانا خير عون ٍ لي , فعلى الرغم من وجود الملاحظين الشديدين إلا أنني تسببت في إسقاط المسطرة بعيدا عني , فما كان من الملاحظ  إلا أن ألتقطها في اللحظة التي استبدلت فيها ورقة أسئلتي  بورقة زميلي المرموز فيها إلى الإجابة الصحيحة . وبمجرد وقوع المسطرة على الأرض فعلى زميلي الآخر  أن يستفسر من الملاحظ الثاني  عن شيء ليشغله ... وهكذا تمكنت  من النجاح المزيّف , فهل بعد ذلك لوم ؟! *
ـــــــــــــــــــــــــــ
التباس

تلفـّـتّ يمينا  وشمالا , نظراتي قلقة, كأنما استعجل الحلاق وإن لم أقل له شيئا , أمد بصري نحوها لعلني أراها , لقد توارت عني بحافة باب المحل , ليتني ما تركتها في هذا الشارع الخطر , إنها جديدة , دفعت فيها مدخراتي , لا أستطيع أن أخفي فرحي بالحصول عليها , ولكن أما آن لهذا الحلاق أن ينتهي , لا لن استعجله فسوف يفسد قيافة شعري إن فعلت , عليّ بالاطمئنان فسيارتي  لن تمسّ بسوء , فرجل المرور يقطع الطريق ذهابا وإيابا :

ـ  هل هناك ما يزعجك ؟ إنه صوت الحلاق .
ـ آه , نعم  عفوا, ليس هناك ما يزعج , استمر في عملك .
ـ لكنك هممت بالوقوف  , لحظات وسأنتهي , سأسوي لك شعرك كما يجب .
ـ نعم , كما يجب , (قلت في نفسي) أنتم دائما كما يجب , كلكم  مهرة فنانون , المهم عدم البقع في الرأس  وكل شيء يهون .
ـ نعيما , انتهت الحلاقة .
      
       وقفت ومددت يدي نحو المشجب , أخرجت النقود من المعطف , ناولتها للحلاق , ثم ... ثم سحبت يدي بسرعة دون أخذ الباقي , أزعجني صوت الاصطدام , خرجت حالا حيث سيارتي :
ـ يا إلهي  قد وقع ما كنت أخشاه !
ـ آسف , قال الرجل , خانتني الفرامل .
ـ فرامل ! شارع يعج بالمارة وسيارة بدون فرامل , يا سلام , وتصدم سيارة عمرها يومان .
ـ حقك عليّ  يا أخي , أنا خاضع للحل الذي تريده , فما حصل قد حصل , لنسترد أوراقنا من رجل المرور ونتصالح .
ـ فيم نتصالح ؟
ـ أعطيك حقك , فأنا صدمت سيارتك الواقفة .
ـ ولماذا تصدمها أساسا ؟ ألم تجد غير سيارتي الجديدة لتصدمها , ما هذا الحظ ؟!
ـ مقدّر لي الاصطدام هذا اليوم بسيارتك أو بغيرها . نـَصيب , نصيب يا أخي , سأدفع لك التكاليف .
ـ التكاليف ! وهل ستعود سيارتي جديدة كما كانت بعد دفع التكاليف , الإصلاح لا يغطي فقد قيمتها .
ـ لقد حدث ما حدث , هل تعاند القدر ؟ لن تكون سيارتك جديدة دائما كما تريد , عليك بالأمر الواقع الآن .

       أحد المارة يتدخل قائلا : يا جماعة , اقبلوا وساطتي ... سيدفع لك خمسين دينارا إنها تغطي الأضرار .
       تمتمت , حككت رأسي  , سآخذها على كل حال وأمري لله .

       توجهت نحو سيارتي , لم ينفتح الباب , قلبت المفتاح ,  لم يفتح أيضا , ضغطت على الباب بقوة وحركت المفتاح مرة أخرى , بدون جدوى . حاولت مع الباب الآخر بنفس النتيجة .

       الرجل صاحب الوساطة مازال واقفا  , يختمر في عقله شيء , إنه يبتسم  , ينظر إلى حيرتي , يناديني : ربما هذه ليست سيارتك .
       ـ كلا , رفعت رأسي مستنكرا كلامه , لكن قد زال استنكاري  أو كاد  عندما أخذ يشير بيده إشارات متتالية إلى السيارة التي أمام سيارتي , إنها نفس النوع والشكل والعمر , فما أدرت المفتاح حتى فتحت . ومن حسن الحظ أن صاحب السيارة المصدومة قد قبل الحل الذي فاوضت من أجله طويلا نيابة عنه . *   



خمسون تتبعها خمسون

      
       سأقوم بهجمة عارمة على المشعوذين ومدعي الحكمة . قال ذلك عبد الوكيل وهو يسوّي هندامه ويعدل رباط عنقه ... سأسحقهم , سأدكّ أوكارهم واحدا وحدا . لديّ أكثر من طريقة لأصل إلى أسرارهم وظنونهم الفاسدة , سأكشفها  أمام الناس كما يكشف الباعة بضاعتهم  على قارعة الطريق . أيظن هؤلاء الرّعاع الملاعين  أنهم في منأىً عن الأنظار والقوى الواعية ؟! كلا لن أدعهم  يهنأون بما هم عليه من حياة الزيف والظلال.

       ردد عبد الوكيل ذلك وهو يهز رأسه بقوة ويرفعه إلى أعلى حتى بانت شعرات أنفه , مفصحا عن تصميم يشق المستحيل , إنه صمود يواجه جبلا , بل اندفاع نحو الفضيلة يدك الحواجز  ويجرف الواجهات الهشة والقوية معا حتى يملأ الأرض عدلا .

       ( تستور سيدي عبد الوكيل ) , يا للخسارة ! عبد الوكيل تلقى تعليما عاليا , كان قد قرر التصدي بالفعل للمحتالين ومدعي السحر ومخاطبة الجان , أولئك الذين يستميلون البسطاء  وراء رداء من الزور والبهتان .

       نعم  , كان قد قرر الوقوف في وجوههم والتصدّي لهم بطريقة هجومية ( ليس بالضبط كما قال آنفا ) سيهاجمهم بطريقة لا قبل لهم بها , ثم يضربهم في الوقت المناسب ضربة تفرق شملهم , ولا تقوم لهم من بعدها قائمة . إنه زعم أنه سيتبع خطة علمية ليدرس من خلالها  كيف توصّل واستحوذ هؤلاء الدّجالون على عقول الدراويش وملكوا عليهم أمرهم ولاطفوهم بتصرف يقترب من التقديس .

       خطة عبد الوكيل الدخول مع الدجالين في عملهم والخوض فيما يخوضون فيه ليدرس مدى التأثيرات النفسية التي يبتدعها المشعوذ للاستحواذ على عقول مريديه . وبزيارات متكررة لمشعوذين معلومين  وغير معلومين , بالذكاء حينا وبتصنع الغباء حينا آخر فهم شيئا من أسبابهم وحيلهم التي يسلبون بها العقول بعفوية .

       قرر عبد الوكيل أن يصطاد بأسلحتهم نفسها التي يصطادون بها السّـذّج والمرضى كلف اثنين من أصدقائه , يثق بهما ,  ممن لهما معارف واسعة وعلاقات اجتماعية تعلو وتسفل ـ كلفهما باستقصاء  حالات مريديه  قبل قدومهم  إليه ( بعد أن صيّر نفسه شيخا) يدرسان حالة مرضاه الصحية وأحوالهم الخاصة : معارفهم  , علاقاتهم , إخوانهم أصدقاءهم , ما جرى لهم , ماذا يحبون , ماذا يكرهون ... وكل ما يفسح للفقيه مجالا لثقة ورضى المريض عنه لدى سماعه واحدة من خصوصياته الدقيقة .

       صيّر عبد الوكيل نفسه شيخا بالتمهيد لذلك ؛ فقد سمح أن يشاع عنه ويروّج بأن ثعبانا ضخما دخل عليه داره , ورؤية الثعبان في ظروف كهذه تساوي رؤية وليٍ صالح في عرف الدراويش . احتجب عبد الوكيل عن الناس أياما , ثم انتشر الخبر بأنه أصبح فقيها لتطبيب ما لا يمكن برؤه من الأمراض , أو تخصيب امرأة عاقر , أو عمل رقية للمحبة والقبول , أو كتابة حجاب لترويض الزوج وجعله أداة طيعة .

       جاءت أولى ضحاياه , امرأة فاقدة للذاكرة , يقال أن جنّا مسّها ففعل بها ذلك , لأنها دلقت ماءا  ساخنا على الأرض عند الغروب , أو ... أو ترهات أخرى لا سبيل إلى ذكرها ... تفحّصها (سي عبد الوكيل ) وهو لا يصدق نفسه , فقد دخل في عمل محظور , ولكن عنده لا يهم في سبيل العلم النافع , شيء من المجازفة لمصلحة البشر .

       بمجرد دخول المرأة نظر إليها عبد الوكيل نظرة غير عادية , قال لنفسه : نعم هكذا يبدو الفقيه , لابد أن تكون له خصوصياته وشطحاته  ليبدو مهيبا رهيبا غامضا , إضافة إلى جعله قصة الثعبان عكازا يتكئ عليه , فهو يعزز الحكمة والروحانية لديه.

       ابعد عبد الوكيل الناس عن المرأة بشيء من العنف , دفعهم أمامه بكلتا يديه كما يدفع قطيعا من الماعز . لم ينبس أحدهم بكلمة , بل بادروه بقولهم : ( حاضر يا سي الفقيه ) , فقط ولا غير ,  فمن ذا يجرؤ على معارضة رغبة الشيخ وإلا حلت عليه اللعنة في حين جازف معاوناه ودخلا خلسة إلى دار الضحية , وضعا أشياء معلومة في أماكن معلومة للفقيه , لا يخفى عليه مكانها ومحتواها .

       صاح ( سي عبد الوكيل ) : هذه مسحورة ’ احملوها إلى دارها ... والمكان يضج بـ(تستور يا سي عبد الوكيل ) .  ركب الفقيه بسرعة إلى الدار ومعه المرأة , وقد عاد إليها صدفة شيء من الاستئناس ورجوع العقل , كان ذلك من حسن حظ عبد الوكيل مئة بالمئة .

       كان عبد الوكيل يريد نتيجة علمية في الأساس وراء تلك التجربة , لكنه تباطأ وأحبّ الاستمرار في التجربة , لعله يكتشف أشياء أخرى يفيد بها العلم .

       كانت المرأة وراءه عند دخوله الدار , قصد مباشرة نحو الحمام , خبط بيده الباب ثلاث مرات , قوية فجائية , أدخلت الروع في قلوب من كانوا خلفه , مد يده تحت الحوض وأخرج صرّة صغيرة , نظر إليها بارتياب , قلـّب عينيه أكثر مما هو طبيعي , رمى الصرة بقوة بين الناس : (لقد بطل السحر) !  قالها بصوت مسموع ,  وقع بعض الحصى والحنطة ورِجل دجاجة .

       صادف شفاء المرأة ذلك العلاج الملفـّق . المرأة رغم شفائها المسبق دخل في روعها أنها كانت مسحورة حقا , دلفت إلى دارها وخرجت وهي تحمل خمسين دينارا أعطتها للفقيه .  أخذها وفي قرارة نفسه  استبقاؤها  لإرجاعها إلى أصحابها فيما بعد لكن كثر طالبوه ومريدوه وكثرت الخمسينات , بعد أن شهد الناس على براعة عبد الوكيل فانتشر خبره بينهم بسرعة .
        دخل في روع عبد الوكيل  أنه ربما كان مباركا حقا , أو أنه مؤيد بقوة خفية فغير موقفه وقرر الثبات على ما هو عليه, والحقيقة أنه استلذّ خمسينات الدينارات التي كانت تنطح بعضها بعضا , بل إنه نسي الرسالة التي رسمها لنفسه . ما كان يعتقد أنه سيصبح بهذا الوقار في نفوس الناس , فضلا عن أن ذوات الحجال أخذن من عقله مأخذا , صار لا يهنأ  له بال حتى يرى الوجوه الصبيحة في أول النهار وآخره , فقط  شيء من الكذب والافتراء مقابل لحوم بضة معطرة تزف إليه في عقر داره ... خرّ إلى الحضيض , تنازل عن المثل العليا .. جزء من برهان مموه وشفاء مزعوم , ليس غير مادة مسكرة أو مسهل معوي كمعادل مادي لأثر  الفقيه في المريض . صار شعاره : لتدم هذه النعمة ولتبتعد أنظار  الفضوليين والحاسدين , أولئك الذين يدسون أنوفهم حتى في أعمال (الصّلاح) . *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ











المخدوع


       المحرك يتوقف كل بضع خطوات , مسالك الوقود مسدودة , مما جعلني أضغط
على الدوّاسة أقل مما يجب لأصل إلى المنزل , استغرق وصولي إليه وقتا طويلا , أوقفتها أمام المنزل وقررت مؤقتا التنقل راجلا , أشعر براحة بدونها , فقد أنهكتني واستنزفت نقودي , لكن لا محالة راجع لإصلاحها متى حان صفائي وانتعاشي من الإجهاد .

       الريح قويت آخر الليل أو ربما منتصفه , حفيف شجرة الأرز قبالة النافذة يكاد لا يعطي فرصة لسماع أصوات أخرى غيره , مع ذلك ميزت صوت سيارتي , إنه محركها بالتأكيد , عاش معي طويلا وله صوت مميز ودقات خاصة لا يعرفها سواي . إنه هو , بل هي سيارتي , من ذا يقودها في هذا الليل البهيم  ؟!

       لم أسرع في ارتداء ملابسي , ستقف بعد لحظات , أعرف ذلك , لكن ما السياسة التي سأواجه بها اللص ؟ الشارع خالٍ من المارّة , لا مصدر إيناس غير ضوء مصباح ضئيل هناك , إنه المصباح الوحيد الذي تحدّى مقاليع الصبيان , سيارتي عنده هناك , اللص يتفحصها , يرفع غطاء المحرك .

       خرجت من الظلمة , مشيتُ بهدوء بعيدا عنه , من أقصى الجهة اليسرى , مشيت كأنني عابر سبيل لا يهمني أمره . رمقني بنظرة سريعة واستمر في عمله , أفشيت السلام , طلبت بل تلطفت في السؤال , بعبارة رقيقة قلت إن كان في إمكانه حملي إلى مكان قريب ( لم اقل إنه بجوار مركز الشرطة) . لم يتردد لبّى طلبي ريثما تصلح السيارة قال ذلك وهو ما يزال منهمكا في إصلاح العطب , ساعدته , أمرته بتشغيل المحرك واستعمال نصف الدوّاسة .

أغلقت غطاء المحرك , جئت لأجلس فإذا بشخص ثان يتكئ على الكرسي الخلفي لقد ارتاب ثم فتح الباب وشرع في الهرب , هرب الأول كذلك , سعيت وراء الأخير أطارده بلا جدوى , فهو أقوى مني جسدا , رغبت ألا يرجع , حاصرته في مكان ضيق ليس أمامه سوى بركة ماء , ستر الله , خاض بركة الماء للجهة الأخرى ورجعت إلى سيارتي منتصراً . *         
ـــــــــــــــــــــــــــــ



غضبة الشيخ


ليس في جميع الأحوال يكون الشيخ مصطفى رائق البال طلق المحيّا , بل تتحول البشاشة إلى عبوس والسعد إلى نحس كلما وقع خصام بينه وبين زوجته رُقيّة . ينسى الموعظة الأسبوعية التي يعطيها لأهل الحي بمسجدهم العتيق , ينسى دروس العربية وما يعلمه من أدب رفيع طيلة سنين متوالية , يعزو همّه وتعثّر حاله إلى ضيق ذات يده , وإلا لما أكثرت زوجته من التطاول عليه , إنه لا يفتأ يردد قول الشاعر : ( إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله فليس له في ودِّهن نصيب ) .

       هذا اليوم كان يفرغ شحنات غضبه وألمه على أسماع الشيخ إسماعيل , لكنه يسكت أو يخفض صوته كلما مرّ بهما غريب , إنه لا يحب أن ينكشف أمام الناس , فهو معلم وقدوة , لكن لا بأس من بثّ بعض الهموم أمام صديق له وند في العلم والعمل مثل الشيخ إسماعيل , فالألفة تـُسقِط الكُـلـفة.

       مصطفى لم يأبه لصديقه الشيخ ذلك اليوم عندما قال له ناصحا : لا تفقد صوابك , أين الرزانة بل أين القناعة , يقول ذلك وهو يضغط على يد مصطفى زيادة في التأكيد . لكن الشيخ مصطفى يهز رأسه غاضبا ويردد : تقول قناعة , إنها قناعة تشبه الذل أو ذل يشبه القناعة , لا أدري وجه المفاضلة بينهما , لا تكن مثاليا بذلك العمق يا إسماعيل , المال يُجبِر أشياء كثيرة , فطالما الجيب عامر فإن الجميع يخشاك , الجميع يحترمك, تحسّ بك الزوجة ويشعر بك الأولاد , يحسبك الجيران والأقارب ... أتدري يا شيخ إسماعيل لو كان لك مال وفعلت أفاعيل الحمقى والمعتوهين  لتلمسوا لك العذر , وحسبوها لك فنا من فنون التصرف أو شطحة من الشطحات ثم ينسون ذلك وكأن شيئا لم يحدث , أما إذا فعلها فقير لله  مثلي فستنهال عليه سهام المقت والسخرية , سيصبح مضحكة َ العالم .

       للمرة الثانية لم يأبه مصطفى للشيخ إسماعيل عندما حاول تهدئة روعه , واعتبر منه ذلك ثورة عاطفة وسانحة غضب , ذكّره بالأقوال الوعظية في رزق الله , مما لا يرى الشيخ  مصطفى فيه شكا غير أنه يدرك بأن الله لم يأمر عباده بسوء التصرف , يقولها بأعلى صوته : نعم يا شيخ إسماعيل  أنا لم أخطط جيدا , فإن كنت ألوم نفسي على شيء فإني ألومها على سوء التخطيط ؛ لقد كان في حسابي أن أتزوج بعد سن الثلاثين حتى أكون قد جمعت ما فيه الكفاية لحياة زوجية أفضل , غير إني كنت غِـرّا عندما استمالتني رقية بكلماتها المعسولة وأدخلت القناعة على هذه الأذن اللعينة , بأن النساء لا يرغبن  كثيرا فيمن تجاوز الثلاثين .

       لقد ناورت رقية على عقلي ونجحت , وقعتُ في الشّـرَك , لقد خدّرتني بشيء من الحسن والطاعة بادئ ذي بدء , أثبتت حضورها في قلبي وأخذت فيه حيزا مكينا إلى أن ركنت إلى الدّعة بما تسبله عليّ من وفاق وحب , حتى إذا كبر أولادها وقرّ قرارها قلبت لي ظهر المِجن ,  ورويدا رويدا أصبحتْ كثيرة المطالب , عالية الصوت , تكاد عيناها تقدحان شررا كلما رُفِض لها طلب , هي لا تدري بأنها تفك عرى المودة والحب الذي جمعنا , إنها تباعد بيني وبينها , بل تفقد لذتها بذلك التعنت , فلولا ما يربطني بها من ماض أحسبه لها ما هضمتها ولو ببهارات العالم وعطرياته جميعا . *  
ـــــــــــــــــــــــــ



بقـــــية العـــمــر


       الأيام تسرقني , لا يعيش الإنسان عمرين , هو عمر واحد فحسب , ممر للسراء والضراء , كم عشت منه أنا ؟ ماذا بنيت لنفسي ؟ ماذا بإمكاني أن أجدد ؟ كيف أجدد وما أنا إلا  (عامر) الموظف البسيط ؟

       سكت عامر قليلا وراح يمسح عرقه المتصبب من جبهته على الرغم من أنه يجلس تحت الظل على عتبة فوق الرصيف المقابل للشارع العام . ينقطع حبل أفكاره قليلا لأن أحد المارة أفشى عليه السلام  , يسارع في رده , فهو رجل محافظ على التقاليد والعرف , ثم يعود إلى محاسبة نفسه , يناقشها عله يصل إلى حلول تنسق مجرى حياته يفكر بأريحية فقد اعتاد هذه الوتيرة من التفكير , هو لا يتعمق كثيرا إلا إذا كان يعالج مشكلة حقيقية أو يمر بظروف صعبة .

       لقد عاد عامر إلى تفكيره , إنه يناقش بهدوء قضية العمر الذي سرق حياته دون أن يشعر , يهز رأسه , يحملق كأنه يفكر بعينيه اللتين لا تنظران إلى شيء البتـّة َ , بل يَسْبَحان معه في أفكاره وينقلهما الخيال من مكان إلى آخر . إنه سارح الذهن , يكاد صوته يجهر بكلمة (لكن) .. لكن , لكن ما يزال في العمر بقية للزواج ؛ سن الخمسين ليست كثيرة على رجل في مثل صحتي ووضعي الاجتماعي , أنا لم أصمم على الزواج بعد ولكن يمكنني ذلك لو أردت . لقد حاولت الزواج بجدية كبيرة منذ عشرين سنة مضت لم أوفق في الزواج بواحدة بعينها , كانت لي أسباب ولهن أسباب , فترة ثراء عاطفي , أحب بدون حساب , أحب بسرعة وأغضب بسرعة , ليس لصورة المرأة التي أريد معيار أمّا الآن فأنا أكثر قدرة على اتخاذ القرار , لكن أي قرار ؟ هل يعجز إنسان يعيش لنفسه عن اتخاذ القرار ,  إنسان مثلي مشاكله محدودة إلى جانب أولئك الذين يعولون أسراً أفرادها يأكلون ويشربون , يلبسون ويتزوجون , يدرسون ويحتاجون إلى علاج ..., أين أنا من أولئك ؟ أنا  صعلوك بالنسبة لهم , أنا أعول نفسي فحسب .

       تمر سيارة مسرعة , حيّت عامراً , يرد عامر التحية وإن لم ير السائق . انقطع حبل أفكاره من جديد . يمد نظره على طول الشارع , ينظر إلى الأرض  ثم إلى الغادي والرائح , هاجس في نفسه يقول : لقد كنت أكثر فتوة منذ عشرين عاما أو أقل , كثير ممن هم في سني تزوجوا ولهم الآن أولاد في سن الشباب , مستحيل أن يصبح لي أولاد في سن أولادهم فيما لو تزوجت الآن , سوف أكون قد قاربت السبعين حين يصبح أولادي في سن الشباب . الأحسن ألا أتزوج , ليست لدي رغبة في تربية الأطفال , ذلك في حاجة إلى جهد و مسؤولية و مزاج  , مالي أنا وذاك , رجل في مثل سني خير له اختصار الطريق , إن كان لابدّ من الزواج فلتكن امرأة تقاربني في السن , امرأة فكرت كثيرا , امرأة استقرت على رأي , لا خيارات عندها ولا تبحث عن ذرية .

       التفتَ إلى اليمين فقد سمع شيئا يُـجرجَر بالقرب منه , إنه أحد كبار السن من معارفه يسحب صندوق حليب فارغ للجلوس عليه , ما أن استقر إلى جانبه حتى سأله إن كان ماهرا في لعبة(الشيزة) , ابتسم عامر فقد اعتاد الجلوس معه ومع أمثاله فطالما استراح لكثير من حكاياتهم القديمة .

       بدأ عامر اللعبة مسايرة للرجل الشيخ , لكن الرجل يلمح على وجه عامر الجدّيّـة بل رآه يسرح بفكره بعيدا . وصحا عامر حين سمعه يقول : ليس في الدنيا ما يستحق التحسر عليه فيعود عامر إلى رشده ويستمر في اللعب , ثم يأتي طفل ويصطحب الشيخ ويبقى عامر لوحده من جديد .

       حاول عامر تغيير مكانه والتمشّي عبر الشارع الطويل , فهو كثيرا ما قضى جزءا من وقت فراغه ماشيا , إلا أن كلمة الشيخ ارتسمت في ذهنه ( ليس في الدنيا ما يستحق التحسّر عليه )  فـلِمَ  أتحسّر أنا ؟ أنا أفكر فقط في السنوات التي تشبه بعضها بعضا ... لا لقد صدق الشيخ فأنا أتحسر , ألم أقل أن العمر سرقني , ولكن فيمَ سرقني ؟ هو عمري عشته كيفما اتفق , قمت بأعمال كثيرة , خضت تجارب جمّة ’ مررت بظروف مختلفة سوى أني لم أتزوج , لا جريمة في ذلك . لكن هل كل من تزوج كان سعيدا ؟ هذا الشيخ الذي كان هنا متزوج ولديه أولاد أكبرهم في مثل سني , وعلى الرغم من أن الشيخ يستشعر السعادة ويمزح كثيرا إلا إني أرى في عينيه مسحة من الأسى وعدم الرضا , ربما أنه لم يجد العناية اللائقة به . أذكر إنه عندما كان نزيلا بالمستشفي لم يزره أحد غيري , ربما زاروه قبل حضوري أو بعده , لكن زرته ثلاث مرات  لم يصادف وإن رأيت  أحدا من أبنائه إلى جانبه . أترى لم يزوروه حقا ؟ عرفت هذا الرجل منذ زمن طويل , عرفته وهو قوي , لم يدّخر جهدا في تربية أولاده , ربما كان يراوده شعور بأنه أصبح الآن عبئا عليهم , تلك ما يبدو من مسحة الحزن , ربما الحقيقة عرفها بعد فوات الأوان فلأعرفها أنا الآن .

       يقف عامر , إنه يسمع صوت الأذان , إنه أذان المغرب , يخلصه من الوساوس ويؤجل تفكيره إلى غدٍ .
ــــــــــــــــــــــــ


الصديقان

قال سالم في لهجة غاضبة : هل اعتديت على مال أحدهم يوما ؟ لا . هل كذبت من أجل الحصول على حاجة؟ لا هل أنا من جماعة اللف والدوران , هل غرّرت بأحد أو قمت بنصب واحتيال ؟  كلا أنا لم أفعل شيئا من هذا , ويقولون عني بخيلا ...
       ـ  هل أنا كذلك يا عاشور ؟
       ـ كلا , كلا , من قال هذا ؟ أنت لست بخيلا , إنهم عديمو الفهم , أتعرف إنهم يقولون عني نفس الصفة :
       ـ المعارف والأخوة والأصدقاء ورفاق العمل قهقهوا كثيرا  ذلك اليوم الذي أعطيت فيه ولدي ثمن إفطاره , تصوّر ما الغرابة في أن أعطيه عشرة قروش فكّة . لقد سخروا مني جميعا , فأحدهم قال : أمن بعد المرحومة أمك هذه النقود ؟ وقال آخر : لقد احتفظ بها في حصّالة , وقال ثالث ـ وهم غارقون في الضحك ـ أوقفوا الغلام فربما النقود ترجع إلى عهد قديم . فزادت موجة الضحك حتى قلب أحدهم الشاي على ثيابه .
لا عليك , لا عليك يا عاشور , يا صديقي إنهم جهلة , لا معنى عندهم للتوفير والاقتصاد . بماذا أخبرك من ترّاهاتهم ؟  أعن آلة الحلاقة اليدوية التي أمتلكها منذ عشرين عاما ثم تآكلت أسنانها من كثرة الفك والتركيب , وتلافيا للخسارة أخذت ألف على محورها ورقة لتثبيت شفرتها , فهل هذا أمر يقبل السخرية ؟! ... أم أخبرك بدهشتهم لاستغلالي رغوة الصابون التي أغسل بها وجهي في الصباح , لا أزيلها بالماء حتى أحلق بها شعري أيضا , عصفورين بحجر , فهل بذلك أسأت التصرف أو اعتديت على حقوق أحد ؟
ـ حاشا لله , إن ما تفعل عين الصواب يا سالم  , ذلك خير من شراء آلة حلاقة أخرى ,  القاعدة تقول : احتفظ بالقرش الأبيض لليوم الأسود , لكنهم  يتناسون فيبذرون فإذا احتاج أحدهم إلى سند من المال فلا يجد في يده شيئا , يضطر إلى الاستدانة , بل يستعد لقبول إحسان الناس , وإذا ساء الأمر لجأ بعضهم إلى المخاتلة أو الاختلاس وربما السرقة أيضا , الحمد لله إننا لم نفعل من ذلك شيئا . نحن بتدبيرنا وحنكتنا في غنىً عن هذه المذلة , إننا نجد المال عندما نطلبه .
ـ  ولكن قل لي , ماذا حدث في أمر سفرنا المنتظر يا عاشور ؟
ـ كن مطمئنا , فأنا بصدد شرار التذاكر .
       ـ منذ أيام وأنت بصدد شرائها , ولم تفعل .
       ـ لم أحصل عليها بعد يا سالم ؛ فحافلة الثلاثاء تذاكرها غالية , ثمانية دنانير ونصف مقابل كرسي , يقولون إنه وثير , وجهاز مرئي طوال ألف كيلومتر .
       ـ لكن لا نريد الطابق العلوي سامحك الله .
       ـ الطابق العلوي والسفلي لا فرق بينهما في الثمن .
       ـ إذن لا نريد الجهاز المرئي .
       ـ مهما يكن يا سالم فلا تخفيض في الثمن , لكن ما لنا وهذه الحافلة , إني انتظر مرور حافلة عادية بكرسي مريح , لا جهاز مرئي , لا هرج ولا مرج مقابل ستة دنانير فقط , إنها حافلة الخميس .
       ـ أحسنت يا عاشور , هذا أفضل قليلا .
       ـ أتقول قليلا ! بل كثيرا , أترى أننا تجنبنا سيارات الأجرة , إنها تطلب أربعة وعشرين دينارا , الطائرة أقل من ذلك .
       ـ يا للجشع , يطلبون أربعة وعشرين دينارا , أفعل الكثير بهذا المبلغ , وهم يريدون تسديده دفعة واحدة , نجوم السماء أقرب لهم من نقودي . 

*********

       ـ رائعة حافلة الخميس هذه ,  هاهي استراحة أمامنا , لنستنشق الهواء العليل , إنه بدون مقابل , ولنحرك أجسامنا .
       ـ انظر يا سالم هؤلاء المتكالبين على المطعم , إنهم يلتهمون الكثير ويطلبون أشياء لا لزوم لها , لا بل إن صاحب المطعم يبالغ في السعر ,  يا لبشاعة النهم !
       ـ دعهم في غيّهم , ألا يكفي فنجانُ قهوة أو كوبُ من الشاي .؟ على فكرة يا سالم  ما رأيك في كوب حليب واحد نقتسمه , فأنا لا أستطيع  شرب كوب كامل , شاركني فيه , وسنأخذ معه علبة خبيز صغيرة , لكن أولا سلْـه عن الثمن .
       ـ بل سله أنت في طريقك , فهو قريب منك , على كل حال لن يتعدى ثمنه ربع دينار .
       ـ لكن انتظر لحظة يا سالم , إنهم يتزاحمون على الشاي , سأسأل أنا ذلك الرجل الجالس , إنه يشرب حليبا .
       ـ أتقول إنه قال لا أدري , فلعله بنصف دينار , يا للطمع , لا حاجة لنا بالحليب , سنكتفي بالخبيز , علبة واحدة بها سبع قطع (بسكويت) كافٍ وزيادة . ما ثمنه يا تـُرى ؟
       ـ إنه بنصف دينار أيضا .
       ـ لا بأس خذه يا عاشور وسجّل ثمنه على قائمة المصاريف .
       ـ سأقوم بالتسديد أولا بأول يا سالم , ثم أخذ منك نصف القيمة فيما بعد , هاهي القائمة : اثنتا عشر دينارا للحافلة ...
       ـ لا ليس كذلك , فهي بالضبط عشرة دنانير ونصف .
       ـ نعم , نعم  هذا صحيح يا سالم , لقد أعطيتني دينارا ونصف ذلك اليوم , هيّا أسرع إنه بوق الحافلة .
********

       ـ طريق طويل , يبدو أنك نعست , هل أنت جائع يا سالم .
       ـ أنا , لا , لا والله ! أنا اشعر بالجوع , بتاتا ً , ولكن لا بأس من تناول قطعة خبيز , يمكنك أخذ مثلها أيضا .
       ـ قطعة بكاملها !  بل نصف قطعة أفضل في ظروف كهذه , السفر لا يُحبّذ فيه المبالغة في الأكل حتى لا يتضايق الإنسان . هذه استراحة أخرى , سنقضم خبيزنا على مهل .
       ـ أترى إنها لذيذة ,  لولا سعرها المرتفع لاشترينا علبة أخرى .
       ـ الرخيص بخيس , لقد ذكّرتني , نسيتُ تدوين ثمنها في القائمة .
       ـ يا سالم , إذا أردت أن تستمتع بلذة الخبيز فانشر المضغة  في جهات فمك كله   لتستمرئها أكثر وتشعر بالشبع , لا تبتلعها دفعة واحدة فتخسرها وتفقد  لذتها .
       ـ إنني أفعل ذلك منذ البداية , فهذا أفضل من صحون الأرز وأطباق الدجاج المحمّر التي يتداعى عليها هؤلاء الركاب النهمون ... يا لَـلإسراف ! منذ ساعات تناولوا فطورا دسما .
       ـ نحن أيضا سنأكل وجبة دسمة عندما نصل إلى هدفنا , أعدك بذلك , ما يزال أمامنا ستمائة كيلومتر فقط , سننعم في الطريق بنصف رغيف بالتن أو المفروم , أو حتى دجاجة محمّرة , لِـمَ لا ؟ جُعلت النقود لتصرف , والآن ما رأيك في قنينتين من مشروب البرتقال ؟
       ـ قنينتان معا ! قنينة واحدة تكفي , الغازات تثير المعدة , بل دعنا منها نهائيا يا عاشور ولنذهب إلى ذلك المسجد  نغـتسل ونشرب من مائه البارد ونصلـّي .
       ـ هذا أحسن , هيا بنا , بل ارجع , بوق الحافلة ينادينا , كلْ قطعة أخرى من الخبيز , لا بأس في ذلك , أما أنا فلا توقظني إلا عند الوصول , يمكنك النوم أيضا , لا تنسى الوجبة الدسمة التي وعدت بها , فكـّر فيها , ستجعل أحلامك سعيدة .

ـــــــــــــــــــــــــ


تــوبــــــــــة

قال الطبيب : لا تتحرك , عينك موجوعة .  لكن عمي (علي) يحكي عن عجوزه  تزوجها بعد طلاقها من صاحب العربة , حكايات حزينة و سارة  تلهب المشاعر .
       المرضى ممدون على أسرّة المستشفي  يطالبونه بالمزيد من الحكايات . مرضى  رمى بهم الدهر بين أحضانه , تجوّل بهم في المتاهات , كلهم مرضى   عيون , أنا أصغرهم سنا .  لن أبقى كثيرا , حذرتني الممرضة , لا تتحرك , لا تكثر الكلام , لا تضحك , لن تدمع عينك المجروحة .
*******

عمّـي علي) ما زال ينخط ,  على طريقة كهول بنغازي المتعجرفين قائلا :
ابتعدوا عني , العجوز قادمة لزيارتي , ابنها في الثلاثين , إنه كابني , ربيته منذ الصغر  عمرها ستون , عمري ثمانون .
ـ لكن عمي (علي) من ذا ينظر إلى عجوز مثلها , سبحان الله !
ـ أسمعكم بعد أن يضعوني في ألحادي! .

********

       جميعنا يأكل الكسكسي الذي أحضرته العجوز  , بطاطا ,  قرعة , حمص , إنه لذيذ , لكن لا تنظروا إلى صاحبته (يقول عمي علي)  , لا أحتمل ذلك وإلا رفعت القصعة من بينكم .

       ينخط عمي (علي) مرة أخرى قائلا : حتى صاحب العربة طردته شر طردة عندما جاء يسأل عن ابنه ... ثم يوجّه الكلام لي :
ـ  أنت يا أصغرهم , عمليتك جديدة , لا تأكل الفلفل . 
ـ  عمي (علي) عجوزك ذهبت , عُــدْ إلى مرحك , أحكِ لنا .
ـ بنغازي بُـنيت على أكتافي , عرفت الكثير من مكائد النساء , آه , الحياة لذيذة مع المرأة , فقط كن صحيحا دائما وكاذبا أحايين , لا تقل كل الحقيقة وإلا كنتَ ...
ـ اسكتوا , الطبيب بتوجه لصاحب السبحة الطويلة , ما زال يتمارض , قضى في السرير شهرا وفترة نقاهة ,  لكن الطبيب يقول :
ـ أخرج , هذه شهادة مراجعة .
ـ لا يا حكيم , دعني أسبوعا واحدا , البرد قارص , فقط إلى أن تشرق الشمس , الطبيب لا يأبه به , يتوجه إلى العم (علي) :
ـ أخرج أنت أيضا غدا . تململنا جميعا ,  لكن  من سيحكي لنا بعد رحيلك عمي (علي)؟  لكن أسرعْ إلى عجوزك قبل أن يظفر بها صاحب العربة وأنت هنا .
ـ تقدمْ يا صاحب السبحة الطويلة , هل بُـنيتْ بنغازي  على أكتافك أيضا ؟
ـ لا , بل هدمها الحلفاء على أكتافي أثناء زواجي الثالث , عقيمة تزوجت عقيما , لكنها بقيت أكثر من غيرها ... مصريّ تائه زارنا ذات ليلة , لعن كلّ اللصوص  وحذرنا منهم , آخر الليل دبّ يفتش , أمسكت به , غلبني وتسلق الجدار , فقط معطفه جاء في يدي , عندها نخط عمي (علي ) قائلا :
ـ كان المصري يريد سرقتها منك , لا سرقة البيت . وينخط صاحب السبحة الطويلة  قائلا :
ـ كما سرقك صاحب العربة , هاهي نخطة بنخطة .

***********


       الشايب محمود غاضب , يشعل المصباح الخاص بسريره قائلا :
       ـ إما أن تشعلوا جميعا أو تطفئوا جميعا , عيوننا مريضة , فلنطفئ جميعا , الحكاية أمتع في الظلام , أنا لا زوجة لي , لكن اسمعوا هذه الحكاية ما دمتم تتحدثون عن المكائد:
       كنت أحصد القمح , أبيت في خيمة شريكي , ذهب يتسوّق , في الليل دبّت نحوي تستجديني وتنذرني بأن لن أبقى هنا لو لم أفعل , لكنني قلت :
       ـ إنما معي هدبة , لن أصلح  للنساء .
       ـ يا للخسارة ! قالت وصدّقت ما قلت .
       ينخط عمي (على ) قائلا :
       ـ ما أخيبك , ستجد غيرك , آه , لو لم أتبْ منذ حَجْـتي , عمكم (علي) في السابعة والثمانين من عمره , تعامل مع جميع النساء , مع كل الجنسيّات , جلت البلاد شرقا وغربا , تاب الله عليّ منذ حَجّـتي . حرست مسبح (جوليانا)  قبل حجتي , نعم , قبل حجتي , وتلك الألمانية طلبت مني تدليك  ظهرها عند المسبح , دلكت كل الأجزاء  , كان أجري وافرا , وتلك وتلك وتلك طابور طويل ... الحمد لله ,  لم أقع بعد حجتي في السنة الماضية .
ــــــــــــــــــــــــــ


مقالب آدم
ـ 1 ـ

       هادئ , غامض , متحدث , صامت أحيانا , لا تأمن بوائقه إذا أسأت إليه , لن يسامحك إذا تصوّر مَـكـرا أو خديعة , لكن يجازي على قدر التصرف تجاهه . هو وثيق الصلة بـ(المحمدين) ؛ أبي خليفة وأبي عمر اللذين لم يكونا على وفاق ذلك اليوم كله , بل ذلك العام برمته .

       آدم كان وراء ذلك النزاع بينهما ؛ أبو خليفة وجد كرة قدم أثناء الزردة و احتفظ بها , منع آدم من اللعب بها . أبو خليفة رفع غطاء المحرك وأخفاها في سيارته , أصرّها آدم في نفسه .

       من مكان آخر تسلل آدم وأخذ الكرة وأخفاها في مكان ثم عاد من حيث لا يراه أحد . وقبيل  انتهاء الزردة نصح آدم أبي عمر بأن يسحب خيط اشتعال كل سيارة من سيارات الرفاق حتى لا يذهبوا جميعا ويتركوا لهما عناء غسل الأواني .

       أبو عمر لا يدري من أمر الكرة شيئا , توجّـه أولا إلى سيارة أبي خليفة , وما أن مسّها حتى أومأ آدم إلى أبي خليفة بأن سيارته يُعبث بها . انطلق حالا وقد فتح أبو عمر غطاء محركها وتشادّا , أحدهما يقول كرة والآخر يقول خيط ... وبقي الخلاف ديدانهما عاما كاملا حتى اعترف لهما آدم بما فعل .

ـ 2 ـ
       سعد يفقد صبره تجاه النساء الجميلات , آدم يعرف ذلك . صادف الاثنان امرأة جميلة في طريقهما إلى البحر , رأى آدم عيني سعد تتعلقان بها فصفق يدا بيد وقال: أتدري يا سعد  لو لم أكن متأكدا أن زوجتي بالدار لقلت إنها هذه بشحمها ولحمها , بل ولباسها أيضا . وبدهشة قال سعد : إنك لمتزوج , إنك  لسعيد بها ما دامت كهذه .
        سعد دأب المرور من أمام بيت آدم كي يرى زوجته الجميلة , استمر على ذلك أياما ولكنها لم تظهر . زارهم في المنزل مرارا , شرب عند آدم القهوة والمشروب , تناول أغدية وأعشية وفطورات فما رآها ولا سمع حتى صوتها .
       صادف وأن قام سعد بزيارة للمستشفى , التقى بآدم وزوجته , تبادلا السلام , قال آدم : سلـّم يا سعد هذه زوجتي , ويصاب سعد بخيبة أمل , لم تكن غير عجوز شمطاء .


ـ 3 ـ

       آدم كبير المجموعة , إبراهيم عليه الدور في إفطارهم , لم يحضر مع الخبز جبنا كما جرت العادة , وإنما أحضر علبة طبيخ , لم يتعود الجماعة أكلها , قوبل بالسخرية , أكثرهم لم يذقها من قبل , عافوها , إبراهيم أكّـد قابليتها في بلده , هناك يسمونها ( شكشوكة ) ., وزادت السخرية عند تلفظه بالعبارة الأخيرة ... ومن ذلك اليوم تغيّر اسمه من إبراهيم إلى شكشوكة , وصار آدم أكثر تعلقا بالاسم الجديد , يؤكده في نفوس الآخرين عدة مرات في اليوم .

       إبراهيم ضاق ذرعا بذلك , فيقترح دفع مبلغ للجماعة نظير أن يكفـّوا عن مناداته بشكشوكة , بشرط أن يدفع نفس المبلغ كل من يتلفظ بها مجدّدا . ويشتري الجماعة من المبلغ المدفوع من إبراهيم ثماني دجاجات محمّرة , على عددهم تماما . وفي أثناء تناول الوليمة فقط يسهو ثلاثة منهم ويتلفظون بالاسم المحظور , ويقوم آدم بأخذ المبالغ فورا , ولم يحل اليوم الثاني إلا وقد وقع الجميع في الفخ عداي .

       آدم تضايق من حرصي ,  نصب لي فخاخا , نجوت منها الواحد تلو الآخر ملّ من سؤالي :
من ذا الذي جاء من هناك ؟
         إجابتي كانت (إبراهيم) .
لمن تلك السيارة السوداء ؟
إجابتي إبراهيم .
معطف من هذا ؟
معطف إبراهيم .

       لنا صديق يعالج في إيطاليا , رسالة منه وصلتني للتو , اسمي وعنواني مدوّن باللغتين , وطابع بريد أنيق . انزويت , بدأت القراءة , آدم يدنو نحوي , يودّ إسماعه نص رسالة صديقنا جميعا , قلتُ ولِــمَ لا ؟ اسمع يا كبيرنا : الديباجة ثم العملية الناجحة التي أجراها , ثم إيطاليا جميلة ... وأسلـّم على فلان وفلان وشكشو...كة  . الفرامل خانتني  ونطقت بها كاملة , بلعت  الطعم , ويد آدم تضرب كتفي بهدوء ودهاء , مادا يده قائلا :
ـ المعلوم يا صديقي , ادفع المعلوم .
ـ لكنها رسالة , هذا كلام زميلي في إيطاليا وليس كلامي , هو الذي كتب شكشوكة ولم أقصدها أنا ...
ـ الشرط يا صديقي يقول كلّ من تلفـّظ بالاسم يدفع المبلغ المعلوم , هات .
 
ـ 4 ـ
القبور الرومانية مبعثرة في ثنايا الجبل . (رابح) تأثر بأحاديث صهره واطلاعاته في كتب الآثار , وبأنه يوجد ذهبٌ في بعض المدافن المخفية , وحميمية ما جعلت رابح ملتاعا وراء اكتشاف كـَـنـْز .آدم عرف ذلك , طرح عليه رابح فكرة التنقيب معا لعلهما يعثران في الغابة على قبر غير مكسور  . آدم لم يقصّـر ؛ ألبس نقودا معدنية رقائق سجائر مذهبة وتوجّـه إلى قبر يعرفه في وسط شجيرات بطـّوم . سدّ ما تكسّر من القبر وهال عليه التراب , ووضع فوقه حشائش يانعة .

       في الصباح الباكر توجّـه رابح وآدم للبحث عن كنز , واهتم آدم بإعداد الفطور , وبدأ رابح التنقيب , عثر على المكان وأخذ يكد ويعرق حتى أوشك على قلع ما يسد فوهة القبر , وآدم يرمقه قائلا من حين إلى آخر : 
       ـ ماذا حدث , هل وجدت شيئا ؟
       لكن رابحا لا يتكلم , فقد أزاح الصخرة التي تسد فوهة القبر , إنه مثل القبور التي رآها في الصورة تماما عند صهره , وعندما أزاح ترابا من أسفل الفوهة اصطدمتْ يده بالنقود الذهبية  و...  ويتوقف عن الحفر , ويناديه آدم :
       أو , رابح , هل وجدت شيئا ؟
       رابح يمسح عرقه , ينظر نظرة غريبة نحو صديقه , عيناه تقولان شيئا , و يده تتجه إلى جيبه و يقف حائرا ويتوجه آدم نحوه , لكن رابحا يطلق ساقيه للريح , وينطق وينطلق وراءه آدم , ويتوقف رابح فجأة  ويستدير نحو آدم قائلا :
       ـ ذهب يا آدم , ذهب , وجدنا الكـَـنـْـز , وداعا أيها الفقر , هاهو الأصفر الرنان , انظر إليه , وأصابعه تزيل القشرة الذهبية وتظهر عملة ٌ يعرفها رابح .
ــــــــــــــــــــــــ


نــابــولــي

ما يزال أبي في غيبوبة , جزء من أصابع رجله قطعت في الوطن ,  ساقه بُـتـرت في إيطاليا . احتفلنا كثيرا  لشفائه في المرة الأولى . ثلاث سنوات لا يحس شيئا إلا ذلك العرج الذي لازمه وتبرّم به أشد التبرم ؛ فقد قلـّـل من جولاته وتتبعه للغنم وبحثه عن البقر التائه في وديان الجبل السحيقة . ومما زاد من تبرمه أنه كان من هواة المشي  لا يهنأ باله إلا إذا أطلق نفسه على سجيتها في تلك المنحدرات , تداعب أطرافه أغصان   الخرّوب وتهب على وجهه الرياح الغاضبة ... قال لي : لم ترني في شبابي , كنت أدخل شجرة البطوّم الكبيرة وكأنما دبابة شقتها , كما أنه يستطيع بناء (مفحومة) في يوم واحد.

اجتمعت الذكريات في ذهني وأبي طريح الفراش , لم يفتح عينيه بعد عملية البتر الكاملة . هاهي الممرضة الحسناء تحوم حوله , تقوم باستبدال قنينة التغذية , تكتب , تنظر إلى ساعتها , تفحص أجهزة أخرى عند رأسه وإلى جانبه , ترشقني بابتسامة حلوة حينما بدأ أبي يغمغم , يحاول الكلام , هو من محبي التحدث , لا يسكت مختارا إلا إذا كان نائما أو غائبا عن الوعي .

ملائكة الرحمة تعود من جديد , أرد على تحيتها (بوناسيرا) , معها باقة أزهار جديدة . رائحة النظافة في كل مكان من الحجرة . دخلت ملائكتان أخريان , الثلاث يحطن بأبي , يتناغين بأصوات السنونو . أبي جعل يفتح عينيه , يطلب جواربه قائلا :
ـ دفـّـئوا رجلي .
أسرعت إليه , اقتربت منه وقلت :
ـ الحمد لله يا أبي , سلامتك , لقد زال السوء, سنلبسك الجوارب , كيف ترى نفسك الآن ؟
ظل لا يكلمني , يجول بعينيه في الحجرة , ربما كان يتملـّى جمال ملائكات الرحمة المحيطة بسريره , ابتسم , نظر نحوي كأنه يراني لأول مرة ثم قال : اقترب يا سعد , أعرف أنك لن تغيب عن هذا المقام الطاهر , أنا في الجنة , جئت أنت أيضا , منذ كنا في الدنيا عرفت أنك من أهل الجنة , موسوم بأعمال الخير في حياتك , هذه جنة الخلد , إنها مكانك , رضاي كان معك دائما , لكن متي متّ ؟ وأين أمك ؟ ألم تأت معك ؟ ...
ـ حاولت إسكاته وقلت :
أمي بعيدة , بعيدة جدا , بيننا وبينها البحر . مع ذلك رفع صوته وقال :
ـ (قسامي) لا تستأهل هذا المقام , أعرفها , لن تفرح بالجنة , ليست من أهلها منذ البداية ... واستمر يكيل لأمي الشماتة , وكاد يقول أشياء أخرى , رغم أن المحيطين بنا لا يعرفون من العربية شيئا , وكدت أرفع صوتي أنا الآخر فقلت :
ـ يا أبي هذه ليست الجنة , هذا مستشفي الطليان .

بدا واجما , عاد له شيء من الوعي , أدرك بعض الأمور لكنه عاد للسؤال عن الجوارب , لم يفطن بعد لرجله المبتورة من نهايتها , فضلت أن يكتشفها بنفسه , في حين جاءت ملائكة الرحمة وفي يدها شاش تضعه تحت رجله المقطوعة , سرق نظره نحوها ولم يعد يسأل عن الجوارب , ونظر ساهما إلى رجله , ثم استأنف يحكي من جديد:
ـ راحت الدنيا وأهلها , كم وطئت هذه الرجل من أرض , كم زارت من بقاع ... أدركت حينئذٍ إنه اكتشف الأمر , تدخلت للتخفيف عنه وقلت :
ـ البركة فيما أبقى لك الله .
وبهدوء كئيب تمتم : لا حول ولا قوة إلا بالله .



ـ 2 ـ

مهلا يا والدي , سنتحدث فيما بعد , دع جرحك يندمل , لكنه  لا يأبه لكلامي , يتحدث منذ إقلاعنا من المطار بأرض الوطن , بل منذ أن نقلناه من الكوخ بوادي (البرد) ولا غرابة في ذلك , فمنذ أن عرفت أنه والدي وأنها والدتي وأنا أعرفه  حاد الصوت , صعب المراس . سامحه الله ! كم أطلق لسانه حتى على الأخطاء الصغيرة , وعندما يكون رائق البال لا يكف عن الكلام , لا يدع أحدنا يستريح في القيلولة أو يكمل نومه في الصباح , بل لابد من مهمة نحو رعاية الغنم  أو البحث عن بقرة تسللت إلى الغابة , أو جلب الحطب أو المياه , أو , أو ...

أمرتنا الممرضة بالذهاب إلى الصالة المقابلة حيث يجتمع بعض المرضى للترويح عن النفس , وللتمتع بمناظر نابولي الرائعة , أبي صار يهتف فقط بوادي (البرد) ووادي (رلـّس) منذ أن اكتشف بأنه ليس في الجنة , وعاد إلى هوايته القديمة , هواية التحدث , صار اهتمامه بسؤال من حوله . أومأت إليه مرارا ليترك الناس في حالها , نصحته  بانتظار المريض الذي قدم معنا من بلادنا كي يحكي معه ما يريد .

الجميع منسجمون يتطلعون إلى المناظر البعيدة من علو المستشفي الشاهق عدا والدي , يشعر بالقلق , يريد أن يحكي فحسب , ولأول مرة ينشغل أبي بالتأمل من فوق العلو الشاهق ويناديني مشيرا بيده :
ـ ساعة واحدة يا سعد في تلك البقعة الخضراء تحتنا وتشبع , آه لو كانت هنا , ونظرت معه وقلت :
ـ من تعني ؟
ـ الغنم .
ـ 3 ـ

لابدّ لي من التجوّل في نابولي فقد خفـّـتْ أزمة أبي , ذهب معي مرافق آخر لطيف شغوف بمشاهدة السرك , مازال يقنعني حتى دخلناه , حافل بالألعاب والزحام والصوت , حيوانات مروضة تقوم بخوارق , لن تصدق ما تسمع عنها حتى تراها . انتقلنا من حلقة الأسود إلى حلقة تغصّ بالمشاهدين , غارقة في الضحك من أجل حمار صغير قصير القامة , لا يكاد يركبه أحد حتي يوقعه أرضا , جعلوا جائزة كبيرة لمن يثبت على ظهره ويأخذ دورة كاملة حول محور تحت المشاهدين , وإثر كل وقعة ضجة ضحك , بعدها ينفض الضحية ملابسه من الرمال ويخرج مهزوما .

صاحبي  رمى لي معطفه , استنكرت عليه التعرض للتجربة , لم يعبأ بكلامي غادرني قائلا :
ـ الحمير نحن أولادها . يقصد إنه أعْرَف بسلوكها , ونقاط ضعفها .
انطلق زميلي  مبتسما وأدرج نفسه في قائمة المتسابقين في ركوب الحمار القصير , ولما جاء دوره أمسك بالحمار من مقدمة رقبته وحاذاه وهو يمشي , ثم قفز على ظهره مثبتا قدميه مباشرة في حضني الحمار الخلفية . حاول الحمار الوثوب إلى أعلى ولكنه عجز , وراح رفيقي يحثه على المشي , وعالت صيحات التشجيع والصفير , وأخذ الحمار يمشي وهو يتمايل , وأكمل دورة وبدأ في الأخرى , وما يزال الحمار يحاول التخلص من راكبه غير أنه أخذ يتباطأ ويقترب من المشي الطبيعي , ثم نزع زميلي إحدى قدميه عن حضن الحمار فلم يغيّر الحمار مشيته وترك محاولة الرفس والوثوب , ثم نزع زميلي قدمه الأخرى وبقي يوجه الحمار كما يريد , وأعتقد أن السرك لم يستفد من رياضة الحمار منذ ذلك اليوم .
ــــــــــــــــــــــ


الأغنام

محتفٍ بنفسه دائما حتى قبل أن يدخل سلك العسكرية ؛ يلبس الملابس الأنيقة ولو كانت مكلفة , بتدبر ثمنها حتى ولو باع شاة أو شاتين من أغنام أبيه . لا يحب أن يراه أحد في حال سيئة , خاصة بعد أن أصبح متميزا ـ بكونه عسكريا ـ عن شباب تلك الوديان ماذا ستقول عنه بنات الجيران إذا رأينه رث الثياب , بل ماذا ستقول عنه (رفيعة) التي يكن لها شعورا خاصا ممزوجا بالإعجاب والدفء دون أن يخالط ذلك سبب آخر .

ليس لأيٍ منهن حظوة خاصة عنده , فهو حتى الآن لا يرغب في توريط نفسه في علاقة غرامية تؤدي به إلى الزواج , أما (رفيعة) فإنه يستلطفها , لا لشيء إلا لأنها تعجبه فحسب .

شق طريقه عبر دروب الغابة التي يعرف مسالكها جيدا , وضع جانبا ـ كعادته ـ كل التزامات وتكلف المدينة ليدخل في وادي (البرد) ووادي (رلـّس) , لم يأبه لأشواك السلـّوف الناتئة التي قطعت فتائل من بنطلونه الأنيق , ولا لحذائه الأحمر الذي أصابت مقدمته لكمات الطريق الموحل حينما لم يجد ملاذا لتجنب بـِـَرك الماء  . سمع صوتا يناديه من خلفه , صوت يعرفه , إنه صوت أبيه :
ـ يا طريف .
ـ مرحبا أبى , لماذا أنت في هذا المكان , ابتعدتَ عن البيت , إنها تكاد تمطر     
ـ من الضحى وأنا هنا .
ـ لا يهمك , خذا هذه الحقيبة واذهب أنت يا أبي , سأبقى مع الغنم إلى المساء

ضوضاء طيور هاجعة للمبيت , ثغاء شياه , رعيان عائدون وسط ضباب كثيف هناك في أقصى الوادي . استرد أنفاسه المتلاحقة قرب جرف الطيور يرصد كل مكان لعله يراها , حتى ولو شاة واحدة تدل على الباقي . هاجس مريب يجري في عروقه ؛ ماذا سأقول لهم ؟ فقدتها , سهوت عنها  فضاعت مني , يا لـَـلـْـهول !   لا أستطيع العودة بدونها . هذه الطيور تزدحم , عادت إلى الجرف وإلى الشجرة في أسفل الوادي , الكل يؤمن لنفسه مبيتا قبل حلول الظلام . داعبت أنفه رائحة حطب مبتل وسط شجيرات الشماري المتراصة . وقف ليتأكد من الرؤية فقد غابت الشمس , هناك شيء إلى جانب الشماري , عساه يكون متحركا , ولكنه ابتهج :
ـ شويهاتي , آه , كدتُ أضيعكن وأصبح مضحكة .
لكن صوتا خشنا  يأتي من ورائه :
ـ ما زلت مضحكة , هذه ليست أغنامك , إنها أغنامي .
ـ عمي شلتيت , أما رأيت أغنامي في هذه الناحية ؟
ـ الآن وصلت فقط من وادي (رلـّس) .
ـ أبي رَعَى طول اليوم ناحية وادي (البرد) , بعيدان بعض الشيء عن بعضكما .
ـ وأبوك لم أره أيضا , ولكن قل لي : كيف ضاعت غنمك يا فالح ؟!  
ـ دخلت الكهف , أتفقد الخلايا , النحل كان هائجا , بصعوبة حصلت على قطعة عسل .
ـ بطنك يا طريف , بطنك هذه ستوقعك في مصيبة يوما من الأيام , النحل جائع الآن , دعه حتى يشتد الربيع . ستون عاما وأنا أرعى الأغنام والبقر أيضا رعيته , لم أغفل عنها , لم أضيع واحدة سوى ما قتل الذئب أو مات حتف أنفه , أما أنت فقد أفسدتك المدينة , المضغ و الصفير لا يجتمعان  يا فالح !     

عاد طريف إلى هياجه وقلقه ومضى دون إتمام حديثه مع الراعي شلتيت . غابت الشمس , بدأت تـُعتم وصوت الطيور الهاجعة للمبيت قد تضاءل سوى زقزقة طائر تنبعث ببطء بعد فترة من السكينة , فقط زعيق الراعي شلتيت على غنمه يتردد في جنبات الوادي . أخذ طريف يسرع الخطى نحو متسع بين الأجمات وبعض الشياه تمد أعناقها نحو أوراق البلوط , إنها أغنامه هذه المرة , لكن بعد الفحص تنقص أربعة معها فحل أبيض وسداس . ساقها بسرعة , متصورا ً قلق أبيه , وصل بعد عناء حيث شاهد بيت الشعر يدل عليه وميض الفانوس من خلال رواق الخيش وكوخهم قابع بجانبه . تلقته الكلام بالنباح والهجوم ثم سكتت , مما جعل أبا طريف ينادي على الأغنام لتدخل مراحها أبلغه طريف عن الغنم الضائعة ورجع للبحث عنها من فوره دون أن يأبه لنداءاتهم .
*********
وينبعث في نفسه هاتف  لدى اقترابه من كوخ (عوف) والد (رفيعة) : إنها فتاة تعجبني , لم يكن بيننا شيء لكنها تعجبني , ربما لأنها صريحة معي , لا تتصنع أمامي بما يبدر من بعض الإناث في الكلام والتصرف , ربما تعجبني لبشاشة أمها وسرعتهن في إكرامي كلما جئت ابحث عن دابة من دوابنا , أو شأن يربطنا بهم . حقيقة لم أسجل لرفيعة غير حسن الظن بها . كنت دائما على عجل , لكن لا بأس من شربة لبن طازج , هو ليس مما أشتهيه ولكني آخذه من يد رفيعة , أشربه كله إكراما لها وجبرا لخاطرها.
على كل حال لم ير أهل رفيعة أغنامي , ما زالتْ ضائعة , لا أستطيع البقاء لتناول العشاء , ربما حدرت أغنامي في الوادي لتتقي المطر في أحد الكهوف التي تعرفها , ولكن أشتمّ ُ رائحة شواء , مصدرها غير معروف , الريح متقلبة في الليل , توقفت لأعرف المصدر , تمنيت أن لو كان الكلب معي , غير أن هناك صوت واهن في أسفل الوادي , هناك نار ظهرت في الكهف القابع تحت الصخرة العملاقة . حاولت المراقبة عن كثب قبل مقابلتهم مختفيا بشجرة شماري , إنهم ثلاثة , أحدهم لص معروف ’ كما عرفت الآخرين , يضعون قدرا على النار وكثيرا من الشواء الذي شكـّـل سحابة من الدخان المتصاعد , أرجو ألا تكون إحدى شياهي , وفاجأتهم :
ـ السلام عليكم  ,
كان ردهم متخاذلا مرتبكا , وقفا اثنان ثم جلسا , لم يكلمني أحد , ورميت المكان بنظرة لعلني أشاهد رأس الذبيحة أو جلدها , فعلامة وسْمِنا ثابتة على رأس كل شاة من أغنامنا . لم أر أثرا لشيء , جلست ودُفِع أمامي بالشواء , لذيذ إنه من شياه هذه البقعة تتجلى نكهة المرتوع في طعمه . راقبت عن كثب في عيونهم وارتسامات وجوههم , سارقون لا شك وهذه إحدى شياهي , الإثبات صعب دون رأس الذبيحة , قلت وأنا أبتسم:
ـ أهذه ذبيحة أم أنه لحم جلبتموه من السوق ؟
لم يتكلم الاثنان وقال اللص المعروف :
ـ جاء به النصيب وكفى .

التهمت ما بقي في يدي على عجل ثم وقفت وسألتهم عن أغنامي التائهة , لكن أحدا منهم لم يرها , وطمأنوني بأن هذه اللحم ليس من شياهي . انحدرت في الوادي المظلم لأفتش بقية الكهوف عن أغنامي المفقودة , في حين أخذ المطر يشتد , ابتلت ملابسي كلية , والليل صار حالكا , تلمست طريقي بصعوبة تجاه الكهوف , ونتوءات الصخور تعرقل طريقي , جفل من أمامي حيوان , الأقرب أنه كلب , لم آبه به في البداية  لكن ارتسمت في ذهني ظنٌ قوي , حاولت العثور على مكان جفلته , انحنيت لألمس عدة أشياء معتقدا في كل مرة أنها راس أو جلد الضحية , لم ألمس غير أحجار ونتوءات التراب , غير أن رجلي وطئت على شيء فانزلقت , فإذا به الجلد , لا يزال رطبا ولكنه ممزق , الرأس عالق به أيضا , لقد انتهت المشكلة , لم أتمكن من رؤية معالمه في الظلام , ولكن بمسحة من يدي على خد الضحية تحسست الوسم بوضوح , اللصوص رموه في القاع , لو تأخرت قليلا فلن أجدَ غير العظام ,  ولضاع الأثرُ برمته . أما اللصوص فسنتفرغ لهم غدا , أعرفهم جميعا , سنطبْـقُ عليهم العرف الجبلي ؛ من سرق شاة يغرم ثمانية شياه بدلها , وإلا فأمامهم يمين غليظة بتزكية عقلائهم , وإن لم أجد باقي الغنم سيغرمونها أيضا .

ليس في الكهوف المعروفة من أثر لأغنامي التائهة , رجعت صعودا إلى الجبل , قدماي تغوصان في الوحل والماء تخلل الحذاء . عمي شلتيت أول الأكواخ القاصية ناحية الجبل , تحيط به أشجار الأرز العالية , يعيش لوحده منذ عرفته , أغنامه من الماعز , عددها ثابتٌ , ومع أنه لا يَعُـولُ إلا نفسَـه فهو مُقـتـِّرٌ في مصروفه , يشكو غلاء الأسعار وضيق المعيشة , ويكاد طعامه يقتصر على الخبز والحليب . لا يذبح إلا مشرفة على الهلاك أو طالها الذئب حتى تردّت .

لقد تأخر الليل وثقل المطر , المشي أصبح وئيدا صعبا وسط الأوحال ’ فقد كادت تنتزع حذائي , لابد من الاستراحة عند شلتيت , ناره مازالت موقدة , كلابه هجمت عليّ من كل جانب , لم أضع حسابا لذلك , كادت تنال مني وأنا أبعدها عن نفسي من كل جهة وأصيح عليه ليخلصني , وما أن دخلت حتى زدتُ النار حطبا وجلستُ عندها دون أن أتكلم . كنت أهمّ بسؤاله عن شيء آكله غير أنه بادرني بأن أغنامي عنده فقلت حينئذٍ :
ـ عمي شلتيت , أنت رجل مبارك , لم يعلق فقد كان يسد الزنك الآتية منه الريح ببعض الخرق البالية . توسدت حذائي وبعض الحطب ونمت تاركا الريح والمطر يعزفان طول الليل .
شلتيت لم يدعني أكمل نومي , فمن الصباح الباكر وهو يرفع أشياء ويحط أشياء إضافة إلى ضوضاء العاصفة بكوخ الزنك . لقد أوقد النار وجهز الفطور مما شجعني على النهوض وبعث الدفء في أوصالي , ثم فاجأني بقوله :
ـ مبروك يا طريف , سوف تتزوج .
تبسمت وحسبت أنه يمزح وقلت :
ـ الزواج ينفع في هذا الشتاء الثقيل .
ـ رفيعة سوف تجهز لك كل ما تريد .
ـ ماذا ‍؟ قلت  رفيعة ! .  لم أعرف ما أصابني ولكن كنت مستبشرا بهذا الاسم , رفيعة قريبة إلى نفسي , ثم سألته مع أني ما زلت مرتابا :
كيف عرفت ذلك ؟
ـ بالأمس كلمه أبوك وأبدى موافقته .

هذا خبر جديد , مع أن درجة الحفاوة كانت طبيعية عندما جئتهم بالأمس أبحث عن الغنم , إلا أن رفيعة تأخرت قليلا وتبسمت وحاولت أن تستتر عندما أخذت أكلم أمها عن الأغنام .

سُـقت أغنامي بسرعة , وفي الطريق وجدت والدي يبحث عني , معه أحد الجيران , أبي كان في حالة قلق شديد لغيابي طول الليل . أخبرته بما فعل اللصوص ورميت أمامه ما تبقى من جلد الضحية ورأسها ليكون مبرزة ضد اللصوص أمام الناس . لم يعلق كثيرا  لكنه أمرني بسوق الشياه إلى منزل عوف لتكون أولى ذبائح الخطبة على رفيعة .
ـــــــــــــــــــــــــــــ


مفارقـــــــة

كاد الدمع يسقط من مآقيه , سكت وهو على وشك الانفجار بالبكاء . قلت له وأنا أحاول مواساته :
       ـ لا تهوّل الموضوع , اعتبر ما حدث شيئا بسيطا , لقد مضى عليه الآن زمنا طويلا , لا داعي للتأثر يا صاحبي , أنت تركت الدراسة بطوعك واختيارك .

قال لي :
ـ معظم هؤلاء  الذين يخدمون البلاد في هذا الوقت ويشغلون وظائف حساسة هم من جيلي , تركوني ومضوا .
ـ لا بأس يا صديقي , هذه الدنيا وهذا وضعها , رافقوك مدة وجيزة ثم مضى كل إلى حاله , هل تريد أن تصبح مثلهم في كل شيء ؟! هذا لا يمكن , أمر طبيعي أن يتفاوت الناس في مستوياتهم وطريقة معيشتهم ,
ـ أنا لا أقصد أن أكون مثل أحد , وإنما شيء يتملكني حزنا وأسى , كلما جاءت إليّ ابنتي الصغيرة وطلبت مني مساعدتها في قراءةٍ أو كتابة , لا أملك إلا أن أشير إلى أخي  أو أختي ليشرح لها ما تريد .

عجبت من أمر صاحبنا , لا بدّ أن في الأمر شيئا , المدارس فتحت أبوابها منذ زمن طويل , من هم أكبر منه سنا قد لحقوا بالدراسة , بعضهم تعلم القراءة والكتابة على الأقل , بعضهم تخرج في الجامعات , ورديء الحظ منهم قادر على فك الخط , أما صاحبي هذا فقد اتضح لي أنه يجهل حتى معرفة الحروف الهجائية , فضلا عن الجمع والطرح , وعدت إليه بالسؤال :
ـ ألم تدخل المدرسة في صغرك ؟
ـ بلى , دخلتها , وبعض المدرسين كانوا أقاربي , يضربونني أحيانا كبقية التلاميذ  لكنهم يفهمون ولا أفهم . حاول أبي عدة مرات مصاحبتي إلى المدرسة ليتفاهم مع المعلمين بشأني حينما اتضح غبائي بين أخواتي . لقد اهتم بي المعلمون أكثر ,  ومع ذلك كنت لا أستجيب , لا أمل لي . كراساتي عبارة عن خطوط متعرجة بعيدة عن المقصود . لم ألبث أن كرهت المدرسة , ثم تركتها نهائيا إلى غير رجعة , لم يمانع أهلي في ذلك , ولم يرغمون على العودة حين عرفوا فشلي . استغلوني في رعي الأبقار , وفي شؤون حياتهم الأخرى .

ربتّ ُ على كتف صاحبنا وقلت :
ـ إذن هذا حظك , هذا ما كتب الله لك , لكن لو شئت تعلم القراءة والكتابة الآن يمكنك ذلك .
ـ فات الأوان , أشعر بأن لا رغبة عندي .
ثم استأنف صاحبي الكلام قائلا :
ـ نسيت أن أقول لك شيئا آخر : عندما كبرت أراد أبي أن أتزوج بفتاة معلمة من أقاربنا , وإن لم تمانع هي في ذلك إلا أن أخي الأصغر منـِّي استنكر أن أتزوج أنا الأمي بفتاة متعلمة , نصحني بالزواج من أميةٍ  مثلي , يكون ذلك أكثر راحة لي ولها . وتزوجت كما قال أخي , غير إني أصاب أحيانا بالأسى والحسرة كلما عرفت جهلي بالقراءة والكتابة مع أن الظروف كلها كانت حسنة أمامي في وقت التلمذة .

لم يكن بيدي شيء غير أن أقول كلاما يجبر خاطره , ردّدت على أسماعه أمثالا عن النصيب والحظ , وإن جهله للقراءة والكتابة ليس منقصة في حقه , ومضى مني وقلت :
ـ  لولا غلبة النصيب  ما كان ابن خالي بتقدم خطوة  واحدة أمام العراقيل التي صادفته في طفولته , عكس ما كان من ظروفك المتاحة ... وأحبّ صاحبنا سماع حكاية ابن خالي :

نعم ,  ابن خالي  كان ينتقل للإقامة عندنا هو ووالده كل صيف طلبا للعمل في المدينة , يمضيان كل فصل الصيف عندنا , بل يبقيان حتى تبدأ هبّات رياح الخريف المؤذنة بالشتاء .  ابن خالي هذا كان ذكيّا , بتعلم بسرعة كل ما تصنعه أمامه , نهِمٌ في جمع المعلومات , بالأحرى هو أذكى مني وأحفظ للدروس , لكن أتدري كيف كان مسار تعليمه !؟ لا تستغرب إذا قلت لك أنه قد تعلم الدروس بطريق النهب والاختلاس ـ إن صحّ هذا ـ بعيدا عن أنظار أبيه الذي يمانع أشد الممانعة في تعلمه . والده الذي هو خالي في نفس الوقت , لا يقيم للتعليم وزنا ,  لا يريد لابنه أن يتعلم , يريده فقط أن يرعى الماعز . خالي يضحك سخرية كلما مرّ على مدرسة يصطف طلابها في الفناء , كان يردد عند ذلك : أكل هؤلاء  سيصبحون مد راء ؟!
خالي يمزق أي كراسة أو كتاب يراها في يد ابنه ويكسّر أقلامه . ومع ذلك قويت رغبة حب العلم لدى ابن خالي ؛ فهو يكتب بأي شيء يجده , بما في ذلك الفحم والحجارة , يكتب في أي ورق حتى أغلفة المكرونة وصناديق الحليب , يقلد أي خط جميل يجده في بقايا صحيفة أو مجلة تقذفها الرياح أو في القمامة ,  مفتون بالقراءة والكتابة إلى أبعد الحدود .

       كان في السنة الثالثة الابتدائية , وصلها عن طريق اللف والخداع لأبيه , وكنتُ في السنة الخامسة , مع ذلك اكتشفتُ فرقا كبيرا بيني وبينه في إتقان الدراسة , إنه يستهين بمعلوماتي ويكتشف أخطائي الإملائية ورداءة خطي وتعثر قراءتي . هو يحفظ السور القرآنية وكثيرا من المحفوظات الشعرية المقررة وغير المقررة ويكتبها بطريقة صحيحة . يحفظ الحكم ويجيد الأسلوب حتى في الحديث العادي مع الناس كأنما هو ابن العشرين .

       لكن والده ماذا كان يفعل ؟ يقف له بالمرصاد , يعامله بصرامة , يسدّ طريقه , فكلما تسلل إلى المدرسة يلحق به , يمشى بحذاء سور المدرسة مخفيا نفسه بالانحناء قليلا حتى لا يراه ابنه , فإذا أبصره في الصفّ بين التلاميذ يقصده رأسا ويخرجه من بينهم بعنف , وينهال عليه بالضرب حتى يتدخل المعلمون الذين لا ينجون من توبيخه , بعد أن يطلب منهم عدم تشجيع ابنه على المجيء للمدرسة , وأن يطردوه حالا متى حضر الدرس . وإذا ما فقد ابنه ثانية قصد نحو المدرسة وسأل المعلمين بعبارته المعهودة : ( هل جاءكم هذا المنحوس اليوم) , ولكنهم يتعمدون إخفاءه وإخفاء أمره.
       وقفز الزمان قفزته , صار الولد يتألق رغم مكائد أبيه , صار محط أنظار المعلمين ومبعث إعجابهم , يحصل على أعلى الدرجات , ويرتقي من مرحلة إلى مرحلة أنهى الجامعة وما بعد الجامعة , ضمّ إليه أبيه وأبــرّ به , لم يؤاخذه على فات منه من تفريط في حقه , وما كان له أن يفعل . *    
ــــــــــــــــــــــــ


بقايـــا رمـــــاد

       كان ذلك منذ زمن بعيد , في العهد التركي . لم نستطع دفع الضرائب , لا على أنفسنا ولا على الأرض والماشية , لقد كانت تلك السنة شحيحة في كل شيء . جامعوا الضرائب يطوفون البوادي والأرياف في جماعات وفي كل اتجاه . من لا يدفع يضرب بالسياط ثم يؤخذ إلى الحبس قرب الحاكم .

       مسح ابن المئة وثماني سنوات على لحيته البيضاء الكثة وقطّب حاجبيه البارزين قائلا : لا أراكم الله تلك الأيام ؛ الولد يُـضرب أمام أبيه , والمرأة أمام زوجها ... القتل والخوازيق والكذب , لا من يعينك ولا من يدافع عنك . لا بدّ أن تقدم أحسن ما عندك من أكل لجامعي الضرائب , فإذا رأوا أن اللحم صغير أو لم يشبعوا نالتك السياط في بيتك وهم لا يزالون على المائدة , وقد يسخرون منك فيقولون : لا لزوم للّـحم لكن لابدّ من المرق .

       كنت غير موجود في النجع يوم جاءوا , لم يحصلوا على كفايتهم من الضرائب , الدواب تموت من القحط وهم يطلبون شعيرا لخيلهم , لا غلة ولا ذهب عندنا . جمعوا الرجال في الخارج وفتشوا البيوت ؛ متبقيات قليلة من السمن والكشك ومقدار ضئيل من الشعير , أخذوا الدجاج والبيض أيضا , ركلوا الباقي بأرجلهم وأخذوا معهم شيخ النجع .

       كنت أحثّ الخطى إلى درنة , أختي تسكن هناك , اضطرني المطر إلى الالتجاء إلى  منزل مهجور , قديم متداع , تعشّشُ فوق جدرانه النباتات ,  كأنه مغروس في الغابة , كان المطر ينزل ببطء وبدون توقف , معي بقرتان , البقر لا يتحمل سقوط المطر , بسرعة دخل المنزل الخرب , مسقوف جزئيا ويقطـّر ولكن يمنع من المطر مؤقتا . دخلت مع البقرتين في إحدى الحجرات المظلمة , كان هناك عوائق وأحجار , بدأت في جمع بعض الأشياء التي تصلح لإشعال النار , أخرجت (اللموش) من جيبي , وهي مادة سريعة الاحتراق نجمعها من بعض النباتات في فصل الصيف , وعندما أخذت النار تدب قليلا خلال الوقود , وأنا ما زلت أنفخها كي لا تنطفئ أبصرت أمامي مباشرة ساقي إنسان واقف , وما أن أخذت في رفع رأسي ببطء حتى سمعت صوت امرأة تقول : أجئتَ , مرحبا , لم تتأخر كثيرا .

       قلبي أخذ يدق , خطرت ببالي كل العفاريت , وما كنت أخافها من قبل , لكن غربة الأرض ووحشة المكان صورا لي أشياء وأشياء ...  بلعت ريقي وتسللتْ يدي إلى عصاي وهممت بضرب الرجلين من أصلهما غير أن صوتا عند الباب يقول : أمي حسنا فعلت بإيقادكِ  للنار ! .وضعتُ العصا على الأرض , وكانت النار قد كبرت قليلا والمرأة تقول : احميدة , لكن من هذا ؟ وجاء صوتي واهنا : هذا أنا لاجئ من المطر مثلكم .

وصلت اليوم التالي إلى درنة , هناك حراس على باب المدينة , لا يدخل أحدٌ إلا وبيده حطب ! قرار غريب لم أحسِب له حسابا . رجعت إلى جرف فيه غصن كبير , توجهت به إلى منزل أختي ورميته أمام دارها .
في طريق عودتي اخترت  أن أحاذي البحر , صادفني في الطريق بعض جامعي الضرائب , كان معهم بعض الجمال وكثيرا من الأغنام الركيكة , يدفعونها أمامهم لإرغامها على المشي . فضـّـلت ألا أتعرض لهم عن قرب , هم لا يتورعون في تفتيش وسلب كل من معه متاع حتى ولو كان يسعى على قدميه مثلي .

مسافة طويلة قطعتها وأنا أمشي  بجانب البحر . عند العصر استوقفـتـني رؤيةُ بعيدة على طول الشاطئ ؛ خمسة أشخاص , راكبان وثلاثة مشاة . اقتربت من شجيرات البطوم لأتوارى عنهم , لا أمان لأحد في السنوات المجدبة , اقتربوا مني , رأيتهم عن كثب ؛ جندي تركي يركب حصانا وبجانبه شخص آخر ربما كان تركيا أو عربيا , واثنان من الأهالي يسوقان قطيعا من الضأن وبقرتين , أمامهم رجل لا يبدو أنه يتآلف معهم , منظره ليس غريبا عني , تأكدت عندما أقترب أكثر , إنه رجل من أكابر نجعنا , إنه الشيخ (فالح) .

اختفيت نهائيا بين الأغصان , مروا من أمامي بالضبط , ومرت الدواب , ولما مرّ الرجل كشفت وجهي قليلا ليعرفني , واضعا سبابتي على فمي , بعده مرّ الرجلان ثم العسكري التركي وصاحبه . تبعتهم عبر طريق متعرج بين أشجار الصنوبر الكثيفة , رأيتهم يقفون في بقعة فضاء صغيرة محاطة بالغابة , التركي ورفيقه يأكلان وحدهم دون الآخرين . يممت أين يجلس الشيخ فالح , دنوت محاولا الدخول وسط الأغصان , وتوقفت حيث الشيخ يسمعني , همست له :
ـ إلى أين تذهب ؟ ما الحكاية ؟
  نظر إليهم أولا ـ وكانوا  منشغلين بالحديث ـ  ثم قال دون أن يحوّل نظره عنهم :
ـ الترك ومساعدوهم , أنا ذاهب إلى الحبس , هذه بعض شياهنا .
ـ إن شاء الله أخلصك , ثم اختفيت بين الأغصان , في حين أخذ أحدهم يقترب , يحاول حلب شاة , وعندما رجع قال  لي فالح :
ـ هناك مسلـّحٌ واحد , عليك بصاحب البندقية , إذا حصلت عليها سيقع الباقون , كن حذرا وإلا لا تفعل .  ووزنت الموقف , رأيت  أنه من الممكن مباغتة التركي وأخذ البندقية من يده بالقوة  لولا هذا الذي يلازمه , لو يبتعد قليلا سينتهي كل شيء الآن , اقتربت حيث لم يعد بيني وبينهما سوى شجرة واحدة , في الوقت الذي أخذت فيه أذنا الحصان تتحركان . وبقدرة قادر يبقى التركي وحده ويتجه رفيقه نحو الآخرين . لم أنتظر  قفزت حالا وأطبقت ذراعي حول جسم التركي من الوراء ممسكا بالبندقية باستماتة وبكامل قوتي , لم يطل الأمر , نزعتها منه وركلته على ظهره حتى احتضن الأرض . حدث كل ذلك بسرعة خاطفة , لم تساعدني في ذلك قوة جسمي فقط وإنما الغل الذي في قلبي . وكل من همَّ بمساعدة التركي توقف مكانه وأصيب الحيرة .

صوبت البندقية نحو الجميع , أمرتهم بالاقتراب من بعضهم وعدم الإتيان بأية حركة , توجهت نحو الشيخ ورفعت صوتي قائلا :
ـ وأنت أيضا اقترب وقف معهم , وبصوت خافت أمرته بافتعال الهرب . أمرتهم بترك كل شيء من المتاع ؛ الخيل والدواب  وما في جيوبهم إن أرادوا الحياة , وأن يخلعوا أحذيتهم ويتركوها . فعلوا كل ذلك ومضوا متعثرين على صخور الشاطئ وأخذت أنا الدواب وابتلعتني الغابة أنا  والشيخ فالح  بما معنا .
ـــــــــــــــــــــــــ


الضـّـبـع

       يبدو لي أحيانا أنه أحمق وسيء التدبير غير إني لا أستطيع استبداله براعٍ آخر , فرعي الأغنام  في الجبل يحتاج إلى مران خاص ومعرفة بمواطن الغرر من سطوة الذئب الراعي (مـرّيز)  يجيد التعامل مع الأغنام وسط الغابة , خبير في تتبعها إلى روابي ومنحدرات الجبل الأخضر , مع ذلك هو سيء الحظ معي ؛ فكلما طلبت منه عملا غير رعي الأغنام بدا لي أنه أفسده أو تلكأ فيه . كنت أنا وهو نتفقد الأغنام كعادتنا كل صباح , فعلنا ذلك مرارا من قبل , لكن هذا الأسبوع كنا أكثر إحصاءً وتفتيشا , شاة مفقودة بمعدل كل يوم , لم نجد مقتلها , لو فعلها الذئب لأكل من فريسته وترك الباقي , ولو رأسا أو رجلا أو بقايا جلد , أما أن تختفي الشاة نهائيا فذاك من عمل الضبع أو اللص . الضبع لا تترك شيئا , تحمل الشاة برمتها إلى جرائها في الكهوف المظلمة حيث تسحق حتى عظامها .

       قلت لمرّيز : طالما الأمر كذلك فعليك بالرعي في المكان الذي تظن أنك فقدتَ فيه الشياه . أنا سأراقبك طول اليوم عن بعد . ابقَ في المكان حتى المغرب , عندما يختلط الظلام فعليك حينئذٍ بالرحيل . امتشق مريز البندقية وأخذ عددا كافيا من الطلقات ولازم المكان المقصود . أعرفُ أن مريز هـدّاف , أكثر من موقف شاهدٌ على ذلك . انطلقَ وانطلقتْ معه الكلاب , شاهدته من بعيد , من وراء تجمعات البطوم الضخمة أخذتُ موقعا للمراقبة , ليس بيني وبينه غير مجموعات الصنوبر التي تمكنني من رؤيته ورؤية الغنم التي ترتع على الربوة وتحتها  في المنحدر . أخذ مريز بأصول الرعي المثالي فوقف في أسفل المنحدر والغنم فوقه ليؤمّـن هجمات الذئاب .

       أخذتُ أدندن ببقية أغنية (عَـلَـمْ) ثم رفعت رأسي لأنظر إلى الغنم , وفي وسط دوحة بطوّم رأيت الضبع , ومع أنه ليس من عادته الافتراس في النهار إلا أن وقفته كانت متحفزة . اقتربتُ من مريز متخيرا طريقي بهدوء , قلت له بصوت منخفض
       ـ الضبع عند البطوّم , انظر إلى أعلى , وهمس هو الآخر:
       ـ  هاأنذا جاهز , سيموت لا محالة , أين سيذهب مني !؟ , وسألته :
       ـ هل رأيتها ؟ إنها من النوع المنقـّط . وسألني :
       ـ تقول إنها هناك , أنا لا أرى شيئا , لكن هناك غصن يتحرك , انتظر إنها هي .
       أخذ مريز يتفقد البندقية بعصبية , وضع يده على الزناد ثم على خاصرتها , ثم وجه الفوهة تجاه الأرض , وقلتُ له :
       ـ لا يا مريز , من يضع فوهة البندقية في التراب , هاتِـها إذا كنت خائفا .   
       ـ أنا , أنا أخاف !  إنك تستهين بي .
       ـ إذن اذهب واقتلها قبل أن تفترس إحدى الشياه .

       وقصد مريز إلى الضبع , تظهر على سيماه الجديّة والحزم , عيناه لا تفارقان جهة الضبع . تمدّد على الأرض وصوّب نحوها وانطلقت الرصاصة وثار الغبار , فالحيوان يتخبّط , وقف مريز وأطلق رصاصة أخرى وسط الغبار الثائر وقال :
       ـ تعالَ وانظر , لقد قضيت عليها , وانزاح الغبار عن فحل من فحول الغنم , وزعقت في وجهه :
       ـ لقد أسأت إلينا يا مريز , تقتل الفحل , أين عيناك ؟ وردّ عليّ بلهفة قائلاً:
       ـ أقسمُ لك أن العيار كان موجها نحوها , لا أدري كيف جاء الفحل واحتل مكانها .
       ـ إذن قم واذبحه  قبل أن يفطس .
       تلك ليست المرة الأولى مع الضبع ومع مريز , مريز ذئب من ذئاب الجبل , يقتفي الأثر ويقنص (صيد الليل) بكل مهارة , يدرب الكلاب ويعرف المخابئ والمغاور , يأكل البطوّم إذا جاع والخرّوب ويلتقط العجّـور الأحمر من أشجار الشماري المختبئة في السفوح الوعرة  . في هذه المرة كنت صاحب الدور مع الضبع . الربيع كان في مقتبله , كل نباتاته يانعة . أشرقت الشمس فشعرنا بالدفء واستلطفت أجسامنا ذلك , تمددتُ  على الأرض كي أطلق جسمي من الكسل , كل شيء ساكن عدا طنين نحل الربيع الحائم على الزهور البرّية , ثم وقفت لأردّ شويهات منحدرة نحو الزرع , في طريقي مررت على جرف تعودت أن أجمع من حوله أعشابا لأكلها , وبينما كنت أهمّ بالانحناء على بعض (الغرنبوش) رأيت أسفل الجرف المقابل للشمس ضبعا حمراء مخططة , راقدة على صفحتها وتحرك أذنـَها تجافيا للذباب . لم تكن معي البندقية , كانت مع مريز , لم أردّ الغنم بل عدتُ إليه وأمرته بالتوجّـه إلى الجرف بهدوء وضرب الضبع . تأخرت أنا عنه وسبقني إلى هناك , رأيته  مدّ بصره في جوف الجرف ثم عاد إليّ قائلا :
       ـ هذه ضبع ‍‍‍ , وأصابتني الدهشة وقلت :
ـ وماذا قلت لك غير ذلك ‍؟

أخذت البندقية من يده وتوجهت نحو الضبع , وصلتها , ما زالت راقدة في نفس المكان , ليس بيني وبينها غير ثلاثة أمتار , هدف مضمون مئة بالمئة , وصوبت وانطلقت الرصاصة , تجاوب صداه الوادي , ونظرت إلى تحت , لم أجد أثراً للضبع , عدّتُ مكسوفا إليه , قلت له :
ـ لن أعاتبك بعد اليوم .
ـــــــــــــــــــــــ


بلا طائـــل

مجرد مكان يستريح فيه حتى يموت . لا ينشد موتا مزخرفا ذا هالة وعويل , ماذا يفيده ذلك , بل ماذا يفيده الولد لو كان عنده أولاد , بمثل ذلك كانت نفسه تختمر . لا شيء يزيد أو ينقص من حياته الرتيبة سوى زيادة الهموم والمطالب . لم يبرح المكان بعيدا منذ ميلاده , مسافة قصيرة ليوم أو يومين ثم يرجع إلى وكره المعتاد . وحتى بعد أن أودع الطليان أقرباءه فى المعتقل هو لم يذهب , وجد ذريعة لبقائه مع الطليان لكونه يسكن القرية وقت الترحيل . لم يُعتقل , لم يأخذوه , انطلق إلى الجبل وحده , وجده خاليا , لا إنسان سوى غابة موحشة . صار يوميّاً يأتي بأحمال الخرّوب ويبيعها للإيطاليين , يصطاد الحجل ويظفر بخلايا النحل البرّيـّـة , لا من يجنيها سواه . هناك هائمون في الغابة لكنهم قلة , يخاف بعضـُهم بعضاً , لا علاقات بينهم , يختفي كلّ ٌعن الآخر إذا رآه فربّما أحدِهم كان عينا للطليان .

        جلس بجانب بغلته يجهز أكياسا ضخمة لجمع الخروب , ربما التمس شيئا من البطوم يأكله ساعتها , وراعه صوتُ مِدقـّـة , دعاه للانتباه والحرص , وتساءل في نفسه أين تكون ؟ التفت هنا وهناك , لم يحدد الجهة ؛ الوادي كله صدىً , يقف , ينصت يدقق النظر ويسترق السمع , وتحدثه نفسه : إذا كان أحد المجاهدين يا ويلي ‍, سيأخذ كل ما معي , ليس معي شيء سيهددني على أقل تقدير أو يطلق سراحي , لا أدري ماذا يحل بي . وشهوة طغت عليه لمعرفة مصدر صوت المِدقـّة , وضع الخوف جانبا , دعته نفسه إلى اكتشاف المصدر , حام حول مكانه , وانكسر غصنٌ لم يتحمل رجله , هوى متدحرجا إلى أسفل السيل , مياه عكرة بللت معطفه , وحينئذٍ يسكت الصوت , وتوقف هو , الصوت قريب إذن , قال في نفسه , لقد شعر بي , أتنسم رائحة دخان , إنها من المغارة , كانت لإيواء شياهه في الشتاء منذ سنوات , سكنها غيري بعد ذلك .

       سحب نفسه بهدوء ونظر حول المغارة , اقترب منها , رائحة الدخان تقوى , وقف على حجر ليشاهد ما بداخلها ويدٌ غليظة أمسكت رقبته :
       ـ لا تتحرك , ماذا تريد هنا ؟
       ـ وأنت  ماذا تريد منـّي  ؟      
       ـ لماذا تتلصص في هذا المكان ؟
       ـ ليس غريبا أن آتي إلى هنا .
       ـ من أنت , وهذه البغلة التي معك سرقتها أم ماذا ؟
       ـ أنا شغميم .
       ـ شغميم من ؟
       ـ شغميم الأطرش .

       تركته اليد القابضة على رقبته , ونظر إلى الخلف وصاح :
       ـ محمود , هربت من الطليان , هربت من المجاهدين , أم تركت كل شيء ولجأت إلى هذه الغابة .
       ـ هذا ليس من شأنك , الآن أنا لا أثق بغير هذه الغابة , أهيم في هذه الأماكن منذ سنة , طعامي خروب وبطوم وشماري , لحوم الحجل كثيرة , في كل مكان قفص , دعك من كل شيء الآن , ادخل لتأكل وتستريح , أظنك جائعا . وبادره شغميم قائلا:
       ـ لقد كنت تدق شيئا .
       ـ نعم , لما سمعتك توقفت عن دق الشعير , أحاول صناعة الخبز , وجدت كيس شعير  مردوماً  في أ حد الكهوف تحت طبقة من التبن , النمل كشف عنه بكثرة تردده  ليس هذا فقط ؛ هناك قدور ومحاريث , بيوت شَعر في أماكن أخرى تركها أصحابها وذهبوا للمعتقل , وعندها قال شغميم :
       ـ أأنت هنا دائما ؟
       ـ لا أدري .
       ـ لا تخف , لن أخبرهم .
       ـ لا يهمك هذا الآن , بل أنت ماذا تريد مني اليوم ؟
       ـ ما دمت تتردد على هذه الأماكن أريد مساعدتك لي في جمع الخروب .
       ـ إذا جئتَ وكنتُ حاضرا فسأسعى إليك بنفسي , والآن كـُلْ , هذا حجل وقمح مقلي سأساعدك في جمع الخروب , اجعلني شريكا في ثمنه . واستأنس شغميم قليلا  فتجرأ وقال :
       ـ يا محمود , رأيك لو بدْلـت لك نمط حياتك ؟ فقط انضمّ إلي , سلـِّمْ إلى الطليان وعش معي  في القرية هانئا , تخلـّص من حياة الهروب , أليس هذا أحسن لك ؟
       ـ أنا لا أسلـِّم , لحوم الحجل , الخروب , البطوم , كل شيء في الغابة سيعلن شماتته , بل أنت أترك الطليان  وعِشْ معي .
       ـ أنا , لا أستطيع , أصبحت معروفا , مسموحٌ لي بساعات محدودة للتجول وجمع الخروب , لن تغرب الشمس وأنا خارج القرية , سيبحثون عني , وستشمت بي أيضا مكرونة (السباجيتي) ولحم الضأن .
       ـ إذن لن تفعل شيئا , تعيش كالضأن التي تأكلها , ألا ترى أنك تهيم في القرية ذليلا مهانا , علامَ تخاف أنت إذا ما هربت منهم , لا ولد لك ولا أهل , ممن سينتقمون تراهم , هب أن بغلتك عثرت بك وأسقطك فتهشّم رأسك بين الصخور , لن تخسر إيطاليا شيئا .
       ـ دعني يا محمود , ما أنا فيه يعجبني .
      
       أحسّ شغميم بوخز الضمير في نفسه , لقد تحرك بعد طول خمود , صمتٌ وطاعة أوامر , خدمة الآخرين , ولكن ركن إلى حياة الدعة , قالت له نفسه : لقد وخزني محمود في الصميم , لن ينجوَ مني  , لقد جلب لي التعاسة .
البغلة وحِـمْـلُ الخروب كلاهما أمام منزل (التينينتي ) قائد القطاع الإيطالي , وكلام خاص جدا يقوله شغميم في أذنــه . ويقفل على نفسه الكوخ كسائر أهل القرية ويبدأ في طهي عشائه ويقرع الباب عند اللقمة الأولى  ,  نقرة لم يسمعها من قبل , ينظر من خلال الخـَـرْق لم يتمكن من رؤية شيء غير ظلمة تتحرك , ويقرع الباب مرة أخرى بشدة , وصوت يقول
       ـ افتح  يا شغميم . لكن شغميم لا يفتح , عرف الصوت , لديه شك خطير , فيرد قائلا :
       ـ ماذا تريد يا محمود في هذا الليل .
       ـ ألا تستقبلني  ؟ ! , ألا تستحي يا رجل , إنك تأكل يا شغميم يا بخيل .
       ويُـفتح الباب بتكاسل , ويتم الترحيب بتكاسل , ويُدعي محمود للطعام :
       ـ كل من هذا الطعام يا محمود ريثما أحضر خبزا من الجيران .
       ـ لا يا صديقي , لن نفترق , لا أريد خبزا , أكتفي بالموجود من الطعام , ويستأنف محمود قائلا :
       ـ طعامك ليس لذيذا , أنا لم أذق طعاما مطبوخا منذ زمن , ولكن طعامك رديء , أنت طباخ فاشل . آتيت لآكل عندك وأشرب الشاي , لم أجد (السباجيتي) ولا لحم الضأن ولا شيء من فضلة الطليان . دعني أذهب وابقى أنت هنا , لا تتبعني , فقط أعطني ما عندك من الشاي والسكر . ويبادر شغميم ويفتش عن الطلبات وأخيرا يقول :
       ـ هاهم , خذ كل ما عندي , خذ معك الأكياس , اجمع ما تستطيع من الخروب , ويأخذها محمود جميعا قائلا :
       ـ أتركك الآن , وإيـّاك إيـّاك أن تذكرني أو تذكر مكاني .
البغلة تتخطى الحجارة الملساء في وسط الوادي وتنزلق حتى تقع رجليها الخلفية شغميم توجّـه مباشرة نحو المغارة وترك بغلته ترعى القش تحت شجيرات الصنوبر , ويتجاوب صدى صوته مناديا :
       ـ أو , محمود , أنت هنا . النار خامدة تقريبا , ما زالت فيها حياة , وقال شغميم لنفسه : كان هنا هذا الصباح على الأقل وتلكمه حافة باب الكهف , وجنديان اقتحما المكان , يطلقان النار في الجانب المظلم من الكهف ,  لكن لا شيء يتحرك . شغميم يحك رأسه , وخاب أمل التنينتي فيه , لكنه يتكئ على أدلة تطمئنه إلى حدّ ٍ ما , فالمغارة وأدوات محمود والنار التي ما تزال حية ليست قليلة , والجنود لن يجحدوا ذلك ...

       توقف شغميم عن جمع الخروب , لم يغادر القرية إلا بحذر شديد , ولكن لا بأس عنده أن يحوم حول القرية دون أن يبتعد , صار يخرج إلى أشجار التين بسفح الجبل قرب القرية , ما تزال أعاليها عامرة  بحبات طازجة .  وعندما كان شغميم في غمرة أكله ولم يشبع بعد , إذا بمحمود تحت الشجرة يطلب منه إسقاط بعض التين . ارتبك شغميم وفقدت رجله الاتزان فانكسر أحد الفروع وكاد يسقط وعندئذٍ يقول محمود:
       ـ ما لك ترتعش  يا شغميم , ماذا فعلتَ , هل حدث شيء ما , ألست أنت صاحبي الذي لا تـُـخشى  بوائقه , خذ , هذه حبة تين ناضجة تماما , لن تجوع بعدها أبداً يا شغميم . ويستغيث شغميم :
       ـ لا يا محمود , لا تقتلني , استحلفك بشرف سيدي عمر .
       ـ عمر المختار , هو الذي أرسلني إليك , والآن خذها  يا خائن .

ـــــــــــــــــــ


ذهب ومــاء

       كسائر من تركوا أوطانهم ليسعوا وراء لقمة العيش , قطع مسافاتٍ  شاسعة متنقلا أكثرها على رجليه , لكنه لم يكن عجولا , يصل على مهل ما بين منطقة وأخرى , وأحيانا يتوقف أيّـاما في بلدٍ ما لأنه عثر على عملٍ يوافق هواه , أو لأنه توقف لمجرد التوقف والاستراحة . ينام في المكان الذي ينتهي إليه , لا يهم أن يكون بيتا أو شارعا أو حديقة , بل لا يهمه أن يكون فراشه وثيرا , قد تكفي أكياس الأسمنت أو ورق مقوّى , المهم أن يقضى ليلته ويمضي في حال سبيله .

       استقر به السفر عند بعض الفلاحين , قد احتاجوا إلى خدمات أمثاله . هو من أولئك الذين لا يسألون عن السكن الفخم أو الطعام الفاخر , إنما تكفيهم تلك الأجرة التي يحصلون عليها آخر النهار ثم يتدبرون أمر سكنهم وأكلهم بأنفسهم .

       أبو ذراع , هكذا كانوا يلقبونه , أو هو لقـّب نفسه بذلك , على طريقة أولئك الذين تعج بهم الطريق , من مختلفي الأذواق والأجناس , لا يتسمّـى كثيرا منهم بأسمائهم الحقيقية كنوع من الفتوة أو لدرء شبهة ما , وأكثرهم من أولئك الذين لا يحملون أوراق هوية , إلا أن معظمهم يحملون أوراقا مزوّرة , قد يكون بعضهم مجرمين وشذاذ آفاق , وبعضهم أبرياء , وأكثرهم فقراء لا يخلون من الخـُـبْث .

       أبو ذراع شارك شخصين في حفر بئر , كلفهم به المزارع (سعد الميهوب) , بعد أن نظفوا المنطقة من الأحراش , إلى أن كلفهم بحفر البئر , وهو عبارة عن كهف مردوم بالأتربة والحجارة منذ زمن سحيق . أعطاهم فؤوسا ومعاول , وزودهم بالخبز والماء والشاي , ويتولون هم بقية غذائهم . وقد بدت عتبات الكهف غائرة وسط ركام الأحجار. وصاروا يحفرون بعزيمة صادقة , فحفروا في النهار الأول إلى وقت الغروب وباتوا في كوخ متداع لصاحب البئر , لفقوا له بابا من الزنك المتآكل , وأغلقوا النافذة بقطعة قماش كما نظفوا أرضية الكوخ من حطام نتن , ثم ناموا بعمق معسول يحسدهم عليه سكان القصور . في صباحهم الثاني بدأوا حفر البئر متألقين بمعنويات أقوى من يومهم السابق سعد الميهوب صاحب البئر يزورهم ويعجب بعملهم , أحضر لهم غداءً دسما جزاء تفانيهم وسرعتهم في الإنجاز , إنه يريد البئر بسرعة لأن الشتاء على الأبواب , لكن العمال انصرفوا عن العمل مبكرين هذا اليوم , تركوا الحفر بعد العصر . وفي دارهم قرب البئر حركاتهم مضطربة وغير عادية , ولكن لم تلفت انتباه أحد .

       سعد الميهوب مشتاق لإكمال العمل , بكر منذ الصباح إلى مقر عملهم , وكانت دهشته شديدة فلم يجد حركة العمل التي اعتادها منهم , ولكن دهشته كانت أكبر عندما توجه إلى الكوخ فوجده خاويا . وساءل نفسه : كيف يغادر هؤلاء دون أخذ أجرتهم , ما الذي دهاهم ؟! وألقى نظرة على حطامهم فلم يجد غير خرق بالية وقنينات مياه  لكنه  وجد بقايا جرار مكسورة مغلفة من الداخل بقطن أو قماش غليظ , قد تحول إلى هباب وخليط غير متماسك من نسيج رخو . لقد حكى له جده وسمع من كهول قومه أن مثل هذه الجرار تحوي ذهبا دفنه الأقدمون على هذه الطريقة , ريما ليعودوا إليه في وقت آخر , أو لأمر ما حيل بينهم وبينه , أو ربما هو مدفون مع الأموات حسب معتقداتهم في ذلك الزمن البعيد . حاصل الأمر أن الثلاثة قد هربوا بمال كثير , وهاهو أثرهم يدل على توجههم ناحية الشرق , وقد أحضر سعد الميهوب ثلاثة آخرين لإتمام حفر البئر . هو لم يأبه أول الأمر كثيرا لما حدث , بل لم يطلب البحث عنهم , فقناعاته تقول ألا جدوى في تعقبهم , سيكون كمن يبحث عن إبرة سقطت في الرمال , لكن لم يلبث أن وقرَتْ في قلبه وساوس الندم كلما توقع جرار الذهب . وحثته نفسه ؛ لماذا لا يكون الذهب من نصيبه وقد قضى ستين عاما من عمره في هذا المكان كما قضى أجداده من قبل قرونا ـ والمال تحت أرجلهم ـ  دون أن يفكروا في حفر هذا الكهف الملعون الذي طالما لعب في جنباته صغيرا , وهو تحت بصره كل يوم من شبابه إلى شيخوخته .

       قرر سعد الميهوب أن يتبعهم وليحدث ما يحدث . أوصى ابنه بالإشراف على عملية إكمال الحفر , أسرج فرسه وانطلق في أثرهم , لكنه لا يعلم أي طريق سلكوا , كان قد قصد التوغل في الغابة ناحية الشرق فحسب . لقد كان رحيله في الصباح الباكر , وجدّ في المسير إلى وقت الغروب , لم يتوقف في الطريق إلا على بئر ماء سقى منه فرسه , وأكل من خبز كان معه . وجهه تعلوه سمة واضحة من الخوف والكدر والترقب ولكن استعجال الأمل في وجودهم ووجود الذهب عندهم هو الذي يدفعه على الإصرار في البحث . لقد ابتعد عن مكانه , الخوف أخذ يعاوده من حين إلى آخر وهو في طريقه , ربما دبروا له مكيدة  . خيّم الليل وهو ما يزال في منطقة الغابات الكثيفة , سدت الظلمة عليه الطرق والمسالك وتعرقل سير الفرس , قرر أن يبيت حيث هو إلى جانب الأشجار الملتفة . وما أن حط رحاله حتى بدأت الذئاب تعوي والصقيع يشتد . فرسه لا تهدأ عن التلفت وتحريك أذنيها دليلا على وجود مخلوقات قرب المكان. حدثته نفسه بالرجوع وترك الموضوع برمّـته , جال في خاطره بأنه يضيّع وقته, و أن مهمته سخيفة وأن ما يبحث عنه مجرد سراب , إلا أن الرجوع غير ممكن في هذه الساعة من الليل .

       قرب الفجر غيّرت الذئاب نبرة عوائها , بعضها يصدر صوتا كعواء الكلاب المضروبة بعصا أو مقذوفة بحجارة . أنصت لما يحدث , إنها تهاجم أهدافا حية , لكن لا إحساس بحيوانات أخرى غير الذئاب , ربما كانت مجتمعة على جيفة , وينهش بعضها البعض , إحساس قلق أبقاه صاحيا حتى حلول الصبح , حيث أخذ يتمشّى قرب المكان وذئب مسعور يفر بسرعة من أمامه واختفى وسط الغابة , لم يأبه له سعد وإنما استمر يتمشّى بهدوء, واستوقفته مجموعة من أغصان البطوم المكسورة , وحدّق في جوف شجرة البطوم ليرى ما ظنه كومة ملابس , وعندما اقترب وجد أنه إنسان نائم على جنبه الأيسر , انحنى عليه , حركه وكلمه , كان ميتا , قـلـَبَه على ظهره , دماء غزيرة ملتصقة على بطنه , إنه يعرفه , إنه أبو ذراع ! أحد أشد الثلاثة الذين حفروا البئر , كان يبعد عن نفسه الذئاب بأغصان البطوم قبل وفاته .

       احتار سعد الميهوب فيما يجب أن يفعل ! لقد وقع في ورطة , هناك قادمون سيداهمونه قريبا , سيظنون به الظنون , لقد رأوه حتما ’ عرّجوا نحوه كأنهم يبحثون عن شيء , وقفوا مرتبكين لما شاهدوا الجثة . لقد كانوا ثلاثة , قال أحدهم :
       ـ هذا شخص ميت , بل مات قتيلا ’ ما هذا الذي نراه ؟ واتجه بالكلام نحو سعد الميهوب .
ـ أنا مثلكم , لم أر الجثة إلا الآن , ولكني أعرف هذا الشخص ؛ وأخذ يسرد قصة عمال البئر إلى أن وجد مكانهم خاويا سوى أثر الجرار المكسورة . توقف ومسح عرقه , لقد غصّ في الندامة , تمنى أن لو لم يتبعهم , وليجد هذا القتيل من يجده .

عند الشرطة جاء اثنان إلى مكتب الضابط المحقق وتعرف عليهما سعد الميهوب , هما اللذان حفرا البئر مع المقتول . لقد أنكرا قتل أبي ذراع , كما اعترفا أن الذهب كان قليلا في الأصل , وأن هذا المقتول أخذ ثلث الذهب ولم يشاهداه بعد ذلك . وانتقل الشرطة عدة مرات إلى مكان الحفر مصحوبين بالمتهمين , وأضحتْ هنا أصابع الاتهام تشير إلى سعد الميهوب , خاصة أنه صرّح للرجال ببحثه عن ذهبه الضائع . وأعيد التحقيق معه  في الثلاثة الأيام الأولى وأنكر قتل الرجل , كما أنكر الاثنان قتله . قال مرارا أنه كان في نيته استرداد ذهب ٍ وُجد في أرض يملكها , وبإمكانه أن يتراجع عن هذا الطلب , المهم ألا تلصق به تهمة قتل الرجل .

بات سعد مهموما , لا يقوى على الجلوس في غرفة الحبس , مصيبة أوقع نفسه فيها ولم يتخلص منها إلا عند حضور محققٌ آخر غيّر مجرى الموضوع , إذ القتل ثبت في حق الاثنين عندما وجدتْ  نقطة  من فصيلة دم القتيل على ثوب أحدهم . وبعد مرور عشرة أيام  عاد سعد الميهوب منهوك القوى يجرجر رجليه نحو بئره الخاوية من الماء والذهب , وشكر ربه أن هذا الذهب لم يكن من نصيبه  أو نصيب أجداده وإلا حلـّتْ عليهم لعنته .
ــــــــــــــــــــــــــــــ













خواطــر عابــرة
 


ساعــة التجلـّـي

       إنه لن يقول كان ذلك أو عندما كنت كذلك , أو حتى مررت بكذا فحصل ما حصل، ما كان في نيته فتح الحكاية وإنما ليـبُـثّ هموما أو ربما أحلاما قد ضاعت أو قد ستأتي . لا يدري ماذا يفعل وماذا يخمن لنفسه , إنه قد باع أفكاره في سوق البلاغة بالمزاد , لا يمكن تحديد ما أحبّ وما لم يحب مشكلة الذوق عنده قد دخلت في ذوق الآخرين رغم أنفه . ما أن ضُرب بالسوط الأول حتى قال إن الأرض ليست كروية .
 المجاملات ضيعتْ عليه فرصا عديدة , التربية والمثل العليا عاشت هناك في المستنقع , خدعته حتى في حبه حين جابه تيار الواقع , تلقـّـى الصدمة الأولى في عشقه , اكتشف سذاجته وظل يقول سأظفر بك يا حبيبتي عندما تفقد الأشياء الثمينة لمعانها , الزمن لم يفعل , فما انتصر السؤدد ولا الإرادة الطيبة .
إنه يجترّ اللحظات السعيدة من الزمن الغابر والقريب مع من لهم معه رصيد كبير من الذكريات المشتركة . يالها من رتابة ونمط متكرر ؛ إلى البيت , إلى العمل , إلى السوق , لا بل ازدحام وطوابير تمسخه ذئبا وإلا ... سنوات عديدة واجهها مدعوما بثرائه العاطفي , لكنه الآن ماذا ؟! قد جاوز الخمسين , تردد على الأماكن ذاتها .
كانوا معه عندما قال : آه , لو تعود عجلة الزمن إلى عربات الخيول ومواقد الفحم , فليذهب الدرهم والدولار إلى الجحيم عليه وعلى أعدائه . إنه يحلم بذلك الفانوس القديم , لكن من ذا ينادمه في شهقة هواء حقيقية , سيظلّ وحيدا منبوذاً , بل سيبقى نديم الفرقدين .
 الآن ترك سيارته المهزومة وحلـّـق في فيافي المدينة مترجلا في حذائه الثقيل . خامرهم الشك حتى في سلامة عقله عندما طلب حرية غير مشروطة , سار على قدميه وكأنه يطل على العالم من شرفة . ربما دخـّـن سيجارته بملء رئتيه حتى أطفأها الأطفال ورياح الصبا بماء الشباب , وربما أطفأها البحث عن مركز الحياة على طريقة فرويـد .
الأصدقاء يستقرون ويفرون , فقد كشرت المصالح عن أنيابها حتما , لقد بدأ يصعد السلالم إلى الطابق العلوي المهجور كطائر بري ينشد الدفء في شقوق الخرائب . لقد اختفت من أمامه أمواج ريح السنابل , ربما إلى غير رجعة . إنه يجفف أوراقه ويدمغها بتوقيع نهائي : لن يتردد , لن يجوع بعد الآن , العقيدة وحدها ستظل الأصيلة وباختصار شديد . *



الأيــــــــام السّـعيــدة

       بات لا ينتظر من الغد ودّا مذ أخذت صحته في الانسحاب . بدأ يجفوه أقرب الناس إليه , لم يعد ذلك مهماً ؛ الأسماك في بحارها والطيور في أجوائها كانت مَـثـَـلـَه الأعلى في الحرية حتى أنه لم ير أحدَها يشيخ . كذلك (مرزوق) عاش حياته يانعا مشرقا , أحبّ الحياة كما لو كان ابناً بارا للأرض , التصق بها كدودة الطين وراح يحفر ويحفر ستين عاما بطيئة . نعم , الأيام الأولى من عمره تمشي رويداً , يتملـّى بكل لحظة , يستطيبها على خيرها وشرها , لكن بقية السنوات مرتْ سراعا كالسحاب , عاشها في ظل تيّار المرأة المغرّد العاصف , لـُبـَد الغيوم  تتجمع وتـنـزاح بالرأي حينا وباللـّـذة أحيانا .

 وقف مرزوق على الشاطئ وأخذ يحسب مرات العنفوان , إنها كثيرة جدا, الأهداف رآها , وصلها وامتصّ رحيقها وردة ً وردة . الهزيع الأول يغدق على نفسه بدون حساب , لما شعر بإسرافه أمسكه وأودعه السجن , لكنه في كل مرة يخرج بكفالة زوجته أو بكفالة أولاده أو بكفالة العنفوان نفسه , غير أنه دمّر العنفوان ورماه جانبا ليشتريه باعة الخردة بدراهم معدودة . انزاحت من أمامه ضوضاء الحياة وبات يحصي بحزن ثلاثينياته وأربعينياته المفعمة بحرية النوارس وليونة السنونو . النورس سيد البر والبحر , ينتقل كيفما شاء , يعبر العالم من جهة إلى أخرى دون أوراق , إذا اشتهى غاص في مكمن اللؤلؤ حيث لا مكان لخشاش الطير . يا إلهي  ! حتى شحارير الحديقة القابعة في الظل جعل يستمع إليها وهي تملى شروطها بتهكم , تترك المجلس متى شاءت . رقطاء المحاجر لا تعرف غير الظلمة , نهشته النهشة تلو النهشة ولم تترك في جسده سوى زعاف يطارد كل سنة من سنواته الستين .

ذات يوم عندما كان يسابق الريح , ربما أخذته العزة بالإثم وطـَـفِـقَ يصطاد الحجل في وقت تكاثره , أو لعله نصب الشباك الضيقة العيون ليغرف صيصان الأسماك المحظورة , لكن ما أن يشرع في ذلك حتى ترميه نفسه بوابل من الحكمة المرتعشة فلا يتقن هذا ولا ذاك . كما أسرفت أسنانه  في سحق الحلوى الفاخرة والرديئة بعفوية وبدون تحفـّظ , بل استطاعت تهشيم حصى البحر واستطابة أملاحه بسبب وبدون سبب , فقط الهزيع الأول يناغيها , والآن ماذا ؟ يفت في عضدها ويتركها على قارعة الطريق وقد فات الأوان . *   
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ


أوبــــــة السـندبــــاد

       الرياح القوية تنسف الأمواج وتطلقها قوسَ قـُزَح . رابضون هم وراء حلمهم اللازوردي , كلابهم تتحسس مصير السرطانات الهاربة , حبال غسيل , شباك مهترئة نورس فزع , صيّـاد مترجّـل ينتظرون أوبة السندباد من الجبل المسحور . رفعوا أنوفهم عبر النوافذ والشقوق , استنشقوا العباب , ضاقت أساريرهم , عبثت التيارات بنواصيهم ولحاهم . البحر تجشأ معدته القميئة , قارب لم يصل , لعل الظلام الأبيض سيلفظه صحبة الأشباح .

 أولاد العجوز المتهالك في كوخه قبالة المرفأ القديم يستصرخ ظلمة الليالي الشاردة لتعيد إليه أولاده وبناته اللائي تزوجن من عمال البحر ونسينه إلى الأبــد , لكنه لن ينسى ما فعلته كلاب البحر عندما قطعت قدمه وقد أوشك أن يظفر بفرصة العمر , كاد يسعى برجله المقطوعة وراء أصداف وقواقع أخرى تعوضه ما فات  لولا بائع الخردوات اللعين الذي ما فتئ ينعته بالطماع , وأن شبهة مريـبة جعلته مبتور القدم . بائع الخردوات يكرهه المرفأ وأبناء البحارين السكارى , فهو يسلط أرواح آبائه فيوقظها من عالمه السفلي بالبخور والتعاويـذ ثم يأتي آخر النهار .

موجة ٌ هائلة تقذف أطنانَ رذاذِها فتأتي على معظم الأكواخ , لم يبق غير الكلاب وبائع الخردوات الذي يئس من عودة السندباد والقارب المنتظر وقفل راجعا إلى الصحراء , التقي في الطريق بأقارب المفقودين المتوجهين إلى الساحل لكن لم يأبه له أحد . لقد احتقرهم بائع الخردوات , لا لأنهم لم يلعنوا تلك الموجة الغاضبة بل لأنهم لم يصدقوه . ثمة عواصف في الطريق ذرأت التراب في عيونهم . الأرجل تثقل , الأحمال تميل , الأجسام تعرق , الكثبان لا ترحم من يقطعها , الشمس تظلل الجميع وتضلهم في آن ٍ واحد . بائع الخردوات تعقبهم , لا يريد الموت وحيدا , لسان حاله يقول : (ما أنا إلا من غـُزية إن غزت غزوتُ ) لكن السندباد ما زال يجوب الصحارى والوديان , يذرع السهول ويركب السفين ويغشى المدن والقرى والأدغال . *  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ



المتخلـّـف

       كان ذلك منذ زمن بعيد , عندما كانت الأرض ما تزال في طور مخاضها الأخير , وكانت الحرائق ورائحة الدخان والأبخرة تلـفّ بالكرة الأرضية ؛ الشهب تسقط والبراكين في قمة نشاطها . ثمــة غابة تشتعل بشدة قرب البحيرات المملوءة بالبجـع وطيور أخرى كثيرة . لم تكن البراكين والشهب هي المسؤولة عن الحريق ولا قنابل المولتوف ولا النابالم ولا حتى الشباب الباحث  عن الراحة في تخوم الوديان , بل المسؤول كان الإنسان الذي تعلم إشعال النار , كان يطهو طعامه . ليس المهم فيما أكلت النار من هكتارات الأدغال , وإنما المهم أنه ملأ ذلك الجراب الأحمر الذي يستدعيه في وجباته ليقضي على الجواميس والخنازير البريّـــة , وليقضي على مساحات من الأشجار  يحرق بها لقمته .

 ذلك الإنسان القديم الجشع أسقط حجرا كبيرا من عل ٍ, فبدلَ أن يقع الحجر على ثور القطيع الضخم  وقع على زميله الذي كان يصطحب زوجته واصطحبها هو بدلا منه في الحال فليس هناك وقت للأحزان . الإنسان القديم ظالم فتـّـاك , فعندما عرف أن عوده قد اشتدّ وقوته تضاعفت , خرج في جماعات تتسابق مع الذئاب أيُهما يصل إلى القرية المجاورة في كهف الوديان , لكن الذئاب خجولة عند حضور الإنسان الذي اقتحم على أخيه الدار , فلم تكن هناك أبواب حديدية ولا كلاب حراسة كما نعرف الآن , أخذ يقتل الرجال ويستحيي النساء , هكذا بدون إنذار ولا مجلس أمن ولا مفاوضات سلام . في ليلة  من الليالي المظلمة , أو لعلها المقمرة , فالزمن قد طال عندما كان الإنسان الأول نائما في وسط قطيعه من الماعز والبقر الذي استأنسه بعد مشقة وعناء . تسلل بعضهم إلى التلال وفتح باب الحظيرة وساق كل ما فيها إلى زريبته وترك صاحبها يغط في نومه , لم يعجبه القتل هذه المرة , ربما يلقى حتفه , دار  في خلده أسلوب جديد اسمه الهيمنة  يحاصر بواسطته أموال البشر تحت سمعهم وبصرهم .

 الإنسان القديم كان متأخرا ومتخلفا بطبعه , فلو ظهر الآن لأفسد العالم حتى بوسائله تلك البسيطة , وما القنابل الذريـّـة والنيتروجينية والبوارج الحربية والغواصات النووية إلا وقاءً اخترعه الإنسان الحديث ليدافع به عن نفسه ضد الإنسان القديم الذي ربما ظهرت بذرته من جديد أو هبط من أحد الكواكب المجهولة , وما كثرة أجهزة التجسس والتـنصّـت إلا تحسبا لظهور ياجوج وماجوج جديد وقانا الله وإيّـاكم . *        
ــــــــــــــــــــــــــــــ



المُـناجـــــي

       انتم يا خشاش الطير , يا من سببتم الجلبة وأكلتم الحبوب والحروب , لولاكم لما هببت من وكري ورفرفت بجناحيّ وغرّدتُ , تبا ّ لكم مِـن ... مِـن ... مِـنْ ماذا أيها الطائر المسكين المعــنّى ؟ ألم أقل لك بأن التغريد محظور ,  حتى الشعراء قد اشتغلوا بالتهريب لم يعد بمقدورهم رؤيتك أو سماع صوتك , راحوا يُـصَـلـّـون بدون وضوء , لبس الأطفال قلانس الرهبان ومــدّوا أيديهم ليأكلوك . اهرب , فمن ذا سيسبقك في فضاءات المدينة الغائرة  , حتما تسكن هناك مع الوطاويط . 

ذهب يسعى  والكواسر في أثره تعزف اللحن الرديء طيلة الرحلة , أدميت قدماه ونتفت مقدمات ريشه . رقّ له قلب البوم حتى استطاب طعم القوارض  , الطعام لذيذ وراء ظلمة الجدران المتصدعة . سمع الصوت ثانية : هكذا أيها الطائر المسكين كن كفرس لا يعرف غير جرّ العربات , هناك أشلاء ما يسمى بالفضيلة قد زادت تفتـتا ً .  في المدينة تبناه الثعلب , قال له سأدخلك معي في أعماق نفسي ,عندما تغوص في الحياة ستكون حكيما مثلي .

هشّ لعجوز الحان فسقته المعتـّـق الأحمر والأبيض ثم ضربته بكرباجها حتى ثمالة الغوث . صار الصوت تحت قدميه هذه المرة : أوّاه , أيها الطائر المسكين , لا بل لست مسكينا الآن , غرّد كيفما يكون , رحلت السمفونيات إلى غير رجعة . أصْغـَـى , قلـّـبَ منقاره بمينا وشمالا , نطق للمرة الثانية : إنهم يعلنون الفرح , ماتت الكواسر , ليس من خطر غير هذه الغابة المجلجلة شرقي الوادي . جاليليو مات أيضا , لم يعد لرائحة التفاح من يشتاقها , سأقتحم المتحف وأرميهم جميعا في البحر . إن خيالكم يظهر حتى في الظل , تجلبون الهمّ كولد عاق .  

الصوت , إنه نفس الصوت : أيها الطائر , جواز مرورك فقط ألا تكن عندليبا وستستمتع بوجبة حساء الضفادع في صحون المحاربين القدامى . غوغال وديكنز مرّوا من هنا ذات يوم , لا تأبه لعراقيلهم , ستبني عشك مع الحمالين في أغوار الأزقــة . حتى هيجو نفسه لن يصمد لفأسك وأنت تنبش قبور الفقراء في وادي الملوك . الصوت , الصوت :  دعني  أيها الصوت في غوغائي وحدي سأحمل فخاخ التخصيب , سأدخل السجن معهم , جحافل جيش الحياة أقحمني في طابوره الطويل , لقد يئستُ , لقد تعبت هذا ما جناه عليّ أبي . *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ


العاقبـــة
      
       رقّ له قلب المكان فركن إليه كغريق أدرك الشاطئ . وساوس القلب المحفورة في صدره تستدعي جميع الخواطر الحزينة . امرؤ القيس كان حاضرا معه حتى الصباح , مرّ به بعض المارقين ورشفوا القهوة من بين يديه , يده كانت قوية أيضا قبل أن يكسرها الدّرك جزاء عبقريته الملوثة . بعدها اعتاد على وجوه المارقين , لم يعد يخشاهم لأنه ترك لهم مبادرة الوصول إلى الشاطئ قبله , ولأنهم يركبون الصافنات الجياد .

 دخل في الظلام ثانية , لا يدري أهو في هدأة الليل أم في صخبه . أغلق جميع الأبواب , الطارق ما يزال هناك ينتظر غفوته ليكسر فيه الأنا  كما تـُكسر الفحولة بين يدي امرأة ٍ جاهلة . قلـّب  الأمور على جميع الاتجاهات , كلهم مثله , جعل يحصي الصمت في وجوه الآخرين لقد كانوا معه في السفينة فلم تصل أيديهم إلى الحبال القوية عندما هبّت العاصفة , وقع في خيوط العنكبوت وملأ الثلج جيوبه . على الرغم من ذلك اجتذبته وصاوص المُـثقـّب العبدي بأريجها وحلوها ومُرّها حتى دُقّ عنقـُه . ذهب إلى الحلاقين وتزيّـا بالزيّ نفسه , طأطأ رأسه , سلـّم للمغمورين واحدا واحدا كمن يسلـّـم رأسه إلى أعمى غاضب .

قالت له سأكون وستكون , سبقته , تحول مدار شهوتها , أبت الدراهم إلا أن تـُـظهر أعناقها مع غيره . لا يهم , هو نفسه رأى الليل يسري في وجوه الآخرين فراح يهوى جميع النساء كمراهق شبق . كانت هي نموذجا جاهزا عند بائع الخضار الذي يقفل دكانه في المساء , بينما هو تحت النخيل يبحث عن ليلى وإلسا في تخوم الحيرة , هي تروي الأميرة الحسناء وتاجر البندقية وهو يقايض سمك القزلة بسمك المرجان , عين أمها باتساع (زيّانة) , جعلت من نفسها خيال الحقول , لا يروضها غير دهاء ثعالة  أو بحيرة الفيوم.  تعقبته أمّـُها عن كثب  فلم تعثر على آثار أقدامه على الرمال الناعمة ولا الخشنة فرجعت تخفي معالم الطريق كعادتها , تنفث رياح الخماسين في وجوه الطيور المهاجرة . * 
ــــــــــــــــــــــــــــــــ



المتــردد


       تزهو الليالي القمرية بأصحابها كما يزهو (سحتوت) لكنه سرعان ما ينقبض وترتد أساريره إلى الخلف , تعلن خيبة أمل جنونية , لسان حاله يقول : ( وجاء ابن عم ٍ عارضا رمحه إن بني عمك فيهم رماح) . هي ودّها للجميع , تضحك , تتحدث , تعلـّـق , تمزح , وهو من أولئك الذين يهوون الحب بطريقتهم ويتزوجون بطريقة آبائهم .  سحتوت يقول : لا خصوصية لي , إنما هذا القلب الذي لا يرحم , تبّــا له , لا يفتأ يرفعني ويخفضني , يشرئب لخطواتها , دقات حذائها كأنما تحيّيه ذاهبة آيبـة , يبعث صوتها الدفء في أوصاله المرتعشة , عيناها كأنما تناغيه , يغوص فيهما بعيدا , يتداوى من الغـُمّـة , شفتاها هبة نسيم في ليل صيف ٍ قائض .

يا لبنات آدم ! سحتوت يصبو إليهن منذ يفاعه , يصبو إليهن أكثر الآن , بيد أن فُـتاة الـرّدة يجذبه الهوينى تلو الهوينى حاشرا في نفسه وخزة دبّـوس , ويصيح : أنا سحتوت  , لن أقتـفي الأثر , لن أتجرع الماضي , عبارة كان يقولها قبل دخوله الحصن , ذلك الحصن الذي تروض فيه العقول , كم مدبّـر , كم مخطـّط (قبل دخوله)  كان صعب المراس , ذهب ما بناه يبابا . 

سحتوت غريب الأطوار , يحب الحُـدق النـُجُـل في الوقت الذي لا يريد أن يكون رقيقا , حتى عند ولوجه الحصن لأول مرة دخل وبيده خبز وماء , نطحت رأسه الأعمدة الخرسانية , وقع مغشيّا عليه , لم يخرجه من غشيته سوى صوت أقدامهن . جاء في باله أن يلين , ثم انتكس , تذكر الديون القديمة فرجع من حيث أتى . لمح في الطريق ذات الحذاء , يا لرحمة السماء ! ذات الحذاء تقترب , تقترب أكثر , انبسطت أساريره من جديد , نسي الديون القديمة لحظتها , إنها ساعة الدهشة غير الآثمة , لكنها فاجأته بحديث جديد في الصميم ؛ بدون مقدمات  همست له : أنت تقبل وتدبر , أنت لا تجيد الحب , أنت بخيل جدا في عواطفك , إنها ستتبخر مع الأيام , ستنقضي صبوتك , متزمّت أنت في حاجة ستبديها , أحببت أم كرهت , لا تستطيع تجاهلي أو تجاهل غيري , طريقتك مُـثـْـلـَى  لتفتيت عُمُرك , أتحسب الحب منقادا للجد والحزم , لا ينفعه مال ولا جاه , إنه بلا مسوغات تعيين , جارفا كالسيل , جامحا كرمال الصحراء .

 انتظر , انتظر يا سحتوت لماذا تنسحب ؟! أنا سحتوت , يا لـَـلّـه ! لم تسعفني البديهة للإجابة على تساؤل ٍ واحد , أرغبها وأخجل منها !  كم أنا غاضب من نفسي هذه الجَــبَانة .  كلا لست جبانا , من قال هذا ؟ فقط لا أستطيع المجازفة  بخواطري , خواطري غالية الثمن , لا أزجّ بها في كل مكان , لن يظفر بها كل من هبّ ودب . أنا أخاف , أخاف فقط من الفشل , عشت حياتي منظـّما , كل شيء بالـدّقـة والمقدار إلا في الحب ,  نعم إلا في الحب ! أصغى  سحتوت للصوت  , كأنه يسمع طرقا على باب قلبه يقول : ( نعم إلا في الحب ) . أنصت ثانية ً , ها إنك قد عدت , عدت َ من حيث أتيت , ما زالت المسافة بينك وبين نفسك انفصال... انفصال ... *

ـــــــــــــــــــــــــــــ


المحتويات

1 – الخوف
2 – اللصوص
3 – الحقيبة
4 – العجوز
5 – الثكلى
6 – الريح
7 – الخيال
8 – الذهب
9 – التدخين
10 – المرأة
11 – المحاولة
12 – البوابة
13 – السجن
14 – القتل
15 – الزّوار
16 – التحقيق
17 – الحرية
18 – ثروة أمّي
19 – سائق الشاحنة
20 – المُعلِّم رافع
21 – التباس
22 – خمسون يتبعها خمسون
23 – المخدوع
24 – غضبة الشيخ
25 – بقية العمر
26 – الصديقان
27 – توبة
28 – مقالب آدم
29 – نابولي
30 – الأغنام
31 – مفارقة
32 – بقايا رماد
33 – الضبّع
34 – بلا طائل
35 – ذهب وماء
36 – ساعة التجلِّي
37 – الأيام السعيدة
38 – أوبة السندباد
39 – المتخلِّف
40 – المُناجي
41 – العاقبة
42 - المتردِّد



*  نشرت بمجلة الفصول الأربعة , العدد 63 لسنة 1992 .
*  نُشرت بصحيفة الشمس سبتمبر 1993 .
*  نُشرت في صحيفة الشلال , العدد 259 لسنة 1992 .
*  نشرت في صحيفة الشمس , العدد 117 لسنة 1993 .
*  نشرت بصحيفة الشلال , العدد 261 لسنة 1992 .
*  نشرت بصحيفة الشمس الثقافي , العدد 6  لسنة1993 .
*  نشرت في صحيفة الشلال  1998 .
*  نـُشرت في صحيفة عمر المختار , العدد 18 لسنة 1994
*  نشرت بصحيفة الجماهيرية , العدد 1343 لسنة 1994 .
*   نشرت بصحيفة الجماهيرية , العدد 1336 لسنة 1994  .
*  نشرت في صحيفة الجماهيرية , العدد 1339 لسنة 1994 .
*  نشرت بصحيفة الجماهيرية  1339 لسن 1994 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق