الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

جسين الحلافي بين وطنية الأدب وأدب الوطنية

حسين الاحلافي بين وطنية الأدب وأدب الوطنية
د. عبدالجواد عباس
كلام قبل الكلام:   
الشعراء حسَّاسون بما يدور حولهم ، وحساسون بما يصدر عن الناس من تصرفات خبَّرة أو شريرة ، فهم يرصدون المجتمع من حولهم بمنظارهم الخاص ، كلٌّ له ميولٌ وغايات ، أطماعٌ وأحقاد ، ظاهرةٌ ودفينة ، الشاعر يخاف ويحجم ولكنه لا يسكت ، لا بدَّ أن يصدر عنه ما لا يعجبه ولو بعد حين .. قد ينجرُّ كثيرٌ من الشعراء إلى ناحية الطمع والتقرب إلى عُـلِّـيَّة القوم وأصحاب السلطة بالزُّلفى والتمدح ، ممّن كان هذا شأنهم منذ أن كان الشعر ، فمع حبِّي لكثير من الشعر والشعراء ، إلا إنني أمقتُ من بعضهم هذه الغابات ، أمقتُ منهم أن تكون أيديهم هي السُّفلى ، أمقتُ منهم تطلعهم إلى العطايا بصورة دأبوا عليها ، حتى كان الطمع في ركابهم أينما حلّوا ، ولله درّ أبي ذؤيب الهُذلي القائل :
والنفسُ راغبةٌ إذا رغّبتها  فإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنعُ
     أنا لا أريد أن أنجر إلى بحر محاسن الشعراء و مساوئهم ، فذاك موضوع يطول ويتشعب ، ولكن أريد القول إن حسين الاحلافي ليس من أصحاب المساوئ ، نعم ، هو ليس منهم ، ليس من أولئك الذين يسألون الناس إلحافا ، فليس الكُدْيـَة من شأنه ، وليس التكسب بالشعر طريقه ، ولو أراد ذلك لكان بشعره من أصحاب الحظوة عند الحكُّام ، وأكابر القوم في البلاد ، ولكن المعروف عن الرجل إنه لم يجامل ولم يداهن ، لم يبغِ عطيةً أو رتبةً أو منصباً ، رغم أنه جدير بالمناصب.           
      أنا لم أقابل هذا الرجل إلا مرًةً واحدة بمنزله بالبيضاء سنة 1972 بالصدفة لعليَ أصلح آلةً كاتبة قديمة بدعوة من أبنه ، ودخل علينا ، وكان رجلا مهيبا ، فارع الطول ، ذا ملابس عربية نظيفة بيضاء ، وكان يرتدي الجرد ، سألنا أو تكلم معنا بأدب ثم تركنا ، ولحداثة سنِّي في ذلك الوقت وغفلتي ، وقلة علمي وثقافتي ، لم أعطِ الموقف حقه من الاهتمام به ؛ فلم أكن أعلم عن الرجل شيئا ، ولم أكن أعلم أنه قد أنجز كل هذا الإبداع الذي بين أيدينا الآن ، وإلا لكنت قد تعلقتُ به وناقشته وناقشني وحاورته وحاورني ، الشيء الذي آسف عليه إلى الآن .. وما جذبني إليه في هذا الحين هو شعره ، عندما اطلعت على ديوانه ، وجدت النزاهة ، نعم النزاهة والصدق في كلماته ، حتى علاقته بالأشخاص الذين رثاهم في ديوانه لم تكن علاقة طمع ، وإنما كانوا علماء مثله ، كانوا من الأفاضل الذين يستحقون الإطراء ..وقد زاد من انجذابي إليه أيضا ، هذه المقدمة المفصّـلة التي صدّر بها الدكتور إدريس فضيل ديوان الشاعر حسين الاحلافي ، فقد أعطت ألقاً وقوة معرفة عن الشاعر ، وأحاطت بما لم يحط به الكثيرون من مزايا وخصائص دقيقة ، كانت دفينة ، قد طوتها السنوات ، فيها معلومات قيمة عن الشاعر وعن أحوال البلاد . ولم يكن الكاتب عجولا ، ولا بذي جهد مقل ، ولكنه عرَّج في تقديمه على ما  يتعلق بالموضوع من أمور سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية .  
**********************
تعريف:
الشيخ حسين الاحلافي أحد شعرائنا المجاهدين ، عاصر العهد الإيطالي في ليبيا ، واطّلع على مجريات الأمور من داخله ، بما فيه من تعسُّف  وتنكيل بأهل البلاد .. حفظ القرآن الكريم رغم الظلم الذي ترزح فيه ليبيا ، والتجأ مع أهله إلى مصر فاستزاد علما من الأزهر هناك ، ولكنه لبَّى داعيَ الجهاد، وترك الدراسة وهو في المراحل الأخيرة من الشهادة العالمية كما كانت تسمَّى آنذاك .. وعندما أُطِلق النفير لتكوين جيش التحرير بدعوى من إدريس المهدي السنوسي الذي كان بالمهجر هناك ، ثم أصبح ملكا على ليبيا حتى سنة 1969 ، وقد أخذ ينظم الصفوف ويحرك الهمم ، لِينْظَمّ الليبيون في القطر المصري وخارجه إلى الجيش الثامن البريطاني الذي يحارب قوات المحور ومنهم إيطاليا.
    والاحلافي من مواليد منطقة المخيلي سنة 1905 ، وقد هاجر مع والده إلى مصر ـ كما سبق القول  والتحق بالأزهر ، وعاد عام 1940 إلى ليبيا لتلبية داعيَ الجهاد.. ولو لم يكن الشيخ الاحلافي من تلك الطلائع الحية والفئة المثقفة ، ما كان بعد الحرب يُعين مدرسا بدرنة لعدة سنوات ، ثم يُعين قاضيا بمحاكم درنة ، وهي وظيفة لا يُقدّم لها إلا من استُؤنس فيه العلم والورع والتقوى ، ولولا ذلك أيضاً ، ما كان ليصبح عضوا ثقافيا في جمعية عمر المختار سنة 1943 ، وعضوا بجمعية المجاهدين القدماء سنة 1947 .
         فالشيخ حسين الاحلافي اسم كبير ، وقامة سامقة في الأدب والعلم إلا أنه من أولئك الهادئين القابعين في بيوتهم الذين لا يتطلعون إلى طموح الطمع والشهرة ، ولم يضعوا حول أنفسهم هالةً ليقالَ عنهم ها هُم ؛ بل عاش حياةً ملؤها القناعة والجد والحزم والتفاني .
        هذا ، وللشيخ حسين الاحلافي ديوان شعر صدر سنة 1990 ، قدَّم له الشيخ الدكتور إدريس فضيل تقديما فخما يليق بشخصية شاعرنا الأدبية والدينية والجهادية ، وذاك التقديم  يوحي إلينا بما يدل على عمق الصلة بين الشيخين والالتقاء الروحي والعلمي بينهما ، وللأسف ، لم تتشرف  الأوساط الأدبية في ليبيا بطبع الديوان ، وإنما طُبع في سوريا على حساب أبناء الراحل حسين الاحلافي الخاصة .
**************************
حول القصائد القومية :
حسب المسار الشعري للشاعر فإنه يحمل في نفسه قومية الوطن ، أي أن الوطن العربي كله وطنه ، لذلك لا فرق عنده بين قومي ووطني ، بل يبقى  العرف السياسي لديه هناك على حدة ،  ففي قصيدة (نشيد النصر)(1) بمناسبة أول عيد لاستقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951 يمهّد لقومية الوطن قائلا :
تقدم وشاطر قومك الفرحة الكـبرى  ورتل نشيد النصر ما أروع النصرا
وشنّف بـه سمع الزمان مغــردا   وحملُهُ موجات الأثـير إلـى مصرا
إلى شعب لبنـانَ الشقيق وجِِِِِـلِّق    إلـى القدسِ والأردنَّ بالضّـفْة الأخرَى
وبغــدادَ والبيتِ العتيق وطـيبةَ    إلى ساكني صنعا إلى تونس الخضرا
إلى المغرب الأقصى إلى كل مسلمٍ   إلى كل حرّ حـارب الظُّـلم والنُّكرا
وإذا تكلمنا عن القومية والوطنية بشكل عام ، خارج مفهوم  الشاعر حسين الاحلافي ؛   فإنما نعني بالقومية ، ما كان من شعره في دول الوطن العربي ، من شجبٍ للعدوان عليها ، أو إعجابٍ ومباهاةٍ بما تصنع من مجد . و نعني بالوطنية ، ما قاله من شعر في وطنه ليبيا ، منذ العدوان الإيطالي ، وحتى استقلالها ؛ من شعر لوصف الكفاح من أجل الوطن ، وشعر تحريض للمواطنين على الدفاع والحماية ، وشعر تنديد بمساوئ الاستعمار ،  ومعظم شعره قاله في هذين المرحلتين ، وهما من العدوان إلى الاستقلال وما بعده بقليل . فيكون بذلك كله قد جاهد بنفسه وبقلمه ؛ بل كان مجاهدا بنفسه وروحه قبل أن يجاهد بقلمه وفكره ،  فأغلب القصائد الوطنية والقومية في ديوانه كان قد قالها بعد وأثناء تطوعه والتحاقه بجيش التحرير السنوسي الذي تكوّن بالمهجر هناك في مصر.. والقصائد القومية والوطنية هي أكثر ما في الديوان ، فقد بلغت 24 قصيدة ، ثم تليها 12 قصيدة دينية ، و6 قصائد نصح ، و5 قصائد رثاء ، و4 قصائد مدح  ، و3 قصائد شكوى ، وقصيدتي وصف ، ثم واحدة بعنوان متفرقات ، وهذه الأخيرة عبارة عن أبيات قصيرة متحدة البحر والقافية وبحرف روي مختلف.  
       ولكون حسين الاحلافي قد نشأ نشأةً دينية ، بين الجغبوب بليبيا والأزهر بأرض الكنانة مصر ، فقد وجدتُ عند دراستي لقصائد الديوان أنها لا تخلو من روح الدين الإسلامي في أي جزءٍ من أجزائها ، سواء كانت وطنية أو قومية ، أو قصائد نصح أو رثاء أو مدح أو شكوى أو وصف ، فالنظرة الدينية حاضرة عنده في كل ذلك ." والعلماء لا يتخذون الشعر صناعة إلا بمعنى توظيفه لخدمة الدين والمجتمع ، ويرونه أداة إصلاح ، ومشرط جرَّاح ، لأنه أكثر في النفوس تأثيرا ، وأشد بالعقول علوقا"  (2).
       ونرى هذا التمسك بالدين واضحا ، وبإخلاص لا يتزحزح عنه في مجمل قصائده ؛ ففي قصيدة (مأساة فلسطين)(3) على سبيل المثال ، لا الحصر ، التي كان الشاعر قد قالها بمناسبة المولد النبوي الشريف ، وهي من القصائد القومية ، قالها عندما انتصر اليهود على العرب ، فانقطعت به السُّبل ، ما كان له من ملجأٍ سوى الاتكاء على العناية الإلهية ، مستنجدا متضرعا شاكيا إلى الله الضعف وقلة الحيلة:
يا مــن بمولده قـد عزتِ العَربُ     مــن بعد صولتهم يـا سيدي غُلِبُوا
يا ناصرَ الحق ضاع الحقُ في زمن     لا حقً إلا لمــن أرواحَهم وهـبُوا
يا ناشر العدل إن العدل قـد وقفت     في وجهه الجيش والصاروخ والذهب
يا باعث الدين إن الدين فـي خطر     يا منقـــذ الشرق إن الشرق يلتهب
جيش من الهمج الأوباش داهـمه      لا ديــن يردعــه كــلا ولا أدب
وقد شغلته فلسطين ، وهمّهُ أمرها ، وكان يؤلمه ما يقوم به اليهود من تنكيل وقتل وإبعاد للشعب الفلسطيني ، فسلط على اليهود سهاما نارية من القريض منددا وغاضبا ساخطا على العدو الإسرائيلي وعلى كل عدو ، وكان بين تلك القصائد قصيدة (وعدُ لص) ، والمقصود بطبيعة الحال هو وعد بلفور ، وزير خارجية المملكة المتحدة ، الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين . كما نرى حسين الاحلافي يتحدث عن مأساة فلسطين في ثنايا قصائد أخرى ، تدعوه إلى ذلك المناسبة ، فقصيدة (الإسراء والمعراج)(4) ، مدعاة لذكر المسجد الأقصى ، تنبّه ذهنَه إلى مأساة فلسطين :
فالمسجد الأقصى الـذي عاينته    في ضوء تلك الليلة البيضاء
أيْدي الصهاينةِ الطغاةِ تطاولتْ     وعــدَتْ عليه بليلة سوداءِ
وورد مثل ذلك عن فلسطين في قصيدة (الشهر العظيم) ، وقصيدة (ذكرى المولد) وقصيدة(صباح أغر)، وقصيدة (أين العدالة) ، وقصيدة (ليلة الإسراء)(5)  التي يقول فيها :
وأصبح المسجد الــذي انبثقت   منه النبوة في أيدي المُرابينا
يمشي اليهوديُّ فيهِ غير مكترثٍ   بنا ونحــن نمشي مُهانينا
ومن قصيدة (العدوان الثلاثي )(6)على مصر سنة1956  يقول:
وإذ بمصرَ جميعِها زحفـتْ   إلى ساحِ القتال وجندتْ أبطالَها
بشيوخها وكهولـها وشبابها    والكل يزأر في السلاح أنا لها
وفي قصائده القومية يسخر من العقلية العربية والحكام الذين قسوا على شعوبهم وجعلوهم رعاعا ، كما يلوم العرب على شقاقهم وتخاذلهم وكرههم لبعضهم البعض ، وقد تفشَّى فيهم داءُ الضرائر ؛  يسود بينهم الحسد والضغينة في عصر العلم والثقافة والتنوير ، التي لم تؤثر في عقولهم ، وإنما سرى بينهم الضَّعف والهوان ، فيقول لهم إذا كان الأمر كذلك فعصر الجاهلية أولى من هذا العصر، وذلك في قصيدة (في ذكرى المولد)(7):
إذا كان هــذا الفعل فعل مثقف      فما قيمة العلم مــا قيمة الدرس
إذا كان عصر النور والعلم هكذا      فوا أسفا يا عصر عنترةَ العبسي
******************
حول القصائد الوطنية
:
أما القصائد الوطنية فهو ما فتئ يرددها ، ويُسخّر كل إمكانياته العلمية والثقافية يريد بذلك شعبا ليبياً قادرا على تحمّل المسؤولية ، حتى ولو كانت فيهم عيوب تعرقل الطريق ، إلا أنه بالإمكان تجاوزها على كل حال ، فهو في قصيدة (أبطال ليبيا)(8) يستحث الليبيين على حمل السلاح ، ومحاربة العدو الغاصب ، ويذكرهم بأن لا سعادةَ ولا كيان لإنسان تحت الاستعباد ، وبأن مقاومة العدو واجب ديني وفريضة من الفرائض التي لا يمكن السكوت عنها :
فالحرب من أجل البلاد فريضةٌ    يُعلِي الفتى ويُخِّلد الأســماء
فهي  السعادة إن أردتَ سعادةً     وهــي البقاء لمن يريد بقاء
كم خامل في السلم لا ذكرَ له      في الحرب أصبح قائدا ولواء
أبطال ليبيا الأوفــياء لها لقد   آن الأوان لتسلكوا البيــداء
ويقول في قصيدة (طبرق)(9) محفَّزاً الشعب:
زمن الجمود مضى بني وطني فهل     من نهضة كــي بالأوائل نلحقُ
فاسعوا لمجد بــــلادكم ورقيها     واغشوا المصاعب دونها وتسلقوا
مجد البلاد شبابـــها أن ينهضوا     تنهض وتطـرق مثلهم إن أطرقوا
وهو وإن كان يستفز الشعب استفزازا بسيطا ، ولكنه في أحيانا كثيرا يستحضر مروءتهم ، تشجيعا لهم ، ليستثير هممهم ، ويذكرهم ببطولاتهم ، وما كان منهم من نضال وكفاح طويل في حروب خاضوها ، مضحِّين بأرواحهم غير خائفين ، يقول في قصيدة (نشيد النصر)(10) بِعيد استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951:
تغنى بتاريخ الجدود فإنـــه    يزيد مع التكرار تاريخهم عِطرا
فلي فيك آمالٌ ولستُ بمخطئٍ    وما الصقر إلا منجب مثلَه صقرا
ومن قصيدة (ذكرى انتصار الشعب)(11) يقول:
ذكرى تذكــرنا بأحلكَ حِقبةٍ    كانـت مآسيا كلــها وقتالا
مرت بهذا الشعب لم يحفل بها   بل زاده ضغط العِدا استبسالا
       ومن القصائد الحماسية  التي يخاطب بها الليبيين لصد العدو والثبات في الحرب ، قصيدة (شبل الأسود)(12) ، وهي من القصائد التي أعجبتني كثيرا لاتساقها ومعانقة عباراتها لبعضها البعض ، وحسنِ جرسها ، وتلمّسِ صدق تجربة الشاعر فيها ، ويندد فيها بالمتخاذلين والجبناء ، ويرفع من شأن المناضلين ومنها :
يحب العيش في دَعـةٍ وسلم     وحب السلم دأب الغانيات
وهل عيش الجبان كعيش حرٍ   يبيتُ الليل تحـت الخافقات
ويرقد بيــن بندقة وسيف     وبين قذائــف ومسدسات
ويصبح زاحفا نحو الأعادي    بجيش لا يفــر إلى النجاة
فإن يغلب ينل شرفا وعزا     وإن يُقتل فــإن الموت آتِ
         الشعراء العلماء يوصون بالرشاد وينبهون بأن لا نهضة بغير التقدم الإيجابي ، واتباع طريق الحسنى ، فيضعون أمام جمهورهم التصرف الصحيح الذي يجب ، حيث الإصلاح يكون من القاعدة ، فمسؤولية كل فرد أن يساعد الفقير ويربي الصغير ويعطف عليه ، ويعالج المريض وما إلى ذلك من أعمال البر ، يقول في قصيدة :(العام الجديد)(13):
                    تقـدم أيهـا الليـبي وانهـض بشعبك لتعـيش حـرا
وخذ بيد الفقير فـذاك عضو إذا قويته أحـرزت نصرا
وخذ بيد المريض فإن تعافى تجده أخا وقد أسديت يسرا
وخـذ بيـد الصغير إلى مربٍ يثقف عقله ليكون ذُخرا
         و بعد الاستقلال نراه يحفّز الشعب على سلوك الطريق القويم والحفاظ على الوطن بالإخلاص في العمل ، وطلب طريق العلم والمعرفة لتبنى البلاد على أساس صحيح لا تشوبه شائبة ، لأنه إذا كانت الفوضى وكان العسف والظلم فإنه لابدّ حينئذ من انتفاضة قد تكون طويلة أو قصيرة ، وقد تكون مدمرة للعمار والثمار.. فحسين الاحلافي قد صحا إلى ذلك عقله ، وأنذر الناس بما سيكون من ثورة عارمة يشنها الشعب على نفسه وعلى الحكام الظالمين فقال في قصيدة (العيد)(14):
إن الشعوب إذا طغى رؤساؤها واستهتروا غارت على حرماتها
وتفجرت بعـد الهـدوء بثورة والـويل للرؤساء مـن ثوراتها
********************


بين الوطنية والحنين:
في الواقع الحنين مرتبة من مراتب الوطنية ، أي جزءٌ منها وليس كلها ، فهو من قبيل الوطنية ، إذا كان حنينا إلى الوطن وليس حنينا إلى المكان ، فقد يلتبس الحنين  إلى الوطن بالحنين إلى المكان , أيُّ مكان , والرغبة في العودة إليه ومشاهدة معالمه بما فيها من مبان وطرقٍ وأشجار وبشر ٍ وأشباه ذلك , مما كان يألفه الشخص ويتردد عليه , تحقـّقَ له أو خُيل  إليه بأنها أوقات سعيدة تلك التي قضاها فيه , بحيث لو يظفر بها ثانية لكان أسعد الناس , حتى ولو كانت هذه السعادة بسيطة أو ساذجة , فهو يقدرها ويجلها .. والإنسان يحن إلى أماكن صباه وأماكن لذاته  أو شبابه , حتى ولو لم يكن ذلك في موطنه الأصلي , فهاهو شوقي يحن إلى ذكرياته بزحلة لبنان التي كان قد زارها أيام شبابه , ثم زارها في شيخوخته :
يا جارَةَ الوادي طَرِبتُ وَعادَني       ما يُشبِهُ الأَحلامَ مِن ذِكـراكِ
       مَثَّلتُ في الذِكرى هَواكِ وَفي الكَرى       وَالذِكرَياتُ صَدى السِنينِ الحاكي
فعندما كان شاعرنا حسين الاحلافي لاجئا في مصر ، صار يحن حنينا شديدا إلى موطنه ليبيا وإلى مرابض طفولته بالجبل الأخضر ، ويهزه الشوق في أن يرى بلاده  حرةً أبية ورجع إليها أثناء الحرب ، فصار ينهب الذكريات نهبا ، فهذه بقايا ليبيا بعد المعارك الطاحنة ، أو زينب كما سمَّاها ، أو كما يسمِّي الشعراء القدامى ديار أحبابهم ، إذ يقول في قصيدة (مناجاة الأطلال)(15):
قفوا بي قليلاً هــذه دارُ زينبَا      أجد أثــراً فيها لعليَ أو نَبَا
مضى ثلثُ قرنٍ أو يزيدُ قضيتُه         بعيداً وحيدا راحــلاً متغرِّبا
      فلانوا لقولي واستجابوا وعرَّجوا       ولكن على رَبْـعٍ قديمٍ تخرَّبَ
      تصدَّعتِ الجُدْرانُ واغْبرَّ لونُهُ          كئيباً مثيـراً للهمـوم ومُرعِبَا
ويستجمع ذكرياته عن وطنه ليبيا في قصائد شتَّى على طريقة الشعر الكلاسيكي ، فهو أحيانا يسمِّي ليبيا زينب ، وأحيانا يسميها بثينة كما في قصيدة (الجبل االأخضر)(16) التي مطلعها :
أمِنْ ذِكْرَى عهد بثينةَ أم             تذكرتما الجبلَ الأخضرَا
وهي القصيدة التي كان قد بدأها بمخاطبة رفيقيه الوهميين ، كما كان يفعل شعراء المعلقات ومن حذا حذوهم ، وفي هذه القصيدة يتحرَّق شوقا للقاء الجبل الأخضر الذي يرى فيه الوطن مجتمِعا ، وهو الوطن الذي كان ينعم فيه بالأمن والأمان والسعادة الطفولية الرائعة ، ولهذا الحنين والشوق قال:
خليلي مالـي أراه جــرَى     من العين دَمْعُكما أحمرَا
أمن ذِكْـرَى عهـد بثينةَ أم     تذكرتما الجبلَ الأخضرا
فحنَّ الفـؤادُ لتلك الهضابِ     وتلك الشعابِ وتلك القرَى
وتلك المروجِ وتلك العيون      وذاك الزمانِ الذي أدبرَا
تذكرتُ أيامنـا الماضيات      وليلا مضى كـله مقمرَا
قضيناه نلعب لِعْـباً بريئا       فلا سُكْرَ فيـه ولا مُنكرا
وفي هذه القصيدة يأسف للظلم الذي وقع على هذه البلاد ، وأن كل شيء قد تغيَّر بقدوم الاستعمار ، فيتمنَّى الأماني لزواله فيقول بعد ذلك :
فهل يا ترى تخلو تلك البلاد     من الظالمين أيا هل تـرى
أُسرّحُ طرفي ولــو لحظةً     بتلك الوهادِ وتلك الـذُّرَى
أرى الشرقَ قام وأنظر فيه      هلال العروبة قــد أقمـر
وأنظـر لا موسوليني أراه      ولا صاحبيه ولا هتلــرا
هناك يطيـب لعيني المنام      ويُقبِل عِـــزٌّ لها أدبـرا
بحبة قلبي ونــورِ العيون      شريتُها لو صحَّ أن تُشتَرى
وإن أدَّى هـذا لفقد الحياة        ليُدفَن جسمي بـذاك الثَّرَى
ويوم القيامة أُبعَــثُ منها      إلى خالقي يوم بَعثِ الورَى
والقصيدة طويلة اخترنا منها هذا الجزء المُعبِّر عن طبيعة الجبل الأخضر فيصوَّر حنينه إليه كحنين الحبيب إلى حبيبه ، ولذلك رمز له بـ(عهد بثينة) ، على طريقة الشعراء القدامى كمعادل موضوعي لذلك الحب الكبير ، وقد رمز للبلاد بهذا التعبير الأنثوي بعض شعرائنا الليبيين كسليمان الباروني(17) الذي أطلق على طرابلس اسم (سُليمى) حفاظا عليها من أن ينالها الاستعمار الإيطالي في قوله:
وأما سُليْمَى لا سبيل لوصلها         ولو نجعلِ الجوزاءَ منطقةَ الغمد
وقبل ذلك قوله :
نصولُ إذا حــان الدفاع ولا نرى      جزاءً من المولى سوى جنةِ الخلدِ
نحبُ اللِّقا ولا نبغض الطعن إن يكن  نضالاً عنِ الأوطان والدينِ والمجدِ
هنيئاً لمن أمسى صريعا مـجاهدا    له حلَّةٌ من أُرجوانٍ علــى الجرد
فيا مغــرماً بنا تقدـــَّمْ لفتيةٍ   ترى الموتَ فوزا في مصارعةِ الضدِّ
خفافٌ ثقالٌ فــي الجلاد جوادهم  مِكرٍّ مِفرٍّ مصدرِ القُـرْبِ والبُــعْد
وأمَّـا سليمى  لا سبيل لوصلها   ولو نجعــل الجوزاء  منطقةَ الغِمْد
ويعني بسليمى مدبنة طرابلس الغرب.
    وبالعودة إلى قصيدة شاعرنا حسين الاحلافي نجد أنه يتمنى من أعماق قلبه أن تخلوَ البلاد من جيوش الاستعمار وهيمنة قادتها ، ويهب نفسه فداءً للوطن، ويأمل أن يُقبر ويُبعث فيه .. فروح الجهاد والتضحية يدفعها الشوق ومواطن الصَّبا ، هي التي دفعته لأن ينشط للقول وللفعل ، فجعل يسرد المؤثرات التي جعلته يحن إلى الجبل الأخضر ، كرمزِ يرى فيه سائر ليبيا مجتمعة ، من هضاب وشعاب وقُرى بمروجها وعيونها ، وقد استمتع بها في زمن مضى ؛ زمنٌ كله بهجة ليله ونهاره.
جوانب فنية في ظل الحنين والوطنية والمحاكاة: 
       عندما نتأمَّل قصيدة حسين الاحلافي نكتشف إلمامه بالأدب وبالشعر وبالدين ، كل ذلك في ورقة واحدة ؛ فنكتشف تأثره ـ بحكم ثقافته ـ بأمراء الشعر القديم من العشاق ، يتذكرهم ، لا لكي يعشق العشق المعروف ، كما يكون بين رجلِ وامرأة ؛ وإنما ليبرر حبه للوطن ، فهو قد استخدم لفظ (خليليَّ) تأثرا بقيس بن الملوَّح (مجنون ليلى) الذي يقول:
خليلي لا والله لا أملك الذي قضى    الله في ليلى ولا ما قضى لِيَا
قضاهــا لغيري وابتلاني بحبها     فهلاَّ بشيءٍ غير ليلى ابتلانيَا
هذه القصيدة التي تناولها الشعر الصوفي خاصة لما انتقلت إلى بلاد فارس إيران، إذ ينظرون إلى قيس كولي ، وليس كشاعر مثل سائر الشعراء(18) ، وذهب فيها النقاد أيَّ مذهب على مستوى الدراسات الأدبية المقارنة.
    كما استخدم هذا اللفظ (خليليَّ) مجاراةً للشعراء القدامي ، فقد جرت العادة عندهم أن يتصوَّر الشاعر أن برفقته في الرحلة اثنين ، كما في نسق الوقوف على الديار ، كأمرئ القيس ومعلقته التي مطلعها :
 قِفَا نَبْكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ  بسِقْطِ الِّلِوَى بين الدَّخولِ فحومَلٍ
والأمر الآخر أن هذه البداية تذكرنا بتكنيك فنِّي كان الشعراء الصوفيون يستخدمونه كثيرا للتعبير عن حبهم الكبير لله والرسول وإخلاصهم في ذلك أيما إخلاص ، فيلجأون إلى المعادلة بين الحب الدنيوي والحب الإلهي كرمز فقط على إخلاصهم لمن يحبون.. ولثقافة الشاعر الدينية كان متأثرا بالسلف ، فبدأ قصيدته بكلمة (أَمِن) :
أَمِن ذِكـرَى عهـد بثينةَ أم     تذكرتُما الجبلَ الأخضرا
وهذا يشير إلى تشبّع الشاعر بقصيدة البوصيري ومن حذا حذوه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
أَمِنْ تذكّرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ  مزجتُ دمعاً جرى من مقلةٍ بدمِ
       وتشبُّع الشاعر حسين الاحلافي بالتراث العربي غير خاف أمام المطَِّلع على الشعر الأصيل من قصائد فطاحل الشعر من جميع عصور الأدب ، الجاهلي والأموي والعباسي والحديث ، فما من غرض من الأغراض التي تكلم فيها إلا وبها شيء من آثار السابقين ، بدا عليه ، واختزنه ذهنه دون أن يعلم ، فجاءت أشعاره على نسقهم كأثر من تأثيراتهم ، انظر مثلا إلى رثائه للشاعر أحمد رفيق المهدوي(19) التي مطلعها :
مالي أراك  قضيت الليل سهرانا    مشتت الفكر مهموما وحيرانا
على طريقة الشعراء القدامى الذين يخاطبون أنفسهم بمثل هذا التساؤل وقد خاطب أوس بن حجر(20) نفسه مع اختلاف طريقة التناول عند رثائه لابن عمه فضالة بن كلدة:
أيتها النفس أجملي جزعا   إن الذي تحذرين قد وقَعَا
وكما هو عند أحمد تقي الدين(21) في قوله:
مالي أفتش لا أراك ولا أرى    غير الدموع لناظريَّ خِطابا
ويتناسب مع براعة الاستهلال ، حيث أنهى كلاهما بيته بالألف ، ليمتد النفس وكأنه إشارة إلى التنهد الذي يناسب الأحزان .
 وقد خاطب أبوذؤيب الهذلي نفسَه أيضا عند رثائه لأبنائه ، وهو أعظم من رثى عند كثير من النقاد ، فقال في مطلع قصيدته المشهورة:
أمن المنون وريبها تتوجّعُ     والدهر ليس بمعتبٍ من يجزعُ
وخطاب النفس هذا ، بهذا التعبير الحزين ، ليس مقتصرا على استهلالات المراثي ، وإن كان ذلك هو الأكثر دورانا ، ولكن في بعض الأحيان ، قد يصدر أيضا من الشاعر عندما يشعر بالكآبة وضياع الأمل كما هو عند أبي فراس الحمداني:
أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ       أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
إذا اللّيلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى      وأذللتُ دمعاُ من خلائقه الكِبْر
 فأينما تصفحت في أشعار حسين الاحلافي ، فستجد ما يدل دلالة واضحة على سعة اطلاعه وتشبعه بالتراث العربي الأصيل كهذه الإشارات من أشعار المشاهير:
هناك مثلا إشارة أو تناص(22) في قصيدة الاحلافي (العيد)(23) في البيت:
رمضان ولى وانقضت أيامه     بصيامها وصَلاتها وصِلاتها
وبين بيت شوقي في قوله :
رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي       مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ
بنفس البحر الكامل.
وكثيرة جدا هي الأبيات في قصائد حسين الاحلافي ، التي تتناص شكلا أو موضوعا ، أو هما معا بأبيات شعراء سابقين ، مر بهم الشاعر ، ففي قصيدة (أبطال ليبيا)(24):
فالحرب من أجل البلاد فريضة    يُعلي الفتى ويخلد الأســماء
فهي  السعادة إن أردتَ سعادةً     وهــي البقاء لمن يريد بقاء
يتناص البيت الأخير شكلا ووزنا في البحر الكامل ، مع هذا البيت الأخير لأبي العيناء محمد بن القاسم(25) وهو:
إِنَّ الدَّراهِمَ فِي المَواطِنِ كُلّها       تَكْسُو الرِّجَالَ مَهابَةً وجَلالا
فَهْيَ اللِّسانُ لِمنْ أَرادَ فَصاحةً       وَهْيَ السِّلاحُ لِمَنْ أَرادَ قِتالا


وهناك إشارة أو تناص في قصيدة الاحلافي (الحق حق دائم)(26) في البيت:
إن شئت أن تحيا سعيدا بينهم   وتفوز عندهم بحظ أوفر
وبين بيت أبي العتاهية( معروف ، ت 747م) في قوله :
وَإِن شِئتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الأَذى    فَكُن لِشِرارِ الناسِ ما عِشتَ تَرّاكا
كلاهما على البحر الطويل ، وقد تداول المعنى كثيرون ، منهم الإمام الشافعي  (معروف ، ت 767م) في قوله:
إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى       ودِينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
وعلى نفس البحر الطويل.
وهناك إشارة في قصيدته (غلاء الأسعار) ؛ فالبيت:
لكنني صرت ربا  لصبية كالطيور
يشير إلى مروره على شعر الحطيئة (معروف ، ت665م) ، وبيته المشهور:
ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ       حُمرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ
وفي قصيدة (لا تكترث)(26) هناك البيت:
يا صاحِ مالَكَ شاكياً تتوجعُ    إني وربُّك لانقباضك مُوجَعُ
إشارة إلى تأثره بقصيدة أبي ذؤيب الهذلي (معروف ، ت648م) التي مطلعها:
أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ       وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ
وفي قصيدة(طبرق)(27) يقول:
مجد البلاد شبابها أن ينهضوا  تنهضْ وتطرق مثلهم إن أطرقوا
إشارة إلى مروره ـ بطبيعة الحال ـ على شعر رفيق وبيته المشهور من قصيدته(روح الشباب):
أملُ البلاد على رقي شبابِها  إن كان حيّاً لا تخافُ زوالا
****************************
         وبعد ، فقد بدأتُ بحثي هذا بمقدمة عنوانها (كلام قبل الكلام) أرتنا كيف سار الشاعر حسين الاحلافي في حياته الشخصية ، وكيف تصرف في حياته الفنية وإنه لم يهب شعره إلا في الأمور الجديرة باهتمامه بالفعل ، ولم يكن يوما طبلا من طبول السلطان ولا متزلفا لأحد يبغي صلته ، في الوقت الذي كان كثيرٌ من الشعراء يتهافتون على موائد السادة ، ويقرضونهم بما ليس فيهم ، لكن حسين الاحلافي كان عاليَ المقام بعلمه ، وتالله لقد وجدها الأديب خليفة التليسي(28) حين قال عن نفسه:
أنا لا أقول الشعر أبغي رتبةً تعلو بها رُتبي وأكسبُ وافرا
ماذا وراء العمر من أمنيةٍ تُرجَى وقد رحل الشباب مغادرا
       ثم ثنَّينا بالتعريف بالشاعر ، وانتقلنا إلى بعض مراحل حياته ، وبيَّنا جهاده من أجل العلم ومن أجل الوطن ، وإنه قد تقلَّد بعض المناصب التي لا يتقلدها إلا ذو علم وبصيرة بالأمور ، وكفاك من بينها وظائف كالتدريس والقضاء.
       ولما كان شعره في الوطنية والقومية العربية هو أقوى شعرٍ وأكثره قصائد في ديوانه ، ركزنا على هذه الناحية وجعلناها الواجهة التي يبدأ بها الموضوع وينتهي عندها ، فبدأنا بالقصائد الوطنية وعلقنا عليها حسب مقاماتها وعناوينها ، وإنه كان من القوميين الوطنيين في هذه الناحية ؛ فهو لم يفرّق بين ما هو قومي وما هو وطني ولكننا تتبعناها حسب اعتقاد السياسة والمتعارف عليه عند الناس في التفريق بين القومية والوطنية، ومضينا معها على هذا النحو.
       ثم جاء دور القصائد الوطنية ، وهي تلتهب ، حامية الوطيس بالنضال والكفاح  ضد الأعداء ، وبتحفيز وتحريض المواطنين بالتصدي للعدو ، وبالدعوة إلى التمسك بأهداب الدين والشريعة الإسلامية في كل عمل من الأعمال .
    ثم موضوع رابع يحمل عنوان :( بين الوطنية والحنين) ، وهو وثيق الصلة بالموضوعات التي قبله ، وقد فرقنا فيه بين الحنين الذي للوطن ، بكونه وطنية ، والحنين الذي للمكان ، بكونه حنين للمكان فحسب..وجاء في نهاية البحث دراسة لجوانب فنية في ظل الحنين والوطنية والمحاكاة ، دعمته بشواهد لشعراء آخرين. ثم ختمتُ الموضوع بالتعليق على ما جاء في البحث من موضوعات.
      تبقى ملاحظة جديرة بالاهتمام ، وهي ألا ننسى أن الشاعر حسين الاحلافي يقرض الشعر بالعامية أيضا ، فهو ينظم الشعر الشعبي إلى جانب القصيدة الفصحى ، وهو بالفصحى أبلغ منه بالعامية بحكم تغلب ثقافة الفصحى عليه .. ومن قصائده العامية قصيدته المشهورة (الحنين للوطن )التي ذكر فيه أرجاء ليبيا مدينةً مدينة وقريةً قرية ، من السلوم إلى رأس جدير(29).
رحم الله الشيخ الاحلافي رحمة واسعة بما قدَّم من حب للوطن وإخلاص في العمل فقد كان من رجالنا الأتقياء الأفذاذ.

ــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) ديوان شاعر الجبل الأخضر حسين الاحلافي ـ (مجهول الناشر)1990.
(2) مقدمة ديوان شاعر الجبل الأخضر ـ ص8.
(3) ديوان شاعر الجبل  ـ ص51.
(4) السابق نفسه ـ ص30.
(5) السابق نفسه ـ ص45.
(6) السابق نفسه ـ ص81.
(7) السابق نفسه ـ ص53.
(8) السابق نفسه ـ ص54.
(9) السابق نفسه ـ ص71.
(10) السابق نفسه ـ ص65.
(11) السابق نفسه ـ ص73.
(12) السابق نفسه ـ ص56.
(13) السابق نفسه ـ ص97.
(14) السابق نفسه ـ ص35 .
(15) السابق نفسه ـ ص86.
(16) السابق نفسه ص 6
(16) السابق نفسه ص 61.
(17) سليمان الباروني ، مناضل ليبي ، ولد بجادو سنة 1873 ، درس بالأزهر والجزائر ، وهاجر إلى تونس فتركيا ، وتوفي بالهـند سنة 1940 ، والأبيات من ديوانه ، طبع البابي الحلبي سنة 1953,
(18) نظرات في الأدب المقارن ـ طه ندا ـ الخانجي 1984 ـ ص112.
(19) ديوان شاعر الجبل الأخضر ـ ص 120.
(20) أوس بن حجر ، شاعر جاهلي من كبار شعراء تميم (ت 620م) عن الموسوعة الشعرية ، الإمارات العربية المتحدة 2003.
(21) أحمد تقي الدين ، من لبنان ، مارس القضاء والمحاماة ، له ديوان شعر مطبوع (ت1935م)  
(22)التناص مصطلح نقدي جديد ، معناه تأثر نص بنص ،حيث يأتي هذا النص القديم مذابا في النص الجديد  والتناص لا يخلو منه كلام ، لأن الشاعر أو الكاتب يتأثر كل منهم بتراثه وثقافته ، ويبنى على ذلك شعره أو نثره، بناء على معلومات سابقة قال بها الآخرون .. ولذلك يقرر الناقد الفرنس (رولان بارت) موت المؤلف ، ففي نظره  أن أي مؤلف لكتاب أو موضوع لم ينتج شيئا ، فكل الذي قاله أو كتبه ، قد قاله أو كتبه السابقون .وهذه مسألة وصلت إلى نزاعات دينية وفلسفية ليس هنا محلها .. ولكننا نقول أن التناص ليس علما جديدا على الأدب العربي ، فهو يعرفه في صور عدة ؛ في السرقات الشعرية والتلميح والتضمين والاقتباس والاحتذاء ... ( انظر مقالي بعنوان : (بضاعتنا رُدت إلينا) المنشور في موقع السلفيوم سنة 2009م.
(23) ديوان شاعر الجبل ـ ص35.
(24) ديوان شاعر الجبل  ـ ص54.
(25) أبو العيناء محمد بن القاسم ، من أهل البصرة ، أديب فصيح ذكي ، كان من أسرع الناس جوابا ، اشتهر بنوادره ولطائفه (عن الموسوعة الشعرية ، دولة الإمارات 2003).
(26) ديوان شاعر الجبل ـ ص 103.
(27) ديوان شاعر الجبل ـ ص71.
(28) ديوان خليفة محمد التيسي ، قصيدة (وقفٌ عليها الحب) ـ الدار العربية للكتاب 1989 ـ ص20.
(29) ومنها :      العين والعة بالوطن واحكاياته    علي ما جرى من موح ما نسياته
مي مرتدة أو لي ما بيه تنسى ابطول المدة
                    أو لا زول ينسى وطن بوه أو جدة  إلا شخص تافه كي بلاش حياته
والعة منهاسة امرايفة عالوطن العزيز أو ناسه
                   أو مي ناسية حتى ابطولة ياسه    أو لا اتبـدله بالنيـل لـو طالته


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق