علي الفزاني قنديل ضائع في المدن الوثنية
د. عبدالجواد عباس
عندما تنازعك نفسك الكتابة عن مبدع ما , فإنك لن تفعل ذلك عفو الخاطر , إذ لابدّ من شيء أثارك للكتابة عنه , حتى ولو كنت ملزما ببحث أو دراسة حوله من قبل جهة أكاديمية.. نعم, من المجحف أن تكتب عن فنان أو شاعر أو كاتب كيفما اتفق , دون الوقوف علي جوانب كثيرة من إبداعه أو بعضٍ منه علي الأقل. لكن إذا تم لك ذلك مع مخالطته والتحدث معه وجها لوجه فإن الصورة ستكون أتمّ وأوفى.
هذا ما حدث لي مع الشاعر والأديب علي الفزاني.. ما جذبني إليه ليس لأنه كان يعرض أشعاره , فهو لم يتكلم عن أيً منها ؛ وإنما يتحدث عن أشياء أخرى.. عن معارفه من أولئك الذين بينه وبينهم رصيد كبير من الذكريات المشتركة , أو عن لقاءاته أو مواقفه مع أدباء عرفهم , ليبيين أو عرب. وهي مواقف لا تخلو من معانٍ وكياسة في مجملها , وبأسلوب لا يشعرك بالنفور ,
انتبهت إلى الفزاني أكثر حينما توفي صادق النيهوم , فبكاه الفزاني بكاءً مرّا ً , عبر أكثر من خمسة مقالات رثاء , إثر وفاته مباشرة , بنبرة تنم عن صداقة وعلاقة وطيدة بالأديب الراحل.. وشد انتباهي إليه أيضا حينما كان يذكر بنغازي القديمة , فكلما تحدث عن ذلك كلما استحضر في ذهني ذلك المجتمع الذي كان.. استحضرت أنفاس بنغازي في الخمسينيات والستينيات , وإن لم أكن من سكانها ولا من مواليدها , لكنني أتردد عليها باستمرار , مُــذ وأنا صغير , فثمة أقرباء كثيرون هناك , مما خلّف عندي انتماءً فكريا وجماليا لمدينة بنغازي , فالأديب علي الفزاني يحبها , وأنا أحبها أيضا.. بنغازي شعارها عش كما تريد , وتحرك حيثما شئت , لا تسلط ولا عيون ترقبك.. بنغازي لا تلفِظ أحدا , جئتها اليوم أو منذ عشرين عاما , سَـيّان عندها , أنت لست َ غريبا , لا أحدَ يتعقب خطواتك , الناس في غنىً عن حساب الحركات والسكنات و (تقييد الأحوال) , حتى ولا من يهمه أمرك.
علي الفزاني خير من يحدثك فترات مثيرة ممتعة عن مدينة بنغازي القديمة , عن الصابري وسوق الحشيش , أو دكاكين حميد و (جوليانا). أحسب أن اهتمامه مكثف علي شمال المدينة دون جنوبها , فهو قل ما يذكر الفويهات والبركة أو الرويصات.
شيء ما شدّني إلى التواجد في مجلس هذا الرجل (علي الفزاني) , تحديدا ما ذكرته , وربما بعده عن أسلوب التكلّـف , فهو لا يقطع حديثه ولا يغيّر لهجته مهما جلس إلى جواره أشخاص لا يعرفهم , وربما ردّ علي استفسار أحدهم أيضا , ودون أن يستنكر منه ذلك , علي عكس ما تلمسه من شخص ضيق الأفق أو جيهوي , غير أنه تعوّد أن يزيح عن عينيه النظارة نصف إزاحة كلما أراد أن يوجّه الحديث إلى مستفسر ما وبصراحة متقنة , وربما استحضر في نفسه قولـَـه :
لقد تعرّفت علي هذا العالم الرخيص
بثمن غال
وسأخرج منه بالمجان
وكأنه يقول : دفعت ثمن التجربة.. وقد يشد انتباهك شعوره بالتشاؤم , ربما لأنه عاش حياة مزحومة بالقلق والاضطراب والحاجة , فالتعب والموت والحزن , كل ذلك له صدىً واضح في عناوين دواوينه , ومن ذلك : رحلة الضياع ـ أسفار الحزن المضيئة ـ الموت فوق المئذنة ـ مواسم الفقدان ـ الطوفان آت ـ أرقص حافيا ـ ذاكرة الخلايا الميتة ـ القنديل الضائع... مما يحمل هموما ورَثـَها جزاء وقوفه في طابور جحافل جيش الحياة الطويل , أو كما أسماها هو (الطاحونة) :
كالرحى كانت تدور
تسحق الرؤيا وترمي بالقشور
هي في بدء اللقاء كانت (زليخة)
وأرى الآن حفـّار القبور
ولعل وعيه بما يدور من حوله وإلمامه الثقافي بأمور شتى , زاد من كم تعاسته حينما يفرغ إلى نفسه , فقصيدته بعنوان (دمي يقاتلني ) يومئ فيها إلى أن شعوب العرب ما تزال تحطم نفسها , وأن (القطة ما تزال تأكل صغارها ) فيعلن صيحة تمرد , وسخرية من عذابه الذي يلاحقه منذ ولادته , كما لاحقته التعاسة والحروب حين فتح عينيه علي العالم , إبّان الحرب العالمية الثانية :
وحبن إليك هبطت تلقفني عرس الدم
وحين مشيت تصدعت الأرض
وقام من جسم الأرض زبانية
التعاقب الدموي
وتبسم الرب , رأيته في ثياب حارس ملكي
وتلميح إلى غياب الذهن العربي , بكل لطافة البلاغة ينحي باللائمة علي بني جلدته , وعلى هذا الزمن المتجدد الصراعات منذ أزمنة غابرة :
إذن أبتي أنت الذي تفـرّد في اختلافات الجموع
أنت الذي يجرر الأبرياء في الق الفجر
يلقي بهم في سجنه الهمجي
لمن الملك وقد صار الإلــه عميل الخليفة
ما يفتأ علي الفزاني يطلق صيحات الثورة , صيحات الاعتراض على الظروف المتردية والوضع العربي المتورط في هموم السياسة الخارجية , فيستدعي (أبا ذر ) ويتفاءل بـ ( عشتار) لأن كل ثائر عنده بمثابة قنديل ضائع في المدن الوثنية , مثل (زرّوق و أبا ذر ) , ذلك لكثرة العاصيين والمذنبين , من أولئك الذين أظهروا عقوقا نحو الوطن.
وحينما يتحدث عن الثورة , أي ثورة فيها إصلاح للكون , لا يتكلم بمنطق السذاجة أو الإطراء المقيت , بل يفصح عما يريد بتلميح مقبول :
ها قد عاد للأرض المسيح
يبرئ الأعرج ـ الأعمى والموتور بالكلمات وحدها
تدب الحياة في الذاكرة
وتعود إلى الزمن بعض أحلامه السخيّة في قبضة الكوابيس
يبشرنا المارد الطيني عن زمن عاقل يرسل بساطه السحري
إلى أرض عشتار...
( نشرت في صحيفة أخبار بنغازي ـ العدد 30 لسنة 1425 م.ر)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق