اللحظة الحاضرة
د. عبدالجواد عباس
أتدري ما هي اللحظة الحاضرة عندي ؟.. هي تلك التي يجتمع فيها أفراد الأسرة بعددها الكامل.. إناثا وذكورا، وقبل زواج أيٍّ منهم.. هي اللحظة الراهنة التي ما يزال فيها معظم الأولاد يذهبون إلى المدرسة.. هي الساعة التي يجلسون فيها معا على وجبة واحدة.. كلما اجتمع أولادي في صحن الدار خطر ببالي وقفز إلى ذهني أنني كنت كذلك مع أهلي ذات يوم.. أجلس نفس الجَلسة عندما كنت عضوا صغيرا في أسرة كبيرة.. إنها عائلتي السابقة التي كانت تتكون من إخوتي وأخواتي إضافة إلى أبي وأمي اللذين كانا في أتمّ الصحة آنذاك.. كانا يربيانني ويرعيان شأني قدر استطاعتهم كما أفعل الآن مع أولادي بالضبط.. لقد رحل والدي وتزوج إخوتي وكوّن كل منهم أسرة مستقلة.. لم نعد نرى بعضنا إلا لماما أو في المناسبات.. فترت العاطفة، بل أضحت عواطف مهملة، عواطف تذروها الرياح.. وأصبح كل منا يسعى لحال سبيله منتظرا نصيبه من المعيشة بشكلها الغالي والرخيص.
كم يحز في نفسي أن هذه اللحظة الحاضرة الآن مع أبنائي لن تدوم، سيفترق الشمل شئنا أم أبينا.. سيذهب كل منا إلى حال سبيله عاجلا أو آجلا، كما حدث لأسرتي السابقة تماما..
تلك العجوز المنزوية هناك في ركن الدار هي أمي.. ترونها الآن ضئيلة منطوية على ذاتها، تتقاذفها الأوجاع وغبار السنين.. لم تروها وهي في قمة نشاطها وتمام صحتها، لكنّي رأيتها.. كانت في لحظتها الحاضرة آنذاك.. تدبّر البيت.. تأمر وتنهي.. تربي وتطهو.. تغسل وتكنس.. كثيرا ما كانت تفعل ذلك وهي تترنم بصوت منخفض كأنها تصفع البؤس المخيم الذي يفترس الحياة في تلك الأيام الخوالي..ما أستطيعه تجاهها الآن هو أن أحكي لها جزءا عن مشوار عمرها الرائع.. عن مواقفها المضيئة.. أُذكِّرها بأيام بهجتها ونشاطها لعلني أمتصّ جزءاًً من آلامها وحزنها الدفين على أيامٍ ولََّت ولن تعود..
لقد رأينا من سبقونا إلى الحياة في عنفوانهم.. شاهدناهم وهم يُملون سطوتهم على الحياة ويتنافسون على مزايا المنفعة الشرسة.. كانوا حينئذٍ في لحظتهم الحاضرة.. لما قفز الزمان قفزته رأيناهم بوجه آخر.. رأيناهم وهم يعلنون استسلامهم للحياة نفسها راغمين عندما أصبح عمرهم في مرحلة الإياب.. لم يتملصوا بل وقعوا صك الهزيمة المرّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق