الذئب حيوان له تاريخ
د. عبدالجواد عباس
متهمّ منذ القدم ـ دون سائر السباع ـ بالغدر والعدوان وشدّة البأس والبراعة في الفتك.. وإن الأمر لكذلك، وإلا لما خافه يعقوب على ابنه يوسف، عليهما السلام.. فلم يذكر أسداً ولا نمرا وإنما قال عنه ربه "إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون"(1).. فيالها من سطوة سطوته منذ تلك العصور الغابرة.
لقد جعله العلماء بطاقة هوية.. فمختصر ما اتفقت عليه المصادر العلمية ينحصر في أن الذئب من فصيلة الكلبيات، أي إنه يشبه الكلب إلى حدّ كبير، إلا أن ذيله كثّ الشعر وأذنيه مستقيمتان.. له فكان متينان جدا ونظره ثاقب وحاسة شمه في غاية القوة.. يعيش من 16 إلى 20 سنة.. وقد عرّفه ابن منظور في اللسان بأنه كلب البر(2).
ويضيف علماء الحيوان أيضا بأنه ذو طباع متوحشة، حذر وخطر، يفترس الماشية والكلاب والناس.. تلد أنثاه بعد 65 يوما من الحمل، وتضع من 3 إلى 8 جراء، ويصيبه ما يصيب الكلب من الداء المعروف بداء الكلب فيصير مخوفا للغاية وتكون أسنانه حينئذٍ أشد نكاية.
وقد ذكر الباحثون أن الذئب الحقيقي ذا الحجم الكبير لا يوجد في جميع أنحاء أفريقيا (3)، ولا تعدو الأنواع الموجودة حاليا عن كونها الحيوان المعروف بابن آوى الذي يعرف محليا بالذئب، نظرا لأنه يحمل نفس الصفات والغرائز الموجودة في الذئب.. يقول قاموس الرائد في تعريفه للذئب : " حيوان مفترس، رمادي اللون إلى الصفرة، يعيش في غابات أوربا وآسيا وأمريكا "(4).
وفي التعريف السابق يتبين أن اللون الغالب للذئب هو الرمادي.. قال الشاعر في أناس بخلاء حرموه من الأكل الطيب :
حتى إذا جنّ الظلام واختلط جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذئب قط (5)
والمذق هو اللبن المخلوط بماء كثير حتى يصير رماديا كلون الذئب.
أما تحت بند (ما يقال) فحدّث ولا حرج، فلكثرة إسرافه في القتل تصوروه جائعا أبداً، حتى قيل في الأمثال " أجوع من ذئب".. قال المصعب الكناني (6) :
أبلغ فزارة أن الذئــب آكلها وجائع سغب شرّ مـــــن الذئب
أزلّ أطلس ذو نفس محككة قد كان طار زمانا في اليعاسيب
ويقول صاحب اللسان في مادة (ذأب) قالوا : "رماه الله بداء الذئب، يعنون الجوع، لأنهم يزعمون أنه لا داءَ له غير ذلك.. ويقال في الأمثال : " أعقّ من ذئبة " ذلك أنها عندما يصاب الذئب بجرح وهو معها تقتله وتتغذى بلحمه.. كما يقال أنه إذا جرح ذئب وهو برفقة ذئاب أخرى تهجم عليه وتأكله وربما هذا التصرف هو الذي جعل الناس يطلقون على سمك القرش (ذئب البحر) لأنه يهيج من رائحة الدم(7) فيندفع بعمىً ويعضّ ما يصادفه من قروش ومخلوقات أخرى.. ويقال أيضا أن الذئب الجائع إذا صادف إنسانا وحيدا في مكان منعزل طمع في أكله، فإذا كان الإنسان قويا عوى الذئب ليستدعي بمعض الذئاب لمساعدته في الفتك بالفريسة.. كما يقال أن معدته تذيب العظم ولكنها لا تذيب نوى التمر، هذا مع وجود حبّات الخروب والبطّوم أيضا في فضلاته..كما يقال أنه يتحمل الجوع ما ليس مثله إلا الأسد... وما يقال كثير جداً ؛ منه ما يؤيده العلم أو ما سيؤيده، ومنه ما يظل غامضا في حياة هذا الحيوان.
وفي هذه المعمورة ضوارٍ أقوى وأكثر فتكا من الذئب ولكنها لا تمتاز بخصائصه ولا تجاربه في الخبث والدهاء.. لذلك احتل هذه الشهرة من بين حيوانات الأرض جميعها، وصار مضرب الأمثال في الدهاء والفطنة والحذر.. وبالغوا في حذره حتى تصوروه ينام بعين واحدة ويترك الأخرى مفتوحة تحرسه وفي ذلك قال حميد بن ثور قولته المشهورة (8):
ونمتُ كنوم الذئب في ذي حفيظةٍ أكلت طعاما دونه وهو جائع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجـــع
والذئب متوحش بطبيعته حتى ولو ربّيَ صغيرا بين الناس، فطبيعته الشرسة ترجع إليه غريزيا فقد حكى الأصمعي أنه مرّ ببعض الأحياء فوجد عجوزا وبجانبها شاة مقتولة وذئب مقطع الأوصال فسألها عن السبب فقالت : الذئب ربيناه صغيرا، ولما كبر فعل بالشاة ما ترى \ن وأسمعت الأصمعي أبياتا من الشعر قالت فيها عن الذئب (9):
بقرتَ شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرها وربيت فينــــــا فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع ســــوء فليس بنافع فيها الأديب
ولتأثر العرب بالذئب فقد أطلقت عليه أسماء وكُنى كثيرة.. فمن أسمائه : السرحان.. قال امرؤ القيس في معلقته واصفا فرسه :
له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تنفُل
ومن أسمائه : الأطلس، قال الفرزدق :
وأطلس عسّالٍ وما كان صاحبا دعوت لناري موهنا فأتانـــــي
والبحتري في ذلك يقول : وأطلس ملء العين يحمل زوره وأضلاعه من جانبيه شوىً نهد
ومن أسمائه أيضا : السيّد والعملّس، قال الشنفرَى الأزدي في لاميته :
ولي دونكم سيد عملّس وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
والسيد عند سائر العرب هو الذئب عدا هذيل فيعني عندها الأسد (10).. والذئب في لغة هذيل أيضا هو السبع (11).. واهتمام العرب بحفظ أسماء الذئب يرجع إلى أثره فيهم من نهب وقتل وخطف لأغنامهم ومواشيهم على مرّ العصور، فهو عدوهم اللدود.. يذكرونه أكثر مما يذكرون أعداءهم، وما كان ذلك إلا لكثرة بوائقه فيهم، فأسماؤه وكناه عديدة ومنتشرة هنا وهناك في نثرهم وشعرهم، ومن ذلك "الخاطف والسيد والسرحان وذؤالة، ويكنّى أبو مذقة وأبو جعدة وهي الشاة، ومن كناه أيضا أبو ثمامة وأبو جاهد وأبو رعلة وأبو سلعامة وأبو العطاس وأبو كاسب وأبو سبلة، ومن أسمائه المشهورة أويس"(12).
كما اتخذوا الذئب رمزا للصوص وقطاع الطرق والمارقين والدهاة.. وفي القاموس: ذؤبان العرب لصوصهم ورعاعهم.. وتعني كلمة ذؤبان أيضا صعاليكهم وشطارهم (13) أو قطاع الطرق وقراصنة الصحراء.. وقد عُرفت هذيل بين العرب بالصعاليك الذؤبان (14).. وضربوه مثلا للغدر ومعايشة النفاق، ورمزوا به عن الأشخاص الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الخاصة، قال الدوادي(15):
وإذا الذئاب استنعجت لك مــــرة فحذار منها أن تعود ذئابا
فالذئب أخبث ما يكون إذا اكتسى من جلد أولاد النعاج ثيابا
وقد جاء في كتاب الحيوانات في الأمثال الشعبية لعيّاد العوامي الكثير من الأمثال التي تدل برمتها على مكر الذئب ودهائه، وقد ذكر هذا الباحث أن الذئب لا يهاجم الإنسان إلا عند الجوع الشديد(16) وجاء في مجلة المعرفة إنه في سنة 1912 أبادت الذئاب فرقة من الجنود الفرنسيين قوامها ثمانون رجلا مسلحا كانوا يكافحون الجليد للوصول إلى مخيمهم.. وعندما وصلت فرقة للبحث عنهم عثرت على جثث ثلاثمائة ذئب ‘ بيد أنه لم يكن هناك أحد من الجنود على قيد الحياة(17).. هكذا عُرف عنه في البلاد الباردة، يعيش في أسراب من بني جنسه ويطارد الناس لشدة شروره، ويقتل منه في فرنسا حوالي 1200 ذئب سنويا وقد خصصت الحكومة هنالك مكافأة لمن يقتل ذئبا (18).. أما أنثى الذئب فشريرة مثله، فقد بلغ من أذاها أنها عندما تريد الولادة لا تصنع لنفسها جحرا وإنما تستولي على وكر غيرها لتلد فيه وتتخذه بيتا لإيواء صغارها (19).
_________________________
1)آية 13 من سورة الكهف.
2)ابن منظور ـ لسان العرب ـ مادة(دأب).
3)عياد العوامي ـالثدييات الليبية ـ ص44.
4)جبران مسعود ـ قاموس الرائد ـ مادة (ذأب).
5)شرح ابن عقيل على الألفية (شواهد النعت).
6)الجاحظ ـ البيان والتبيين ج1 ـ ص204.
7)The Heyerdahi –The Kon- Tiki Expedition P.65
8) محمد فريد وجدي ـ دائرة معارف القرن العشرين ـ ج4 ـ ص 117.
9) المرجع السابق ـ ص 118.
10) د, عبد السلام سرحان ـ مختارات من روائع الأدب في الجاهلية والإسلام ص23.
11) أبو الطاهر التميمي ـ المسلسل العذب في غريب لغة العرب ص 119.
12) دائرة معارف القرن العشرين ـ ص 118.
13) شوقي ضيف ـ العصر الجاهلي ص 376.
14) أحمد كمال زكي ـ شعر الهذليين ص 103.
15) أبو منصور الثعالبي ـ التمثيل والمحاضرة ص 353.
16) أحمد شوقي ـ الشوقيات (خصوصياته).
17) عياد العوامي ـ الحيوانات في الأمثال الشعبية ص 84.
18) مجلة مجلة المعرفة ـ ج14 ـ ص 2558.
19) William Beton Encyclopaedia Britannica )see wolf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق