السبت، 26 نوفمبر 2011

وعن البحر أخبار وأخبار

وعن البحر أخبار وأخبار


د. عبدالجواد عباس





البحر قديم قِدَمَ الدهر ، فيه رغبة ورهبة ، حياة وموت ، هواجسُ خوف ٍ وفيض سرور ، عنفٌ ورقـة .. أمواجه الهادئة أو العاتية لها هواةٌ ومتذوقون ، يرون في كل حركة من حركاته بادرة جمال جديرة بريشة رسام أو قصيدة شعر أو وصف من النثر الرقراق والموسيقى العذبة لعظمته زعم الإغريق القدامى في أساطيرهم أن له إلها يدعى (نبتون) يغضب ويرضى .



لقد جعل الله في ركوب البحر عبرة وعظة وتذكـّر ، يفيد به من يشاء ويصب آجام غضبه على من يشاء ، قال تعالى في مقام الرحمة :" وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون"وذكر ـ سبحانه ـ أسوأ حالات البحر فقال : "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها .." وقال " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " كما قال: " أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر " وغير ذلك كثير في القرآن الكريم .



كلُّ تكلم في البحر عن هواه ؛ فمن معجبٍ بجماله مسحور به إلى خائف منه وحذر وما إلى ذلك من أفكار وطرائق شتى .. كتب عَـمْـرو بن العاص إلى عُمَرَ بن الخطاب يصف له البحر فقال : " إن البحر خلقٌ عظيم يركبه خلق صغير ، دود على عود " .



إبراهيم ناجي يشخّص البحر ويعبّر بواسطته عن صرح حبه الذي هوى تحت عينيه ، وقد تصوّر نفسه ملاحا يقود زورقا يوشك أن يغرق فيناجي :



أين شط الرجاء يا عباب الهموم ليلتي أنـــــــــواء ونهاري غيــــوم

أعولي يا جراح اسمعي الديان لا يهم الريـــــــــاح زورق غضبان

البِـلى والثقوب في صميم الشراع والضَّـنى والشحوب وخيالُ الوداع



وعن البحر قال أحمد أمين في كتابه فيض الخاطر: " جلستُ وحدي ومعي كتاب ، جلست أحملق في البحر بعد غيبة عنه طويلة ، فإني لم أره منذ شهور مع حبي له وشوقي إليه ، وكرهت أن أفتح الكتاب فالبحر نفسه كتاب مفتوح ، وهو كتاب حي وما في يدي كتاب ميت ، وهو يوحي بأفكار مبتكرة ، وكتاب يوحي بأفكار تقليدية .



هذا هو البحر الذي لا تفنى عجائبه ولا العجَـبُ منه ، لم تنل الأيام من جماله ولا جلاله ، كأنما خرج من حكم الزمان .. وقفتْ على شواطئه الأجيال ثم طواها الدهر ، لم يلحقه يوم عجز المشيب ولا وهن الكِـبر"



وقد امتزج ميخائيل نـُــعيمة شاعر المَهجر وصاحب الغربال ، امتزج كلية ً بالبحر ، إذ رأى نفسه آتية ً منه معلقة به حتى يعود إلى هدوئه وذلك في قصيدته الشهيرة (من أنت يا نفسي) التي مطلعها :



إن رأيتِ البحر يطغى المــــــوج فيه ويثور

أو سمعتِ البحر يبكي عند أقـــدام الصخور

تـَرْقـُـبي الموج إلى أن يحبسَ الموجُ هديره

وتناجي البحر حتى يسمعَ البحــــــرُ زفيره

راجعا منكِ إليه هل من الأمــــــــواج جئتِ



وهذا الشاعر علي الجندي يناصب البحر العداء لتلبس مياه البحر بجسم حبيبته فيقول فيما قال :



أبحر الروم أنت اليوم خصمي فمالك في ودادي من نصيبِ

وديني الحبّ لكن لستُ أهوى على الأيام من يهوى حبيبـــي



ثم إلى خواطر انتابت رجلا غرق مركبه في عرض البحر ، وقد فقد زميلين كانا معه ، استمع إليه في ساعة رهيبة وهو يصارع أمواج البحر العاتية بجسمه العاري مجردا من كل سلاح : " توجست خوفاً من المجهول المُخبّـأ لي ، فالبحر دواهيه كثيرة ومفاجآته لا تنقطع إذا احتواك وجردك من كل أسلحتك التي تسيطر بها عليه ، فإذا اختلَّ رباط جأشك وفترت عزيمتك فقد تصاب بالخبل .. لقد عرفتُ من قبل إن الشدائد لا تواجه بعاطفة لينة ، فأي رقة في العواطف وقت مواجهة المصاعب توقع في الخور والخذلان المؤدي حتما إلى الهلاك ..

كانت هواجس تتسارع في مخيلتي ولكنها تمر مرورا سريعا فلا تقف حتى أتملـّى منها أو آخذ بها ، إنها تخذلني ، كل المثل تحاول الهروب نتيجة لخوفي وفزعي من المجهول .. شيءٌ واحد بتٌّ أتذكره ؛ تذكرت جميع ذنوبي تقريبا ، ولم أتذكر من الحسنات إلا القليل ، ما جعلني لا أخاف من الموت في حد ذاته وإنما كان خوفي مما بعد الموت "



وفي سنة 1935 جنْدت إيطاليا آلاف الليبيين لحرب الحبشة ، وهذا أحد الجنود يروي جانبا من الحملة البحرية إلى هناك وهو خليفة صالح العبيدي ، فيقول عن صبيحة اليوم التالي للسفر وهو على ظهر الباخرة :



أصبحْ بْنا في الصبح ما شي تفرزه أمفيت ما بحر لونه اتقول امرار

أو لا اتحق شي إلا أمويه والسما واللا حوت يجالب أو مــــوج اكبار

ثالث نهار اسويس جيناه فالضحا سقـّر إيجي ساعة أو جوه اتجـــــار

خشينا بحر فرعون ما ريت موعره علي اكبودنا منه ارقي لمــــــرار

داخـــوا ضنا لجواد من قـــو قلبته عاشـــوا عصـــر ما يعرفوله كــأر

أوفايت اطناشر يوم من يوم مشيته علـــي امسوع رسّـا عطا لخبـــار



أما الشاعر عبدالله بالروين فيروي لنا جانبا عاطفيا بصحبة البحر في قصيدة طويلة منها :

يا طول ما جينا واحذاك يا بحر عالهول والشاكينا نا او بوخجل(1)

يا طول ما جينالك أو يا ما جلسنا في نظيف أرمالك أو يا ما حكينا عالغرام اقبالك سهاري اتحول مالقلوب غبينة.. أمع حسْ موجاتك أو تشالك تزّاحي علي طول النظر واتجينا .. أو لا احسبت تذكار الغلا يقبالك أمع خاطري ذكرى أيام حزينة..

يا طول يا ما جينا واحذاك يا بحر عالهول والشاكينا نا أو بوخجل

يا طول يا ما عمنا أو يا ما علي جوّك الصافي همنا واليوم وين في لحظة عليك خطمنا جا دمعنا سايل علي ماقينا ..

يا طول يا ما جينا واحذاك يا بحر عالهول والشاكينا نا أو بوخجل

تخلاق يا بحر ضيم الزمان هدمنا هدمة اقصور الروم في قورينا

غصبن علينا في الغلا سلمنا وانهار وين ما علنا أو فيه بدينا

يا طول يا ما جينا واحذاك يا بحر عالهول والشاكينا نا أو بوخجل

وأخبار البحر لا تنتهي ، والصراع معه إلى الأبد ، ولقد شـُـبَّــه الرجل العالِـم بالبحر ـ رُوي أن أحد العلماء المتبحرين في العلم ركب البحر مع تلامذته ، ولمّا أصبحت بهم المركب في وسط اليم هاج البحر هياجا شديدا ، وعلى الرغم من قسوة الموقف ، وما يحيط بالركاب من فزع إلا أن الرجل العالم ضرب برجله أرضية السفينة وقال : اهدأ أيها البحر فوقك بحران ؛ بحر من العلم وبحر من التقاة.



كما شـُبِهتْ اللغة العربية بالبحر في السعة والإحاطة ، فقال حافظ إبراهيم على لسانها :



أنا البحر في أحشائه الـدّرُّ كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

كما شبه الحب بالبحر كثيرا ، فقال بشارة الخوري على لسان فتاة تشكو إلى أمها:

هو البحر يا أمي كم من فتىً غريق وكم من فتىً بين بين

وقديما قالوا : من ركب البحر استقل السواقيا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخجل : ضفائر المرأة ـ وفي القاموس تعني العشب إذا طال والتف





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق