الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

تقديم كتاب كلمة للقلب وكلمة للريح


تقديم كتاب: كلمة للقلب وكلمة للريح
د. عبدالجواد عباس
[كلمة للقلب وكلمة للريح] مجموعة سعد موسى مهيوس القصصية.. تتألف من 25 قصة قصيرة، وفيما يبدو أنه  كتبها ليس لملء الفراغ وإنما عندما أحسَّ بأنه يريد أن يكتب.. عندما ألحّتْ عليه الفكرة وتعمدت استفزازه في الصميم، لذلك قال في مقدمته : "إن الحكاية هي الحكاية، نزيف لا قدرة لي على إيقافه... خطفتني الكتابة، وجرتني إلى متاهات جميلة وصعبة..."..  هنا.. وأبرز ما في هذه القصص أنها تعتمد علـى المنهج النفسي التطبيق الذي نراه ونحسه في تفاعلات البشر من حولنا، وهي أشياء كان من الصعوبة أن نتبينها عبر قصة ولكنها تبينت،. سأسلط الضوء على ثلاث قصص من هذه المجموعة لأنها تحمل أكثر الفنون التي مال إليها القاص واعتمد ها كعناصر قصصية حديثة.. إنها الطريقة السردية التي تكاد تنسحب على جميع القصص مع اختلاف الفكرة والمضمون.. وهذه القصص هي : إنهم من تلك المدرسة ـ آخر مجنون لآخر ليلى ـ أفق آخر يليق به.
          لا تخلو هذه القصص في محتواها العام من تكثيف وصفحات بيضاء لم يقلها الكاتب مكانها  بين السطور،  يتلمسها القارئ المطلع على أحوال المجتمع بمثابة اشتراكه في الإبداع التي تتمثل في تكييفه لمواقف القصة فيما لم يقله الكاتب صراحة..وكان ذلك في أمثلة كثيرة ؛ فأول قصة ذات العنوان :( إنهم..من تلك المدرسة) نجد الكاتب يهيل بعض الأوصاف كهوية على بطله (معاطي) لهيئ لنا الجو الذي سنعرفه به ؛ فقد وصفه بأنه: " متورّم الوجه " وأردف ذلك بقوله: "وطبعا ليس غبيا".. وهذه العبارة الأخيرة لم تكن جزافا، وإنما لتزيح من أمام القارئ إحساس الناس السائد تجاه متورم الوجه بالحمق والغباء.
          كما لا تخلو هذه القصص من تكنيك آخر هو المعادل الموضوعي ؛ فتوَهُّمُ زملاء العمل في وقوع (معاطي) في شباك لجنة التفتيش هو نفسه اتهامهم له ظلما وهو صغير بسرقة سندوتش ابن مدير المدرسة.. وليؤكد هذا المعادل الموضوعي ختم قصته بهذا المقطع:" اللجنة تسأل ومعاطي يتذكر المدرسة والتلاميذ والأستاذ برهان.. أعضاء اللجنة يتساءلون.. ينظر إليهم معاطي ويردد جملة في داخله : إنهم من تلك المدرسة.. نعم، إنهم من تلك المدرسة.. يعادل بذلك ما حصل له بالمدرسة وهو صغير من معاملة غير مرغوب فيها بما يحصل له الآن مع رفاق العمل وهو كبير.
          من الناحية السردية أو الطريقة التي تمت بها صياغة القصة فإننا نجده يعتمد على ثلاث نقلات كهيكلية حكائية ؛ وهذه النقلات هي : الأكــــل ـ الأستاذ برهان وبهية ـ وضعه في العمل الجديد.. وبنية هذه النقلات تتسلسل كالآتي : وصف الشخصية بالسُّمن والنَّهم ـ سخرية التلاميذ بمعاطي، وتجهّم أساتذته  واتهامهم له بضعف التفكير ـ فقرة عن تصرفات الأستاذ برهان ضده،عندما اكتشف برهان  أن الطفل معاطي على بينة من أمره وأمر المدرسة بهية.. ثم ذكر ما بينه وبين برهان في عدة مواقع من ثنايا القصة ـ شعور التلاميذ تجاه معاطي بالدونية ؛ فهم لا يُشركونه في لعبة كرة القدم ـ العمل بالشركة  ونزاهته وعدم وقوعه في مخالفات لجنة التفتيش...
          في هذه القصة والقصص الأخرى يهيمن على الكاتب أسلوب الراوي كلّي العلم.. كما أن الغلبة كانت لأفعال المضارعة دون غيرها ؛ فهو : يعبر الطريق ـ يأتي للمدرسة ـ يبرر للتلاميذ ـ تجلس بجانبه ـ يخشى أن تصدم به الكرة... ربما لكون معاطي ما يزال هو نفس الشخصية التي يسخر الناس بها.
****************
قصة أخرى بعنوان (آخر مجنون لآخر ليلى) يضمخها ويرويها منذ الفقرة الأولى بفكرة أساسية هي فكرة الحب :" هي دائما تجري في عروقه، تختبئ وراء أحزانه اعتبر هذه المصادفات دليلا قاطعا على المغناطيس الجاذب بينهما..." فالكاتب يبجّل فكرة الحب ويدريها دراية الخبير.
          لكن في هذه القصة يختلف النسج السردي عن قصة (إنهم... من تلك المدرسة).. فنراه يدخل ما  يضفي على الحبكة ألقا  فيترك  مجالا للحوار الداخلي  كي يحدث البطل نفسه، يستريح المؤلف  ويترك الحديث للراوي الداخلي  الذي يصوّر نفسه عاشقا من جانب واحد، فهي قد لا تدري به، ولكنه يقول بينه وبين نفسه : "فأنا لا أملك لها سوى قلب ملتهب وذاكرة تؤلمني كثيرا" ولا تخلو هذه العبارة من التصوير الدراماتيكي  لهواجس المحبين الفقراء..
          ولكي يتجنب المباشرة في وصف حبية القلب فقد جاء بسبب بسيط لا ليعرِّفّها بل ليتعرَّف عليها ويؤكد أنها هي تلك الجالسة في المطعم : " فجأة رمقها من النافذة.. إنها هي.. جبينها الذي يقول للقمر انزل وأنا مكانك أصعد.. شعرها البني اللامع المفروق من الوسط والمنسدل من الجانبين... عيناها...".. وفي وصفها بالقمر تكنيك آخر هو التناص مع المأثور الشعبي الذي يعدل في مناسبات كثيرة بياض الوجه وروعة الحضور وفقدانها وما إلى ذلك مما يعلـّـق على مشجب القمر من أوصاف.
****************
          (أفق آخر يليق به)  هي قصة تعالج هموم الغربة، مكان الإقامة الجديد شخص شرقي في بلد أجنبي، لم يتكيف على الجو الأوربي، جو الحداثة والعولمة بالطريقة الغربية التي لا تعبأ  بما اعتاده الإنسان في بلده من عواطف وقيم، فهو على وشك أن يفقد العقيدة والتقاليد والمثل، لذلك يسارع في الفرار، ينزع إلى إنقاذ نفسه، يهرب إلى "أفق بلاده التي تليق به كشاعر عادي بين الناس العاديين الذين يحبون الشمس المشرقة وتلقائية الناس وسهولة الكلام.."
          وليقربنا من واقعية أكثر فاعلية فقد كانت الغلبة في أسلوب القصة لضمير المتكلـّم، أما ضمير الغائب فكان للتقديم وربط الفقرات ببعضها فقط.. وقد استعان بتكنيك التناص أكثر من مرة، فقد أقام في البلاد الأوربية أربعين يوما، وظل يحوم على هذه العبارة كأنه يلمّح إلى المثل الشعبي الذي يقول : من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم، أو على هذا النحو.. وتناصّ أيضا مع قصيدة (بانت سعاد) لكعب بن زهير، وبيت المتنبي المشهور  : الخيل والليل والبيداء تعرفني...فهو يقول:"مدينة لا أستطيع أن أبكي فيها ذكرى حبيبة ولا تبان فيها سعاد.. ولا يعرفني فيها الليل ولا القرطاس ولا القلم..."
          هذه القصص حديثة، لأنها في مجملها تميل إلى مخاطبة ما في الداخل، إلى مخاطبة العقل الباطن، وهو من الأسباب التي أبعدتها عن المباشرة وأسلوب الحكاية.. ثم أنه كثيرا ما يشرع في تحليل الشخصية لتتوافق مع الحدث، مع كون هذه القصص  واقعية أو أنها تحتمل الواقع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق