الاثنين، 21 نوفمبر 2011

نزيف الصمت



نزيف  الصمت

المجموعة القصصية " نزيف الصمت " لعبدالله عبدالباري المنشورة بواسطة دار الحرة لسنة 2010 ، وهي 91 صفحة  من القطع المتوسط ،
 تعبر عن ثلاثين قصة قصيرة ، االثماني قصص الأولى من هذه المجموعة تعبر عما يجري في الحياة العصرية من تجاوزات في الأخلاق  والسلوك وهضم حقوق الإنسان ، وما يحيق به من فقر وعوز نتيجة ظلم الآخرين له ، وذلك بتفويت الفرص وقطع السبل عليه من أن يعيش حياة ميسورة كريمة .. وكل هذا يتمثل في القصص الثمان مثل : الرجل الطيب صرخة ميت ـ مدينتي من بعيد ـ الحكاية وما فيها وغيرها ....
           كما تمتاز المجموعة بتسع عشرة قصة اجتماعية ممزوجة بنفََس فلسفي  حيث ترك المباشرة  جانبا  بعد الثماني قصص الأولى ودخل في طور جديد ، استعان فيه بالرمز والتلميح وضرب الأمثال كما هو واضح في قصص : حدث ذات مساء ـ ذيل الأفعى ـ القصر المهجور ـ الأقنعة ....هذا بالإضافة إلى ثلاث قصص عن المقاومة الفلسطينية تعبيرا منه عن شعوره بالمشاركة في القضية والالتزام الأدبي القومي نحوها
           وقد جاءت جميع القصص بلغة سليمة وتعبيرات وجمل لا تخلو  من الكياسة والذوق وفنية الصياغة وتكثيف المعنى والصور البيانية مثل : (سرير متهالك يطالبه بالتقاعد) من قصة "حكاية ليست قديمة" ، ومثل : (ذهبت إلى حجرتها وبصحبتها ثمانون عاما ) من قصة "صديقي أتسمعني"، ومثل "ذلك المجهول يلاحقني أينما ذهبت " وهو يعني الخوف الجاثم على صدره في قصة " حدث ذات مساء" .. كما نجد غناوي علم فيها رمز مكثف جدا والتعبير بها عن حالة الشخصية كان صائبا مثل: "العقـــل جــــو ايعــــــزوا فــــيه علـــــي كـــــواينة قــــال أيــــهن " و "ليّام فارضة ‘ العقل ينفض ايديه ملي ايريــــــــدها" ذلك في قصة "ذيل الأفعى".
           ومن هذه القصص ما يعالج بعض الأمراض الاجتماعية ، فنجد أنه قد دفن الطمع في قصة "الحكاية وما فيها" ، كما دفن الخوف في قصة "حدث ذات مساء " التي يتحدث فيها من داخل نفسه في تراجيديا مؤلمة ، وتعتبر القصة موضوعيا من أحسن قصص المجموعة ، تشكل مع قصص :الأقنعة ـ صديقي أتسمعني ـ ذيل الأفعى تشكل قاسما مشتركا في التأمل ومدارسة الحياة والاحتكاك بالمواقف الصعبة في تجارب عن كثب .
           وإذا اتجهنا نحو الأسلوب فإنه لا يخلو من تقنيات سردية جميلة لها معنى وشفافية تخدم الإطار العام للقصة .. فالشخصيات  تتناسب والقصة القصيرة في كونها شخصية ميلودرامية واحدة في معظم القصص ، كما يدع لهذه الشخصيات أن تعبر عن نفسها في أحيان كثيرة بدل ضمير الغائب الذي تألفه جل القصص التقليدية أما مقدمات القصص فإنها تهيئ للدخول في الحدث بالصورة المألوفة للقصة العصرية ، كهذا المقطع " وتبدأ الشمس  في الهبوط  متخذة طريقها المعتاد إلى أعماق البحر .. الأمواج تتهادى في هدوء ، وزرقتها تتحول شيئا فشيئا إلى اللون الداكن .. النسمات الهادئة تداعب الوجه الذي تغيرت ملامحه من آثار المرض .. بعض الطيور تحلق مهاجرة إلى أوطانها .. تتذكر حينها بأنه هناك وحيدا .." وقد تكون بداية القصة هي نهايتها كما في قصة (الحكاية وما فيها ) التي أقبر فيها الطمع وحرر نفسه منها كما حررها من قبل من الخوف في قصة (حدث ذات مساء).
          وقد وظف بعض التقنيات الفنية كتراسل الحواس والتناص والمفارقة ؛ ففي عبارة : "يحاول أن يلمس ضوء القمر  ويشم الصمت الذي يخفي في ثناياه مؤامرة..." تراسل حواس ؛ أي أن تنوب حاسة عن حاسة أخرى وتمتزج بها  ، فحاسة اللمس تنوب عن حاسة البصر  ، وحاسة الشم  تنوب عن حاسة الصوت ، فالصمت غير مسموع فيكون من خصائص السمع وليس من خصائص حاسة االشم ويرد تراسل الحواس أيضا في قصة ( اليمامة وأنا) ، هناك عبارة : " صعد السلم الضيق المملوء برائحة الرطوبة والسكون ، وهنا تمتزج حاسة الشم بحاسة السمع..

          والتناص الذي هو عبارة عن تأثر نص بنص الذي يأتي عفو الخاطر نتيجة لتأثر الكاتب  بما يقرأ.. ففي قصة (ضمير متقاعد) عبارة : " نظرت في كل اتجاه فلم أجد سوى رمال من فوقها رمال من تحتها رمال .." التي تتناص مع قوله تعالى : " أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موجٌ من فوقه موج من فوقه سحاب ..."
الآية 40 من سورة النور.. وفي نفس القصة ترد عبارة : " وأمهلني لأصّدّق وأكن من الصالحين.." التي تتناص أيضا مع قوله تعالى : "... ربِّ لولا أخرتني إلى أجلٍ قريب فأصّدّق وأكن من الصالحين" الآية 10 من سورة المنافقون.. وفي قصة (يولدون كبارا) عبارة : " تصرخ هي ولكن لا حياة للمعتصم" تتناص مع قول المرأة في  مدينة عمّورية  التي احتلها الروم فاستنجدت بالخليفة المعتصم بالله قائلة (وا معتصماه) فاستجاب لندائها وطرد الروم شر طردة.
   ولم يكن مرغما في قصصه من استعمال أدوات العطف التي تساهم في وسم  الكتابة بالمباشرة كما يكثر في أسلوبه المداولة بين السرد والمناجاة بتيار الشعور الداخلي مثل مساءلة الشخصية  لنفسها عن أمواج البحر في قصة (مدينتي من بعيد): " إنها كحال البشر يقتربون حينا ويبتعدون أحيانا .. ألم يكن للمصالح بريقها الخلاب !?.. ألم تكن كل الأشياء الجميلة في هذا الزمن العجيب نسيا منسيا؟ّّ! ..
 هناك رمزية في الموضوع لا الشكل في القصص المقدمة ، ولا يمكن أن نغفل عن الصورة التشكيلة للغلاف ، إذ عرف الفنان كيف يقرأ القصص لتتم قراءة ما أبدعه من صورة ، فصورة الشخص فيها ضبابية مقصودة لتعبر عن إنسان أيِ إنسان ليس بالضرورة أن يكون معروفا ، وليس بالضرورة أن يكون المقصود هو القاص نفسه..فقصة (مدينة تقتل الغرباء) فيها رمز عام لما يمارس في كل مجتمع من قبل الإنسان وفي ردعه عن غيه وطمعه مقابل السترة التي نسيها تماما ، مقابل طلبه للخير العام له ولجميع من حوله .. وقصة (نقارش ) فيها رمز للإنسان الذي يقدم الخير ويرجو جزاءه فلا يجد غير النكران والجحود .. وقصة (حكاية ليست قديمة) يرمز هذا العنوان فيها إلى مفهوم مكثف ، فهو لا يعني محض الفرق بين القدم والجديد ، وإنما يعني أن قصة هذا الرجل تحدث كل يوم في أسر كثيرة وليست جديدة كالحبس والفقر وتأخر المرتبات ..  وقصة (ضيف مزعج) فيها رمز أيضا عن ملازمة الفقر وسوء الحال الذي يخيم على المكان ... وغير ذلك من القصص فيها أو في ثناياها رموز عما يرمي إليه المؤلف.
 ويبقى أن نقول أن هناك مآخذ على كيفية الطباعة والتغليف ، ما يتضح معه أن الكاتب لم يراجع الطبعة التجريبية لكي يعثر على تلك المآخذ.. فهناك عدة جمل مكررة فوق عنوان كل قصة على الرغم من أن هناك ما يقابلها في لب الموضوع ولذلك تعتبر زائدة وتشكل تشويشا على القارئ والتباس في الموضوعات السابقة واللاحقة .. وهناك أيضا أخطاء واضحة في أرقام الصفحات ، وتكرر ذلك  في أرقام الفهرس مع كون حروفه صغيرة جدا رغم أن الصفحة تتسع لأكبر من ذلك .. ثم أن الأوراق تتفكك من بعضها عند التصفح العادي ..
 ولكننا نقول أيضا إنها قصص يجد فيها الإنسان نفسه وحاضره ، يجد فيها العادات والتقاليد السلبية والإيجابية ، إنها الشعور بنزيف الصمت بالفعل ، وهجوم الإنسان على أخيه الإنسان باللف والدوران واستغلال أدوات الجشع والطمع ، إنها قصص تمثل المعايشة اليومية لطوابير جيش الحياة الطويل ؛ فمن خلال إظهار الجوانب السلبية في الإنسان  تظهر الجوانب الإيجابية المضيئة  تلمع من بعيد محذرة من الوقوع في الخطأ وكأنها تقول : ها هي أنا فاتخذني مثلا  واترك هذا
 وفي النهاية أقول  أن الأديب عبدالله عبد الباري يعتبر بهذا العطاء وهذا الأسلوب من قصاصي الجبل الأخضر المتميزين ، وذلك لصراحته وشجاعته ، فقد  جاء بشيء متميز لأنه أدخل السياسة في قصصه لغرض الإصلاح العام والخاص وليس لغرض الهدم ، معاناة المواطن وحاجته إلى المعاش والمأوى ، تلاعب الآخرين بمقدرات المجتمع وسرقة أمواله بالاختلاس واستغلال السلطة والدس والخديعة ونصب الأشراك لبعضهم البعض ... بالإضافة إلى هذا كله فالقصص لا تخلو من نظرة اجتماعية معمقة أنتجتها تجارب الحياة وممارسة العمل ومخالطة مختلف طبقات الناس ما جعلها  قصصا اجتماعية ثنائية الإيقاع ؛ فمنها ما يمس الهم اليومي وما يحيق بالمواطن من منغصات ، وحديث النفس الذي لا ينتهي إلا بانتهاء  الحياة  ، ومنها ما يرجوه من أمل وما يهدف إليه من خير..وقد تتضح هذه الأمثلة القصصية في قصص مثل : خليها ساكتة ـ الحكاية وما فيها ـ من وحي الكواليس ـ الرجل الطيب مات...
التعليقات
 الاسـم : عبدالله عبدالباري
 البريد الإلكتروني
: bare22220
التاريخ : 2010-05-23
 التعليق
قراءتنا رغم اختبائي وراء كلماتي .. قراءة واعيةتستحق مني أن أقف أمامك - كماكنت - وقفة إجلال وإكبارواحترام دكتورناالفاضل: انتظر مني ثلاث توائم متلاصقة على رأي أديبنا جمعة الفاخري هي الآن " تحت الطبع " .. ولك تحية موصولة ومودة دائمة

 الاسـم : عبير البيضاء
 البريد الإلكتروني
: hgwpdhgfdqhx
التاريخ : 2010-05-23
 التعليق
سبق وأن تحدث عن الأديب عبدالله عبدالباري وهاهو خير شاهد شيخ أدباء الجبل الأخضر يمسح قصصه بعينيهويخط بقلمه البارع مايجب أن يكون . تحية لكما من الجبل والوعد منا بالتواصل ..

 الاسـم : عبدالجواد عباس
 البريد الإلكتروني
:
التاريخ : 2010-05-23
 التعليق
الأستاذ عبدالله عبدالباري ، الأستاذة عبير شكرا لكما على أمانيكم الطيبة واهتمامكم الأسمى بالثقافة والأدب الذي أنتما موصولان به دائما فإني أرى آثاركمافي أماكن كثيرة هنا وهناك ، وإنكما لا تنقطعان عن متابعة الفكر ولا تملان الاطلاع الواعي والتمحيص المستمر .

 الاسـم : السعيطي
 البريد الإلكتروني
: saete2010
التاريخ : 2010-05-24
 التعليق
قرأت المجموعة بشوق بعد هذه القراءة وهي تستحق الثناء والتقدير لكاتبها وشكرا للك يادكتور على هذه الرؤية

 الاسـم : المجموعة
 البريد الإلكتروني
: hgl[l,um2009
التاريخ : 2010-05-24
 التعليق
اطلعنا على القصص جميعها. والسؤال أين عبدالباري من موقع الاجدابي لماذا لا يطل علينا من خلال الموقع لننهل من ابداعاته . الرد يارئيس التحرير

 الاسـم : إبراهيم مسعود المسماري
 البريد الإلكتروني
: المرج
التاريخ : 2010-05-26
 التعليق
عرض جميل لأستاذناالدكتور عبدالجواد عباس ....مباركة مولودتك الجميلة أخي العزيز عبدالله ...

 الاسـم : عاشور الصالحين الأطرش
 البريد الإلكتروني
:
التاريخ : 2010-05-28
 التعليق
الأخ الدكتور عبد الجواد عباس..تحية طيبة وبعد..لعله حينماتقع نواظر القارىء على ما تكتب تسترعيه هذه الملاحظة وهى اتجاه قلمك(هذا ما لاحظه كاتب هذه السطور)أقول اتجاه قلمك إلى مواضيع تجود بها القريحة أو يبثه الخاطر،وأخرى تلك التى تعرج فيها على أعمال بعض الكتاب و الشعراء و الذين أراهم فى ازدياد. واعتقدأنّ المواضيع الأولى لا تتطلب من العناء والجهد مثل ما تتطلبه الثانية ،فالأولى يخضع فيها الكاتب لتلك الشحنة التى يظل أسيراً لها حتى يفرغها على الصفحات والأوراق ، والثانية تأخذ منه وقتاً فى قراءة أفكار الغير وأسلوبه وبيانه ومقارنتها وابراز ما يلحظه من جمل وعبارات تخدم النص ومدى الذائقة الجمالية فيها وقد لا يقتصر ذلك على عمل واحد لذلك الكاتب بل عدة أعمال و اصدارات ،أو حتى مقالات للكتاب . وهذه تتطلب كما قلت خبرة والماماً وجهداً أرى أنك أهل لها وله،فلا أقلّ من أن أُكبر فيك هذا الجهد وهذا العمل وهذه الخبرة لأننى متأكد أن ذلك يقع على ا لكاتب وقع الرضا والاستحسان وهذا فى حد ذاته عمل تستحق عليه التحية والعرفان ...الأخ الدكتور يستوقفنى هذا الذوق فى اختيار ما تستخلصه من النصوص (وهذا المقال احداها) فأرانى مُعجب به غاية الاعجاب بل إنه يُطربنى غاية الطرب خاصة أنه يتماهى مع هذه اللغة الرائعة، لغة الضاد،فتكتمل بذلك المتعة وهذه لعمرى أسمى الغايات وألذ ما تقع عليه النواظر وما يتيه به الفؤاد ،خاصة فى سرد سلس يجذبك بكل شغف فلا تتوقف عن متابعته حتى تتوف كلماته....فما أحوجناإلى هذه الطلة منك بين الحين والحين ،نصحبك فى رحلتك مع الكلمة عبر دروبها الواسعة سعة الأفق الذى يرنو إليه البصر فيسبقه الخيال..وإلى المعرفة أنشودة الظامىء وفىء الظلال ..مع تحياتى.

 الاسـم : فتح الله المجدوب
 البريد الإلكتروني
: البيضاء ليبيا
التاريخ : 2010-05-28
 التعليق
الدكتور عبد الجواد طاب يومك...امتعتنا بهذه القرأة لمجموعة كاتبنا عبد الله عبد الباري،،وكما هي عادتك وبراحبة صدرك المعهودة فتحت امامنا افق من الابداع بالغتك الرشيقة،،وكنت قبلها قد امتعتنا بالندوة التي اقمتها حول القصة في منتدى اماسي البيضاء،،حيث ابحرت بنا حول مفاهيم وشروحات ومعاني دقيقة لم نكن لنعيها...لك مني كل الود ياسيدي الفاضل..كن بخير

 الاسـم : عبدالجواد عباس
 البريد الإلكتروني
:
التاريخ : 2010-05-30
 التعليق
تحية للكاتب عاشور الصالحين الأطرش صاحب القلم الذي لا يمل الضرب على أوتار اللغة والأدب كيفما شاء له التنقل بين رياضها الرائعة وحدائقها الغنّاء .. وإن الأمر كما قلت ؛ فالعناء والحرص في الثانية غير الأولى مع أن الأولى في خدمة الثانية . وتحية شكر ومودة للفنان المخرج فتح الله المجدوب أحد أعمدة (أماسي البيضاء الثقافية) الذي إلى جانب نشاطه في الدراما قد متعنا كثيرا بقصصه ومداخلاته في شتى نواحي الأدب .. لكما مني أزكى المودة وأطيب التحيات....

 الاسـم : عبدالله عبدالباري
 البريد الإلكتروني
: bare22220
التاريخ : 2010-05-30
 التعليق
الاستاذ عاشور الأطرش - عزيزي ابراهيم مسعودالمسماري - أخي فتح الله المجدوب . أفبل نزفي، وأحرق صمتي .. عرفت الطريق إليكم فهاتوا السراج .. تحية موصولة ومودة دائمة.

 الاسـم : عبدالله ابراهيم
 البريد الإلكتروني
: البيضاء
التاريخ : 2010-05-31
 التعليق
شكرا لكما وبارك الله فيكما وجعلكما ذخرا للمدينة البيضاء . تحية حب من عاشق الأدب وتلميذ الأدباء وزبون دائم لكما .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق