الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

الترحال

الترحال
د. عبدالجواد عباس
          رحل الناس إلى أماكن مختلفة منذ أزمنة سحيقة ، ومازالوا يرحلون مادامت الحياة على وجه الأرض ، ولقد استقرت في أذهاننا أسماء لا نكاد ننساها ، لها باع طويل في الرحلة والترحال ، فما أن تُـذكر الرحلات حتى يخطر ببالنا ابن بطوطة وماركوبولو ممن كرّسوا حياتهم للسفر الطويل . ولعل أقدم الرحالين جميعا هيرودوت الإغريقي الذي كتب في مذكراته عن الأراضي التي مرّ بها .
          لقد سافر الرحالة عن طريق البر والبحر ، ونحن نذكر رحلات المستكشفين الأوائل أمثال كريستوفر كولمبس مكتشف العالم الجديد ، وفرديناند ماجلان الذي بذل مجهودا كبيرا ليطوف حول العالم ، وفاسكو دي جاما الذي ساعده البحار العربي أحمد بن ماجد في اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح المعرو ف الآن بمنطقة الكاب بجنوب أفريقيا . كما أن هناك رحلات المستكشفين لمجاهل أفريقيا والأمزون وغيرهما الذين سجلوا ما مرّوا به من غابات  وأنهار وحيوان وسهول وصحاري والتاريخ عامر بالرحلات الطويلة والقصيرة لطوائف كثيرة من البشر في مختلف الأزمان وبطرق شتى في السلم والحرب .
          والعرب بلغوا شأوا بعيدا في الرحلات الطويلة عبر الصحراء ، والقرآن الكريم يذكر لنا رحلتين تجاريتين طويلتين ألفتهما قريش وتعودت عليهما منذ زمن بعيد ؛ رحلة الصيف إلى الشام ، ورحلة الشتاء إلى اليمن ..ورحلات الصحراء قاسية شاقة ، تسرح بالذهن وتطيش بالعقل ، ولذلك كان مركز الخبير بالصحراء من الأهمية بمكان ، وما زال إلى عصرنا هذا .
          وصف غيلان بن عقبة العدوي المعروف بذي الـرُّمـة ؛ وصف الصحراء بأنها أحيانا تصدر عنها أصوات ولغط  مختلط شبهها بلغة الروم ممزوجة بصوت البحر المظلم المترامي الأطراف:
                   دويّـة ٌودُجَـى ليلٍ كأنّهمـا        يـمُّ تراطنَ في حافاتـِه الـرومُ
                   أمرقتُ من جوزِه أعناقَ ناجيةٍ      والليلُ مختلطٌ بالأرضٍ ديمومُ
                   للجنّ بالليلِ في حافاتها زجَـلٌ      كما تجاوبَ يومَ الريح عيشومُ
 
وقال ’خر:
    ومهْـمَـة مغبرّة أرجــاؤه              كأن أرضه سمــــاؤه 
          والعرب يفضلون السفر على الناقة ، فقد  ثبت أنها أشد تحملا للسير الطويل من الجمل ، ولذلك نلمح أوصافها منبثة في أشعارهم عن الرحلات ، قال كعب بن زهير :        
 أمست سعاد بأرض لا يُبلـّغها        إلا العِتاقُ النجيباتُ المراسيلُ
وقال الفرزدق عن ناقته كناية عن صلابتها وسرعة سيرها :
                   تنفي يداها الحصَى في كل هاجرة   نفي الدراهم تنقاد الصياريف
فكانوا يقطعون الفيافي والقفار يجوبوه أطراف الجزيرة  من أقصاها إلى أقصاها لغرض التجارة أو التنقل طلبا للكلأ والمراعي الجيدة . والقبائل تأتي إلى الحج وإلى أسواق الحجاز كعكاظ ، ومجنّة  ، وذي المجاز ، ودومة الجُنْدل التي لكل منها موسم خاص بها . قال أحد الشعراء يصف الرحيل بعد تمام موسم الحج ، وما في هذا الرحيل من عجلة واضطراب ، ثم يصوّر الركب بعدئذ في سيره الوادع المطمئن :
          ولمّـا قضينا مــن منىً كل حاجةٍ     ومسّح بالأركان من هو ماسـحُ
          وشُدّتْ على حُدْب المهاري رحالُنا    ولم ينظر الغادي الذي هو رائـحُ
         أخذنا بأطراف الأحاديث بيننـا    وسالتْ بأعناق المطي الأباطــحُ
          والسفر وأدواته منبثة  في التراث الأدبي ، فلا نقرأ قليلا حتى نعثر على أمثال: راحلـة ـ مطيّـة ـ رحيـل ـ رحْـل ـ حـِل ـ ترحال ـ متاع ـ زاد .....
قال الشنفرى الأزدي :
          أقيموا بني أمي صــدورَ مطيكـم      فإني إلى أهلٍ سِواكـــم لأميـــلُ
          فقد حُمّتِ الحاجاتُ والليلُ مقمــر     وشُدّتْ لطيّاتي مَطايا وأرْحُـــلُ
         لعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على امرئٍ    سَرَى راغبًا أو راهبا وهو يعقلُ
 
وقال جرير :
 ألستمْ خيرَ مَنْ رَكِبَ ا لمطايا       وأنْدَى العالمينَ بُطونَ راحٍ
 
وقال النابغة :
أزِفَ الترحّلُ غير أنَّ رِكَابَنا       لمّا تزلْ برحالنا وكأن قدِ
 
وقليل هم من لا يحبون السفر والتنقل ومشاهدة الجديد الذي لم يروه في هذا العالم ، لكن أكثر البشر يرغبون في السفر ، وإذا كانوا لا يستطيعون لظروفهم فإنهم يتمنونه ، قال أحد الشعراء  يحض على السفر :
تغربْ عن الأوطان في طلب العلا       وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائد
تفرّجُ همّ واكتسابُ معيشــةٍ      وعِلمٌ وآدابٌ وصحبة ُ ماجـــــــدٍ
 
وقال آخر :
 سافرْ تجدْ عوضا عمّن تفارقـه    وانصبْ فإن لذيذ العيش في النصبِ
إني رأيتُ وقوفَ المـاءِ يُفسـِده      إن سالَ طابَ وإن لم يجرِ لم يَطِـــبِ
والأُسْدُ لولا فراقُ الغابِ ما افترستْ   والسّهمُ لولا فِرَاقُ القوسِ لــم يُصِبِ
والتبْرُ في الترب مُلقىً في أماكنـه   والعودُ في أرضه نوعٌ من الحَطـَـبِ
 
          والسفر في الماضي كان يحتاج من الشخص إلى مجهود عضلي جبّار ، وليس الأمر مسألة ساعة أو ساعتين يجلسها الإنسان على كرسي مريح ثم يصل إلى هدفه الذي يريد ، وإنما الأمر يحتاج إلى صبر وقوة تحمّل ومعاناة ، وقد يكون في الموضوع حراسة وترقب لمفاجآت فقطاع الطرق قد يعترضون الطريق ، وقد ينفد الزاد ، وقد يضل المسافر الطريق فيتعرض للجوع والعطش فيحدث مالا يحمد عقباه.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق