إبليس
د. عبدالجواد عباس
الإيمان بالغيبيات هو قمة الإيمان وروحه وصلاح الدنيا والآخرة، هو أن نصدق بالمعنى الميتافيزيقي الماورائي ومنها وجود الحساب والعذاب والجنة والنار والملائكة والشيطان... فإن لم ينظر الإنسان بمنظاره القريب والبعيد إلى هذه الأشياء فستستحيل الحياة إلى فوضى وفساد... والله دعانا للإيمان بوجودها من خلال النص القرآني، ولا اجتهاد مع النص، وذلك لأننا ندرك بأن الله موجود، ما في ذلك شك ؛ لعدة مظاهر واضحة جلية، ابتداء من هذه اليد التي تقبض على الأشياء، فتنقبض وتنبسط وتلتوي كما تقوم بحركات وفوائد كثيرة لا يستطيع أي صانع في الأرض أن يصنع مثلها لتؤدي نفس الحركات التي يريدها الإنسان منها، وبحركات سريعة وبطيئة.. أليس ذلك دليلا على وجود الخالق، ولذلك أحال الله إلينا أن نتأمل في أنفسنا ليتضح دليل وجوده فينا "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"(1)، دليل وجود الخالق الصانع.. كما أحالنا إلى أشياء كثيرة غيرها ولكن لم يقل أنه جعل للشيطان القدرة على علم ما في نفوسنا عما إذا كنا غاضبين فيزيدنا الشيطان غضبا، أو كنا راضين فيحبط أعمالنا، ويدخل في أعمالنا الخفية التي لا يعلمها إلا الخالق.. فآنّى للشيطان أن يعلم ما نبيّت له من أمور.. فالله وحده عالم الغيب، واستحواذه وحده بالغيب نعمة من نعمه " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا"(2).. يظن بالغيب على الرسل المطهرين، فما بالك بالشيطان الملعون المطرود من الجنة الذي أخذ قرارا صريحا بغواية بني آدم.
الشيطان لا يعلم بما في نفس الإنسان حتى يغيضه ويجعله يقدم على المنكرات، لا دراية له بالغيب، الله مختص به فقط، هكذا نؤمن، وإلا جعلنا مع الله إلها آخر.. الشيطان يأتي من داخل جسم الإنسان وليس من خارجه.. هو بذرة تعجز الهندسة الوراثية عن اكتشافها، حتى أنها لا تظهر في الحمض النووي.. إبليس بذرة مزروعة في دم الإنسان.. وطالما هو مزروع في جسم الإنسان ويجري فيه مجرى الدم كما نص الحديث الصحيح.. ومن ثم فهذه البذرة الشيطانية التي وضعها الله فينا ليمتحن بها قوة عقيدتنا، نعم ليختبر بها صبرنا على الإيمان، ليعلم مدى ثباتنا عليه رغم البلاء والمحن التي تعترض هذا الإيمان، وما يعترضها إلا الشيطان، وما يصعّب الأمور إلا الشيطان فيجعلها شاقة عسيرة بدل أن تكون يسيرة سهلة، وما الشعور بالعسر واليسر إلا في النفس ليس غير.. جعل الله إبليس ليقوم بمهمة، بوظيفة تمحيص الإيمان، واختبار مدى صبر الإنسان على المكاره وصبره على إغواء النفس الأمارة بالسوء.. هكذا مشيئة الله.
ولما كان الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم فإن وجوده من داخل جسم الإنسان لا من خارجه، فهو يحس بفوران الإنسان وبدهشته بواسطة تأثيرات في جسمه الداخلي بإمكانه أن يزيدها فورانا فيقوم الإنسان بالقتل والزنا والسرقة والدس والكذب والخديعة إلى نهاية سلسلة الأعمال الشريرة الخاطئة فكم جرّ الغضب من مآس بل حروب طاحنة سببها التمادي في العناد والتكبر في الأرض.. فإذا لم يقم الإنسان بتهدئة هذا الفوران بذكر الله وجلاله ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.. إذا لم يرعو ويحاسب نفسه ويضع الأمور في مكانها الصحيح، سيكون للشيطان القدرة على أن يزيد غضب الإنسان تأججا كلما شعر بسخونة الدم فيه، بل يستطيع أن يتدخل حتى في لحظات الهدوء والطمأنينة في الإنسان فيحسده عليها فيعكرها، ألم يصفه الله بأنه عدوّ مبين سيحدث ما لا يُحمد عقباه إذا لم يكن الإنسان من الذاكرين لله والمؤمنين بقضائه وقدره.. فالشيطان لا يقوى على الإنسان إذا تحكّم الإنسان في نفسه، تضعف تلك البذرة الشيطانية التي تؤجج المشاعر، ولذلك أوصى الرسول الكريم لطالب التوصية بأن لا يغضب، وأكدها ثلاث مرات.
فالإنسان هو نفسه الشيطان إذا استهوته الشياطين وانجرّ وراءها للأفعال المشينة أما إذا حصّن نفسه بالإيمان القوي فالشيطان يغدو قشة تذروها الرياح، بل لا يساوي حبة من خردل عند أقوياء الإيمان وراسخي العقيدة..
(1) آية 21 من سورة الذاريات
(2) الآياتان 26 و 27 من سورة الجن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق