إنسان الغاب
د. عبدالجواد عباس
كان ذلك منذ زمن بعيد , عندما كانت الأرض ما تزال في طور مخاضها الأخير , وكانت الحرائق ورائحة الدخان والأبخرة تلـفّ بالكرة الأرضية ؛ الشهب تسقط والبراكين في قمة نشاطها. ثمــة غابة تشتعل بشدة قرب البحيرات المملوءة بالبجـع وطيور أخرى كثيرة. لم تكن البراكين والشهب هي المسؤولة عن الحريق ولا قنابل المولتوف ولا النابالم ولا حتى الشباب الباحث عن الراحة في تخوم الوديان , بل المسؤول كان الإنسان الذي تعلم إشعال النار , كان يطهو طعامه. ليس المهم فيما أكلت النار من هكتارات الأدغال , وإنما المهم أنه ملأ ذلك الجراب الأحمر الذي يستدعيه في وجباته ليقضي على الجواميس والخنازير البريّـــة , وليقضي على مساحات من الأشجار يحرق بها لقمته.
ذلك الإنسان القديم الجشع أسقط حجرا كبيرا من عل ٍ, فبدلَ أن يقع الحجر على ثور القطيع الضخم وقع على زميله الذي كان يصطحب زوجته واصطحبها هو بدلا منه في الحال فليس هناك وقت للأحزان. الإنسان القديم ظالم فتـّـاك , فعندما عرف أن عوده قد اشتدّ وقوته تضاعفت , خرج في جماعات تتسابق مع الذئاب أيُهما يصل إلى القرية المجاورة في كهف الوديان , لكن الذئاب خجولة عند حضور الإنسان الذي اقتحم على أخيه الدار , فلم تكن هناك أبواب حديدية ولا كلاب حراسة كما نعرف الآن , أخذ يقتل الرجال ويستحيي النساء , هكذا بدون إنذار ولا مجلس أمن ولا مفاوضات سلام. في ليلة من الليالي المظلمة , أو لعلها المقمرة , فالزمن قد طال عندما كان الإنسان الأول نائما في وسط قطيعه من الماعز والبقر الذي استأنسه بعد مشقة وعناء. تسلل بعضهم إلى التلال وفتح باب الحظيرة وساق كل ما فيها إلى زريبته وترك صاحبها يغط في نومه , لم يعجبه القتل هذه المرة , ربما يلقى حتفه , دار في خلده أسلوب جديد اسمه الهيمنة يحاصر بواسطته أموال البشر تحت سمعهم وبصرهم.
الإنسان القديم كان متأخرا ومتخلفا بطبعه , فلو ظهر الآن لأفسد العالم حتى بوسائله تلك البسيطة , وما القنابل الذريـّـة والنيتروجينية والبوارج الحربية والغواصات النووية إلا وقاءً اخترعه الإنسان الحديث ليدافع به عن نفسه ضد الإنسان القديم الذي ربما ظهرت بذرته من جديد أو هبط من أحد الكواكب المجهولة , وما كثرة أجهزة التجسس والتـنصّـت إلا تحسبا لظهور ياجوج وماجوج جديد وقانا الله وإيّـاكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق