نماذج تراثية
د. عبدالجواد عباس
المعروف عن التراث أنه ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب، وهو جزء أساسي من قوامه الاجتماعي والإنساني والسياسي والتاريخي والخلقي.. ويوثق علائقه بالأجيال الغابرة التي عملت على تكوين هذا التراث وإغنائه(1).
إذن التراث توثيق علاقة بين القديم والجديد، وربط الماضي بالحاضر، وإشارة إلى القدماء بالحصول على قصب السبق في كونهم من أبدع، سواء أكان ذلك التراث تراثا ماديا أو شفهيا أو حركيا.. ومن المؤسف أننا نسمع بين الحين والآخر بمن يستعمل أسلوب الغمز واللمز وتهكم عند إقامة المعارض على المقتنيات الشعبية القديمة و:انه يقول : أما كفانا عناء وعوزا حتى تطلعوننا على هذه الخردة البالية التي تذكرنا بالفقر والحاجة وسنين الرماد.. هذه نظرة سلبية غير واعية ولا ملتزمة، أصحابها ليسوا كثرا بحمد الله.. يقول الأستاذ ذاود حلاق صاحب كتاب "أوشاز الأسلاف" : "وأدوات الأجداد هي الشواهد الباقية التي تمثل مقياس حضارة صنعوها، والحفاظ عليها وإمكانية دراستها يعطينا استخلاصا لتكنولوجيا الفكر الحرفي لدى الليبي الأول "(2)
عن قريب يمكن لنا أن نتساءل : أين القفة والقدقود والمروحة اليدوية المصنوعة جميعها من سعف النخيل.. بل أين حصير الديس المصنوع من نبات الحلفا.. هذه الأشياء من التراث المادي، لم تفقد أهميتها فمكانها مازال شاغرا، فهي تستلطف وتطلب باشتهاء على الرغم من ندرة صانعيها... وقد كدنا ننجح في رصد التراث الفكري في العلوم الإنسانية على المستوى العالمي والقومي، فمعظمه مكتوب، وقليل منه موثق عن طريق الصور، وبعض منه لا تزال الشفاه تردده.
في عقد من عقود الزمان يمارس الإنسان عادات وتقاليد أو يصنع أشياء أو يبدع فنا، قد يستنسخ بعضها فتبقى معه إلى العقد الزمني المقبل فتتحول بذلك إلى تراث لأننا لم نعد ننظر إليه نظرة وقتية أملتها الظروف، وإنما هي نظرة استحسان لها واطمئنان إليها.
ومن التراث الحركي رقصتي الكشك والكسكا، فقد بدأتا منذ سنين موغلة في القدم ومازالتا حتى اليوم تحتفظان بنفس الشكل وإن تغير المضمون، وستصبح فيما بعد الرقصات التعبيرية التي صممت في الصنوات الأخيرة، وتعرض من حين إلى آخر ستصبح هذه الرقصات التعبيرية في المستقبل رقصات شعبية ضمن التراث.
في الخمسينيات وحتى بداية الستينيات كان الناس يتحلقون حول جهاز الإذاعة المسموعة، ويزداد تحلقهم ويسيطر عليه السكوت وينصتون بلهفة وتوتر وتحفز إذا كان الخبر يخص الاعتداء الثلاثي على مصر، أو يخص حرب التحرير الجزائرية أو حتى حرب فيتنام والمعارك في داننق أو دلتا نهر الميكونك.. أما الآن ـ باستثناء ممن يهمهم الأمر من رجال الصحافة ـ والإعلام ـ لم يعد يحتفظ الناس بهذه العادة الذوقية إلا بالتسالي والاستماع إلى أغان لا هم لها إلا الهوس والإثارة الإيقاعية.. كان الناس يستمعون إلى النشرات في المقاهي من الراديو وهم جالسون أو حتى وهم يمشون.. ادخل السوق الآن أو المقهى فلن تسمع إلا إلى الديسكو لمغنية أو مغنٍ مغمور، يلهث وراء الدولار ويكاد يبيع الشهوة في كلماته ونبراته.. قد كنا في الماضي نستمع إلى أغاني الحب لكنها ممزوجة بالجد لا الهزل، إنها تقول رأيا أو فكرة عن الهم اليومي.. كان المغني حينذاك يظهر إلى الساحة وهو متأكد من هوايته لفنه، برز بدون أضواء وبدون نقود وعطايا.. إنه يتعامل مع الفن من أجل الفن، وليس الفن من أجل المال.. هكذا كانت بداية ونهاية كثير من النجوم الفنية.. الشاعر الشعبي والمغني والعازف كانوا يأتون بأنفسهم إلى الأعراس والحفلات ويحيونها بدون مقابل، لأنهم مشبعون بفنهم، متلذذون بتقديمه بشيء أو بدون شيء، ومنهم من يتجشم عناء طريق طويل أو يستمع إلى نقد هدام دون أن يفت ذلك في عضده أو يثنيه عن طريقه.. ولأصالة الفن هذه هناك تداعيات أخرى غير ذلك ؛ فلم يكن لطالب في ذلك الزمان أن يدخل القسم الأدبي لأنه أسهل من القسم العلمي، بل لأنه اكتشف في نفسه الشعر أو الأدب أو الخطابة.. فلم يكن المغني متسلقا، ولم يكن كذلك الفنان ولا الطالب.
على كل حال، مازلنا بخير ومازال التراث بخير، مازلنا لا نعدم الرابطة الاجتماعية والمودة البعيدة عن المادة والمبنية على الصدق والتراحم والعفو عند المقدرة والتسامح وقبول المصالحة والتنازل عن الحقول المالية في الحوادث والضرر غير المقصود... كل ذلك من المثل العليا في تراث العادات والتقاليد، لازمت الليبيين ومازالت تلازمهم إن شاء الله.
________________________________________
(1) المعجم الأدبي ـ جبور عبد النور ـ دار العلم للملايين 1984
(2) مجلة السراج ـ عن نقابة المعليم بالجبل الأخضر 1988 ـ ص77.
د. عبدالجواد عباس
المعروف عن التراث أنه ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعب من الشعوب، وهو جزء أساسي من قوامه الاجتماعي والإنساني والسياسي والتاريخي والخلقي.. ويوثق علائقه بالأجيال الغابرة التي عملت على تكوين هذا التراث وإغنائه(1).
إذن التراث توثيق علاقة بين القديم والجديد، وربط الماضي بالحاضر، وإشارة إلى القدماء بالحصول على قصب السبق في كونهم من أبدع، سواء أكان ذلك التراث تراثا ماديا أو شفهيا أو حركيا.. ومن المؤسف أننا نسمع بين الحين والآخر بمن يستعمل أسلوب الغمز واللمز وتهكم عند إقامة المعارض على المقتنيات الشعبية القديمة و:انه يقول : أما كفانا عناء وعوزا حتى تطلعوننا على هذه الخردة البالية التي تذكرنا بالفقر والحاجة وسنين الرماد.. هذه نظرة سلبية غير واعية ولا ملتزمة، أصحابها ليسوا كثرا بحمد الله.. يقول الأستاذ ذاود حلاق صاحب كتاب "أوشاز الأسلاف" : "وأدوات الأجداد هي الشواهد الباقية التي تمثل مقياس حضارة صنعوها، والحفاظ عليها وإمكانية دراستها يعطينا استخلاصا لتكنولوجيا الفكر الحرفي لدى الليبي الأول "(2)
عن قريب يمكن لنا أن نتساءل : أين القفة والقدقود والمروحة اليدوية المصنوعة جميعها من سعف النخيل.. بل أين حصير الديس المصنوع من نبات الحلفا.. هذه الأشياء من التراث المادي، لم تفقد أهميتها فمكانها مازال شاغرا، فهي تستلطف وتطلب باشتهاء على الرغم من ندرة صانعيها... وقد كدنا ننجح في رصد التراث الفكري في العلوم الإنسانية على المستوى العالمي والقومي، فمعظمه مكتوب، وقليل منه موثق عن طريق الصور، وبعض منه لا تزال الشفاه تردده.
في عقد من عقود الزمان يمارس الإنسان عادات وتقاليد أو يصنع أشياء أو يبدع فنا، قد يستنسخ بعضها فتبقى معه إلى العقد الزمني المقبل فتتحول بذلك إلى تراث لأننا لم نعد ننظر إليه نظرة وقتية أملتها الظروف، وإنما هي نظرة استحسان لها واطمئنان إليها.
ومن التراث الحركي رقصتي الكشك والكسكا، فقد بدأتا منذ سنين موغلة في القدم ومازالتا حتى اليوم تحتفظان بنفس الشكل وإن تغير المضمون، وستصبح فيما بعد الرقصات التعبيرية التي صممت في الصنوات الأخيرة، وتعرض من حين إلى آخر ستصبح هذه الرقصات التعبيرية في المستقبل رقصات شعبية ضمن التراث.
في الخمسينيات وحتى بداية الستينيات كان الناس يتحلقون حول جهاز الإذاعة المسموعة، ويزداد تحلقهم ويسيطر عليه السكوت وينصتون بلهفة وتوتر وتحفز إذا كان الخبر يخص الاعتداء الثلاثي على مصر، أو يخص حرب التحرير الجزائرية أو حتى حرب فيتنام والمعارك في داننق أو دلتا نهر الميكونك.. أما الآن ـ باستثناء ممن يهمهم الأمر من رجال الصحافة ـ والإعلام ـ لم يعد يحتفظ الناس بهذه العادة الذوقية إلا بالتسالي والاستماع إلى أغان لا هم لها إلا الهوس والإثارة الإيقاعية.. كان الناس يستمعون إلى النشرات في المقاهي من الراديو وهم جالسون أو حتى وهم يمشون.. ادخل السوق الآن أو المقهى فلن تسمع إلا إلى الديسكو لمغنية أو مغنٍ مغمور، يلهث وراء الدولار ويكاد يبيع الشهوة في كلماته ونبراته.. قد كنا في الماضي نستمع إلى أغاني الحب لكنها ممزوجة بالجد لا الهزل، إنها تقول رأيا أو فكرة عن الهم اليومي.. كان المغني حينذاك يظهر إلى الساحة وهو متأكد من هوايته لفنه، برز بدون أضواء وبدون نقود وعطايا.. إنه يتعامل مع الفن من أجل الفن، وليس الفن من أجل المال.. هكذا كانت بداية ونهاية كثير من النجوم الفنية.. الشاعر الشعبي والمغني والعازف كانوا يأتون بأنفسهم إلى الأعراس والحفلات ويحيونها بدون مقابل، لأنهم مشبعون بفنهم، متلذذون بتقديمه بشيء أو بدون شيء، ومنهم من يتجشم عناء طريق طويل أو يستمع إلى نقد هدام دون أن يفت ذلك في عضده أو يثنيه عن طريقه.. ولأصالة الفن هذه هناك تداعيات أخرى غير ذلك ؛ فلم يكن لطالب في ذلك الزمان أن يدخل القسم الأدبي لأنه أسهل من القسم العلمي، بل لأنه اكتشف في نفسه الشعر أو الأدب أو الخطابة.. فلم يكن المغني متسلقا، ولم يكن كذلك الفنان ولا الطالب.
على كل حال، مازلنا بخير ومازال التراث بخير، مازلنا لا نعدم الرابطة الاجتماعية والمودة البعيدة عن المادة والمبنية على الصدق والتراحم والعفو عند المقدرة والتسامح وقبول المصالحة والتنازل عن الحقول المالية في الحوادث والضرر غير المقصود... كل ذلك من المثل العليا في تراث العادات والتقاليد، لازمت الليبيين ومازالت تلازمهم إن شاء الله.
________________________________________
(1) المعجم الأدبي ـ جبور عبد النور ـ دار العلم للملايين 1984
(2) مجلة السراج ـ عن نقابة المعليم بالجبل الأخضر 1988 ـ ص77.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق