الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

التشخيص والأصالة والهوية في قصص عبدالله هارون

التشخيص والأصالة والهوية في قصص عبدالله هارون
د. عبدالجواد عباس

رغم التعريفات المتعددة لكل من الأصالة والهوية إلا أنهما يصبّان في وعاء واحد ؛ فإذا ما أخذنا أحد تعريفات الأصالة وقلنا إنها هي الخصائص التي ينفرد بها أديب أو شخص  أو شعب ما عن غيره، فإننا سنقول عن الهوية أيضا إنها الصفات الجوهرية التي يشتهر بها الناس والأشياء، فهذه هي تلك، وليس الأمر مقتصرا على ما في بطاقة الهوية من بيانات.
          عندما أهدى إليّ عبدالله هارون مجموعة(الطمي) القصصية رأيت أنه قد شطب لفظ (قصص) وكتب بدلها (حكايات).. ومع أن الحكاية جزء من النسيج في أدب القص، شأنها شأن الأمثولة والرواية والملحمة وحتى الخبر قد يحمل نوعا من القص، إلا أن الحكاية تختلف عن القصة القصيرة في كونها تأتي على لسان أي كان وبأسلوب يُودى كيفما اتفق، لا تراعى فيها عادة التقنيات الفنية التي تراعى في القصة القصيرة، كتقديم وتحليل الشخصيات، وإرجاع خيوط الحبكة إلى بعضها البعض لتتولد العقدة ومن ثم لحظة التفجير والحل..فأول قصة في المجموعة وهي بعنوان (مفارقة مزدوجة) فهي ليست حكاية، لأن من سمات الحكاية الوضوح والمباشرة ونراه هنا قد استعمل أسلوب الرمز والرمز يحتاج إلى تأويل.. ثم أنه أطلق على عنوانها ( مفارقة)، والمفارقة عنصر أدبي فني تعني في أبسط صورها وجود الشيء وضده  في آن واحد، والحكاية لا تعوّل على المفارقة لأنها كثيرا ما تحمل إسقاطا فلسفيا وراء السرد..هذا فضلا عن عنصر فني ثالث هو استخدامه لتيار الوعي وهو محاورة الإنسان لنفسه وتصوّره  للأحداث في خياله كنوع من الدراما غير الملحوظة عندما نبتت في رأسه سحابة عقيم ـ كما يقول ـ فأين هو وجه الحكاية التي يشير إليها عبدالله هارون، لا وجود لها في هذه القصة التي تقودنا فكرتها إلى  أن الشخصية تعيش في بلاد غنية ولكنها مع ذلك فقيرة..   
          ولكني رأيت أن معظم ما كتب عبدالله هارون من قصص لا يخرج عن القص الفني، بل أن التقنية الفنية قد ظهرت في محتوى  قصة ( مفارقة مزدوجة) ـ ولا أدري لماذا وصفها بالمزدوجة ـ فمن جانب نراه قد أجاد الرمز حين جعلنا نحس بأن السحابة معادل  موضوعي لثراء البلاد وغناها، ومن جانب آخر تشخيصه للسحابة  حين جعلها عقيمة ذلك ما جعل قصة (مفارقة مزدوجة) تبتعد عن الحكاية بهذين العنصرين الفنيين، ويفتح لها طريقا متواضعا نحو القصة الفنية بالمعنى المتعارف عليه.
وإذا ما فتحنا ملفا للأصالة والهوية في هذه القصص فأول ما يسترعي انتباهنا منها ويأخذ صدارتها قصة (الطمي) التي هي عنوان المجموعة القصصية ؛ وفي هذه القصة يتميز فيها عبدالله هارون بمهارته في معرفة الأماكن فيما حوله من مناطق واسعة  تحيط ببؤرة منطقته بمسافة لا تقل عن مئة كيلومتر، هي مسار السيل ومن ثم نضع أيدينا على كل من الأصالة والهوية، إذ الهوية معنى مرن، فمعرفة أجزاء البلاد هي نفسها هوية، فإذا لم تعرف أجزاء منطقتك التي تعيش فيها  معرفة جيدة فقدت جزء من الهوية، هويتك ناقصة بالنسبة لأهل المنطقة ؛  فأهلها أنت لست منهم ولا تنتسب إليهم طالما فقدت  هذا الجزء من الهوية..وعبدالله هارون قد برهن على إثبات جزء من هويته وأصالته عندما ذكر بطريقة عفوية تلك الأماكن التي يمر بها السيل، كبركة الزرقا ـ وادي مارة ـ طرخنت ـ أم قديح ـ بيت ثامر ـ نبع مسعودة ـ الـْـقدع  ـ  الفاسكة ـ سرسرة ـ الزّوّاية ـ النـّـعْسنية ـ وادي الخضرا ـ جرم ـ وادي الناقة وغيرها.. كما أطلق الأسماء المحلية نباتات مشهورة بهذه الأسماء مثل الزهيرة ـ الخروب ـ السخّـاب ـ البطوم ـ المرسين كهوية للمنطقة.. كما جاء في قصة ( مفاجأة متوقعة) أسماء طيور تعارف أهل المنطقة على تسميتها مثل (الشحيمة وبوبليق).
  أما التشخيص فكان مدغما بما يعرف في النقد الحديث بأسلوب كلي العلم الذي يفترض ويتخيل فيه القاص ما تفكر به شخصياته، وأسلوب كلي العلم ملازم للتشخيص أينما وجد، ومثل ذلك قوله : "في بركة الزرقا كانت الضفادع تعاني شعورا حادا بالاكتئاب، ولم تكن راضية عن نمط حياتها " (1)..وبنفس مفهوم (كلي العلم) قد شخص السيل نفسه فأسبل عليه صفة الغضب على أنه مارد هادر عندما " وصل مزارع (القدع) أبدى غضبه مما بذله المزارعون في غيابه في إعداد شبكات الري، ولذا شرع يفككها بحنق.."(2) وعلى سبيل التشخيص ما جاء على لسان العصافير في قصة (مفاجأة متوقعة) كقوله : " ونسيت العصافير الموضوع تماما.. أو قوله " اجتمعت العصافير وانخرطت في نقاش حاد "(3)
          ومن مميزات الأصالة  والهوية أيضا ما تعارف عليه أهل المنطقة عن ما يدور من حوار معروف حول الكتف، كقطعة لحم مفضلة، كما في قصة (ظل الكتف).. ومن جملة ما ذكر من العبارات الدارجة  والمتعارف عليها قولهم : "العالم بين درب وعادة، واللـّي يسلـّف السبت يلقى لحد قدامه ".. ومن خصوصيات الأصالة  الخفية جدا، والتي لا يعرفها إلا ابن البلد تصويبه في عدم نطق الهاء في كلمة (الله) لكي يستقيم وزن البيت الواردة فيه وهو ( عمّت خير الله مستوحي)  في قصة ( لاشيء في حينه)..وكذلك ورود بعض الكلمات الدارجة التي يكاد يقتصر استعمالها وفهمها على سكان منطقة القاص وما حولها وقد فسّر بعضها  مثل : (زرّونا) أي حشرونا ـ (البرّاح) أي المنادي ـ (هايا) أي ارفعوا أيديكم.
          ومن تشخيصاته بالرمز عن طريق المعادل الموضوعي حين صوّر قوة إيطاليا كالسيل الذي لا يُسأل عما يفعل، وقد تصور محاكمة لذلك السيل في قصة ( لغو إيطالي) وقد صدر الحكم ببراءة السيل  مما نُسب إليه  عندما أغرق وادي درنة وقتل الناس، وبراءته ترمز إلى براءة إيطاليا من قتل وتشريد الليبيين.. وقصة (تفاحة) التي تعتمد على الرمز هي الأخرى، عن طريق المعادل الموضوعي، فعلى كثرة ما اختار الراوي  من تفاحات حمراء جميلة إلا أنه سرعان ما يكتشف فسادها إذا شقها بالسكين، والتفاحات التي خضعت لتجربته رمز لعموم النساء، وربما كانت هذه الفكرة إسقاطا من القاص على الغير، وربما كانت هواجس مؤقتة ألمت به..
          ومما يخدم الأصالة والهوية في قصص عبد الله هارون توظيفه للعبارات التي اعتاد الناس على ترديدها مثل : (جاكم الفزع) أي النجدة، في قصة ( قاطر ومقطور).. و (خير ياطوير) للتفاؤل وغيرها.
من نواحي فنية أخرى، وهذا يتجلى في بعض القصص، خاصة قصة (لا شيء في حينه ) التي أعتبرُها أحسن قصة في ا لمجموعة، لأن الحدث فيها يتسم بالتوتر الذي من شأنه تقوية العقدة، ما يجعل القارئ يستشعر نفس الظروف التي تعيشها الشخصية في القصة،  ويليها قصة (مفاجأة متوقعة) ثم ( المنحدرون).. وعلى الرغم من أن قصة (الطمي) التي اتخذها عنوانا لمجموعته قد أسبلت عليه الكثير من الأصالة والهوية، وميزت أسلوبه بتشخيص قوي إلا أنها جاءت في قالب تقريري، فضلا عن كونها لا تخلو من المداخلة، فالتقريرية والمداخلة يوهنان الفن القصصي.. فلو كانت القصة مع السيل فقط لا غيره  لكانت من أحسن القصص، ولكنه أضاف عليها استطرادا وتفاصيل زائدة تعرقل توهج وتنامي الحدث الشيق مع السيل..وتتضح هذه المداخلة في بعض المقاطع مثل : " التحم فرعا الرافد الشمالي.. ولكن استجابة  هذا الرافد لم تكن مناسبة مع غزارة الأمطار.. لأنه منبسط وهو ترابي في معظمه، ولكن تلك الاستجابة كانت كافية لمنع المرور.... أو قوله : " هــكذا هو السيل قوة جارفة تفتقر إلى التمييز"(1). وكذلك حديثه التفصيلي عن (الفاسكة)..ومن المداخلة التي توهن الحدث أيضا ـ ـ وهو في  غمرة قصة السيل ـ قوله: " العرعر (الشعرا هذا النبات الذي اتخذت ثماره الصغيرة زمن الاستعمار والجوع غذاء شبه وحيد للإنسان"(2)
هذا، ولا تخلو القصص من العبارات العفوية الرائعة وحُسْن النظم على رأي عبدالقاهر الجرجاني ويقصد به  التركيب النحوي الذي يفجر من اللفظ معنى ًجديدا عند تركيبه مع غيره.. ومثل ذلك عند عبد الله هارون ما جاء في قصة ( مفاجأة متوقعة) كقوله : " كان يوما من الأيام الأولى من أيام فصل الربيع.. والنسائم الباردة المتبقية من الشتاء تـُصافح الوجوه برقة.."(2) فكلمة ( المتبقية) هذه الصفة  التي من شأنها أن تـُدخل في أذهاننا  أن الشتاء يسلـّم راياته إلى الربيع  وكأن لم يبق له غير سهم واحد في جعبته، وبذلك وهن عظمه حتى أن رياحه تصافح الوجوه برقة بعد أن كانت تصفعها بالبرد والرياح الهوجاء.. فالعبارة متقنة وجاءت الكلمات في مكانها الصحيح فانطبقت عليها نظرية النظم (3)..ومنها أيضا كلمة (منفى) وكلمة (أو تكاد) في هذه العبارة من قصة (المنحدرون)  التي نصها  : " ومع هذا تتحول القرية أو المدينة  الصغيرة بدون السيارة الخاصة إلى منفىً حقيقي أو تكاد " (1).. فكلمة (منفى) وكلمة (أو تكاد) خلقا جرسا وإيحاء خاصين ؛ فكلمة منفى طاردة للأمل، وكلمة أو تكاد استدراك  جاء في محله يعطي بصيصا من الأمل..وفي قصة (المحصلة الصفرية) عن أولئك الذين حملهم السائق بدون أجرة وأخذوا " يمطرونه بدعاء لو استجيب له لأصبح مليونيرا" (2) وهذا العبارة الأخيرة المتمثلة في جواب الشرط  مشعرة بالطمع والنفاق الذي يسكن بعض القلوب ما جعلها تسرف في تبذير الدعوات التي قد تصل بها إلى إهانة النفس.. وكذلك ما جاء في قصة(المدبلج)، عندما وصف للمحقق منطقة رأس الهلال قائلا " لابدّ أنك تعرفها" هذه العبارة التي تقطع الشك في شهرة المكان، جاءت حيث يجب أن تكون فأعطت ألقا وروعة.  
  اللافت للنظر أن عبدالله هارون يضع حصيلة تجارب متقنة للأصالة والهوية بتفسيره لبعض الظواهر الشعبية والكلمات العامية التي أول ما تقرأها تقطع الشك في أنها صدرت من شخص له باع طويل في تكرار التجربة والملاحظة التي فرغ منها منذ زمن طويل.. لماذا ؟ لأنه كتب القصة وهو كبير، بعد حصيلة تجارب وشتات أفكار وثقافة.. بعد أن شاهد وقرأ للآخرين واطلع على نجاحاتهم وإخفاقاتهم أيضا..

 

(1)   عبدالله هارون ـ الطمي ـ  منشورات مجلس الثقافة العام 2008 ـ ص 35.
(2)  نفسه ـ ص37.
(3)  نفسه ـ ص 66، 67.
(1)  الطمي ـ ص 36،39.
(2)   نفسه ـ ص40.
(2)   نفسه ـ ص 63.
(3)  نظرية النظم فلسفة لغوية تعتمد على التنسيق النحوي، وترى في اللغة مجموعة من العلاقات تؤدي إلى الإحساس بجمال اللفظ إذا وضع موضعا خاصا.. وقد وردت هذه النظرية في كتاب (دلائل الإعجاز) الذي ناقش فيه عبد القاهر إعجاز القرآن.
(1)  ص72.
(2)  ص 119.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق