السبت، 26 نوفمبر 2011

قراءة في ديوان(أنفاس) لمفتاح ميلود

قراءة في ديوان(أنفاس) لمفتاح ميلود


د. عبدالجواد عباس

شكوى غير علنية ضد الحياة:

هذا الديوان الشامل لعدد خمس وعشرين قصيدة، الصادر عن منشورات (المؤتمر) سنة 2003.. هذه القصائد التي كان مفتاح ميلود قد نشرها في العديد من الصحف والمجلات، ثم رأيت أنه قد جمعها في هذا الديوان، ديوان ( أنفاس).. وهي في مجموعها العام تمثَّل قصائد عن الحياة والزمن ومعاناته، وبين هذا وذاك صحائف اتهام غير علنية وأنات حب ظاهرة ومطمورة وما إلى ذلك مما يتعرض له الناس، من تلك الشئون التي تعرض لنا جميعا،ومما نلاقيه في حياتنا من معاناة وصراع مع الحياة التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها كما نحب نحن أوكما يحب مفتاح ميلود.. ولذلك نراه ينظر هذه النظرة التي لا تخلو من التمرد والتشاؤم من حاضره، كما لا تخلو القصائد الأخرى من أثر من هذه الآثار كما في قصيدة (جدران) نسمعه يقول:

خلف الجدران العابسة

ثمة أنين

طالما ظننته

صفيرَ رياح

****

شق في الجدار

عنكبوت في الزاوية

ومسمار يراود

لوحته

على آخر لون تبقى

****

في لوحة الغيمة القاتمة بذرةُ قمر

تزهر بعيد

عن شرفات الشتاء

****

تغلغلَ الصدأ

في القضبان

تهاوت

وصعد من الهشيم

بخارُ دمعة حارة

انظر إلى هذا البؤس الذي تمثله، يستحضره في هذه البنية من الكلمات الدالة على الشظف.. دالة على ما يحس به من ضيق وتبرم لحاضره، ويكفيك عبارات مثل : عابسة ـ أنين ـ شق في الجدار ـ عنكبوت ـ آخر لون تبقى ـ الصدأ ـ تهاوت ـ الهشيم ـ وأخيرا (دمعة حارة)...



***********

نظرة من الداخل:

لقد استنبط مفتاح ميلود معايير للأشياء.. لم يسلـّط اهتمامه في شعره على شيء واحد وإنما سلط اهتمامه على أشياء عديدة في هذه الحياة.. تجارب وحكم ووصايا وتحذيرات وتحفظات.. وكأنما استخلص ماهيات ومُثل عليا وسفلى.. فلسفها بأسلوبه الخاص.



مفتاح ميلود من الجيل الجديد، جيل الحداثة والتجريب والخروج عن المألوف من الشعر، ولكنك تكتشف أن شعراء وقاصّي اليوم عندهم ما يقولون، ولكنهم يقدمون أفكارهم ورؤاهم طبقا لهذا الزمن المتسارع النبض، إنهم في أدبهم كمن يرمي لك شيئا وهو يجري، وقع في يدك أو لم يقع وإن وقع في يدك ـ وهذا هو المهم ـ فعليك التعرف عليه.. عليك التعرف على هذا الشيء، وهذا التعرّف ـ إن حدث ـ لا يكون إلا نسبيا، لأن ضغط الزمن يفرض على الشاعر نوعا من الضبابية في بناء أفكاره فيختلف تأويل ما يقوله بين شخص وآخر.. انظر مثلا إلى هذه المعادلة ذات النسج الثنائي في قصيدة أنفاس، فهي تبدو ذات جانبين سلبي وإيجابي :

"حَمَامٌ أبيض

غرابُ أسْوَد

لا فرْق َ

فالآفاقُ لا تعْترِفُ

إلا بخفقِ الأجْنحة" (1)

هناك ثنائية ومعنى مكثــّف لا يعني غير قانون الطبيعة في تواترها اليومي.. العالم من حولنا يجلُّ قوة الدينار.. قد لا تهم الصفات الإنسانية الإيجابية أو السلبية كثيرا عند هذا العالم الشـّره.. النفس البشرية تنحاز إلى دفء المادة إلا ما رحم ربي.. وخفق الأجنحة هنا، هذا المعادل الموضوعي للمال والجسم والجاه.. هو صورة محسوسة وملموسة معا نصطدم بها ونلمسها كل يوم..

الشاعر مفتاح ميلود يعزز حججه بصور أخرى مشابهة وإن اختلفت آليات التركيب اللغوي والمسميات، فقد أكـّد الصورة الأولى بقوله :

في الأزقـْة الخلفِية

عندما تفقدُ القططُ أصواتـَها

ترقـُصُ في الظلمة

أشباحُ الفئرانِ الضّخمة

إنها خفق الأجنحة من جديد، الكيل بمكيالين غير أنهما متساويين، وهكذا يحدث عندما تفقد القوة الرادعة قواها وسيطرتها.. تفقد القطط أصواتـَها، ومن ثمّ تسمع اللحن الردئ كنتيجة نهائية للصورتين عندما تجور سلبية الحياة.

********

الوحدة العضوية :

من يقرأ لمفتاح ميلود يقول للوهلة الأولى أن الوحدة العضوية لا تتوفر في قصيدته والوحدة العضوية هي العنصر الفني الأكثر شيوعا في القصائد الحديثة، ولكن لا تلبث حتى تعْـدُلَ عن هذه الفكرة، وتكتشفَ أنه يكتبها بطريقة خاصة قد لا نراها عند كثير من شعراء جيله الذين يكتبون على نفس المنوال الشعري.. فعندما تقرأ بسرعة في مقاطع قصيدته دون أن تتدبر ما يقول يدخل في روعك أنك تقرأ قصيدة مفككة الأفكار، ولكن عندما تقرأُها ثانية يجذب انتباهَـك تناظرٌ في الحدث العام لكل مجموعة من الأسطر التي يفصل بينهما فاصل، فالحالة الأولى تناظر الحالة الثانية كما (رأينا) في قصيدة أنفاس السالفة.. والتناظر هنا هو تسجيلُ نفس الحالة في المقطع الأول، يعيدها المقطع الثاني بشكل مغاير.. فكل مقطع يؤدي بنا إلى نتيجة سلبية مؤلمة مع اختلاف الحدث، كما رأينا في قصيدة (جدران).



يعتمد مفتاح ميلود كثيرا على نظام الثنائيات في النظام السردي لقصيدته، ففي قصيدة أنفاس ذات الستة مقاطع اعتمد هذه الطريقة وهي كالآتي :

ـ ثمة ثنائية معنوية شاملة وليست مفردة في المقطع الأول، نفهم منها (غليل ولا غليل).

ـ كتف صبّار وزهر مقابل كف حجر وشجرة في المقطع الثاني.

ـ في المقطع الثالث : كَنز ذهب مقابل كومة قش، أي (شيء ولا شيء).

ـ في المقطع الرابع : حمام أبيض مقابل غراب أسود، أي تفاؤل وتشاؤم، كياسة ونحس.

ـ في المقطع الخامس، ثنائية ضدية أيضا يمثلها القط والفأر.

ـ في المقطع السادس والأخير مُهرّب وشاعر على مستوى الخلاف بينهما في الخواطر والأمزجة.



مفتاح ميلود كسائر شعراء الحداثة تزدحم عليه الأفكار والثقافات فيأخذ طرفا من هنا وطرفا من هناك في حمية اللحظة وهجوم الأفكار عليه، ولذلك ينشئ السطر الشعري من أشتات أفكار قد تداعت عليه، وعندئذٍ لا يستطيع أن يبرأ مما يؤوله الآخرون من مقاصد في شعره، هكذا تجري الذائقة العامة، فلا يسعه إلا أن يقول ـ إنها أيضا من الأفكار التي تراءت له وراودته أثناء حميمية الشعر ساعة فترة الإلهام.. وعملية الإلهام هذه لا تخرج عن كونها عملية تخلـّـص مما يدور في القلب من أوهام ورؤى بعيدة وقريبة، يحس معها المبدع أنه قد أزاح عن نفسه حملا ثقيلا بإيداعها الورق.. وربما هذا هو السبب الذي جعل مفتاح ميلود يطلق على ديوانه عنوان (أنفاس)، لينفس عن نفسه ويبعد عنها شيئا من الكدر عندما يُـفـْرِغ ما في ذهنه من أفكار اهتمَّ لها وسهر من أجلها..

*************

البناء والهــــدم :

مفتاح ميلود من ناحية الموضوع نراه يذكر آمالا غير مؤكــدة، فما أن يبني الشيء حتى يهدمه.. أو يتراءى له أنه سيُهدم، فهو لا يسقط على الآخرين شيئا أو يتهمهم به، وإنما يحوّل كل حدث إلى نفسه، متهما ذاتـَه مباشرة بأنه الفاعل والمتلقي في آنٍ واحد، وحين نحيل الموضوع كلـَه على المستوى الذاتي، ونحوّله برمته إلى الشاعر ؛ فإننا سنجد أنه يعيش حياة تتقاذفها الشكوك وعدم الثقة وفقدان الأمل في الآخرين.. فبعد أن يوشك أن يبني أملا يجعله يفر في رمشة عين.. نجده يلمّح بذلك في مناسبات كثيرة كما في قصيدة (ترانيم) التي يقول فيها :

في لحظة صدقٍ

اشتبكتْ أصابعُهم

من فوقها مرَّ الأبناء

مرّ الأحفاد

ولم يتجاوز عمرُهم

اللحظة َبعدْ..

******

مات الشيخْ

انهدم الكوخْ

فرِحَ البومُ كثيرًا

من التراب انبثقتْ زهرة

وللسّهو..لا لشيء

أديرُ ظـَهْري

فاردًا ذِرَاعِي

لحفيف الضَّوء..

فهو إذاً كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى، يجمع هذا الحشد ثم يفرقه في لحظة واحدة، معترفا بأنه لم تقبض يداه على غير الهواء، ويا ليته حصل على ذلك الهواء صرفا إلا أن جملة تراسل الحواس تلك تقول لنا حفيف الضوء، والحفيف بحاسة السمع لا بحاسة الرؤية.

ولا تخرج بقية القصائد عن هذه النتائج، فهي شخصية جدا، تترجم عن ما يدور في ذهن مفتاح ميلود من مشاعر وأفكار وأوهام، فلو صَـدَقتْ تكهناتي ـ والشعر الحديث في معظمه تكهنات ـ أقول لو صدقت احتمالاتي فإن هناك عدة تأويلات..

هناك رسائل تنم عن عدم وضوح في الرؤية وتخبط في أخذ القرار المناسب فرضتها الظروف والوقت الراهن لدى مفتاح ميلود وقد كثــَّف ذلك في قوله :

حماقاتٌ ودراويش

استودَعوني سِـرَّهم ورحلوا(1)



وهناك حقائق تستحي أن تـُظهر نفسَها كقوله :

قطرةٌ باردة مرتْ

في صمت

تبلل الحُـلُـم

ومضتْ في صمت



وهناك رسائل عن أمل مفقود كما في قوله :

بسمة ٌ يتيمة حينَ تلوح

لا تشبهُ شيئـًا سوى الأمْنية

بسمة ٌ يتيمة سلبتـْها الأوجَاع

لحظة َ النـُّضْج

إنه يسخر من الزمن الردئ، مما دعاه إلى القول : " لم الحزن الآن" وكأنما لا يعبأ بالأحداث المتشابكة الإيلام، فبينما يحصد الآخرون يكتفي هو بالرؤية، جوع في زمن الحصاد على رأي الشاعر علي الخرم وفي هذا الشأن يختصر مفتاح ميلود الموقف في ثلاثة أسطر مكثفة :

لك الطريقُ

وليَ الذاكرة

لِـمَ الحزنُ الآنَ ؟

مفتاح ميلود مهووس بوصف رداءة الحال فهو لم يسقط شيئا على الآخر أو الآخرين، كل القصائد تخصه، جعلها تترجم عن نفسه مباشرة، وكأنما هو إنسان مخدوع مغلوب.. معظمها يشجب اللف والدوران والغـُبْن والخديعة وسوء الإخلاص إنه يقول :

على حافةِ الغياب

فراشٌ يتواطأ ُ مع الليل

وعرباتُ حَنين

تركضُ فوق الصدر

عرباتٌ تتوارى في الصمت

***

على مشارف الغد

خرافة ٌ تـُعيدُ للعُرْس سمعتـَه

للعمر سنواتِه المنهوبة

دائما هناك حواف(1)



مفتاح ميلود هنا في هذا الديوان (أنفاس) لا يبدو شاعرا التزاميا، لأنه لا يعالج قضية عامة تهمّ كل الناس، وإنما يمكن أن نطلق عليه شاعر الفن للفن، لأنه لا يرسم إلا هواجسه، أو تلك العلاقة التي تربط بينه وبين الآخر.

وتتوالي ترجمة حالات البؤس في القصائد التالية لقصيدة (حواف) كقصيدة (لو)، وهي أقصر قصيدة في المجموعة، يندب فيها حظه العاثر ويلوم فيها على الشعر الذي جعله يقف هذه المواقف التي وصفها، يقول :

لو أنـَّـك

علـْمْـتني شيئـًا آخرَ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

غيرَ امتهان الخيبة

لكنتُ ممتنـًا لكَ

أيـُّها الشِّعْر

‍‍









________________________________________

(1) أنفاس ـ مفتاح ميلود ـ منشورات المؤتمر ـ2003 ـ ص7.

(1) من قصيدة (تعب) ص63.

(1) من قصيدة (حواف) ص51.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق