الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

شهادة وذكرى


شهادة وذكرى
د. عبدالجواد عباس
    عندما حططنا رحالنا في مساء تلك الرحلة أخذت الريح تشتد وتشتد ، فقد كنا في نهاية فصل الربيع لم تصمد الخيام ، أخذت تتهاوى أثناء الليل ، لم تجد فيها المعالجة ، بات أصحابها في العراء، أو محتمين تحت شجيرات العرعر التي تعمر بها المنطقة... أما خيمتي أنا ومن معي من الكشافين فدعمنا أروقتها بكل الأحجار المحيطة ، لكن الريح كانت أثقل منها ، لقد نثرت الحجارة ، وأخيرا ً وقعت الخيمة على من بقى فيها ... كان بأيدينا – نحن الحراس – فوانيس الكيروسين التي سرعان ما انطفأت واشتعل بعضها .
       في تلك الرحلة الكشفية كانت بداية معرفتي للمر حوم إبراهيم الأشيكع ، كان ذلك في بداية الستينيات من القرن الماضي ، لقد عرفته قبل أن أعرفه مربيا ً ورفيق درب بمعيه التربية والتعليم .. في الكشافة كان من بين الممتحنين الذين امتحنوني فيما يسمى بدرجة المبتدئ ، في ذلك الوقت ، كان منذ ثمان وثلاثين سنة ، كنا معسكرين في (رأس الهلال ) قبالة جرف ينحدر على البحر مباشرة، فحذر المرحوم الجميع بأخذ الحيطة والحذر عند الاقتراب من تلك الجهة ، فقد كان قائدا ً من بين القادة الذين يرافقوننا في الرحلة ، أذكر منهم العزومي ، وفيتور ، وبوربيدة ، ورتب أخرى منهم عبد السلام المتريح ومسعود عبد الجليل ومسعود عبد الجليل وعبد القادر الشاظوف .. جاء المرحوم في بداية الليل لتفقد الحراس، ولما كنت مكلفاً بطهي الطعام إلى جانب ما أقوم به من حراسة ، تنتهي نوبتها الساعة الثالثة صباحا ً ، فقد نصحني بأن أضع الفاصوليا في الماء لتفقد صلابتها ريثما يحين تجهيز وجبة الغداء ، وفعلت ، والظاهر أنني أسأت تقدير كمية الطعام ، فلم يتناسب مع عدد الكشافين فبقى أكثرهم جائعين ، أو لم يطلهم الغداء أصلا ً .
       كان هذا بعضا ً من الذكريات عن تلك الرحلة التي جمعتني والمرحوم إبراهيم لأول مرة ... لم تنقطع العلاقة الطيبة بيننا بعد ذلك ، فبين الحين والآخر تجمعني معه علاقة عمل مشتركة ، فأنا معلم وهو معلم ، إلى أن أوصلنا إلى أعتاب التفتيش التربوي .. جمعتني معه أكثر أعمال الامتحانات ، كنا نجلس في أوقات الراحة، ولا نخرج من جلستنا إلا بمعلومة ثقافية أو فكرية أو نادرة ، أو خبر شارد عثر عليه في بطون الكتب أو روى له ، أو طرفة حدثت أمامه، أو سمع عنها ، خاصة أثناء رحلاته في أفريقيا  .
       من خلال علاقتي بالمرحوم الأشيكع ، عرفت فيه الهدوء والسكينة وكرهه للفوضى وتجاوز حدود الأدب .. لا يأخذ من الكلام الكثير إلا ما يفيد الموقف الذي هو فيه .. بكلمات قليلة .. وبأسلوب مقتضب يحسم المشكلة ، ويشعرك بان الأمر قد انتهى ، أو ليس في ملكك المزيد .. كل ذلك وأنت راض عنه تمام الرضا .. معاملته تقول لك يجب أن تحترمني ، أن تقف عند حدك ، هيبته تفرض عليك الاحترام ألا تلومه أو تتعقبه في شيء رآه هو صائبا ً .
       لم أعرف إبراهيم الأشيكع غضوبا ً ولا عربيدا ً ، إنه يتصرف مع عمله بهدوء ، ويظهر ذلك حتى في استعماله للأدوات المكتبية ، فلا تسمع فوضى ولا إرباك ولا وقوع أشياء ، حتى أنك لا تكاد تسمعه وهو يقلب الأوراق أو يفتح الحوافظ الحديدية أو يغلقها ... يلاحق من عرف عنهم الجد والأمانة في العمل ، ويحرص على ملازمتهم له ، فقد صادف يوما ً عندما كان رئيسا ً للنظام والمراقبة في أحد الامتحانات العامة حين راعه انصراف المعلم سليمان بولافيه عن عمله فجأة ، وهو من ذوي الكفاءة والحزم في أعمال الامتحانات ، وسرعان ما ذهب إليه المرحوم في منزله واسترضاه وأعاده إلى العمل .
       المرحوم إبراهيم كان إنسانا ً فاضلا ً ، وصديقا ً نبيلا ً ، ومربيا ً ، بكل ما في هذه الكلمة من معنى محبا ً للنظافة ومحافظا ً على أداء الصلاة ، كان ورعا ً ، صالحا ً ، جدير بأن بقى ، لكن الموت هذا الذي يأتي بدون استئذان كم فاجأنا من دون سابق إنذار ، وخطف من بيننا من نحبهم ونرغب في بقائهم وكان الفراق ، وكان الحزن ، وكم حانت ساعات الفراق الحزينة في هذا العالم ، غير أن الموت يبقى أمر طبيعي ومصير محتوم ، فوق رؤوسنا ، نعلمه منذ ولادتنا ، يجب أن نستقبله كما نستقبل أي قانون طبيعي في الحياة ، فإذا رحل أحدنا نودعه  بهدوء ونعود لأعمالنا لننتظر الدور على آخر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق