الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

السمسار

السمسار
د. عبدالجواد عباس
لا يكاد عبدالصمد يمضغ الطعام فهو يلتهمه التهاماً،وأثناء التهامه يكلّم هذا ويكلم ذاك عن أشياء تخصه أو لا تخصه، لا تخرج في مجملها عن النقود والربح.. أحيانا يتناول طعامه وهو واقف أو منحنٍ، أو لابسٌ حذاءه، لا يبذل كثير عناء في تسوية هندامه أو تنظيف ملابسه، بل كاد يتشاجر معي ذلك اليوم، يوم الجمعة بالذات، بل في شهر رمضان حيث كان متكئا على جدار المسجد من الخارج، يلعب الورق مع بعض كبار السن ممن يتندّرون برطانة إيطالية من حين إلى آخر، يرفعون أصواتهم ويخفضونها لتنفجر ضحكة تطغى على الأصوات من حولهم.
         
          لقد كان الخطيب يخطب ويردد آيات الترغيب والترهيب.. ما كنتُ أمتاز بالشجاعة ولكن رأيت نفسي مكلفا لأن أعمل شيئا.. تنفست الصعداء ووقفت إلى جانبهم، وقبل أن أتكلم أزاحني أحد اللاعبين بيده دون أن يلتفت بحجة أني واريت عنه الشمس فقلت: عيب يا حجاج، المفروض أن تكونوا في المسجد الآن.. سمعت تمتماتٍ غير مفهومة، وقال أحدهم: سندخل ولكن عندما تقام الصلاة، الصلاة لن تفوتنا على كل حال.. وقال آخر: لا أحتمل الجلوس في المسجد مدة طويلة فجسمي يؤلمني.. كل ذلك وهم لا يلتفتون بل ينظرون إلى الورق، فقلت وأنا أتكلّف الهدوء: شوهتم صورتنا الإسلامية.. وعندها رفع عبدالصمد رأسه وقال: امشِ صلِّ على حالك يا رجل، هو أنت ربنا تحاسبنا نصلي أو لا نصلي.
         
          لم تكن المرة الوحيدة التي وجدت فيها عبدالصمد السمسار يلعب الورق مع المسنين، فقد اكتشفت أن ثمـة علاقة بيع أغنام تربطه مع أحدهم.. هو لا يلهو عبثا بل يرى من الأهمية بمكان أن يكلم هذا ويضحك لذاك، يجامل بعضهم ويعرض عن بعضٍ آخر، خاصة أولئك الذي لا يرتبطون بالصفقات، يتركهم، فكثرة التفاصيل معهم لا تؤدي إلى نتيجة.

          عبدالصمد السمسار لا يوجّه اهتمامه نحو بضاعة بعينها، وإنما هو على استعداد لأن يشتري أي شيء يلمس فيه الربح.. فإذا ما كانت لديه أغنام فلا يحب أن يرى في السوق دواجن تُباع، وإذا ما كانت لديه دواجن فلا يحب أن يرى المجازر معمورة باللحوم.. في وقت الحصاد يشتري كميات كبيرة من الحبوب، يقوم بتخزينها ليظهرها في الوقت المناسب فيحصل على ضعف ثمنها الأصلي.. له وسائله كي يعلم قدوم البضاعة قبل غيره.. ابنه الأكبر يتسلل من عمله وينطلق بسيارته ليلاقي شاحنات الدلاع قبل وصولها إلى السوق.. عبدالصمد يشتري اللحم الوطني والفواكه متى شاء.

          وبالمقابل فإن جاري إبراهيم مضطر لأن يبحث عن عمل في فترة العشية علّه يواجه موجة الغلاء.. جاري إبراهيم خريج جامعة، ومصنّف على الدرجة الثانية عشر،.. كان لديه سيارة لكنها تعطلت فأخذ يبحث لها عن قطع غيار بما يتبقى لديه من دنانير عقب كل شهر لكنه يضطر إلى صرفها مرجئا شراء قطع الغيار للشهر الذي  يليه، وأخيرا ترك شأن السيارة لما أعياه البحث، وبقي يقطع مسافات طويلة مشياً على قدميه.. إلى العمل.. إلى البيت.. إلى السوق.. وإلى أماكن أخرى.. يحاول إقناع نفسه بأن المشي رياضة مفيدة.. زملاؤه في العمل كلٌ أخذ دوره في نقله إلى بيته، ومنهم من، أخذ أكثر من دور، بل يعرّج به أحيانا على السوق لشراء خضار أو أي شيءٍ ثقيل حتى إن إبراهيم أخذ يستحي في التعرّض لطريقهم كي لا يحرجهم.. إنه ملَّ ترديد الشكر.. ملَّ المجاملات وعرفان الجميل.. لقد ملَّ كل شيء وفضّل السير على رجليه أو انتظار الحافلة.
          كان إبراهيم يلمّ بسوق السيارات أحيانا لعله يعثر على قطع رخيصة لسيارته، ويلتقي في كل مرة بابن عبدالصمد السمسار الأكبر حسن، يقوم ببيع قطع غيار نادرة وغالية، ليس باستطاعة الأستاذ إبراهيم دفع ثمنها.. ابن عبدالصمد هذا كان تلميذا لإبراهيم ذات يوم، ولكن هذا التلميذ لا يعبأ ‘ بل يكتفي بإيماءة عابرة نحو أستاذه.

          عبدالصمد ضرب أطنابه في أوساط كثيرة، حتى في المدرسة التي يدرّس بها إبراهيم.. كان له علاقة بمن يعمل في  المقصف.. يأتي كل صباح محملا سيارته بإفطار التلاميذ.. ملعقة بيض أو فول أو أي شيء آخر مخلوط لا ندري ما هو..
         
          عندما يحل الشتاء تتقلص أعمال عبدالصمد قليلاً.. لكنه يتلافى ذلك ويفتح مجزرة.. وفي غمرة البيع والعدد الكثير المتزاحم عليه تراه يرمي بكتلة اللحم في الميزان  ولا يتركها تستقر حتى يلتقطها بسرعة ويضعها في الكيس  وقد جرّت كتلتها المؤشّر إلى وزن أكثر وزنها الحقيقي.. إذا اعترض الزبون فلن يرى إلا التذمر الشديد وتغير اللون وربما الشتائم أيضا.. وإذا استرسل الحديث فربما وقع عراك المستهلك في غنىً عنه.
         
          عبدالصمد عنده في المجزرة مفرمة للحم، يبيع اللحم المفروم، صحيح إنه مفروم ولكنه مخلوط بالشحم واللحم القديم ولحم الرأس والكرشة... كلها تختلط وتمشي في تلابيب بعضها البعض... الأستاذ إبراهيم لا يخفى عليه ما يفعله عبدالصمد السمسار وأمثاله وينذر دائما بأنه سوف لا يألو جهدا في الكشف عن حيلهم.. لقد نصحت إبراهيم كثيرا بالتوفير ولكني كففت عن ذلك لأنه أصبح يغضب بسرعة، قلت له ذات مرة إن عبدالصمد يعتبرك درويشا لأنك خامل النشاط فثارت ثائرته وقال: أنا من الدراويش! إن لم أقلبها على رؤوسكم أيها الملاعين الرعاع! ولكن من يتضامن معي؟ يـــــالله! أصبح اللف والدوران سياسة، وأكل أموال الناس بالباطل يضحى عملا مشروعا ‘ أتسمي هذا نشاطا؟

          سكتّ أنا.. وبعد فترة صمت قصيرة رأيت إبراهيم قد هدأ وقال يحدثني: إن عبدالصمد كان محقا، أتدري لماذا؟ لأن اللوم يقع علينا نحن الذين أفسحنا له ولأمثاله الطريق عندما التزمنا الصمت.. أفسحنا لهم الطريق عندما سكتنا عن مثالبهم، لقرابتهم لنا أو لصداقتهم أو لأنهم قضوا لبعضنا ما يريد.. عرفتُ هذا مذ رأيت عبدالصمد مسموع الكلمة في الأوساط الرسمية وغير الرسمية.. يقضي ما جاء من أجله قبلي، لمـــاذا؟ لأني لا أساوي ثمنا وليس ورائي من يساوي ثمنا ولكن مع ذلك لست ضعيفا.. أريد معي من يمتاز بالقناعة ليقف معي في وجه عبدالصمد.. عبدالصمد طالما يجد أغبياء يبتزهم ويضحك على عقولهم فهو محق بأن يصفهم بالدراويش، فقط علينا ألا  نطمع ألا نشتهي أشياء لا قبل لنا بها، علينا أن نرضى بالنزر القليل لحين كساد بضاعة عبدالصمد وأمثاله.. بقناعتنا بالقليل ستبور بضاعة عبدالصمد.. أما أن نجري وراءه ونشتري منه بين الفينة والفينة فهو محق بأن يصفنا بالدراويش.. ذلك لأننا دون درجة النضج.. دون درجة الإدراك والوعي.. أنا لست درويشا؛ فعبدالصمد لم أشتر منه شيئا ولكنكم اشتريتم وضحكتم معه وتعاملتم معه.. أنا أستغني عن السيارة  طالما قطع الغيار في يد عبدالصمد وأمثاله.. أنا أستغني عن الطماطم الأخضر نهائيا طالما ثمنه ديناران.. سأستعمل قدمي في التنقل من مكان إلى آخر فصحتي ما زالت جيدة والحمد لله.. سآكل اللحوم الرخيصة الثمن.. سأشتري الخضار التي تتلاءم ومعاشي.. أنا قادر على أخذ القرار المناسب.. ولكن هل تقررون معي؟ هل تعاضدونني؟ هل تعيشون كما عاش الأجداد؟ هل تقفون معي في وجه عبدالصمد وأمثاله من السماسرة؟ إنــي أنتظــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق