السبت، 26 نوفمبر 2011

مفتاح العماري والخاطرة

مفتاح العماري والخاطرة


د. عبدالجواد عباس



الخاطرة من هواجس النفس بما يخطر بالبال من مشاعر وأفكار وأحاسيس قريبة أو بعيدة .. وهي من قبيل أحلام اليقظة وتيار الوعي الذي لا يكفّ عن العمل.. وتنحصر في حديث المرء إلى نفسه بهواجس سارة مفرحة ، أو كئيبة حزينة .. وتزداد الخاطرة عمقا كلما كانت الصور المعبّر بها غارقة في الخيال ، وتجمل الخاطرة بالإيقاع القصير والكلمات المكثـّفة والاستعارات البيانية القريبة .. والخاطرة قد تتواجد في الأعمال السردية الأدبية جميعها ؛ كالقصة والمقالة والمسرحية ، كما تتوافر في الشعر ، ولكن أكثر دورانها في النثر .

ونقتطف هذه الخاطرة للشاعر مفتاح العماري من خِضم مقالٍ له بعنوان (أشير إليك وأحلم)(1) كتبه إثر وفاة زوجته ثم نُتبعها بالتعليق عليها :

"في هذا الخلاء المتوحّد حيث لا أحدَ يصغي إليّ .. لا تحيّةَ للصباح .. لا فنجان قهوة ينتظرني كالعادة .. فقط تترعرع الأتربة والنفايات فوق أرض الغرفة ، وتذبل نبتة الصبّار الصغيرة التي كانت تروم العطش .. لا شيءَ غير أكداس الصمت والكتب والأوهام في أرجاء الروح التي أصبحت باردةً كئيبة .. وحيداً أحاور ظلـّيَ المهدّم ، وأغضب لمجرّد أنني أمسيت رجلاً متروكا للنسيان .. كم هي الحياة هشّة وقاسية من دونك فلا أحد يصغي إليّ .. فأين أنت أيتها النائمة بعيدا في المجاهل الغامضة .. أريد فقد أن نتحدّث في المساءات الخشنة كما كنا نفعل .. ما جدوى أن أستسلمَ لصوت الريح طالما لا أحدَ البَـتَّـةَ يصغي إليّ .. أنظر ببلاهة إلى أوراقي الممزقة في أرجاءِ الحياة الباردة .. لا أحدَ يُصغي إليّ .. في الليل ، حين يتلاشى العالم تستيقظ الكلمات فأختنقُ بالوقائع الصامتة ، لأنه ما من أحدٍ يصغي إليّ"

يعبّر صاحب الخاطرة عمّا انتابه من الحزن والكآبة بعد رحيل زوجته.. هذه الحادثة التي صوّرت في نفسه تداعيات كثيرة من ضياع وألم نفسي ممتزج بفوضى الخواطر ؛ فوصف منزله بعد رحيل زوجته بأنه ساكن كالخلاء ، ذاك السكون القهري غير المرغوبٍ فيه ، فهو متوحّد رغم وجود الأولاد بالمنزل ، لكن من كان يبثّ إليها همومه الحقيقية قد اختفت ، لذلك كان يؤكد شعوره بالوحدة بقوله : لا أحد يصغي إليّ ، أخذ يكررها كـ(لازمة) بعد كل دفعة من الخواطر ولعل شجرة الصبّار الصغيرة قد شاطرته الحزن بامتثالها للذبول ، أو أن شجرة الصبّار تلك ترمز إلى زوجته الرؤوم وثباتها وحسن تصرفها في المواقف الصعبة ، كما رمز إلى فقدانه لرومانسيته القديمة بالريح في قوله: " ما جدوى أن استسلم لصوت الريح طالما لا أحدَ البتـّةَ يصغي إليّ. وهذا التنكير في : (فنجان ـ قهوة) يوحي بالاستدامة والتعوّد الذي كان ، يقابل ذلك تعريفه لـ(الأتربة ـ النفايات ـ نبتة الصّبار ـ أكداس الصمت) للتقليل والتدليل على الحالة الطارئة التي حلـّت بالمنزل وحلت به مما دعاه إلى الضرب بعيدا في الخيال كهذا التشخيص في أنسنة الروح التي أصبحت باردة ، والكلمات تستيقظ والوقائع صامتة (..) ثم التدليل على صدق التجربة بهذا النهج السردي الذي اختاره في عرض خاطرته ، فبالإضافة إلى السيرة التي تلوح كسمة سردية فقد استعمل ضمير المتكلم أكثرا مما استعمل ضمير الغائب لأن همه همّ شخصي متعلق به هو دون غيره ، ولذلك كان ضمير المتكلم مناسبا بصفة دائمة للخاطرة التي أثبت بنيتها بأفعال مثل : أحاورُ ـ أغضبُ ـ أريدُ ـ استسلمُ ـ أنظرُ ـ اختنقُ... بينما قلل من ضمير الغائب لمناسبته للقصة أكثر منه للخاطرة .

فالخاطرة يضرب فيها الخيال أطنابه فتتداعى إلى الذهن الصور الممكنة وغير الممكنة ، مثل ذِكْرِهِ لأكداس الصمت وأرجاء الروح ، بل يتوغل في خلق الصور الخفية النابعة من قرار الذهن فيصف الروح بأنها باردة وكئيبة ، وهذا هو ديدان الخاطرة سواء في الشعر أو النثر وسائر السرديات .

(1) مجلة المؤتمر العدد 39 و40 لسنة 2005 ـ ص36.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق