طقوس العتمة .. دراسة نقدية
د. عبدالجواد عباس
طقوس العتمة.. هذه المجموعة القصصية لعوض الشاعري، يجمع فيها بين القصة المحكية والخاطرة والتهويمات النفسية، فقصة عروس البحر.. هذا العنوان الذي فيه اشتقاق نوع كمية من الحشيش باسم (عروسة) متعارف عليها بين تجار المخدرات، ومفاد القصة أن راعي الغنم أراد أن يجرّب مصباحه اليدوي فأومض عن طريق الصدفة ثلاث ومضات ثم سقط المفتاح وتوقف عن الإضاءة نهائيا، مما حسبه تجار الحشيش القابعين في قارب وسط البحر إشارة متفق عليها لمستلم كمية المخدرات (العروسة) على الشاطئ، فما كان منهم إلا أن رموا ما يحملون في إطارات منفوخة، وجرجره الموج حتى توقف عند أقدام راعي الغنم في تلك الليلة، حيث أصيب بمفاجأة مدهشة أربكته وفتحت له في ذهنه طرقا شتى وتطلعات كان يحلم بها، من بينها الزواج بابنة شيخ القبلية، ولكن آماله سرعان ما تبخرت عندما سمع صوتا يقول له : " أيّها الراعي لا تعبث بما لا شأن لك به.. اخرج فوراً وألحق بشياهك " ص17.
هذه القصة التي لها بداية ووسط ونهاية، سواء أكان العنوان هو (عروس البحر) أم أننا تلمسنا لها عنوانا جديدا هو (ثلاث ومضات)، ومما يهزنا في بدايتها هذه الهوية الليبية التي تفرض حضورها وتشق طريقها بقوة، خاصة فيما يدور في البيئة الرعوية من حياة البادية، كتلك البساطة البارزة حين " راح الرعي يترنم بأرجوزة بدوية تحكي عن عاشق فقير، مصوراً ما سببه ضيق ذات اليد من بعد الأحبة وفراق الخلان " ص11.. وهي صورة من الصور التي غالبا ما تحدث بشكل اعتيادي بين شباب البادية الذين لا يَملّهم ضنك الحياة... ثم الاعتداد بالمثل العليا والتقاليد السارية المتمثلة في احترام شيخ القبيلة.. وربما كانت الهوية الليبية قويةً في قصة (الطريد)(1) ابن القرية الذي جرّب كل ما هو قروي، ومارس فيها أعمال الصغار والكبار منذ نشأته إلى يوم طرده.. إلا أن هذه الهوية أقوى في قصة (الولوج السرّي).. الهوية الليبية كانت أشد نصاعة في هذه القصة ؛ فالبطل دائب الحنين إلى بساطته الأولى، وهو يتمنى أن يعيشها مرة أخرى.. لذلك يكره التقيّد و(الأتيكيت) ويكره أن يفرض عليه النظام فرضا إذ هو دائب القول
" إن البدوي الذي يسكنني عنيد وشقي، لا يني يستدرجني نحو سطح مرآته المكسرة الحواف " وهذه العبارة الأخيرة (مكسرة الحواف) تكنس من أمامها كل بريق مصطنع، فهي رمز البساطة والبعد عن الالتزام بأناقة المدينة الجبرية التحكمية.. والهوية الليبية بالانتماء إلى البيئة والوطن نجدها ظاهرة عند كثير من الأدباء، وقد جسدها أحمد يوسف عقيلة بغزارة في مجموعاته القصصية، وعشقها سعيد خيرالله حتى قال : " أما هذا الذي اكتبه، فإنني أكتبه بعودِ عوسج أخضر، عَلِقَ بعباءة ذلك الراعي بينما كان يهشّ بعصا السِّدر الذئاب عن قطيعه(2).
وفي قصة عروس البحر تكنيك يقترب من تكنيك المشاكلة البلاغية الذي يؤدي بنا إلى تناص مفرغ في قول الراوي : " ضرب البحر بعصاه فانفلقت نصفين، نصف ذهب مع الأمواج ونصف راح يهش به على غنمه " ص11، مما يعطينا نوعا من الالتفات والصحوة في هذا التوافق بين عصا موسى وعصا بطل القصة.. ولا تخلو ثنايا القصة من شفافية رومانسية حيث كان البطل : " مستسلما في تواطؤ لنسائم الحلم التي هبّت من أقاصي الشمال مع آخر خيوط نهار يحتضر تحت عباءة ليل بهيم " ص12 فالتشخيص خصيصة رومانسية ناجحة لتوصيل التجربة والجو النفسي من الأديب إلى المتلقي .
وإذا أردنا أن نصنف هذه القصة من الوجهة النقدية فهي من الأدب الواقعي، ونقصد بالواقعية إحدى اثنتين : القصة التي وقعت بالفعل، أو القصة القابلة للوقوع، وهو ما ينطبق على قصة (عروس البحر) وما يجري مجراها من قصص أخرى.. وواقعيتها واقعية عربية، تدفع أمامك المشكلة وتترك لك القرار، دون أن تستكرهك أو تحببك في الحدث، أو تستفزك بكلام الوعظ والإرشاد وعدم الاقتراب... بخلاف الواقعية الغربية،التي تصوّر لك خير إنسان العصر وشره، ولكنها تنحاز إلى فقد الثقة به.. وكمثال لهذه الواقعية قصة (وجبة إفطار) (3) للقاص حسين نصيب المالكي ؛ إذ تجد فيها أكثر من عبارة منفّرة لتصرفات إنسان العصر وعدم الرجاء في عطفه وتسامحه، ونستدل على ذلك بعبارات في القصة تقول : " إنها مكتظة بهؤلاء المسعورين ـ كأنهم لا يأكلون إلا في رمضان ـ فقد أحسّ أن الاحترام ليس هنا مكانه ـ يتناول أجرا ضئيلا لا يساعده على حياة المدينة وغيرها.. أو الواقعية الاشتراكية الوطيدة الأمل بالإنسان، إذ توحي لك القصص من هذا النوع عدم فقدان الثقة بالإنسان مهما كان ضالا ومجرما، وتشعرك من طرف خفي بأن الإنسانية لا تزال بخير.. .
قصة (عينان) على الرغم من قِصرها فقد أجاد حبكتها دون القصص الأخرى، فقد تطور الحدث بتدرجٍ بطئ حتى وصل إلى حل العقدة ومرحلة التنوير.. هكذا في فقرات ذات جمل متعانقة، تسلّم كلّ منها المعنى إلى الأخرى، مما جعل الحدث متوهجا ناميا إلى النهاية.. فبطل القصة تضايقه كثيرا حدة النظرات التي يسددها إليه رفيقه الجالس قبالته على الكرسي المقابل في الترام.. ورغم أنه حاول تجاهله والتشاغل عنه بقراءة الصحف إلا أنه كلما لاحت منه بارقة رآه يحدّق إليه أكثر.. السبب الذي جعله يشك في نواياه نحوه.. وذهب البطل في شكه بعيدا، حيث تصوّر الرجل الجالس أمامه، المحدّق نحوه باستمرار يبحث عن طِلْبَةٍ له ليقتله في ثأر، مما أدخل في روع البطل أنه يشبه تلك الطلبة، وتحكّم هذا الشك في نفس بطل القصة فانهال على الرجل بضربٍ جنوني ولم يوقفه عن ذلك غير رفاق السفر الذين عابوا عليه ضرب رجلٍ أعمى.
هذه القصة تذكرني بأحداث قصص مشابهة، مع أنها تختلف شكلا وموضوعا مع قصة (عينان)، فلا يجمع بينها سوى أن للعميان يدّ فيها.. وكلها تمتاز بالطرافة والمفاجأة.. وعلى سبيل المثال قصة (رحلة هندية) (4) لروسكن بوند، عن شاب وفتاة جمعتهما الصدفة في قطار واحد، وأعلن الشاب عن نفسه بأنه أعمى، وصار يستفزّ الشابة على التحدث معه، وتحدثا طويلا، وصار الشاب الأعمي يتكهن عن جمالها وشكلها بعد أن استمتع بحديثها، ولكنها غادرت القطار في المحطة التالية، وجاء رجل آخر وجلس مكانها، فسأله الشاب الأعمى عما إذا كان شعر الفتاة التي نزلت طويلا فأجابه بأنه لا يذكر، وإنما عيونها جميلة ولكن للأسف بلا فائدة فهي ضريرة.. ولعلنا نذكر حادثة مشابهة ومشهورة هي ما جعلت الشاعر علي محمود طه ينشئ قصيدته (الموسيقية العمياء)، حين أُعجب بجمال فتاة أجنبية كانت تقود فرقة موسيقية، ولكنه يٌفاجأ بأنها عمياء رغم جمالها الباهر.. وإذ تتبعنا الأشباه والنظائر فسنجد قصصا يماثل بعضها بعضا.. فمحتوى قصة (الحبيب المجهول)(5) لوهبي البوري تكاد تكون هي نفس قصة (ذراعان) لمحمد أبوالمعاطي أبوالنجا (6)، فكلا القصتين تتحدث عن فتاة جميلة أعجب بها كلّ منهما بعد أن رآها مرة واحدة وفقدها في زحمة الناس، وأضناه التعب في البحث عنها.. ومن قبيل التشابه قصة (المصاغ)(7) لعلي مصطفى المصراتي، فهي تتوافق مع نفس فكرة قصة (العقد)(8) لجي دي موباسان.. عن امرأة فقيرة استعارت عقدا ذهبيا لتتزين به في حفلة عرس ولكنها فقدته فكانت الطامة.. وربما من قبيل التأثر المباشر بالقراءات الثقافية أو حتى توارد الأفكار؛ فقصيدة (أسيرة القراصنة) لبدر شاكر السّيّاب بدايتها : "أجنحةٌ في دوحةٍ تخفق// أجنحةٌ أربعة تخفق// وأنت لا حبٌّ ولا دار".. في حين نجد سعيد خيرالله يمارس هذه التراتبية في بداية قصته (شجون الغربة) وهي : "قدمان لرجل// كعبان لامرأة// وطأتان صغيرتان".. والتشابه قد يحدث بصورة طبيعية وغير مقصودة، فالأفكار جادة طريق ـ كما يقولون ـ عسى يكون في تواردها وقوع الحافر على الحافر .
أما قصّة (طقوس العتمة) التي صدّر بها عوض الشاعري عنوان مجموعته القصصية فهي قصة رمزية معلقة النهاية.. الجانب الواقعي المموه فيها عن إنسان وجد نفسه في الظلام، وأراد أن يتخلص مما هو فيه فلم يستطع.. الحدث فيها غير منته.. إنسان في ضائقة وما يزال في ضائقة.. والرمز سواء في النثر أم في الشعر يعتمد في قراءته على التأويل والحدس، غير أن الأديب لا يعترض بل يعتبر ذلك مقصدا من مقاصده.. يحدث هذا عند قراءة الرسوم التشكيلية أيضا، فهي تعتمد الرمز في قراءتها.. فإذا ما حللنا قصة (طقوس العتمة)، هذه القصة الرمزية التجريبية بمحتواها العام، فإننا نصطدم بسيرة ذاتية لشخص ما، ليس بالضرورة أن يكون هو الكاتب نفسه، فقولنا:
ـ هذا الشخص عندما فتح عينيه على الدنيا لم يجد أمامه غير التعاسة والشقاء، يقابلها في النصّ : "حين أراد أن يمشي كان الدرب معتما، مشبعا برائحة الوحل"، وهذا يذكرني بجزء من قصيدة لعلي الفزاني يعبر فيها بالرمز كيف استقبل الدنيا عندما فتح عينيه عليها في بداية الحرب وما آل إليه بعد ذلك :" وحين إليك هبطت تلقفني عرس الدم//... أطفئ القنديل ذابت كل أجفان الشموع// جثتي كانت لها كل الحصاد// يأكل الأطفال لحمي يكبرون// خلني سكران أمش فوق خيط العنكبوت// لزجٌ كل سؤال// وأنا حرفٌ طريد.(9).
ـ كان هذا الشخص يلعن المكان الذي عاش فيه ولا يباركه، إذ لم ير فيه غير النحس.. يرمز إلى ذلك من النص عبارة : " تلك البقعة من الأرض التي ضاجعها أكثر من شيطانٍ مريد "
ـ رضي بواقعه، وبات يمارس كل أعمال الحياة الشاقة.. يرمز إلى ذلك قوله : "استمرأ الرائحة "
ـ يسمع الإهانات ويُمارس عليه التهديد حتى من أحقر الناس.. نستوحي ذلك من عبارة : " تناوشته أقدام الكلاب التي تلغو في الماء الراكد، وحطّت على جسده أسراب البعوض والطفيليات "
والكاتب ألبس كل فقرة بعبارات زائدة على المعني عنوة وقصدا منه، ليوهن البنية السردية، وليوقعنا في متاهة حتى تكون القصة أكثر غموضا فتتعدد حينئذٍ التأويلات الأدبية..
ومن قبيل الواقعية في القالب الرمزي قصة (طوير الجنة)، فيها أنسنة وتشخيص للكائنات غير العاقلة والتي هدفها الأمانة التي تمثلت في الطائر الذي يحرس مخزن الحبوب دون أن يختلس منه شيئا لزوجته وابنه الصغير.. المعادل الموضوعي للإنسان الذي يسير في حياته سيرة حسنة فيكون الفردوس مآله.. وتتفق هذه القصة في رمزيتها مع قصة (مأدبة الشيطان) للناجي الحربي (10)، مع اختلاف الهدف والبناء السردي..ومع قصة (حكاية جورب) (11) لمحمد الأصفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) هناك قصة عنوانها (طريد) لبشير الهاشمي .
2) عيون الغزلان الخائفة ـ الدار الجماهيرية 1994 ـ ص7 .
3) مقبولة ـ مطابع الثورة بنغازي ـ ط2 ـ ص85 .
4) مجلة الجامعة الأردنية الثقافية ـ العدد 42 لسنة 1997 ـ ص193 .
5) د. أحمد إبراهيم الفقيه ـ بدايات القصة الليبية القصيرة ـ الدار الجماهيرية 1985 ـ ص 105 .
6) د. الطاهر أحمد مكي ـ القصة القصيرة دراسة ومختارات ـ دار المعارف 1992 ـ ط6 ـ ص 316 .
7) خمسون قصة قصيرة ـ الدار الجماهيرية 1983 ـ ص 176 .
8) هنري توماس ـ أعلام الفن القصصي ـ منشورات إدارة الثقافة مصر (بدون تاريخ) ـ ص221 .
9) ديوانه : دمي يقاتلني الآن ـ الدار الجماهيرية 1984 ـ ص 21 .
10) رائحة الجوع ـ مجلس تنمية الإبداع الثقافي الجماهيرية 2004 ـ ص 65 .
11) حجر رشيد ـ منشورات المؤتمر الجماهيرية 2003 ـ ص 25 .
د. عبدالجواد عباس
طقوس العتمة.. هذه المجموعة القصصية لعوض الشاعري، يجمع فيها بين القصة المحكية والخاطرة والتهويمات النفسية، فقصة عروس البحر.. هذا العنوان الذي فيه اشتقاق نوع كمية من الحشيش باسم (عروسة) متعارف عليها بين تجار المخدرات، ومفاد القصة أن راعي الغنم أراد أن يجرّب مصباحه اليدوي فأومض عن طريق الصدفة ثلاث ومضات ثم سقط المفتاح وتوقف عن الإضاءة نهائيا، مما حسبه تجار الحشيش القابعين في قارب وسط البحر إشارة متفق عليها لمستلم كمية المخدرات (العروسة) على الشاطئ، فما كان منهم إلا أن رموا ما يحملون في إطارات منفوخة، وجرجره الموج حتى توقف عند أقدام راعي الغنم في تلك الليلة، حيث أصيب بمفاجأة مدهشة أربكته وفتحت له في ذهنه طرقا شتى وتطلعات كان يحلم بها، من بينها الزواج بابنة شيخ القبلية، ولكن آماله سرعان ما تبخرت عندما سمع صوتا يقول له : " أيّها الراعي لا تعبث بما لا شأن لك به.. اخرج فوراً وألحق بشياهك " ص17.
هذه القصة التي لها بداية ووسط ونهاية، سواء أكان العنوان هو (عروس البحر) أم أننا تلمسنا لها عنوانا جديدا هو (ثلاث ومضات)، ومما يهزنا في بدايتها هذه الهوية الليبية التي تفرض حضورها وتشق طريقها بقوة، خاصة فيما يدور في البيئة الرعوية من حياة البادية، كتلك البساطة البارزة حين " راح الرعي يترنم بأرجوزة بدوية تحكي عن عاشق فقير، مصوراً ما سببه ضيق ذات اليد من بعد الأحبة وفراق الخلان " ص11.. وهي صورة من الصور التي غالبا ما تحدث بشكل اعتيادي بين شباب البادية الذين لا يَملّهم ضنك الحياة... ثم الاعتداد بالمثل العليا والتقاليد السارية المتمثلة في احترام شيخ القبيلة.. وربما كانت الهوية الليبية قويةً في قصة (الطريد)(1) ابن القرية الذي جرّب كل ما هو قروي، ومارس فيها أعمال الصغار والكبار منذ نشأته إلى يوم طرده.. إلا أن هذه الهوية أقوى في قصة (الولوج السرّي).. الهوية الليبية كانت أشد نصاعة في هذه القصة ؛ فالبطل دائب الحنين إلى بساطته الأولى، وهو يتمنى أن يعيشها مرة أخرى.. لذلك يكره التقيّد و(الأتيكيت) ويكره أن يفرض عليه النظام فرضا إذ هو دائب القول
" إن البدوي الذي يسكنني عنيد وشقي، لا يني يستدرجني نحو سطح مرآته المكسرة الحواف " وهذه العبارة الأخيرة (مكسرة الحواف) تكنس من أمامها كل بريق مصطنع، فهي رمز البساطة والبعد عن الالتزام بأناقة المدينة الجبرية التحكمية.. والهوية الليبية بالانتماء إلى البيئة والوطن نجدها ظاهرة عند كثير من الأدباء، وقد جسدها أحمد يوسف عقيلة بغزارة في مجموعاته القصصية، وعشقها سعيد خيرالله حتى قال : " أما هذا الذي اكتبه، فإنني أكتبه بعودِ عوسج أخضر، عَلِقَ بعباءة ذلك الراعي بينما كان يهشّ بعصا السِّدر الذئاب عن قطيعه(2).
وفي قصة عروس البحر تكنيك يقترب من تكنيك المشاكلة البلاغية الذي يؤدي بنا إلى تناص مفرغ في قول الراوي : " ضرب البحر بعصاه فانفلقت نصفين، نصف ذهب مع الأمواج ونصف راح يهش به على غنمه " ص11، مما يعطينا نوعا من الالتفات والصحوة في هذا التوافق بين عصا موسى وعصا بطل القصة.. ولا تخلو ثنايا القصة من شفافية رومانسية حيث كان البطل : " مستسلما في تواطؤ لنسائم الحلم التي هبّت من أقاصي الشمال مع آخر خيوط نهار يحتضر تحت عباءة ليل بهيم " ص12 فالتشخيص خصيصة رومانسية ناجحة لتوصيل التجربة والجو النفسي من الأديب إلى المتلقي .
وإذا أردنا أن نصنف هذه القصة من الوجهة النقدية فهي من الأدب الواقعي، ونقصد بالواقعية إحدى اثنتين : القصة التي وقعت بالفعل، أو القصة القابلة للوقوع، وهو ما ينطبق على قصة (عروس البحر) وما يجري مجراها من قصص أخرى.. وواقعيتها واقعية عربية، تدفع أمامك المشكلة وتترك لك القرار، دون أن تستكرهك أو تحببك في الحدث، أو تستفزك بكلام الوعظ والإرشاد وعدم الاقتراب... بخلاف الواقعية الغربية،التي تصوّر لك خير إنسان العصر وشره، ولكنها تنحاز إلى فقد الثقة به.. وكمثال لهذه الواقعية قصة (وجبة إفطار) (3) للقاص حسين نصيب المالكي ؛ إذ تجد فيها أكثر من عبارة منفّرة لتصرفات إنسان العصر وعدم الرجاء في عطفه وتسامحه، ونستدل على ذلك بعبارات في القصة تقول : " إنها مكتظة بهؤلاء المسعورين ـ كأنهم لا يأكلون إلا في رمضان ـ فقد أحسّ أن الاحترام ليس هنا مكانه ـ يتناول أجرا ضئيلا لا يساعده على حياة المدينة وغيرها.. أو الواقعية الاشتراكية الوطيدة الأمل بالإنسان، إذ توحي لك القصص من هذا النوع عدم فقدان الثقة بالإنسان مهما كان ضالا ومجرما، وتشعرك من طرف خفي بأن الإنسانية لا تزال بخير.. .
قصة (عينان) على الرغم من قِصرها فقد أجاد حبكتها دون القصص الأخرى، فقد تطور الحدث بتدرجٍ بطئ حتى وصل إلى حل العقدة ومرحلة التنوير.. هكذا في فقرات ذات جمل متعانقة، تسلّم كلّ منها المعنى إلى الأخرى، مما جعل الحدث متوهجا ناميا إلى النهاية.. فبطل القصة تضايقه كثيرا حدة النظرات التي يسددها إليه رفيقه الجالس قبالته على الكرسي المقابل في الترام.. ورغم أنه حاول تجاهله والتشاغل عنه بقراءة الصحف إلا أنه كلما لاحت منه بارقة رآه يحدّق إليه أكثر.. السبب الذي جعله يشك في نواياه نحوه.. وذهب البطل في شكه بعيدا، حيث تصوّر الرجل الجالس أمامه، المحدّق نحوه باستمرار يبحث عن طِلْبَةٍ له ليقتله في ثأر، مما أدخل في روع البطل أنه يشبه تلك الطلبة، وتحكّم هذا الشك في نفس بطل القصة فانهال على الرجل بضربٍ جنوني ولم يوقفه عن ذلك غير رفاق السفر الذين عابوا عليه ضرب رجلٍ أعمى.
هذه القصة تذكرني بأحداث قصص مشابهة، مع أنها تختلف شكلا وموضوعا مع قصة (عينان)، فلا يجمع بينها سوى أن للعميان يدّ فيها.. وكلها تمتاز بالطرافة والمفاجأة.. وعلى سبيل المثال قصة (رحلة هندية) (4) لروسكن بوند، عن شاب وفتاة جمعتهما الصدفة في قطار واحد، وأعلن الشاب عن نفسه بأنه أعمى، وصار يستفزّ الشابة على التحدث معه، وتحدثا طويلا، وصار الشاب الأعمي يتكهن عن جمالها وشكلها بعد أن استمتع بحديثها، ولكنها غادرت القطار في المحطة التالية، وجاء رجل آخر وجلس مكانها، فسأله الشاب الأعمى عما إذا كان شعر الفتاة التي نزلت طويلا فأجابه بأنه لا يذكر، وإنما عيونها جميلة ولكن للأسف بلا فائدة فهي ضريرة.. ولعلنا نذكر حادثة مشابهة ومشهورة هي ما جعلت الشاعر علي محمود طه ينشئ قصيدته (الموسيقية العمياء)، حين أُعجب بجمال فتاة أجنبية كانت تقود فرقة موسيقية، ولكنه يٌفاجأ بأنها عمياء رغم جمالها الباهر.. وإذ تتبعنا الأشباه والنظائر فسنجد قصصا يماثل بعضها بعضا.. فمحتوى قصة (الحبيب المجهول)(5) لوهبي البوري تكاد تكون هي نفس قصة (ذراعان) لمحمد أبوالمعاطي أبوالنجا (6)، فكلا القصتين تتحدث عن فتاة جميلة أعجب بها كلّ منهما بعد أن رآها مرة واحدة وفقدها في زحمة الناس، وأضناه التعب في البحث عنها.. ومن قبيل التشابه قصة (المصاغ)(7) لعلي مصطفى المصراتي، فهي تتوافق مع نفس فكرة قصة (العقد)(8) لجي دي موباسان.. عن امرأة فقيرة استعارت عقدا ذهبيا لتتزين به في حفلة عرس ولكنها فقدته فكانت الطامة.. وربما من قبيل التأثر المباشر بالقراءات الثقافية أو حتى توارد الأفكار؛ فقصيدة (أسيرة القراصنة) لبدر شاكر السّيّاب بدايتها : "أجنحةٌ في دوحةٍ تخفق// أجنحةٌ أربعة تخفق// وأنت لا حبٌّ ولا دار".. في حين نجد سعيد خيرالله يمارس هذه التراتبية في بداية قصته (شجون الغربة) وهي : "قدمان لرجل// كعبان لامرأة// وطأتان صغيرتان".. والتشابه قد يحدث بصورة طبيعية وغير مقصودة، فالأفكار جادة طريق ـ كما يقولون ـ عسى يكون في تواردها وقوع الحافر على الحافر .
أما قصّة (طقوس العتمة) التي صدّر بها عوض الشاعري عنوان مجموعته القصصية فهي قصة رمزية معلقة النهاية.. الجانب الواقعي المموه فيها عن إنسان وجد نفسه في الظلام، وأراد أن يتخلص مما هو فيه فلم يستطع.. الحدث فيها غير منته.. إنسان في ضائقة وما يزال في ضائقة.. والرمز سواء في النثر أم في الشعر يعتمد في قراءته على التأويل والحدس، غير أن الأديب لا يعترض بل يعتبر ذلك مقصدا من مقاصده.. يحدث هذا عند قراءة الرسوم التشكيلية أيضا، فهي تعتمد الرمز في قراءتها.. فإذا ما حللنا قصة (طقوس العتمة)، هذه القصة الرمزية التجريبية بمحتواها العام، فإننا نصطدم بسيرة ذاتية لشخص ما، ليس بالضرورة أن يكون هو الكاتب نفسه، فقولنا:
ـ هذا الشخص عندما فتح عينيه على الدنيا لم يجد أمامه غير التعاسة والشقاء، يقابلها في النصّ : "حين أراد أن يمشي كان الدرب معتما، مشبعا برائحة الوحل"، وهذا يذكرني بجزء من قصيدة لعلي الفزاني يعبر فيها بالرمز كيف استقبل الدنيا عندما فتح عينيه عليها في بداية الحرب وما آل إليه بعد ذلك :" وحين إليك هبطت تلقفني عرس الدم//... أطفئ القنديل ذابت كل أجفان الشموع// جثتي كانت لها كل الحصاد// يأكل الأطفال لحمي يكبرون// خلني سكران أمش فوق خيط العنكبوت// لزجٌ كل سؤال// وأنا حرفٌ طريد.(9).
ـ كان هذا الشخص يلعن المكان الذي عاش فيه ولا يباركه، إذ لم ير فيه غير النحس.. يرمز إلى ذلك من النص عبارة : " تلك البقعة من الأرض التي ضاجعها أكثر من شيطانٍ مريد "
ـ رضي بواقعه، وبات يمارس كل أعمال الحياة الشاقة.. يرمز إلى ذلك قوله : "استمرأ الرائحة "
ـ يسمع الإهانات ويُمارس عليه التهديد حتى من أحقر الناس.. نستوحي ذلك من عبارة : " تناوشته أقدام الكلاب التي تلغو في الماء الراكد، وحطّت على جسده أسراب البعوض والطفيليات "
والكاتب ألبس كل فقرة بعبارات زائدة على المعني عنوة وقصدا منه، ليوهن البنية السردية، وليوقعنا في متاهة حتى تكون القصة أكثر غموضا فتتعدد حينئذٍ التأويلات الأدبية..
ومن قبيل الواقعية في القالب الرمزي قصة (طوير الجنة)، فيها أنسنة وتشخيص للكائنات غير العاقلة والتي هدفها الأمانة التي تمثلت في الطائر الذي يحرس مخزن الحبوب دون أن يختلس منه شيئا لزوجته وابنه الصغير.. المعادل الموضوعي للإنسان الذي يسير في حياته سيرة حسنة فيكون الفردوس مآله.. وتتفق هذه القصة في رمزيتها مع قصة (مأدبة الشيطان) للناجي الحربي (10)، مع اختلاف الهدف والبناء السردي..ومع قصة (حكاية جورب) (11) لمحمد الأصفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) هناك قصة عنوانها (طريد) لبشير الهاشمي .
2) عيون الغزلان الخائفة ـ الدار الجماهيرية 1994 ـ ص7 .
3) مقبولة ـ مطابع الثورة بنغازي ـ ط2 ـ ص85 .
4) مجلة الجامعة الأردنية الثقافية ـ العدد 42 لسنة 1997 ـ ص193 .
5) د. أحمد إبراهيم الفقيه ـ بدايات القصة الليبية القصيرة ـ الدار الجماهيرية 1985 ـ ص 105 .
6) د. الطاهر أحمد مكي ـ القصة القصيرة دراسة ومختارات ـ دار المعارف 1992 ـ ط6 ـ ص 316 .
7) خمسون قصة قصيرة ـ الدار الجماهيرية 1983 ـ ص 176 .
8) هنري توماس ـ أعلام الفن القصصي ـ منشورات إدارة الثقافة مصر (بدون تاريخ) ـ ص221 .
9) ديوانه : دمي يقاتلني الآن ـ الدار الجماهيرية 1984 ـ ص 21 .
10) رائحة الجوع ـ مجلس تنمية الإبداع الثقافي الجماهيرية 2004 ـ ص 65 .
11) حجر رشيد ـ منشورات المؤتمر الجماهيرية 2003 ـ ص 25 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق