الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

بالزمن نحتفل

بالزمن نحتفل
د. عبدالجواد عباس
عندما كنَّا صغاراً كان الزمن مقيماً معنا.. في ذلك الأمد البعيد كانت السنة الواحدة طويلة وحافلة بالأحداث.. في تلك السنين الخوالي كان الوقت فسيحاً ؛ ندرس نلعب، نمرح... نرى أشياء كثيرة تعايشنا، نحسُّ بأننا تركنا وراءنا  مسافةً طويلة بيننا وبين السنة التي تليها.. الربيع لم يكن عَجُولاً، يمكث مدة طويلة من الزمن، كنَّا نتأمّله ونأخذ غايتنا منه، نراه مزهواً يانعاً، نملأُ عيوننا باخضراره قبل أن يرحل.. والآن عندما كبرنا أخذ الزمن يتلاشَى، والأحداث تتراكم وتسقط من الذاكرة، ولا يبقَى منها في الذهن إلا القليل.. نقضي أيامنا وكأنما هناك حلقة مفقودة نَسِيَها الزمن.. صارت الأعوام تمرّ سِرَاعاً  دون أن ننتبه لها.. ربما غمرة المشاغل، ربما كثرة الطموحات , وربما الإرهاق كان السبب في حرماننا من الشعور بالزمن والتمتع بأنسام الربيع الراكع تحت سيطرة الصقيع.
          لقد صارت الأعوام تسير سيراً حثيثاً، فبعد أن كنا نحسب لليوم حسابَه وللشهر حسابه.. بعد أن كان كل منهما مليئاً بأحداثه السّارّة وغير السارة أصبحت حساباتنا بالجملة، بالعشر سنين ؛ صرنا نقول: في السبعينيات حدث كذا  وكذا، وكثر كذا وقلّ كذا.. ثم الثمانينيات والتسعينيات.. لم أسمع بهذه التسمية تُطلق على العقود التي قبلها (الخمسينيات والستينيات)، أو ممن عاش في هذه الفترة أمثالنا.
          كثيرُ منا يودُّ لو تعود عجلة الزمن إلى الخلف، لو ترجع عقارب الساعة إلى الوراء لفعلت ذلك الشيء وتركت ذلك الشيء، ولدرستُ كذا بدل كذا، ولقررت كذا... إنه هاجس حُلو المذاق أن تركب آلة الزمن وتستقر في العصر الذي تريد، لكن هيهات ! لا يمكن أن يعيش الإنسان عمرين، الزمن يعطيك فرصة واحدة هي رهينةٌ بحظّك، غير أني أعرفُ أحدَهم ـ وهذا ليس إسقاطاً ـ  كان يتمنّى ذلك كثيرا ؛ يتمنى أن يعود به الزمن إلى الخلف ليُصْلِحَ من شأنه، وليصلح أخطاءً وقع فيها، ولو أنه يدرك تمام الإدراك بأنها أمنيةٌ مستحيلة ومرام صعب.. لقد ظنّ صاحبنا أنه أخطأ في مسيرة حياته السابقة.. وشغل نفسه بهذا الهاجس.. رأى فيما يراه النائم أنه قد مُنح عشرين سنة من عمره إلى الوراء.. بات مسروراً بذلك، وظن أن الكُرَةَ أصبحتْ بيده.. لكن المسكين لا يدري إلا وقد وقع في أخطاء الماضي،وفقد أشياء كثيرة ؛ فالذي أعطاه عشرين سنة إلى الوراء أخذ منه الكهولة وأعطاه الشباب، صحيح، لكن في نفس الوقت قد تبخّر ما اكتسبه من علم..أخذ منه كل المال الذي جمعه خلال السنين العشرين الماضية وأعطاه الفقر والعَوَز.. غير أن الطامة الكُبْرَى أنه لم يعطِه نفس العقل الذي كان يتمتع به قبل الخصم.. رأى نفسه (في المنام) أنه يعود إلى سيرته القديمة، إلى حياته المتعثرة برداءة الحظ وسوء الطالع.. كانت نفسه تراقبه من بعيد ؛ ماذا يفعل وإلى أين يتجه... انفصل عن نفسه تماما.. ليته وقف عند هذا الحد، لكنه اقترف بالعقل القديم أخطاء وحماقات، وارتكب أعمالا إجرامية وأفعالا طائشة لم يتخلص منها حتى استيقظ من نومه.

انسان الغاب

إنسان الغاب
د. عبدالجواد عباس
كان ذلك منذ زمن بعيد , عندما كانت الأرض ما تزال في طور مخاضها الأخير , وكانت الحرائق ورائحة الدخان والأبخرة تلـفّ بالكرة الأرضية ؛ الشهب تسقط والبراكين في قمة نشاطها. ثمــة غابة تشتعل بشدة قرب البحيرات المملوءة بالبجـع وطيور أخرى كثيرة. لم تكن البراكين والشهب هي المسؤولة عن الحريق ولا قنابل المولتوف ولا النابالم ولا حتى الشباب الباحث عن الراحة في تخوم الوديان , بل المسؤول كان الإنسان الذي تعلم إشعال النار , كان يطهو طعامه. ليس المهم فيما أكلت النار من هكتارات الأدغال , وإنما المهم أنه ملأ ذلك الجراب الأحمر الذي يستدعيه في وجباته ليقضي على الجواميس والخنازير البريّـــة , وليقضي على مساحات من الأشجار يحرق بها لقمته.
ذلك الإنسان القديم الجشع أسقط حجرا كبيرا من عل ٍ, فبدلَ أن يقع الحجر على ثور القطيع الضخم وقع على زميله الذي كان يصطحب زوجته واصطحبها هو بدلا منه في الحال فليس هناك وقت للأحزان. الإنسان القديم ظالم فتـّـاك , فعندما عرف أن عوده قد اشتدّ وقوته تضاعفت , خرج في جماعات تتسابق مع الذئاب أيُهما يصل إلى القرية المجاورة في كهف الوديان , لكن الذئاب خجولة عند حضور الإنسان الذي اقتحم على أخيه الدار , فلم تكن هناك أبواب حديدية ولا كلاب حراسة كما نعرف الآن , أخذ يقتل الرجال ويستحيي النساء , هكذا بدون إنذار ولا مجلس أمن ولا مفاوضات سلام. في ليلة من الليالي المظلمة , أو لعلها المقمرة , فالزمن قد طال عندما كان الإنسان الأول نائما في وسط قطيعه من الماعز والبقر الذي استأنسه بعد مشقة وعناء. تسلل بعضهم إلى التلال وفتح باب الحظيرة وساق كل ما فيها إلى زريبته وترك صاحبها يغط في نومه , لم يعجبه القتل هذه المرة , ربما يلقى حتفه , دار في خلده أسلوب جديد اسمه الهيمنة يحاصر بواسطته أموال البشر تحت سمعهم وبصرهم.
الإنسان القديم كان متأخرا ومتخلفا بطبعه , فلو ظهر الآن لأفسد العالم حتى بوسائله تلك البسيطة , وما القنابل الذريـّـة والنيتروجينية والبوارج الحربية والغواصات النووية إلا وقاءً اخترعه الإنسان الحديث ليدافع به عن نفسه ضد الإنسان القديم الذي ربما ظهرت بذرته من جديد أو هبط من أحد الكواكب المجهولة , وما كثرة أجهزة التجسس والتـنصّـت إلا تحسبا لظهور ياجوج وماجوج جديد وقانا الله وإيّـاكم.

أستاذية سائق الحافلة و أشياء أخرى

أستاذية سائق الحافلة و أشياء أخرى
د. عبدالجواد عباس
أطلقت صفة الأستاذية على سائقي الحافلات مجاناً .. بل جاءتهم تسعى على طبق من ذهب دون عناء .. أنا شاهدت ذلك عن كثب لأني أركب الحافلات كثيراً .. الغريب في الأمر أن نداء سائق الحافلة بالأستاذ لم يأت على ألسنة الركاب العاديين فقط و إنما أتى و كثر على ألسنة طلبة الجامعة الذين هم أكثر ركاب تلك الحافلات و الذين هم أعرف بالدرجات العلمية .. و بأن الوصول إلى درجة " أستاذ " يحتاج إلى سنين متواصلة من الجد و الكد و الدراسة و المحاضرات و البحوث و وضع الخطط .. مروراً بدبلوم الدراسات العليا ثم الشهادة العالمية " الماجستير " ثم الشهادة الدقيقة " الدكتوراه " .. و قد نتسامح في إطلاقها جزافاً على المعلمين و المدرسين و كبار الموظفين لأنهم يحملون طرفاً من صفة الأستاذية و لكنهم ليسوا أساتذة بالصفة الفعلية .. و قد يثير انتباهك بعض الأفارقة من ركاب الحافلة حفظوا كلمة " أستاذ " سمعت ذلك من بعضهم قائلاً : " هنا يا أستاذ " يدعو بها سائق الحافلة بالتوقف مع أنها في قاموسه تعني السائق .. حسبوها من لب اللغة كدلالة على ما أطلقت عليه ذلك لأن أهل البلد خلعوها على سائق الحافلة هدية مهداة . أغضبتني مراراً و تكراراً هذه السفاهة على اللغة .. فكلما طرقت أذني كلمة " أستاذ " و هي تطلق على سائق الحافلة شعرت بالسذاجة و الانحطاط .. و العجيب أن السائق يتقبل ذلك و لايعترض على هذا الوصف بل ينفذ أمر الوقوف بصمت .. كم سكت على مضض غير أني قلت لأحد الشباب عندما أستوقف السائق بكلمة " أستاذ " قلت له : هل تهزأ بالرجل و تصفه بما ليس فيه .. أمامك أستاذ أم سائق حافلة .. اعتقد أني قلت ذلك بابتسامة و بكل أدب غير أن الشاب استنكر قولي بل انفجر و كاد يشد خناقي قائلاً : هو أستاذي و أستاذ أستاذي .. و المشكلة التي اتضحت أن السائق كان حقاً من المعلمين و الطامة الكبرى أنه يقع تحت إشرافي في التفتيش التربوي و لكني نسيت وجهه لأنه ليس من الوجوه القديمة المألوفة .. هو لم يحتف بوجودي كثيراً لكنه قال : " عادي يا أستاذ ما اتعدلش " . من الخطر وضع الأسماء في غير محلها دون غرض بلاغي .. ربما هذا التصرف دون مبالاة سيصبح بعد حين هو السائد .. فمنذ سبعين عاماً و نيف حاول أسلافنا انتشال العربية من عصر الرداءة و الهوة التي وقعت فيها نتيجة استهانة المستعمرين بها .. فهل تسقط الآن بعد أن أصبحت في أيدينا إلى حد ما ؟ !

الهارب من الإعدام

الهارب من الإعدام
د. عبدالجواد عباس

          يتنهد الحاج (علي) ويطرق قليلا ليترسّم ما حدث ثم يقول : نعم لقد كان ذلك.. ولكن دوام الحال من المحال، أصبح يشيع في الأفق عدم الاستقرار، فقد أخذ الطليان أغنام أسرتين من أبناء عمومتنا القاطنين خارج الغابة لاشتباه تعاونهم مع المجاهدين، إضافة إلى أن حملات التفتيش على قدم وساق، والمداهمة مستمرّة ونافذة لأقلّ هفوة وأتفه سبب.
          لقد عزفت عن الزواج آنذاك وعزمت على ترك كل شيء وقررت الانضمام إلى صفوف المجاهدين، فقد أصبحت في سنٍ  تسمح لي بالجهاد.. كانت الفتوة وعنفوان الشباب يدفعانني إلى المغامرة.. لم أجد في الانضمام كثير عناء، فما أن توغّلت في الغابة قليلا حتى وجدت بعضهم.. لا أملك بندقية، كان على المنضم إحضار بندقية من عنده ـ لكن لم يعترضوا كثيرا، قالوا بأني سأحصل على بندقية في أول معركة قادمة، وجاءت المعركة ولم أكن خائفا من وقوعها بل متشوقا.. سرٌّ ما يشجعني بالقابلية  والتصميم.. كل شيء هان في عيني.. أهلي ودعتهم بسرعة.. لم أفكر في مال ولا في ثراء  سوى محاربة الطليان.
          لقد حصلت على بندقية في أول معركة كما قال المجاهدون، صرت أهتم بها كما يهتم الباقون ببنادقهم عقب كل معركة، أما التهديف فقد كنت أتقنه قبل قدومي، إذ كان أبي يملك بندقية إيطالية مماثلة.. خضت بتلك البندقية معركة بعد معركة  فلم يزدني القتال إلا إقبالا وإصرارا.
          ولما كان اندفاعي إلى القتال شديدا حرصت على المشاركة في كل عمل يقوم به رفاقي.. كان من بين أعمالهم أن تخرج جماعة منّا  إلى القرى المجاورة التي يتواجد فيها الأعداء وبعض المستسلمين من الأهالي للاستيلاء على ما نجده صالحا للغذاء تحت ستر الظلام واستعمال القوة إن لزمت.. نحن نعدّ ذلك عملا مشروعا وحلالا لأننا نستولي على مال العدو أو مال من اختار التسليم وأصبح تحت حماية العدو.
          كنت أشترك عدة مرات في ذلك العمل.. لم أعبأ بما يحوطه من خطورة بالغة.. لقد كان يحالفنا النجاح  في كل مرة.. وقد كنا في غنىً عن مثل هذه المغامرات قبل ترحيل الأهالي وحشرهم في المعتقلات الجماعية، إذ كانوا يجودون علينا من أغنامهم وأغذيتهم الخاصة، ومن لم يفعل نأخذ منه ما نريد ‘ شاء أم أبى..
          ويبتسم الحاج (علي) وكأنه قال ما يحرج، ثم يستأنف : نحن مضطرون  إلى ذلك، فنحن ندافع عن قضية أسمى، ولكن بعد ترحيل الأهالي أقفرت الأرض  وضاعت الأغنام من أيدي الناس  فلم نجد غير ثمار الغابة نقتات به، وهو لا يقيم أودا كثيرا.
*******
          في ليلة مقمرة تسللتُ مع ثلاثة آخرين للتفتيش عن الطعام ‘ قاصدين قرية تبعد ثمانية أميال عن مواقعنا وسط الغابة.. تسلقنا المنطقة الجبلية الوعرة أمامنا ثم صعدنا ربوة عالية فتمكنّا من رؤية القرية المقصودة على مرمى البصر، تومض نيرانها وتصيح مواشيها وتلك ضالتنا المنشودة.
          كان علينا أن نغير طريقنا ولا ندخل من الجهة التي أتينا منها، حيث يتوجب علينا السير ضد اتجاه الريح حتى لا تشم الكلاب رائحتنا فتنبه على وجودنا، ولذلك تجشمنا مسافة أطول لندور وندخل من الجانب الآخر.
          عندما اقتربنا توقفنا كي نسترق السمع ونمعن النظر فيما أمامنا لنؤمّن طريقنا ولنختار الحظيرة الأنسب لنأخذ ما نريد ونفلت سريعا.. في الواقع كان ضوء القمر يزعجنا قليلا ويعيق هجومنا،  الظلام يناسبنا في مثل هذه الظروف، فتحت سِتره يكون الانسحاب أضمن لنا.
          لما كنا أربعة  فقد ذهب كل اثنين إلى حظيرة.. وبحرص شديد اقتربنا من حظيرتين ولكن فوجئنا بأنهما محاطتان بسور من الأحجار، سمعنا الحيوانات بالداخل تجتر وتتحرك وتدور.. لقد تم لزميلينا ما يريدان، لقد أبصرتهما يفلتان باثنتين من النعاج ولم يعقهما السور.. ألقيت  نظرة  فرأيت داخل السور خيمة صغيرة مقفلة، بها مصباح ضئيل الضوء.. أرهفت السمع، ولا من حركة  غير حركة الحيوانات حول الخيمة.. دخل زميلي  من جانب آخر من السور وأخرج نعجة ومضى بها ثم دخلت أنا.. وقبل أن تصل قدماي إلى الأرض علقت بهما حزمة من الأسلاك الشائكة.. رفعت جسمي إلى أعلى لعلني أتخلص،  وما أن فعلت حتى حدثت ضجة أصوات لعلب فارغة كانت عالقة بالأسلاك.. جاءت الكلاب فأحاطت بي وكادت تمزق جسدي.. حاولت مد يدي إلى أسفل لأصل إلى بندقيتي  لكن الكلاب عضت يدي وحاولت النيل من وجهي، وأخذت الأسلاك الشائكة تنغرز في ساقي وتشدني إلى أسفل..وأنا في غمرة هذا الصراع إذا بي أتلقى ضربة على رأسي شلّت حركتي.. لقد هرع الناس إلى جهة الضجيج وأصوات الكلاب.. وجدتهم قد التفوا حولي وأوثقوا كتافي..
********
          عرفت يقينا بأنني رجل ميت، فأنا مخرّب في نظر السلطات، يحمل السلاح ويقوم بالسرقة.. لقد حققوا معي تحقيقا طويلا، استمر حتى الصباح، وبين الفينة والفينة أُجلد حتى تورّم جسمي.. لقد قلت معلومات ولكنها كاذبة، فلم أكن لأنجو من الموت سواء كنت صادقا أم كاذبا.
َََ          في الصباح وضعوني في سيارة اتجهت بي إلى مركز للمدفعية يشرف على الشاطئ.. كنت مقيد اليدين يحرسني ثلاثة عساكر، ومنذ اتجاههم إلى مركز المدفعية في رأس الجبل عرفت بأني سائر إلى الموت ؛ فالمكان هو مكان الإعدام المعتاد في تلك المنطقة.. كل العصاة والمذنبين والمخربين حسب زعمهم مصيرهم نفس المكان  لا محالة.
          أقررتُ بالشهادة في سري وسلمت أمري لله ورضيت بقضائه، فما حصل من  إرادته وتدبيره.. إنه كتب لي هذه النهاية منذ ولادتي، فلا مهرب ولا محيص من قضائه.. رميت نظرة أخيرة على الجبال والغابات من حولي وكأني أودعها الوداع الأخير، فسوف لن أراها ثانية إلا أن يشاء الله.
          وصلت إلى المكان فوجدت أمامي طابورا من المحكوم عليه.. إنهم بضعة عشر رجلا تبين هيئاتهم بأنهم مرّوا بحالات مزرية وتعذيب مميت، فملابسهم مهلهلة ممزقة، وأطرافهم ملطخة بالدماء.. لقد كانوا مربوطين بحبل واحد، فلما وصلت ساقونا جميعا إلى منصة الإعدام.. حيث الوقوف على حافة الجبل، ووراءهم جرف يؤدي إلى هاوية وادٍ سحيق  يستقرون في قاعه عند رميهم بالرصاص، وبعد ذلك تتولى الذئاب والنسور بقية المهمة.
          لقد حانت الساعة الحاسمة.. وقفنا صفا واحدا وقبالتنا فرقة الإعدام.. وقفت إلى جانب المحكومين.. قصر الحبل عني فلم أربط معهم.. تفرست في وجوههم فلم أعرف منهم أحدا.
          قبل إطلاق النار همس الرجل الذي بجانبي بأن أهوي إلى القاع.. قالها بكلمات سريعة لكني سمعت كلامه.. لقد قال : الهاوية أحسن لك من الرصاص.. يمكنك أن تسقط ربما نجوت..لم أفكر طويلا بل فعلت.. أطلقت جسمي إلى الوراء وسرعان ما شعرت بالهواء البارد يلطم جسدي ويلوي بأثوابي، وفي ذات الوقت سمعت الطلقات تنهال على المحكومين وربما كانوا قد صوبوا نحوي أيضا ولكن كنت قد تواريت.. أخذ جسمي يتدحرج منحدرا  بقوة، يكسر ما يداهمه من نباتات ويجرف معه الأحجار التي تطاير كثير منها فشجني في أماكن عديدة من رأسي وكدم ضلوعي.. ومرةً أخرى شعرت بأني في الهواء، ثم وقعت على غصن كبير فانكسر وسقط برمته وسقطت معه..
*******
          لا أدري ماذا حدث بجسمي من إصابات غير أني لم أفقد الوعي.. رأيت أني لم أصل إلى القاع بعد ، ما يزال بعيدا، فأنا دونه قليلا وهو تحتي بعدة أمتار، لا أستطيع الوصول فتحتي هاوية وليس هناك سبيل آخر أمامي غير القفز.. وقلت لأقفز وليحصل ما يحصل، الموت يطاردني فوق الوادي وتحته.. جمعت شتات قوتي وقفزت ميمما العليق المتشابك، فوقعت عليه، ثم سقطت جانب الجرف الذي أحدثه السيل.
          لم يغمَ عليّ على الرغم  من أن جسمي ينضح بالدماء  من أماكن كثيرة، لا أميزها بالضبط، لكنها بالتأكيد جروح وكدمات متعددة.. كلها احتملتها عدا ألم مبرح في جانبي الأيسر لم يمنعني من التحرك.. لقد استطعت النهوض ورأيت أجساد المعدومين تهوي لتستقر في قاع الوادي، كما رأيت هياكل عظمية وأشلاء متناثرة تحت جذوع الأشجار والنباتات وفوق الحصى.
          رأيت نفسي لا أخلو من بارقة أمل في النجاة بعد الخطوة الأولى في المجازفة.. الوادي حصين ليس له إلا مدخلان بعيدان جدا عن العساكر إذا ما فكروا في التفتيش عني.. لكن الأرجح أنهم لا يفعلون، فمن يسقط من ذلك العلو لا أمل  له في النجاة وهو في حكم الأموات.
          أخذت طريقي إلى جهة البحر لأنها آمنة قليلا للهرب، كما ستمر الطريق على بعض السكان الذين أعرفهم عساهم يخلصون يديّ المربوطتين أمامي.. أخذت أقفز  من جرف إلى جرف لأشقّ طريقي.. حمدت الله كثيرا أني لم أصب بكسر يعوقني، فهو اقل ما كنت أتوقع ولكن الله نجّاني.. لقد تسلقت إلى صخرة تشرف على المنحدر واختفيت في فجوة فيها انتظارا لحلول الظلام ليستقيم هربي تحت جنحه، وقد يممت الجهة التي سأمضي نحوها بالضبط.
          قضيت بقيت النهار في فجوة الصخرة.. لم أشاهد أحدا يمر أو أسمع صوتا، كل ما رأيت الذئاب والعقبان والثعابين.. كانت جروحي لا تزال تنزف ‘ انتظرت بداية العتمة ثم انحدرت ولازمت الشاطئ من بعيد محاولا الابتعاد عن المتسعات.. شعرت بوهن مفاجئ عندما أخذت الكدمات والجروح تؤلمني جميعا أشد الإيلام.. جسمي أصابه ورم الانتفاخ  في كل مكان تقريبا.
          ابتعدت عن أماكن الخطر وتوغلت بعيدا في وادٍ آخر ومضيت إلى الجنوب قاصدا مكانا معلوما، هو المكان الأمثل الذي سأجد فيه من يفك قيدي.. ووصلته بعد جهد من الألم والنزيف.. الرجل الذي أقصده ما يزال يتمتع بحريته، وليضمن تلك الحرية أختار مكانا وعرا لقد وصلت أليه ‘ ولكن لم أقصد بيته مباشرة بل تسلقت شجرة بصعوبة ثم ناديته معرفا بنفسي.. لقد فعلت ذلك خوفا من كلابه الشرسة.. وخرج الرجل، ومع خروجه سمعت الزناد يُسحب، فهو رجل حريص لا يغرر به بسهولة.. ونزلت من فوق الشجرة بصعوبة كما تسلقتها من قبل بصعوبة.. وبعد أن أبعد كلابه عني تقدمته إلى البيت وجلست  وأشعل الفانوس وقال لي : لا تخف لقد وصلت إلى الأمان.. ثم أحضر المبرد وأخذ يحز القيد في حين أخذ ابن له صغير يضع في فمي بعض الأكل واللبن.
          واستمر الرجل يحز القيد الحديدي بجدية وانهماك،  لم يكلمني أو يرد على كلماتي إلاّ مرات متقطعة قصيرة ومتباعدة حين كنت أعرض عليه بعض أطراف قصتي، وربما تعمد ذلك لأنني كنت في غاية التعب.. لقد استمر حز القيد حتى الصباح، استطعت تحريك يدي بحرية، ثم التفتَ الرجل إلى جروحي العميقة وأغرقها بالعسل، وهو الدواء الوحيد لدينا لمنع تعفن الجروح.
          لقد بقيت عند صاحبي عدة أيام حتى التأمت جراحي واستعدت نشاطي، بعدها توجهت عبر الجبل أفتش عن جماعتي المجاهدين الذين أصبحت في نظرهم ونظر من يعرفني في عداد الشهداء .


النوارس

النوارس
د. عبدالجواد عباس 
·  إذا استثنينا الصقور فإن   طائر النورس يحتل مرتبةً عاليةً في الحرية والانطلاق من بين بقية الطيور جميعا .. يجوب المعمورة شرقا وغربا دونما حسيب أو رقيب .. ذلك الطائر الذي يلازم شواطئ البحار .. يصطاد بعين فاحصة .. لا يلبث حتى يهوي في الماء كسهمٍ أبيض.. وما هي إلا ثوانٍ حتى يخرج بطريدة جلبها من الأعماق.
 
·  كنت وأنا صغير مشغوفا بمطاردة الطيور .. حاولت الحصول عليها في الحقول وشقوق الجدران، وتسلقتُ الأشجار للبحث عن أعشاشها ، وطاردتُها ساعات طويلة في الغابات والزروع المحصودة  ، ونصبت لها الفِخاخ على الأجران وآثار التبن  .. كما رنوت إلى ضوضاء الطيور الهاجعة للمبيت في الأشجار .. أقذفها بملء يدي أحجارا صغيرة لعل أحدَها يصيب .. وندمت على هذا التصرف  عندما كَبِِِرت ، وقلما جربت ذلك مع الطيور الكبيرة إلا في أحوال نادرة ..
 
·  عندما عرفتُ النوارس كنت يافعا ، وكان وجداني يشق طريقه في جمع ما يجد من آيات الجمال في الطبيعة ..  لم أقدم على صيد النوارس ، ولكني استمتعت بمرآها وطيرانها وأصواتها المميزة .. النوارس أي جمالٍ هي النوارس وأي قوة وأي موقفٍ استعراضي ..النورس سيد البر والبحر ..صحيح أن الببغاء يحتل المرتبة الثانية بعد الطواويس في زهاء اللون غير أنه متهم بالكذب والثرثرة ويقال إنه (بصّاص) .. وطالما أنه ينقل الأخبار كيفما اتفق فلا ينجو من الغيبة والنميمة تجاه الطيور الأخرى.
 
·  هناك طائر بنيّ ، أحمر المنقار والرجلين اسمه (الحجل) ، قويّ ، جميلٌ ، وعنيف الطيران غير أنه جبان يخاف من ظله .. لم أره يوما يعتلي شجرة .. يمشي فقط بجنب الغابة حذرا مترقبا .. لا يغادرها إلى السهول الرحبة إلا مضطرا أو مطاردا .. النوارس وحدها تشق طريقها إلى الجزر النائية في أطراف الأرض .. تبني أعشاشها في القمم الشاهقة.
 
·  ثمة طائر قوي ، أغلب الظن أنه أحمق .. على الرغم من قوته ومسالمته للآخرين وخبرته بالأماكن البعيدة  وقطعه مئات الكيلومترات من أجل وجبة واحدة إلا إنه أسود بخيل مكّار وقمّام .. يعاديه الناس في  الخفاء  ويتشاءمون لرؤيته .. يكفي إنه غراب البين .
 
·  أما النوارس ذات الصوت الموحي دائما بعظمة البحر وبعد آفاقه فتزيد الطبيعة روعةً وتضيف إلى جمالها ما تتزين به  من نغمة  ولون .. النوارس لا أعداء لها .. رافعة الرأس سامقة القامة .. لا تقلق أحداُ .. ولا يتشاءم منها الناس .. أينما أرادت ذهبت .. يكفي النوارس قوةً وعزةً أنها تجوب العالم من دون جوازات سفر أو تأشيرات دخول .. وهل ثمــة شيءٌ أثمن من الحرية ؟
 
·  طائر آخر ظننته شجاعا في بداية الأمر ، أقصد في حداثة سني .. عندما كان يشن هجماته على صيصان الدجاج .. وقد   تراه يلاعب جناحيه في الهواء مستقرا فوق نقطة معينة   في الجو دون حِراك.. بما يقطع الشك في أنه صياد محنّـك.. تحسبه سينقضٌّ على طائر أو أرنب  فإذا به يناور على الخنافس .. ولا يتورع في السطو على أعشاش الطيور وفراخ العصافير.
 
·  الغريب في الأمر أن طائر النورس إذا ابتعد عن مواطنه المفضلة كشواطئ البحار وأعالي الجروف الشاهقة  المطلة عليها ـ إذا ابتعد عن هذه الأماكن فإنه يختار السّكْـنى في أبراج السجون .. يطل على السجناء من خلال الشبابيك العالية المضلعة بالحديد .. وكأنه يقول هـاأنــذا أمثّـل الحرية المفقودة أيها السجناء .. أنتم فقدتموها مختارين .. أنتم تهوون التطور حتى نحو الشر أيّها البشر.. أما أنا فمازلت أمثّل البساطة الدعة والأمن على وجه الأرض.. ومع ذلك فنحن أممٌ أمثالكم.            

المستويات اللغوية والفنية في القصة الليبية القصيرة

المستويات اللغوية والفنية في القصة الليبية القصيرة
د. عبدالجواد عباس
القصة القصيرة جُملة من البناءات اللغوية , إذا تتكون من مجموعة أمشاج من التعبيرات التي يتطلبها الموقف القصصي , فهي تعرض نفسها بلغة السرد ولغة الحوار والتصريح والوضوح تارة , والتلميح والرمز تارة أخرى حسبما يتأثر به القاص من أحوال بيئية وثقافية واجتماعية , وقد مرت بنا عدة أساليب للقصة الليبية على يد كتاب مختلفي الثقافة والبيئة والمزاج ويمكن لنا هنا أن نقف عند بعـض الروافد اللغوية والفنية للقصة الليبية القصيرة , نستخلصها من نماذج نصية قصصية عند أشهَر القصاصين الذين منذ الربع الثاني من القرن العشرين الماضي وطليعة سنوات القرن الواحد والعشرين الحالي، وستكون الدراسة على أربعة مراحل : ظهروا
أ ـ المستوى اللغوي والفني للقصة الليبية القصيرة عبر تطوراتها في خمس مراحل.
ب ـ ارتفاع وهبوط المستوى الفني في القصة الليبية القصيرة.
ج ـ العامية والفصحى في لغة الحوار.
د ـ أيديولوجية التعبير في المقدمات والأمزجة واستخدام اللغة.
أولا ـ المستوى اللغوي والفني في المرحلة الأولى:
إذا رجعنا إلى أوائل القصص الليبية في الثلاثينيات فلا نجد سوى وهبي البوري منذ سنة 1935, وكان يكتب القصة في مجلة ليبيا المصورة , كما مرّ بنا في غير هذا الموضع..وقد أنشأها باللغة العربية الفصحى , وبعبارات صحيحة وحبكة مقبولة تقودك إلى نهاية تُرضي كل متلقٍ , ذلك واضح بجلاء في قصصه الثمان , والقصص على مستويات أسلوبية مختلفة غير أنها ترتفع إلى حدٍ مــا عن العيوب التي تعتري القصة سوى بعض العيوب اليسيرة كالتفاصيل الزائدة التي يحتويها ثنايا الحدث في بعض القصص , كهذا المقطع من قصة (الحبيبة المجهولة) : " وُجدت بالإسكندرية أثناء شهر رمضان , وكل من صام بمصر يعلم كل العلم كيف يمتاز هذا الشهر المعظم عن غيره , وكيف تعد له العدة ويقدره المصريون , فمن مزايا شهر رمضان أن تكثر الفرق التمثيلية في الإسكندرية ويكثر إقبال الجمهور عليها إقبالا لا يُرى له مثيل إلا في هذا الشهر. صادف أن جاء الكسار إلى الإسكندرية ليحيي حفلات بمناسبة رمضان ؛ فكنت أنا أحد زبائنه المداومين "(1).. فقد كان لا داع لهذه النثرية التقريرية التي وضعها بين وجوده بالإسكندرية وبين مصادفته لمجيء الكسار.. والبوري قد فعل ذلك في نفس القصة وفي قصص أخرى , إلا إن هذه القصة تعتبر من أحسن قصصه لأنها أعطت الانطباع عن موضوعها , وذلك لقوة العقدة التي كانت كفيلة بأن يتعلق بها كل قارئ حتى ينهي القصة. ولم يستخدم وهبي البوري في قصصه ألفاظا عامية , لا في السرد ولا حتى في الحوار.
ويتضح في أسلوبه عدم اختياره الجيد لألفاظه وعباراته فهو يكتب القصة بما يتداعى إلى ذهنه من الجُمل دون مراعاة إلى صوغ العبارة صياغة متقنة من حيث جمال الصور الفنيّة والخيال , فالعبارة التقريرية الخبرية تكاد أن تكون هي الغالبة في معظم القصص , كما يتضح من هذه العبارة مثلا في قصة (تبكيت الضمير): "وحدث أن كنت ذات يوم جالسا في أحد المقاهي , فرآني جورجي فأسرع إلى الجلوس بجانبي , وصار يقصّ عليّ أنه البارحة قاده البوليس إلى المركز وأراد حجزه , ولـكنه مـازال بهم يبكي ويتضرع إلــى أن أطلق سراحه(2)
وبطبيعة الحال هناك فرق بين هذه المباشرة والتقريرية في عبارة وهبي البوري وبين والتعبير الفني في هذه العبارة لخليفة حسين مصطفى ـ على سبيل المثال ـ الذي يصور حال امرأة وحيدة مات عنها زوجها وجميع أهلها وتركوها نهبا للحزن والضياع , وكانت تنتظر أن يتزوجها أحد ليخلصها من حياة الفقر والوحدة , فيقول : " غربت وجوه كثيرة قبل موعدها في موكب الغبار والبؤس , رحلت بلا كلمة وداعٍ واحدة , انتظرت دورها بين الرجاء واليأس ولكن الرياح وحدها ظلت تجلد بابها آخر الليل , تستيقظ في فزع , تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم , وتردد بعض جمل من آية الكرسي , ثم تعود وتلقي برأسها المزدحم بالكوابيس إلي وسادة محشوة بالقش , وتـنام مفتوحة العيـنين حتى الصباح "(3) فالصورة التي طبعها خليفة حسين مصطفي صورة فنيّة بيانية تَلقى القبول ؛ لأن فيها تشخيص للحدث , وعامرة بموسيقى النثر الداخلية البعيدة عن الصنعة بهذه التراجيديا المؤثرة في النفس.
ثانيا :المستوى اللغوي والفني في المرحلة الثانية :
هي مرحلة الخمسينيات, أي ما بعد الحرب العالمية الثانية وهي فترة بدأت فيها البلاد تنتعش وتصدر فيها قليل من الصحف يتردد عليها بعض الكتاب الذين يكتبون القصة ويكتبون المقالة الصحافية , من بين هؤلاء كان خليفة محمد التليسي , وعلي مصطفى المصراتي , وعبد القادر أبو هروس , وكامل حسن المقهور , وبشير الهاشمي وأحمد محمد العنيزي وغيرهم.. وعلى الرغم من قلة الإمكانيات إلا إنهم كونوا جوّا ثقافيا لا بأس به.
وخليفة محمد التليسي من أوائل هؤلاء الكتاب القصاصين , وهو لم يكتب من القصص سوى مجموعة واحدة هي ( زخارف قديمة) ثم انصرف بعد ذلك إلى أعمال ونشاطات أكاديمية أخرى , انشغل فيها بالتاريخ والترجمة والبحث الموسوعي.. والمجموعة القصصية في حد ذاتها جيدة اللغة , من ناحية ألفاظها وعباراتها , لم يتعمد فيها القاص كلمات عامية , وكانت مهارته في القصة الواقعية أحسن من مهارته في القصة الرومانسية , فالكلمات متعانقة تؤدي بك إلى المعنى القريب وكأنما يعزف على أوتار , خاصة في مستهل القصص كما هو في مفتتح قصة (الدرس) : " كانت جميلة.. وكانت في نفسي لهفة حارقة إلى المرأة وفي روحي نزوع قوي إلى أن أنعم بسحرها واستمتع بكنوزها , وفي قلبي ظمأ قاتل إلى الحب.. فما كاد يقع عليها بصري حتى أحسست أن نظرتها تفتح لي دنيا جديدة في كل شيء , وما اشد حاجتي إلى هذه الدنيا الجديدة "(4)
فالعبارة محبوكة بصورة متقنة ؛ فجمال المرأة كان له وقعُ حسن حين قابله في العبارة بـ(اللهفة الحارقة) , وعبارة (في نفسي لهفة) منسجمة تماما مع عبارة (في روحي نزوع) , إضافةً إلى هاتين العبارتين التي تؤكد كل واحدة منهما الأخرى (انعم بسحرها واستمتع بكنوزها) , وقــوّى عبارة (دنيا جديدة) بـعبارة (ما أشد حاجتي إلى هذه الدنيا الجديدة).
وفي قصصه جميعا ينتقل من حدث إلى حدث بصورة منطقية , ومع ذلك يعتري أسلوبه عيبٌ من عيوب القصة هو(الخطابية) في بعض الأماكن ؛ فنراه في قصة (فراشية) وهو الجرد النسائي الذي ينجذب الرجال إلى مرتديته أكثر من انجذابهم إلى نساء الأجانب , يقول :.." كان هذا الرداء يبعث في نفسه شعورا بالاعتزاز والكرامة , ويذكّره بما يقع منه في أحيان كثيرة , من تطلع إلى الأجنبيات , ذلك التطلع الذي كان ينتهي دائما بالحسرة والألم. حين يذكر الهوة العميقة التي تفصله عنهن.. أما هذه الفراشية فهي أمل لا يعسر عليه إدراكه متى أراد الزواج ! إنهن شيء من دمه ولحمه وشخصيته, شيء لا يمكن أن يترفع عليه أو يحتقره..(5)
ومن قصاصي الخمسينيات أحمد محمد العنيزي وقد غطّى تلك الفترة المقفرة بالقصص , بقصص الناس الذين كان يعرفهم , وبقصص المواقف التي مرت به فأعطي صورة للماضي كان لها أن تموت في طي النسيان لو لم يكتبها , كتب قصصه بعفوية تغلب عليها المباشرة والوصف الخارجي المحايد بعيدا عن التأويلات الفنية والإسقاطين والفلسفية , أي أنه يكتب بعين العدسة , مع استعماله الألفاظ المألوفة الشائعة الاستعمال بين الناس..ولكننا نجد في نهاية الأمر أن تلك القصص مفهومة وقادرة على إعطاء الانطباع..
وهناك ما نعده عيبا في قصص العنيزي , مع مشاركة الكثيرون له في ذلك , وهو استخدام العامية بغزارة في حواراته القصصية , كهذا المقطع من قصة (حديث المدينة):
"ـ أولدك قال لي يريد يزوج ويبيك اتعوّل على فرحه.
ـ هذا اللي انريده حتى نا , بنات لحباب واجدات يا مسعود غير يطلب اللي يبيها.
ـ هو قال لي يريد ياخد حميدة بنت جيرانا..هذي اللي يبيها يا بوي.
ـ هذا كلام عمره ما يسير.. انسيب بنات هلنا لجل خاطره.. ايش عنده ما يقول في نواره بنت عمه ميش هي خيرة خواته.."(6)
وهناك عيب آخر يعتري قصص العنيزي هو تعدد الموضوعات في القصة الواحدة , ففي معظم القصص يحشو القاص أخباراً لا تمت إلى العنوان الذي بنى عليه قصته مما يوهم أن هناك عدة قصص في قصة واحدة , ففي قصة (قصور وأكواخ) مثلا , لم نجده يركز على شخصية (عبد الله) التي كُـتبت القصة من أجله , بل يدخل في أحداث أخرى لا تمتّ إلى الموضوع ؛ فنراه في بداية القصة قد أسهب في الحديث عن مشاهدته لـ(فلم البؤساء) , ثم قفز من هذا الحدث إلى حدثٍ جديد هو حديثه الطويل مع حارس الطريق الكهل (محمد) , ولم يكتف بذلك بل دخل في موضوع آخر هو سؤاله عن مستقبل ابن ذلك الحارس , وأخيرا يدخل في صلب موضوع القصة (قصور وأكواخ) التي يُرى فيها شخصية (عبد الله) فقيرا معدماً , يسكن الأكواخ التي يأتي عليها سيل الأمطار الغزيرة فيموت غرقا.
ولم يكن عيب تعدد الموضوعات في القصة الواحدة مقصورا على أحمد العنيزي ؛ بل يشاركه فيها بعض القصاصين القدامى أمثال عبد القادر أبو هروس , ففي قصة (سرّ الأناقة) , فيها الشاب (سالم) يتأنق من أجل أن تحبه الفتاة (سلوى) , كان هذا هو الأصل , وكان للقصة أن تسير في هذا المسار ويتوهج الحدث بـ(سر الأناقة) من البداية إلى النهاية , أي كان يجب أن تُحْبَـكَ الأحداث وتنصبّ على أناقة الشاب (سالم) , ولكن القاص يترك ذلك ويتقمص أسلوبا روائيا, فيتمهّل ويشغل نفسه بسرد أمور أخرى في حياة الشاب , ويستطرد مارا بحياة الطفولة التي تشاركه فيها الطفلة (سلوى) , ويسهب في ذلك عدة صفحات.. ثم ينتقل القاص نقلة أخرى ويبدأ في سرد حياة جديدة عندما يصل سالم وسلوى إلى مرحلة النضج والحب حتى يصل به المطاف إلى (سر الأناقة) , وهي المرحلة التي كان على القاص أن يركز عليها دون المرحلتين السابقتين , إذ تبدو كل مرحلة كما لو أنها قصة مستقلة , ولو كان الموضوع روايةً لصحّ ما سطره لأن الرواية مسموح فيها بالاستطراد وتعدد الأنفاس والتريث والإطالة وحشو القصص الجانبية ثم العودة بعد ذلك إلى الالتحام بالموضوع
ثالثا :لغة القصة الليبية القصيرة في المرحلة الثالثة :
هذه المرحلة يمكن أن نحصر بدايتها من سنة 1961 حتى سنة 1975، ويتميز فيها على مصطفى المصراتي باستطراداته الطويلة، وبأسلوبه الساخر في كل مجموعاته القصصية، كهذه الفقرة من قصة (أبي لهب) ذلك الرجل المختلس الطماع يقول :" له لسان رطب يغزل الحرير , ولكنه يصنع للناس بيديه طريق الشوك, ويقدم لهم طعوم الحنظل.. وله ناب أزرق ويد طويلة تمتد إلى القرش في أي مكان , ولو في قعر بئر خربة , أو في جحر ضب خرب , تمتد يده الي كل مكان مقدس ,لا يهمه إلا المال, تمتد يده الي القرش ولو تـحت جوف الكعبة. (7).. إلا أن القصة ـ بعد ذلك ـ أخذت تجنح إلى مسارها الصحيح نحو الفنية.. فقد تخلص أسلوبها من الاستطراد والتفاصيل الزائدة، كما تخلصت جزئيا من الألفاظ العامية، وصارت العبارة أكثر تكثيفا..ويمكن أن يمثّل هذه المرحلة اثنين من القصاصين تميزا بهذه الروافد الفنية التي أعطت مدّاً واسعا في تطور القصة الليبية، وهما يوسف الشريف وأحمد إبراهيم الفقيه.
معظم النقاد قد تناولوا إبداع هذين القاصين، وبالتأكيد قد وجدوا في قصصهم بعض العيوب الفنية الصغيرة، وقد تبين ذلك بالفصل الأخير من هذا البحث، تحت عنوان (نقد القصة الليبية القصيرة)، ولكن ذلك لا يلغي أن القاصَين قد أضافا على القصة الليبية تطورا.. فيوسف الشريف في مجموعته القصصية الأولى بعنوان (الجــــدار)، وأحمد إبراهيم الفقيه في مجموعته القصصية (البحر لا ماء فيه ).. هاتين المجموعتين على الرغم من كونهما الأوليين لكل منهما إلا أنهما تبدوان بوضوح أكثر فنيّة من سابقيهما في الخمسينيات، فقد كانتا أكثر قربا من التكثيف (8)، بدون استطراد أو استعمال ألفاظ عامية إلا فيما ندر، كما أن الحدث عندهما أكثر توهجا وتناميا، فقصة (الطريق) مثلا وهي من أحسن قصص يوسف الشريف في مجموعة (الجدار) لا يكاد القارئ يبدأ في قراءتها حتى يتعلق بالحدث ويتعاطف مع الشخصية منتظرا باهتمام وشغف أين يؤدي بها المطاف، ؛ فالحمّال الذي يجر عربة يدوية مملوءة بصناديق التفاح يغيظه جدا وقوف الناس في طريقه، فيصرخ فيهم قائلا "الطريق يا اللي ما تعرفوش الطريق"(9).. ويعرقل طريقه الأطفال بمناوشاتهم فيردد نفس العبارة " الطريق ياللي ما تعرفوش الطريق".. والحمل ثقيل، والعربة تهتز ويسحق للخوف على حمولتها أن تقع فيتكبّد الخسارة.. ويشعر بأنها ثقيلة ويقف ليجد أربعة أطفال متعلقين بمؤخرتها.. وتتعثر بحجر فتكاد تقع..ويتذكر أنه استأجر العربية بعد أن أودع رهينة لصاحبها، ويخاف على عربته في هذا الخضم الزاخر من الناس ومن الأطفال الأشقياء المتحفزين لنهب التفاح فيردد"الطريق يا اللي ما تعرفوش الطريق"..
هذه العبارة التحذيرية رغم تكرارها إلا أنها غير باعثة على الملل، لأنه تكرار فني، له معني بلاغي إلى جانب التكثيف فهو يحتوي على معنى تأكيد وسخرية ما يحدث، وفيها إصرار على اعتقاده الشخصي بمكر الناس وسوء معاملتهم، فكأنما في كل مرة يردد فيها العبارة يبعث إحدى هذه المعاني: إنكم لا تعرفون حق الطريق ـ إنكم لا تقدرون موقفي الصعب ـ انتم مثلي في رداءة الحال فلماذا لا ترحمونني ؟.. هذه كلها معانٍ مختلفة لعبارة واحدة، تؤدي معنى التكثيف.
رابعا :القصة الليبية القصيرة في المرحلة الرابعة :
يمكن أن نحصر المرحلة الرابعة ما بين سنتي 1975 إلى سنة 1985 حين بدأ التجريب يأخذ مكانه ويتسرّب ببطء في كتابات القصاصين، وقد سبق وأن نشر عبد الله الخوجة مجموعته القصصية (فتاة على رصيف مبلل) سنة 1965، ونشر مهدي العدل مجموعته القصصية ( الموت والميلاد) 1973، كما نشر يوسف الشريف مجموعته القصصية (الأقدام العارية) سنة 1975، وقد حللنا كثيرا من نصوص هذه المجموعات في الفصل الثاني من هذا البحث.. أما معظم القصص فقد كانت قصص تقليدية، وأكثرها قليلة العيوب، كما ظهر في هذه المرحلة قصاصون يحسنون انتقاء الكلمة الباعثة على الإيحاء ويصيغون العبارة المعبرة الجميلة.. كما تسرّب المد التجريبي إلى جانب التقليدي في قصص كل من خليفة حسين مصطفى في مجموعتيه (توقيعات على اللحم 1975 ـ صخب الموتي1975)، و أحمد إبراهيم الفقيه في مجموعته (اختفت النجوم فإين أنت 1976)..وقد تفرّغت كتابات كثير من القصاصين إلى التيار الواقعي التقليدي ؛ كعبد الله القويري، وعلى مصطفى المصراتي، وبشير الهاشمي وخليفة التكبالي وكامل حسن المقهور، وداود حلاق، ومحمد على الشويهدي، ومرضية النعاس ولطفية القبائلي، على تفاوت بينهم في الأسلوب والاتجاه، ويمكن أن نوضح جانبا من التميّز الذي يشتهر به بعضهم كما يأتي :
يتميز في هذه المرحلة كل من محمد علي الشويهدي وخليفة حسين مصطفى وإبراهيم الكوني بالخيال الممتع، وبالعبارة الرومانسي الجميلة الموحية كهذا المقطع من قصة (ذرات الرمل التي تقرع الطبول) مسكينةُ هذه الصحراء تتعذّب في النهار، تسحق الشمس عظام جسدها فتشكو أحزانها الأبدية.. تعزف بذرات رمالها الصغيرة ألحانا مجنونة , تعزف.. وتعزف , تقرع الطبول حتى يدركها الصباح لترتمي بجسدها في أحضان جلادها , تستسلم للشمس من جديد.. وهكذا تستمر رحلة العذاب الأبدي " (10).
ليس حديثا عاديا يحكمه الواقع ؛ بل يحكمه الخيال، فلقد تعمّق الكاتب في تجسيم الصحراء فشخّصها وكشف عن دخائلِها وجعلها تحسًّ كما نحسّ.. قام بذلك منذ البداية ؛ ففي عنوان القصة نفسه شخّص الرمل وجعله يضرب الطبول ولا شكّ أنه بهذا التعبير قد نجح في استدرار عواطفنا نحو الصحراء، فجذبنا إليها وتعاطفنا معها، فأشفقنا عليها من هذا العذاب الدائم، والذي جعلنا نفعل ذلك هو تأثير طاقة اللغة التعبيرية فينا، فالقاص جذب انتباهنا بأن الصحراء مسكينة، ثم فسّر لنا لماذا هي مسكينة، فأورد الكلمات التي جعلتنا نتعاطف مع الصحراء ونشفق عليها وهي : تتعذب في النهار ـ تسحق الشمس عظام جسدها ـ في أحضان جلادها ـ تستسلم ـ العذاب الأبدي.. فكل عبارة وكل كلمة من هذه الكلمات قامت بدورها، ولفتت انتباهنا فاستدعت غريزة الشفقة وأثارتها بشدة.
هذا الأسلوب البعيد عن المباشرة الممقوتة في القصة يستعمله أيضا محمد علي الشويهدي كما نلاحظ في قصة ( مريومة تغمز الحصان ) , والحصان في القصة دلالة علي الرجل أو الفحل.. فمريومة التي مات عنها زوجها تناولتها العيون الشرهة الطامعة. كانت تعارك الحياة لتصرف علي صغارها فأعياها ذلك،البقال يطالبها بالتسديد " ودقَ باب البيت بعنف , ونفث صاحب دكان البقالة المجاورة دخان لفافته في وجه مريومة , وتقيأ ابتسامة , وصهل الحصان :
ـ عامان يا مريومة دمرني خلالها الانتظار , ادفعي ديونك وإلا فإني سأرفع الأمر إلى القضاء.. ألا تفهمينني ؟ ادفعي...
ـ ولكني لا أملك نقودا..
ـ لتكن مقايضة , بضاعة ببضاعة.
وفهمت مريومة , ومات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة , وحدقت مريومة فـــــي الفراغ بعينين مكحولتين وغمـزت الحصان , أجل غمرت الحصان "(11).
ويتضح هنا ثلاث مزايا من مزايا القصة الفنية ؛ وهو السرد غير المباشر المتمثل في الإيحاء بدل التصريح ؛ فنفثُ البقال لدخان لفافته يحمل بين طياته أللامبالاته واستسهاله جانب المرأة، وعدم الاعتداد بها وإسقاطه هيبتها، وربما لترويضها على الخضوع برفع الحياء والطمع فيها، وهذه تفسيرات متعددة، جلبت التكثيف إلى جانب الإيحاء.. وعندما نركز على طاقة اللغة التعبيرية فإننا نجد الإيحاء والتكثيف يحتويهما عبارات أخرى مثل :(وتقيأ ابتسامة) المحتوية على الاستهزاء والسخرية، وعبارة (صهل الحصان) الدالة تحرّك الشهوة الجنسية.. وعبارة (لتكن مقايضة بضاعة ببضاعة) الدالة على المراودة.. وعبارة (وفهمت مريومة) فيها إيجاز بلاغي يدل على قبول المقايضة دون توجيه تساؤلات أخرى.. وعبارة (مات أبو الأولاد في العام الثاني ميتته الأخيرة) أي كأنما مات مرة أخرى لانثلام شرفه بعده ثم تبقى المزية الثالثة وهو مزية الحوار المرغوب في القصة الفنية إذ ترك للشخصية التعبير عن نفسها بدل السرد المباشر.
القصة الليبية القصيرة في المرحلة الخامسة :
إن كان عقد الثمانينيات قد ازداد فيه تيار التجريب بشكل مكثّف، كما رأينا سابقا في الفصل الثاني المخصص للتجريب في القصة الليبية فإن عقد التسعينيات من القرن العشرين الماضي وبداية الألفية الثالثة يتميز بتعادل في تأليف القصة بين التقليد والتجريب.. فقد مزج بعض القصاصين التقليد بالتجريب، كما عاد بعضهم بالقصة إلى التقليد.. فأولئك الذين مزجوا التقليد بالتجريب، اتجهوا إلى مزج الواقع بالمتخيل كما مرّ بنا في الفصل الثاني في مختلف موضوعاته، كبشير زعبية في مجموعته القصصية (كان هذا هو الموجز) 1986، وسالم العبار في مجموعته (خديجار) 1998، وسالم الهنداوي في مجموعته (ظلال نائية)1999،، وإبراهيم بيوض في (خفايا التأويل)1999، وخليفة حواس في (الظل الثالث) 2000، وسالم أحمد الأوجلي في (شهوة السكين) 2000، ومحمد الأصفر في (حجر رشيد ) 2003، ومحمد المغبوب في (كلام الصمت) 2003، وجمعة الفاخري في (امرأة مترامية الأطراف) 2004، ونجوى بن شتوان في (قصص ليست للرجال)2004، ومحمد الزنتاني في (الصهيل) 2005 وغيرهم...
ونفهم من ذلك أن أسلوب الحداثة التجريبي لم يعد يعتمد على الخيال التفسيري البسيط الذي يستعين بالتشبيه والاستعارة والمجاز بصورة مفردة ؛ وإنما أصبح مركبا من ألفاظ وعبارات دلالية , حيث تصبح الحكاية المشهورة والأسطورة والمثل والشخصية التراثية والمعلومة الساطعة دلالات تعطينا صورا مكثفة..وقد ضربنا في ذلك أمثلة توضح هذه الغاية، كقصة (نكسة)، وقــصة( تخلف) للصّدّيق بودوارة التي ترينا الجانب التقليدي في انتظار الفرحة بالمولود الذكر، وترينا الجانب المُتخيل التجريبي الذي يتمثل في تضخيم وتبجيل الفرحة والأهمية لإنجاب الولد، وليرينا القاص بأن ذلك تفكير يسود أذهان عامة الناس فأعطانا استعارة كبيرة من الشخصيات التراثية التي تنتظر إنجاب الولد فقال :
" أجيال متعاقبة تنتظر الجواب.. عرب أقحاح.. عرب عاربة وأخرى مستعربة.. المناذرة يتقدمهم النعمان يتبعه خدمٌ مطيعون يحملون يوم بؤسه وسعده.. الغساسنة.. الخوارج.. شيعة علي وشيعة معاوية.. الأمويون أقبلوا وكذلك العباسيون.. بنو حمدان يرفلون في حلل فاخرة من قصائد المتنبي.. حتى أمراء الطوائف.. كلهم ترجلوا مسرعين.. ربطوا أعنة خيولهم في أشجار حديقة المستشفى المركزي وأطلقوا العنان لإبلهم ترعي في أعشابها اليافعة وصعدوا إلى الطابق الرابع حيث قسم الولادة..."(12).
واستعمل نفس القاص هذه الصورة المكثفة في أكثر من قصة، كقصة (نكسة) التي تفشل فيها الشخصية عن مخاطبة الأنثى بعبارات الحب التي تمنى أن تتوفر لديه في تلك اللحظة.. وعندما غادرت الأنثى وخسر الفرصة عادت إليه بديهيته في مخاطبة الإناث، ودلل على ذلك بعودة الشخصيات التراثية المعروفة في هذا الميدان فقال :
" هممت بالخروج إلى طلق الهواء.. عندما فـُـتح الباب ظهرت وجوههم وابتسامة اعتذار ترتسم بخجل على القسمات المتعـبَــة..إبليس اللعين.. وعمر بن أبي ربيعة.. وكثـيّـر عزة مع نخبة من أكثر الفاسقين شهرة وأقلهم أدبا ً "(13)
هذا الاستعمال للصور المكثفة أو الاستعارة الموسّعة كانت من أهم تطورات القصة في بداية الألفية الثالثة، عدا ذلك فلا يوجد إلا قصص تجريبية تلتحف بالغموض، أو قصص تقليدية تعبر عن محاكاة الواقع كما مرّ بنا في الفصل الأول والثاني من هذا البحث.


1-بدايات القصة الليبية القصيرة ـ ص 107.
2- نفسه ـ ص82
3- حكايات شارع الغربي ـ ص63.
4- زخارف قديمة ـ ص 43. (مذيلة بتاريخ نشر نسة 1955)
5- نفسه ـ ص 37
6- حديث المدينة ـ ص 85. (مصدر سابق)
7- خمسون قصة قصيرة ـ ـص 96. (من مجموعة "مرسال" 1963
8-الكثافة متضمنة معنى الكثرة , ولكن الذي يراد من كلمة (تكثيف) : وصف عبارة مقتضبة بأنها تحمل عبارات متعددة أو معانٍ كثيرة , أو أنها عبارة قليلة الألفاظ توحي بكثير من المعاني المتخيلة , وهو سبب تسميتها بالتكثيف. والتكثيف ليس الإيجاز البلاغي ؛ لأنه كلام قصير لذاته , فإذا أتينا بالعبارة مطنبة أو موجزة , فالكلام هو نفسه.. أما التكثيف فــلا يشترط أن يكون المعني الدال عليه القريب هو نفسه بالضرورة ؛ لأن العبارة المكثفة توحي بمعان كثيرة.
9- الجدار ـ ص 27 وما بعدها
10- إبراهيم الكوني ـ الخروج الأول إلى وطن الرؤى السماوية ـ الدار الجماهيرية 1979 ـ ص 53
11- محمد علي الشويهدي ـ أحزان اليوم الواحد ـ مؤسسة الانتشار العربي 1999 ـ ـ ط2. ص149
12- الصديق بودوارة ـ آلهة الأعذار ـ مصدر سابق ـ ص50
13-السابق نفسه ـ ص 53.