جفول..
ومحاولة مقاربة
د.
عبدالجواد عباس
الأم، الحبيبة،
النخلة الشامخة، الأقحوان، عناقيد العنب، جداول النعناع، مياه الساقية، الشلال،
أشجار الموز وانتظار القمر والشمس والريح وصوت فيروز... ترنيمات رومانسية تتردد في
جنبات مجموعة ميلاد الحصادي(1) القصصيّة (جــفــول).. هذا بالإضافة إلى ترنيمة
أخرى هي درنــة، فهي رومانسية بذاتها، فذكرها ملازم للياسمين والسواقي وعراجين
الموز.. عندما تتأمل هذه القصة تجد أنها مختلفة المزاج، ولو أن مزاج الحزن هو
الميهمن ؛ فعناوين مثل: عندما يحتويك الحزن ـ فقدان ـ اللحظة الرهيبة ـ عندما يسقط
القناع ـ لحظات الموت البطيء ـ حوارية الحب والموت ـ ثلاثة وجوه للحزن ـ حين
تغتالك الوردة ـ... كل هذه الجوقة من العناوين المفترسة وغيرها تتحدث عن نفسها، و
تنبئك أن الغلبة للحزن وعدم الاطمئنان، وأكثرها يصبٌّ في إناء واحد، هو إناء
الهموم ومصارعة الحياة وعنادها للارتفاع بالنفس رغم الصعاب والحوادث التي لم يسمها
ولكننا نحس بها.. وقد تجتمع هذه المعاني كلها في (وقائع غير معلنة لموت فارس)، فهي
ذروة المآسي والأحزان.

ما يميز هذه المجموعة
أنها كتبت بلغة سليمة، بأسلوب واقعي في معظمها، ومع ذلك فهو يضع المباشرة جانبا
ليدخل في صميم الحدث بمعطيات فنية.. وكما قلنا من قبل ـ في غير هذا الموضع ـ إن
الشباب الجديد من القاصين بدأ يراجع نفسه ويعيد للقصة ألقها، ليس رجوعا للبدايات
والتقليدية، وإنما هو إنشاء جديد، ينسجم مع البيئة والثقافة الحاضرة وأوضاع
المجتمع واللغة السائدة فيه والأمزجة، مع كونها تشير إلى مصداقية الحدث
والتجربة..وحتى عندما يتجاوز التصريح إلى التلميح فإن شفافية الواقع تظل باقية،
فكأنما هناك رمز ولا رمز، مع تكثيف يدعوك إلى توهم أكثر من معنى.. ففي خاطرة
(وقائع غير معلنة لموت فارس) لا يمكن البحث فيها عن المعنى مباشرة، وإنما البحث
عما تخلفه من إحساس وأثر في نفس القارئ بمقدار ما يلمّح إليه من تأويل بين
السطور..فثمة أمر ما يجعله يتخاطب مع أمه تارة وحبيبته تارة أخرى، يقف وراءهما
ليعيناه على تحمل الفقد وجور الزمن، وربما يتخذهما كنايــة عن شيء عظيم ربما يكون
الوطن، وربما هو طريق الوصول إلى السعادة المفقودة..إنه يشغلنا ببعض الأحداث لكي
يمرر ما يريد، بل يبعث برسالة لتـُقرأ من عدة وجوه.. لذلك كانت الخاطرة في (وقائع
غير معلنة لموت فارس) استثنائية وجديرة بالوقوف عندها ؛ لأنها إحساس بخطر موجود أو
قادم لا يمكن درؤه، ما أدى إلى موت محتـّم، ولكنه موت كموت الأشجار، تموت وهي
واقفة.
أما قصة (جفول) التي
هي عنوان المجموعة فهي قصة القصص، وجديرة باختطاف العنوان الكبير، إنها تشير إلى
ذكريات عاش فيها بطل القصة عاشقا للفتاة جارتهم، هذا ما يبدو في الظاهر فقط،
وليكون الأمر أكثر وثوقا ومصداقية أختار ضمير المتكلم كأداة من أدوات السرد،
ليبدوَ الأمرُ وكأنما سيرة ذاتية تطل برأسها،إنها قصة حياة من الطفولة إلى
الفتوة.. يتقاسم فيها الراوي الحبَّ بين درنة وجفول ؛ فحب جفول عنده يتماهى مع حب
درنة إلى درجة التوحّد أو المساواة..وربما لهذا السبب بادر (جفول) قائلا:
"جفول، أنا فوق درنة، أنظر إليك، أراها في صورتك، أحسّ بأن شلالها شعرك،
وأنسام هوائها عطرك، طيبة أهلها ابتسامتك"(2).. فما أن يبدأ في الكلام عن
حبِّه لجفول حتى يسرقه حبُّه لدرنة فقصة جفول سمفونية عشق، فمن جانب أنها تفيض
بالعواطف وصفحة من صفحات الطفولة الرائعة في بواكيرها البعيدة ـ لأن الكاتب قد نجح
في لملمة كل فعالها بما يتفق وبيئته ـومن جانب آخر هي صفحة من تاريخ المجتمع
الليبي، لبعض عادات وتقاليد خمسينيات القرن العشرين الماضي، يتمثل جزءٌ منها في
هذا الحوار الداخلي وهو يخاطب جفول بهذا المونولوج عندما عاد الطفلُ العاشق من
المدرسة: " وعندما عدتُ انتظرتِك على (الساقية) ولم تأتِ، وفي البيت أخبرتني
أمي بأنك لن تخرجي بعد اليوم من البيت، ولن تذهبي إلى المدرسة، ولن تلعبي مع الصبيان"(3)
ثلاثُ جملٍ حدّدت مصير الفتاة الليبية في تلك الحقبة عندما تبلغ مبلغ النساء.
وقصة (جفول) لها ارتباط وثيق بقصص أخرى
في المجموعة كقصة:(زهرة.. وعودة القمر) فكلتاهما تعبر عن الفقدان في آخر
المطاف..فعندما جاء الشبح "صرخت زهرة واحتمت خلفي، تراجعنا واحتمينا بجذع
النخلة لكنه مدّ يده واختطف زهرة واختفيا في المجهول..."(4)
وعلى كل الوجوه
فالقصص تعبق مثقلة بالفقدان والسيجارة والريح التي تذرو كل شيء.. فقصة (زهرة) تكاد
أن تكون نفس العزف ونفس الخواطر والأمنيات، وإن كانت أوهام درنة في هذه الأخيرة
أقرب أو لعلها هي(زهرة) نفسُها، فالخيال يمتزج مع الواقع والوهم يتوحّد مع
الحقيقة..وربما اقتربت قصة(حكاية من المجهول ) من هذا المعنى، ربما كانت الشخصية
فيها هي شخصية جفول أو زهرة، ولكن جعَلها حية هذه المرة ليمرر خواطره وليتداوى من
لوعته بأي شكل من الأشكال، حتى ولو ألجأه الأمر إلى التمويه وخلط الأوراق فهو يبكي
ولكن بطرق مختلفة.
وفي (جفول)ً أثبت الراوي درامية المكان
نابضة بالحركة والتوتر ؛ فمنذ الوهلة الأولى وهو يقول: " منذ أن بدأتُ مسيرة
العودة وحدي الطريق مقفر موحش ومخيف، والبحر يأتي من بعيد، يقترب ثم يختفي،
والطريق يتلوّى كأفعى هندية من العصور الغابرة "(5).. ثم تفاجئنا مفارقة
لعزفٍ مختلف، بعد الخوف والترقـّب : " وحدي والطريق يمتد، وصوت فيروز ينبعث
مخترقا سكون الليل، وأضواء درنة تتلألأ من بعيد والجبل يخيم ساكنا حولها.. وحدي
ولحظة الشوق تزداد وكلماتكِ ترنُّ في أذني و صوتكِ يأتي منسابا مع النسمات القادمة
"(6).
وبعد هذه المفارقة من
التوجّس والسرور ينبثق أمامنا تساؤلٌ محيّر وهو: لماذا سمّى حبيبته (جفول) ؟.. هذا
الاسم الدال على النفور والخوف، وعدم القابلية والألفة !.. فسواء أكانت امرأة أم
كانت درنة نفسُها لا جدوى من نعتهما بهذا اللفظ، لأن كلتاهما حبيب وقريب إلى القلب
كما يتبين من التمجيد الدال على لهفته وشوقه إليهما بدلالات مبعثرة في ثنايا قصص
المجموعة هنا وهناك.. ولكن عسى أن تكون جفول هو الاسم الحقيقي لامرأة حقيقية، فبعض
الناس تطلق هذا الاسم لأسباب اجتماعية، وربما طغت عليه وحشته الصحراوية فارتعب وهو
يهرب إلى النجاة والأمن فانطلق لسانه بهذا الاسم وهو يغادر المكان كمن يترقب شرا،
انطلق به لسانه كمعادل موضوعي يعرب عن حالته النفسية وما يختمر فيها من ضياع،
وهروب ما جناه من طموحٍ وفرصة.. أو ربما كان الأمر عكسَ ذلك تماما، ربما هو
(جفولٌ) خاصٌّ مميز ؛ وليس محض جفول وإنما هو جفول غزلان، وهذا رائع وبهي، فيكون
الأمر حينئذ مدعاة للجمال و تفاؤلا باللطف والأريحية.. ربما هذا وربما ذاك، فما
المانع فالاسم فيه تكثيف للمعني وتفجير للفظ..
أما بنية الفكرة فمن
العسير العثور عليها لمن يأخذ الكلام على عواهنه فهو لا يعوّل على فكرة بعينها ؛
اللّهمَّ ما كان في بعض القصص ذات البداية والوسط والنهاية مثل: (الحصان ـ فقدان ـ
المعلم ـ عندما يسقط القناع ـ اللحظة الرهيبة) فالسياق يوحي لك بأن لا وجود لفكرة
ما في بعض القصص الأخرى لأنه لم يتعامل فيها مع خصائص القصة التقليدية إلا قليلا ؛
ففي قصة ( عندما يحتويك الحزن) مثلا، لا وجود للفكرة وإنما هو خيال تائه يجول به
في مواقف وأماكن مختلفة على شكل خواطر شخصية، تدور على شخصية ميلودرامية واحدة هي
شخصية الراوي الذي جرّد من نفسه مخاطبا كأداة لسرد القصة، وكنبض مختلف عن ضمير
الغائب الذي اشتغل عليه سرديا في معظم القصص..وبالمقابل فقصة (المعلم) مثلا لها
فكرة،لأن الذي يريد أن يقوله هو أن يجب أن تكون للإنسان قضية يسعى من أجلها، ولذلك
صوّر لها كمقابل هذا المعلم المحبط الذي يعيش حياة موحشة لا أمل يرجوه ولا طموح
يسعى إليه سوى حسٍّ راكد وأيامٍ متشابهة..
أما بنية المكان والزمان فتتأرجحان بين
العمومية والخصوصية ؛ فالمكان البارز هو درنة أو ما يتعلق بها كالجبل والبحر
وأشجار الموز وجداول النعناع والزقاق وهذه الأربعة الأخيرات كانت درنة تزخر بها
أيام رومانسيتها القديمة، وربما استوقفنا في هذا الشأن أمرٌ ما، وهو أنه لم يذكر
الشلال إلا مرة واحدة في قصة (جفول) بالذات، مع أن الشلال هو أشهر ما تشتهر به
درنة، ربما لأنه كان قصيا بعض الشيء عن المدينة، فلا يرتاده إلا الفتيان الكبار،
فمن الطبيعي أن تهمِّشه ذكريات طفلٍ، خطواته قصيرة، عاش وسط المدينة استنادا إلى
الزمن الروائي.. لذلك نراه ملازما للأماكن التي نشأت فيها بواكير طفولته فمن
الطبيعي أن يكرر ذكرها كثيرا..
وبناءً على تحرك
شخصيات القصص وأثرها في الأحداث القصصية يتبين أن الكاتب درناوي مخضرم بالنسبة
لجيله، فهو بالإضافة إلى الحاضر أدرك تراث الماضي وشاهد ازدهار أشياء وأفول أشياء
أخرى..ولذلك أسقط على شخصياته القصصية أفعالا كان يزاولها أو أعطاها مواقف صار
يتأثر بها.. ولذلك تكرر ذكرها أكثر من غيرها، كموت الزوجة أو عدم وفائها، وكذلك
زواج الحبيبة، كما أن شخصياته مدخّنة ومحبة لصوت فيروز ولها تجربة وذكريات عن
الصحراء، وتتشاءم من الريح، وأحيانا الشمس.. هذه المسميات متعلقة بأحداث كثيرة
ومتكررة في القصص.. إضافة إلى أن هذه الشخصيات القصصية محرومة وظامئة إلى الدفء
الاجتماعي، وإلا ماذا نفسّر مقاطع وعبارات كهذه :
· "إنني أحتاج
إلى صدر يحتويني في لحظات الحزن كما احتواني هذا الظل" (من قصة الطفل وظل
الشجرة).
· "...مخترقا
سحب الدخان ومقاعد المقهى لتجد نفسك وحيدا مع سيجارتك وصوت الأمطار وأحلامك بالحب
والدفء"(من قصة عندما يحتويك الحزن).
كما أن هذه الشخصيات منجذبة نحو ذكريات
الطفولة المحببة، وهي كثيرة جدا كفيلة بأن يصاب كل من يقرؤها بعدوى الحنين إلى
أيام الطفولة لكي يعيدها ويتذوق طعمها من جديد حتى ولو كان بعضها مرّ المذاق، ولكن
بشرط أن يكون له خيالٌ كخيال ورومانسية الراوي أو جزء منها على الأقل.
وقد اتبع الراوي في القص طريقة الراوي
العليم في مقابل الراوي الحيادي ؛ فهو كثيرا ما يصور ما يدور في أذهان شخصياته من
أفكار وأوهام.. أما الأسلوب في هذه القصص فقد أجاد فيه الكاتب بناء العبارة، حيث
الجمل متعانقة قوية التأليف، لا يشوبها ضعف البدايات المبكرة في الكتابة، إضافة
إلى تكنيكات فنية، كالمفارقة التي نراها في قصة(حوارية الحب والموت)؛ فالرجل يطري
الفتاة بجمالها وهي تطريه بشحوب الوجه والشيب مما يُشعر بتهكم الفتاة أو عدم
ذكائها.. كما يتجلى الاسترجاع (الفلاش باك) في قصص ـ(فقدان ـ وجفول ـ وعندما يسقط
القناع).. كما هناك تناص جزئي في عبارات مثل "أن يكون القدر رجلا لصرعته"
التي تتناص مع كلمة الإمام "لو كان الفقر رجلا لقتلته" ذلك في قصة
(جفول).. وفي قصة(تجليات لحظة صحو) حوارية " اكتب.. ما أنا بكاتب" تتناص
مع حوار اللقاء الأول بين النبي ورسول الوحي "اقرأ.. ما أنا بقاري"..
وفي قصة (وقائع غير معلنة لموت فارس) تتناص عبارة "الليل صديقي" مع هذه
العبارة من قصة خليفة الفاخري(الليل والنهار في الغرفة21) "الليل صديقي ـ حين
أطفئ النور وأوي إلى فراشي يلج الليل زجاج النافذة" ص 119 من كتاب (بيع الريح
للمراكب)..
---------------------
(1) ميلاد
منصور الحصادي، من مواليد مدينة درنة سنة 1957، نشر نتاجه الأدبي بعدد من الصحف
والمجلات وأسهم في عدد من الملتقيات والمهرجانات الأدبية والمسرحية، وتولى عددا من
الوظائف الإعلامية والثقافية بالجماهيرية من بينها : أمانة تحرير صحيفة دارنس
بدرنة، والأمين المساعد لرابطة الأدباء والكتاب بدرنة، وإدارة المسرح الوطني بها..(من
معجم الأدباء والكتاب الليبيين للدكتور عبدالله مليطان) بتصرف.
(2) جفول
وقصص أخرى ـ ميلاد الحصادي ـ مجلس الثقافة العام2008 ـ ص24.
(3) نفسه
ص27.
(4) نفسه
ص 74.
(5)، (6)
نفسه ص23.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق