الشتاء في الجبل الأخضر
د. عبدالجواد عباس
للشتاء في العرف الشعبي أقوالٌ وتسميات كثيرة لا حدّ لها ، وقد قسموه في الغالب إلى ثمانية أسماء ، وهي تختلف في الزمن طولا وقصرا ، كما تختلف في درجات البرودة ، وهذه الأسماء للشتاء على التوالي هي : التوت والنصر والنزول ثم أي النار وفسوخ الليالي وفـُرار ومارس وأبرير..هذا هو العرف السائد في منطقة الجبل الأخضر المحفوفة بالغابة وكذلك جنوبه ، وهو ما يعرف بمنطقة البر الذي لا وجود للغابة فيه ، حيث تكون منطقة (الجشـّة) أو ما يسمى بالشارب حداً فاصلا بينهما..
وأي النار كناية عن الليالي الأربعين ، أو الليالي السعد تفاؤلاً ، حتى لا يقولون السّود لرفع التشاؤم..وهو أهم قسم في الشتاء وأكثرها بردا وأغزرها أمطاراً ، وأي النار اسم مُرخّم حُذف منه حرف النون ، والأصل (أين النار) لأن الناس تسأل عن النار وتطلبها في هذه الأيام خاصة .. وقد جاءت لغويا من (الأين) أي الحين أو الوقت ، فأين النار يعني حين النار أو وقتها (1) ، يكثر الطلب عليها في هذا الحين.. وفي هذه الليالي تتجمد الأشياء الرخوة إن لم توضع في الدفء ، وقد تبرد أعضاء الجسم إذا تـُرك جزءٌ غير مغطى و مكان النوم غير مُدفأ..
ويتجزأ أي النار من الداخل إلى أربعة مراحل ، حسب شدة البرد وغزارة المطر أو قلته ، وكل مرحلة عشرة أيام ، فيبدأ أي النار بالعشرة ألأول وهي (الطوالح) ثم تعقبها (الكوالح فالموالح فالصوالح ) ، كل منها عشرة أيام ومجموعها أربعون يوما ، وتعرف أيضا باسم (الليالي السَّعد) ، كما تطلق عبارة (الشتاء الأبيض) على المدة التي تعقب الليالي الأربعين ..والشتاء الأبيض وإن كان يأتي في العادة أخف مطرا وبردا من أي النار أو الليالي إلا أن ذلك ليس بالضرورة دائما فقد تأتي أيامٌ قاسية ممطرة قد تـُـجلد فيها ،، ولذلك ثبت قولهم (إما أيشلدن وإلا أيجلدن) خاصةً في وقت ما يسمّى بـ(المباركات) ، وهي تسمية فرعية لآخر الشتاء الأبيض.. وهذا يعني أن الشتاء الأبيض إما أن يأتي بردا قاسيا حتى يصحبه جليد ، وإما أن تهب الرياح الشديدة التي قد تكون أخف بردا ، حيث تجفف الأرض ويصحبها شيء من الدفء.
والليالي الأربعون هي أصعب أيام الشتاء ، ويطلق عليها في بلاد الشام (الأربعينية) .. وقد درج في العرف الشعبي بالجبل الأخضر أنه إذا كان أي النار قليل المطر فإن الزرع سيكون قليلا أيضا ، ولذلك اشتهر قولهم:
اللي ما يجيبها أي النار فحل الشتا بو عوايـد
مـا يجيبها مارس أو فرار اللي متكفياته صهايد
أي أن أي النار أو مطر الليالي الأربعين إذا كانت متصلة وغزيرة فإنها كافية لإرواء الأرض الزراعية حتى ولو تأخر المطر بعدها شهراً أو أكثر ، أما إذا لم تمطر في هذا الحين أو كان المطر قليلا فإن الزرع سوف لا ينبت نبتا يانعا مقبولا لأنه ليس أمامه سوى مارس وفرار اللذين يتخللهما في العادة أيامٌ مشمسة ، تجفف الأرض وتقضي على اخضرارها ، وليس بعدهما إلا مرحلة تجف فيها التربة وتنكمش فيها الأعشاب وتلتوي آيلة للذبول هي ما يعرف بـ(اللوايا). .
وفي بعض الجهات الغربية من ليبيا يعتبرون الشتاء كله ممثلا في أي النار أو الليالي ، ولهذا قالوا:
عشرين قبل الليالي أو عشرين هن الليالـــي بروحهن
أو عشرين بعد الليالي أو عشرين وتـّـي المذاري بلوحهن
أي جعلوا الشتاء برمته ثمانين يوما ، ليس أمام العشرين الأخيرة إلا طلوع السنابل والعمل على تجهيز الجرن ومعداته لها كالمذاري وغيرها ، وهو من باب التفاؤل أيضا .
كما درجوا أيضا على تسمية الشتاء والمطر عموما بأنه (نـــوء) وإن كان بعضهم يطلق كلمة نوء على الحر أيضا .. وقد انفرد كل من لسان العرب ومختار الصحاح بهذا المعنى ، فيقولون : هذا نوء مطر وهذا نوء رياح وهذا نوء حر أو نوء برد .. فكلمة نوء في العربية كلمة عامة دالة على شدة بردٍ أو رياحٍ أو مطرٍ أو حر.
ويعتبر أهالي الجبل الأخضر وما حوله من المناطق الحرث في أول الشتاء مجازفة ، فقد لا تمطر بعد الأيام الأولى فيموت الزرع ، أما إذا أمطرت بعد الحرث فسيكون الزرع في أحسن حال ، ومع ذلك فكثير منهم يحرثون ، وقد تردد في ذلك قولهم: (حرثُ التوت إما يغني وإلا يموت) ، أي إما أن يكون المحصول وفيرا فيغنيك ، وإما لن ينبت فلا تحصل على شيء.. وهذا جالب للاعتقاد بأن الله لن يُؤجرهم على تعبهم إذا فسد الزرع لأنهم حرثوا في غير الميعاد المتعارف عليه من الشتاء ..
والتوت هو أول مرحلة من مراحل الشتاء في العرف الشعبي ، والمزارعون غالبا ما يبدؤون الحرث في المرحلة الثالثة من الشتاء وهي (النزول) أي نزول المحراث ولا يندمون إذا لم تمطر بعد الحرث لأنهم حرثوا في الوقت المعين، ومن ثم لا يهمهم إذا لم ينبت الزرع لأنهم سينالون جزاء كدهم من الله ، ولهذا يقولون :(إما يجي صابه وإلا أجر بترابه) .
ورغم شتاء الليالي الأربعين وكثرة انهمار الأمطار فيها إلا أنهم يعقدون أملا كبيرا أن تمطر قليلا في المرحلة التالية من الشتاء ، وهي المسماة بـ(الفسوخ) أي فسوخ الليالي وانقضائها ، ذلك أنه إذا أمطرت في الفسوخ فإن الزرع سيستفيد استفادة كبيرة ويكون وافر المحصول ، ولذلك شاع قولهم :
ارزقني بتوبة نقيـة بها يصلح الله حالـي
كيما رزقت الزرع بروية مطر في فسوخ الليالي
وفسوخ الليالي أي انتهائها وبداية ما يعرف بالشتاء الأبيض الذي يدوم 25 يوما ثم تكون هناك بداية الربيع ، حيث تبدأ تسميات أخرى لهذا الفصل التي هي عبارة عن لواحق لفصل الشتاء ، فتشمس عدة أيام حتى تظن أن الصيف حل ثم يعقبها مطر غزيز في يوم آخر وكأن الشتاء سيبدأ من جديد .
===========================
(1) القاموس مادة (أين)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق