أستاذية سائق الحافلة و أشياء أخرى
د. عبدالجواد عباس
أطلقت صفة الأستاذية على سائقي الحافلات مجاناً .. بل جاءتهم تسعى على طبق من ذهب دون عناء .. أنا شاهدت ذلك عن كثب لأني أركب الحافلات كثيراً .. الغريب في الأمر أن نداء سائق الحافلة بالأستاذ لم يأت على ألسنة الركاب العاديين فقط و إنما أتى و كثر على ألسنة طلبة الجامعة الذين هم أكثر ركاب تلك الحافلات و الذين هم أعرف بالدرجات العلمية .. و بأن الوصول إلى درجة " أستاذ " يحتاج إلى سنين متواصلة من الجد و الكد و الدراسة و المحاضرات و البحوث و وضع الخطط .. مروراً بدبلوم الدراسات العليا ثم الشهادة العالمية " الماجستير " ثم الشهادة الدقيقة " الدكتوراه " .. و قد نتسامح في إطلاقها جزافاً على المعلمين و المدرسين و كبار الموظفين لأنهم يحملون طرفاً من صفة الأستاذية و لكنهم ليسوا أساتذة بالصفة الفعلية .. و قد يثير انتباهك بعض الأفارقة من ركاب الحافلة حفظوا كلمة " أستاذ " سمعت ذلك من بعضهم قائلاً : " هنا يا أستاذ " يدعو بها سائق الحافلة بالتوقف مع أنها في قاموسه تعني السائق .. حسبوها من لب اللغة كدلالة على ما أطلقت عليه ذلك لأن أهل البلد خلعوها على سائق الحافلة هدية مهداة . أغضبتني مراراً و تكراراً هذه السفاهة على اللغة .. فكلما طرقت أذني كلمة " أستاذ " و هي تطلق على سائق الحافلة شعرت بالسذاجة و الانحطاط .. و العجيب أن السائق يتقبل ذلك و لايعترض على هذا الوصف بل ينفذ أمر الوقوف بصمت .. كم سكت على مضض غير أني قلت لأحد الشباب عندما أستوقف السائق بكلمة " أستاذ " قلت له : هل تهزأ بالرجل و تصفه بما ليس فيه .. أمامك أستاذ أم سائق حافلة .. اعتقد أني قلت ذلك بابتسامة و بكل أدب غير أن الشاب استنكر قولي بل انفجر و كاد يشد خناقي قائلاً : هو أستاذي و أستاذ أستاذي .. و المشكلة التي اتضحت أن السائق كان حقاً من المعلمين و الطامة الكبرى أنه يقع تحت إشرافي في التفتيش التربوي و لكني نسيت وجهه لأنه ليس من الوجوه القديمة المألوفة .. هو لم يحتف بوجودي كثيراً لكنه قال : " عادي يا أستاذ ما اتعدلش " . من الخطر وضع الأسماء في غير محلها دون غرض بلاغي .. ربما هذا التصرف دون مبالاة سيصبح بعد حين هو السائد .. فمنذ سبعين عاماً و نيف حاول أسلافنا انتشال العربية من عصر الرداءة و الهوة التي وقعت فيها نتيجة استهانة المستعمرين بها .. فهل تسقط الآن بعد أن أصبحت في أيدينا إلى حد ما ؟ !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق