الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

الحب خارج دائرة فلنتاين

الحب خارج دائرة فلنتاين
د. عبدالجواد عباس
       يقولون : العذاب بأن تحب، والعذاب الأكبر بألاّ تحب، فالحب بحرٌ عميقٌ واسع، لا يكاد ينجو منه أحد، حتى الذين ظنُّوا أنهم نأوا عنه أتوه طائعين خاضعين قال حكيم : إن لم يكن الحب طرفا من الجنون فهو عصارةٌ من السحر، فسواءٌ أكان صاحبه فقيها أو ديّنا، ورعا أو داعرا فاجرًا فهو إذا مسّ قلبا صرعه وأذلـّـه:
       لقد كنْتُ ذا بأسٍ شديدٍ وهمّـــةٍ           إذا شئتُ لمسًا للثريّــــا لمستُها
       أتتني سهامٌ من لحاظٍ فأُرشقــتْ            بقلبي ولوِ استطــيعُ ردًا ردَدْتـُها
فالذين أحبُّوا بصدق ما استطاعوا للحب ردّاً على الرغم من أنه يعذِّبُهم ويقضُّ مضاجعهم، ذلك لكلفهم به وإقبالهم عليه وحرصهم على وصال الحبيب.. هاهو نموذجٌ منهم ؛ إنه قيس بن الملوّح، وكأنه يعاتب نفسه على هواها في حبِّ ليلى الذي لا يستطيع له كبح جماح، ولا التخلص منه :
       خليليَّ لا والله لا أملكُ الــــذي           قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليَا
       قضاها لغيري وابتلاني بحبِّــها            فهلاَّ بشيءٍ غيــر ليـلى ابتلانيَا ؟
       تمرُّ الليالي والشهورُ وتنقضــي         وحبُّكِ مـــا يـــزدادُ إلا تماديَـا
يرى طه حسين أن الحب ليس صلةً يسيرة مطـّردة بين نفسين، وإنما هو يمتاز بما يثير بين الأحياء  من قرب وبعد، ومن رضًا وسخط، ومن هجر ووصل، وبما ينشأ  عن هذا كله من أسقام تعذِّب النفوس وتمزِّق القلوب وتـُضْني الأجسام وتطلق الألسنة بالشكوى، وتملأ الجوَّ حول المحبين غناءً يَـرُوعُ أحيانا بما يشيع فيه من الأمل والابتهاج، ويروع أحيانا أخرى بما يسيطر عليه من اليأس والابتئاس(1).
       كلهم يقعون في الحب، فالحب لا يعرف المفاضلة، فإذا ما نصب شراكَه يقعُ فيه من يقع ـ الغنيُ والفقير، البسيط والحازم، العالِم وغير العالِم  وطوائف شتَّـى لا تنتهي من البشر، يرى كلُّ اثنين منهم مبلغَ غرامِهِ ورأْسَ حاجتِه في الآخر، وللناس فيما يعشقون مذاهب.. وأكثر ما ينشأُ الحب بين المتقاربين في الثقافــة أو العقلية أو البيئة أو ذوي العمل الواحد أو ما شابه ذلك، فالطيور على أشكالها تقع.
       وينتشر الحب ويعظـُـمُ أمره في أوساط الشباب بصفة خاصة.. وبالاطلاع على عقول من كتبوا ومن قالوا الشعر في الأجيال الماضية نستطيع من خلال قصائدهم وخواطرهم أن نتعرَّف على أعمارِهم التي قالوا فيها ذلك ونحددها، خاصة ما يتعلق بالمرأة، لأن تفكير الشباب أثناء ثرائهم العاطفي مميزُ عن تفكيرهم عندما تتقدم بهم السن، فمنهم من يتفانى في الغرام فلا يجدُ غيره بديلا، ولا يرضيه غير الحبيب مهما كان شكله ووصفه، فالحب كما يقولون  يُعمي عن المساوئ، كما أن البغض يُعمي عن المحاسن.. يعني عندهم الاندفاع والتفاني حتى على غير هدىً فمن يرضَى مثلا أن يقول :
       ألا ليتني أعمى أصمُّ تقودني                 بُثيَنــة  لا يخفى علـيَّ كلامُها
قال ذلك جميلٌ العاشق العُذْري المشهور أيام تهيامه ببثينة، وما عسى تصنعُ بثينة بأعمى أصم !
وهائم آخر من عشَّاق العرب ؛ إنه كُـثـيِّر عَزَّة، وقد طوَّح به غرامه بعيدا عن مراميَ البشر  فتمنَّـى لنفسه ولعـَزَّة  أن يكونا بعيرين أجربين لشخص غني حتى لا يأبه بهما أحد، فهو القائل :
       ألا ليتنا يا عزُّ كنَّـــا لــــذي غنىً              بعيرين نرعى فـي الخلاء ونعزبُ
       كلانا به عُـرُّ فمـــن يرنــا يقــل              على حُسْنِها جرباءُ تـُعْدِي وأجْرَبُ
       إذا ما وردْنا منهلاً صــاحَ أهلــُه             علينا فما ننفــكُ نُــرمى ونُضـربُ
       وددتُ وبيـتِ اللهِ أنك بكــــــرة ٌ             هجانٌ وأنـــي مُصْعَبٌ ثم نهـربُ
       نكون بعيرَي ذي غِـــنىً فيُضِيعُنا                فلا هــــو يرعانا ولا نحن نُطلبُ
وقد أُلقيت هذه الأبيات في حضرة عمر بن أبي ربيعة المخزومي فقال لكثير : تمنيتَ لها ولنفسك الرِّقَّ والجَرب والرميَ والطرد والمسخ، فأيُ مكروهٍ لم تتمنى لها ولنفسك، لقد أصابها منك قول القائل : معاداةُ عاقل خيرٌ من مودة أحمق.
والرجال يظهرون عشقهم دون النساء، فهم يتغنون بأشعارهم فيُبدئون فرحهم وسعادتهم بلقيا الحبيب، أو يبثون حزنهم وشكواهم من تجهّم الأيام ومعاكسة الزمان، أو يصفون حالهم وخوالج نفوسهم.. وليس كلهم على هذه الشاكلة ؛ فهناك من يشذ  عن هذه القاعدة، فقد ورد في البيان والتبيين أن الفرزدق كان كلفا بالنساء أيّما كلف، وهو في ذلك ليس له بيتٌ واحد في النسيب مذكور،  بينما جرير عفيف لم يعشق امرأةً قط، وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا(2)
       وكما وُصفت المرأة في تراث الفصحى فقد وصفت كثيرا جدا في التراث الشعبي فهي مدللة في كل العصور، وعلى لسان كل قوم، فشُبْهتْ بالورود والرياحين والرياض والحمائم.. كلُّ يمتّ  لها بصفة من صفاته  ولكنها وُصفتْ كثيرا بالغزلان  لسواد عيونها ورشاقتها وقوامها المشوق،  قال عنه قيس بن الملوح بشبهه بليلى:
       عيناك عيناها وجِـيدُك جِـيدُها              ولكن عظم الساق منك رقيقُ
أليس هذا شبيها بقول شاعرنا عبدالسلام الحر في قصيدته التي قالها منذ خمسة وأربعين عاما
التي من أبياتهـا :
يا غزال لا تجّارا         بانن عليك أوصاف سـود انظارا  تعال ننشدك
يا غزال الصّـــوا      خذ اموايرك مول الغثيث أملــــوا               
                            غير انت ما تقبل اخــــلاط أو دوّا
                            واخذ الخلا عايش بعيد عصــــارا
يا غزال ما تعرفه         اللي وصّفه كيفك بعد نوصفـــــــه
                            امغير انت عايش في ابساط او دفه
                            أو هي وطنها لوطه عرب وكــاره
       هذا قليل من كثير، إنها قطرات من بحر عميق اسمه الحب، امتلأت به الكتب  وفاضت منه النفوس، إنه غير مقصور على مكان دون آخر، ولا على جيل دون جيل، وإنما هو متصل بالنفس الإنسانية في تكوينها ومزاجها، فطالما وُجد طابور جحافل جيش الحياة الطويل يوجد الحب، وحيث ما كان الحب كان الأمل، والأمل كما يُقال رفيق مؤنس أن لم يبلغك فقد ألهاك.

 

(1)  من لغو الصيف إلى جد الشتاء ـ طه حسين ص 169.
(2)  البيان والتبيين ـ أبو عثمان الجاحظ ج1 ص 208.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق