الجمال .. شتات وشهوات
د. عبدالجواد عباس
جمال العمل، جمال المنظر، جمال الأخلاق..وقد يكون الجمال في الطبيعة أو من عمل الإنسان المتطور.. وجمال الشخص ظاهريا في نظافته وهندامه ووسامته.. وجمال المكان في نظافته وحسن ترتيبه.. وجمال المدن في نظافتها وأناقة شوارعها وطرقها وميادينها، فلا جمال يخلو من عنصر النظافة.
والجمال من الأمور النسبية، فليس هناك مثل أعلى للجمال، وإنما هو استحسان وإحساس شخصي يختلف من واحد إلى آخر، تلعب فيه الثقافة دورها، كذلك البيئة والذوق.. أما فيما بين تقديرات الأشخاص فالعقل نوع من الجمال، والصبر وقوة العزيمة والتحمل نوع من الجمال.. الحلم والكرم والشجاعة نوع من الجمال.. كل هذه الصفات يرغبها الناس ويميلون إليها، ويسعى المجتهدون للوصول إلى غاية من غاياتها النبيلة.. ولذلك يدرك الجمال لا بالحواس فقط، لكن بالشعور أيضا، وقد ذكر القرن الكريم صفة الجمال على هذا الأساس في أكثر من آية ؛ قال تعالى : "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا " وقال : "فاصفح الصفح الجميل " وفي آية أخرى قال : " فصبر جميل على ما يقولون ".. ويُراد بذلك كله صفة معنوية لا حسية هي الحلم والإغضاء، ولا وجود للحلم والإغضاء كأشياء تدرك بالحواس، وإنما هي موجودة في ضمائرنا وبين جوانحنا كعاطفة من العواطف التي نستدعيها متى جاء وقتها وحان ظرفها، مثلها مثل العطف والإعجاب والحب وغير ذلك.. وقديما قيل : ليس الجمالُ بأثوابٍ تزيننا إن الجمالَ جمالٌ العلمٍ والأدبِ.
والجمال جـذّاب محبوب إلى النفس الطبيعية الرائقة، والناس تقصد وتتداعى إلى المناطق الموصوفة بالجمال طلبا للراحة والاستجمام.، وأماكن تتميز بسواحل ساحرة أو حدائق غنّاء أو مياه رقراقة وأشجار خميلة... وليس هذا فحسب ؛ بل هناك الوديان والأنهار والغابات الكثيفة والسفوح الممتدة والسهول الخضراء المترامية التي تبهج الروح وتمتع العين.
ولا يمكن تحديد عناصر الجمال في الطبيعة وغير الطبيعة فالأهواء متعددة والنفوس متقلبة ؛ فقد تحب شيئا اليوم ثم يبدو لك مع الزمن أنك لا تميل إليه.. وقد تجتمع عناصر من الجمال في شيء واحد كما يحس بذلك العشاق نحو محبوباتهم فيصفوهن بالعديد من المسميات الحسية والمعنوية اللطيفة الخلابة، ولعمري لقد برع الشاعر أبو القاسم الشابي في استحضار تلك الصور في أشعاره المرهفة ؛ ففي قصيدته (صلوات في هيكل الحب) يحشد الكثير من اللقطات الرائعة التي يشاركه في حبها الناس، ومن ذلك قوله : " عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كالحسن كالصباح الجديد.... كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد"... فقد استعمل ألفاظا موحية برقة نفسه ورهافة حسه، مملوءة بالنسيم العبق والرائحة الزكية منها ما يدرّ العاطفة كالطفولة والأحلام وابتسام الوليد، ومنها ما يملأ النفس بالانشراح لأن حسنها محرك للأشجان مثير للنزعات مثل السماء الضحوك والليلة القمراء... وتأمل أيضا في قصيدته (من أغاني الرعاة) إذ تعج بالحياة الجميلة : " أقبل الصبح يغني للحياة الناعسة.. والربا تحلم في ظل الغصون المائسة..والصبا يُرقص أوراق الزهور اليابسة.. وتهاوى النور في تلك الفجاج الدامسة.. أقبل الصبح جميلا يملأ الأفق بهاه.. فتمطى الزهر والطير وأمواج المياه.. اتبعيني يا شياهي بين أسراب الطيور..واسمعي همس السواقي وانشقي عطر الزهور.... والقصيدة كلها حشد لما هو جميل رقيق حلو على الأسماع، يستعذبه الفم وتهش إليه النفس.
إن روعة الشيء أو بهاءه في الحسن ليس هو الذي يمثل الجمال فقط بل عندي إن أنواعا مما هي في حساب القبح أو الدمامة قد تدخل في حساب الجمال إذا رسمها الفنان كما هي في طبيعتها ؛ فمثلا لو أحسن الفنان رسم منظر القمامة ـ وهي منفرة ـ بما فيها من علب فارغة وأوراق متسخة وخرق ملونة أو بالية فإن ذلك المنظر بتفاصيله التي ذكرت سيعطي صورة حقيقية لما هو مشاهد في العادة، ليس بالنظر إلى مادة القمامة كعنصر منفر وإنما بالنظر إلى إتقان الفنان وما بذله في اللوحة من تحوير وتخطيط وتركيب ألوان حتى وصل بالمشاهد إلى صورة بديعة يعجب بها، ومتى كان العجب كان الجمال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق