الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

الهارب من الإعدام

الهارب من الإعدام
د. عبدالجواد عباس

          يتنهد الحاج (علي) ويطرق قليلا ليترسّم ما حدث ثم يقول : نعم لقد كان ذلك.. ولكن دوام الحال من المحال، أصبح يشيع في الأفق عدم الاستقرار، فقد أخذ الطليان أغنام أسرتين من أبناء عمومتنا القاطنين خارج الغابة لاشتباه تعاونهم مع المجاهدين، إضافة إلى أن حملات التفتيش على قدم وساق، والمداهمة مستمرّة ونافذة لأقلّ هفوة وأتفه سبب.
          لقد عزفت عن الزواج آنذاك وعزمت على ترك كل شيء وقررت الانضمام إلى صفوف المجاهدين، فقد أصبحت في سنٍ  تسمح لي بالجهاد.. كانت الفتوة وعنفوان الشباب يدفعانني إلى المغامرة.. لم أجد في الانضمام كثير عناء، فما أن توغّلت في الغابة قليلا حتى وجدت بعضهم.. لا أملك بندقية، كان على المنضم إحضار بندقية من عنده ـ لكن لم يعترضوا كثيرا، قالوا بأني سأحصل على بندقية في أول معركة قادمة، وجاءت المعركة ولم أكن خائفا من وقوعها بل متشوقا.. سرٌّ ما يشجعني بالقابلية  والتصميم.. كل شيء هان في عيني.. أهلي ودعتهم بسرعة.. لم أفكر في مال ولا في ثراء  سوى محاربة الطليان.
          لقد حصلت على بندقية في أول معركة كما قال المجاهدون، صرت أهتم بها كما يهتم الباقون ببنادقهم عقب كل معركة، أما التهديف فقد كنت أتقنه قبل قدومي، إذ كان أبي يملك بندقية إيطالية مماثلة.. خضت بتلك البندقية معركة بعد معركة  فلم يزدني القتال إلا إقبالا وإصرارا.
          ولما كان اندفاعي إلى القتال شديدا حرصت على المشاركة في كل عمل يقوم به رفاقي.. كان من بين أعمالهم أن تخرج جماعة منّا  إلى القرى المجاورة التي يتواجد فيها الأعداء وبعض المستسلمين من الأهالي للاستيلاء على ما نجده صالحا للغذاء تحت ستر الظلام واستعمال القوة إن لزمت.. نحن نعدّ ذلك عملا مشروعا وحلالا لأننا نستولي على مال العدو أو مال من اختار التسليم وأصبح تحت حماية العدو.
          كنت أشترك عدة مرات في ذلك العمل.. لم أعبأ بما يحوطه من خطورة بالغة.. لقد كان يحالفنا النجاح  في كل مرة.. وقد كنا في غنىً عن مثل هذه المغامرات قبل ترحيل الأهالي وحشرهم في المعتقلات الجماعية، إذ كانوا يجودون علينا من أغنامهم وأغذيتهم الخاصة، ومن لم يفعل نأخذ منه ما نريد ‘ شاء أم أبى..
          ويبتسم الحاج (علي) وكأنه قال ما يحرج، ثم يستأنف : نحن مضطرون  إلى ذلك، فنحن ندافع عن قضية أسمى، ولكن بعد ترحيل الأهالي أقفرت الأرض  وضاعت الأغنام من أيدي الناس  فلم نجد غير ثمار الغابة نقتات به، وهو لا يقيم أودا كثيرا.
*******
          في ليلة مقمرة تسللتُ مع ثلاثة آخرين للتفتيش عن الطعام ‘ قاصدين قرية تبعد ثمانية أميال عن مواقعنا وسط الغابة.. تسلقنا المنطقة الجبلية الوعرة أمامنا ثم صعدنا ربوة عالية فتمكنّا من رؤية القرية المقصودة على مرمى البصر، تومض نيرانها وتصيح مواشيها وتلك ضالتنا المنشودة.
          كان علينا أن نغير طريقنا ولا ندخل من الجهة التي أتينا منها، حيث يتوجب علينا السير ضد اتجاه الريح حتى لا تشم الكلاب رائحتنا فتنبه على وجودنا، ولذلك تجشمنا مسافة أطول لندور وندخل من الجانب الآخر.
          عندما اقتربنا توقفنا كي نسترق السمع ونمعن النظر فيما أمامنا لنؤمّن طريقنا ولنختار الحظيرة الأنسب لنأخذ ما نريد ونفلت سريعا.. في الواقع كان ضوء القمر يزعجنا قليلا ويعيق هجومنا،  الظلام يناسبنا في مثل هذه الظروف، فتحت سِتره يكون الانسحاب أضمن لنا.
          لما كنا أربعة  فقد ذهب كل اثنين إلى حظيرة.. وبحرص شديد اقتربنا من حظيرتين ولكن فوجئنا بأنهما محاطتان بسور من الأحجار، سمعنا الحيوانات بالداخل تجتر وتتحرك وتدور.. لقد تم لزميلينا ما يريدان، لقد أبصرتهما يفلتان باثنتين من النعاج ولم يعقهما السور.. ألقيت  نظرة  فرأيت داخل السور خيمة صغيرة مقفلة، بها مصباح ضئيل الضوء.. أرهفت السمع، ولا من حركة  غير حركة الحيوانات حول الخيمة.. دخل زميلي  من جانب آخر من السور وأخرج نعجة ومضى بها ثم دخلت أنا.. وقبل أن تصل قدماي إلى الأرض علقت بهما حزمة من الأسلاك الشائكة.. رفعت جسمي إلى أعلى لعلني أتخلص،  وما أن فعلت حتى حدثت ضجة أصوات لعلب فارغة كانت عالقة بالأسلاك.. جاءت الكلاب فأحاطت بي وكادت تمزق جسدي.. حاولت مد يدي إلى أسفل لأصل إلى بندقيتي  لكن الكلاب عضت يدي وحاولت النيل من وجهي، وأخذت الأسلاك الشائكة تنغرز في ساقي وتشدني إلى أسفل..وأنا في غمرة هذا الصراع إذا بي أتلقى ضربة على رأسي شلّت حركتي.. لقد هرع الناس إلى جهة الضجيج وأصوات الكلاب.. وجدتهم قد التفوا حولي وأوثقوا كتافي..
********
          عرفت يقينا بأنني رجل ميت، فأنا مخرّب في نظر السلطات، يحمل السلاح ويقوم بالسرقة.. لقد حققوا معي تحقيقا طويلا، استمر حتى الصباح، وبين الفينة والفينة أُجلد حتى تورّم جسمي.. لقد قلت معلومات ولكنها كاذبة، فلم أكن لأنجو من الموت سواء كنت صادقا أم كاذبا.
َََ          في الصباح وضعوني في سيارة اتجهت بي إلى مركز للمدفعية يشرف على الشاطئ.. كنت مقيد اليدين يحرسني ثلاثة عساكر، ومنذ اتجاههم إلى مركز المدفعية في رأس الجبل عرفت بأني سائر إلى الموت ؛ فالمكان هو مكان الإعدام المعتاد في تلك المنطقة.. كل العصاة والمذنبين والمخربين حسب زعمهم مصيرهم نفس المكان  لا محالة.
          أقررتُ بالشهادة في سري وسلمت أمري لله ورضيت بقضائه، فما حصل من  إرادته وتدبيره.. إنه كتب لي هذه النهاية منذ ولادتي، فلا مهرب ولا محيص من قضائه.. رميت نظرة أخيرة على الجبال والغابات من حولي وكأني أودعها الوداع الأخير، فسوف لن أراها ثانية إلا أن يشاء الله.
          وصلت إلى المكان فوجدت أمامي طابورا من المحكوم عليه.. إنهم بضعة عشر رجلا تبين هيئاتهم بأنهم مرّوا بحالات مزرية وتعذيب مميت، فملابسهم مهلهلة ممزقة، وأطرافهم ملطخة بالدماء.. لقد كانوا مربوطين بحبل واحد، فلما وصلت ساقونا جميعا إلى منصة الإعدام.. حيث الوقوف على حافة الجبل، ووراءهم جرف يؤدي إلى هاوية وادٍ سحيق  يستقرون في قاعه عند رميهم بالرصاص، وبعد ذلك تتولى الذئاب والنسور بقية المهمة.
          لقد حانت الساعة الحاسمة.. وقفنا صفا واحدا وقبالتنا فرقة الإعدام.. وقفت إلى جانب المحكومين.. قصر الحبل عني فلم أربط معهم.. تفرست في وجوههم فلم أعرف منهم أحدا.
          قبل إطلاق النار همس الرجل الذي بجانبي بأن أهوي إلى القاع.. قالها بكلمات سريعة لكني سمعت كلامه.. لقد قال : الهاوية أحسن لك من الرصاص.. يمكنك أن تسقط ربما نجوت..لم أفكر طويلا بل فعلت.. أطلقت جسمي إلى الوراء وسرعان ما شعرت بالهواء البارد يلطم جسدي ويلوي بأثوابي، وفي ذات الوقت سمعت الطلقات تنهال على المحكومين وربما كانوا قد صوبوا نحوي أيضا ولكن كنت قد تواريت.. أخذ جسمي يتدحرج منحدرا  بقوة، يكسر ما يداهمه من نباتات ويجرف معه الأحجار التي تطاير كثير منها فشجني في أماكن عديدة من رأسي وكدم ضلوعي.. ومرةً أخرى شعرت بأني في الهواء، ثم وقعت على غصن كبير فانكسر وسقط برمته وسقطت معه..
*******
          لا أدري ماذا حدث بجسمي من إصابات غير أني لم أفقد الوعي.. رأيت أني لم أصل إلى القاع بعد ، ما يزال بعيدا، فأنا دونه قليلا وهو تحتي بعدة أمتار، لا أستطيع الوصول فتحتي هاوية وليس هناك سبيل آخر أمامي غير القفز.. وقلت لأقفز وليحصل ما يحصل، الموت يطاردني فوق الوادي وتحته.. جمعت شتات قوتي وقفزت ميمما العليق المتشابك، فوقعت عليه، ثم سقطت جانب الجرف الذي أحدثه السيل.
          لم يغمَ عليّ على الرغم  من أن جسمي ينضح بالدماء  من أماكن كثيرة، لا أميزها بالضبط، لكنها بالتأكيد جروح وكدمات متعددة.. كلها احتملتها عدا ألم مبرح في جانبي الأيسر لم يمنعني من التحرك.. لقد استطعت النهوض ورأيت أجساد المعدومين تهوي لتستقر في قاع الوادي، كما رأيت هياكل عظمية وأشلاء متناثرة تحت جذوع الأشجار والنباتات وفوق الحصى.
          رأيت نفسي لا أخلو من بارقة أمل في النجاة بعد الخطوة الأولى في المجازفة.. الوادي حصين ليس له إلا مدخلان بعيدان جدا عن العساكر إذا ما فكروا في التفتيش عني.. لكن الأرجح أنهم لا يفعلون، فمن يسقط من ذلك العلو لا أمل  له في النجاة وهو في حكم الأموات.
          أخذت طريقي إلى جهة البحر لأنها آمنة قليلا للهرب، كما ستمر الطريق على بعض السكان الذين أعرفهم عساهم يخلصون يديّ المربوطتين أمامي.. أخذت أقفز  من جرف إلى جرف لأشقّ طريقي.. حمدت الله كثيرا أني لم أصب بكسر يعوقني، فهو اقل ما كنت أتوقع ولكن الله نجّاني.. لقد تسلقت إلى صخرة تشرف على المنحدر واختفيت في فجوة فيها انتظارا لحلول الظلام ليستقيم هربي تحت جنحه، وقد يممت الجهة التي سأمضي نحوها بالضبط.
          قضيت بقيت النهار في فجوة الصخرة.. لم أشاهد أحدا يمر أو أسمع صوتا، كل ما رأيت الذئاب والعقبان والثعابين.. كانت جروحي لا تزال تنزف ‘ انتظرت بداية العتمة ثم انحدرت ولازمت الشاطئ من بعيد محاولا الابتعاد عن المتسعات.. شعرت بوهن مفاجئ عندما أخذت الكدمات والجروح تؤلمني جميعا أشد الإيلام.. جسمي أصابه ورم الانتفاخ  في كل مكان تقريبا.
          ابتعدت عن أماكن الخطر وتوغلت بعيدا في وادٍ آخر ومضيت إلى الجنوب قاصدا مكانا معلوما، هو المكان الأمثل الذي سأجد فيه من يفك قيدي.. ووصلته بعد جهد من الألم والنزيف.. الرجل الذي أقصده ما يزال يتمتع بحريته، وليضمن تلك الحرية أختار مكانا وعرا لقد وصلت أليه ‘ ولكن لم أقصد بيته مباشرة بل تسلقت شجرة بصعوبة ثم ناديته معرفا بنفسي.. لقد فعلت ذلك خوفا من كلابه الشرسة.. وخرج الرجل، ومع خروجه سمعت الزناد يُسحب، فهو رجل حريص لا يغرر به بسهولة.. ونزلت من فوق الشجرة بصعوبة كما تسلقتها من قبل بصعوبة.. وبعد أن أبعد كلابه عني تقدمته إلى البيت وجلست  وأشعل الفانوس وقال لي : لا تخف لقد وصلت إلى الأمان.. ثم أحضر المبرد وأخذ يحز القيد في حين أخذ ابن له صغير يضع في فمي بعض الأكل واللبن.
          واستمر الرجل يحز القيد الحديدي بجدية وانهماك،  لم يكلمني أو يرد على كلماتي إلاّ مرات متقطعة قصيرة ومتباعدة حين كنت أعرض عليه بعض أطراف قصتي، وربما تعمد ذلك لأنني كنت في غاية التعب.. لقد استمر حز القيد حتى الصباح، استطعت تحريك يدي بحرية، ثم التفتَ الرجل إلى جروحي العميقة وأغرقها بالعسل، وهو الدواء الوحيد لدينا لمنع تعفن الجروح.
          لقد بقيت عند صاحبي عدة أيام حتى التأمت جراحي واستعدت نشاطي، بعدها توجهت عبر الجبل أفتش عن جماعتي المجاهدين الذين أصبحت في نظرهم ونظر من يعرفني في عداد الشهداء .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق