فانتازيا التشاؤم والقلق والموت عند سالم الهنداوي
د.عبدالجواد عباس
هناك من يستهوون العزف لفنتازيا المفارقات، يحتفلون بها وكأنما هي ملح الطعام.. ينبث في سراديب أسلوبهم، ربما بأوهام النفس المسروقة من الخيال الغاضب ؛ فما يشرع أحدهم في قصته حتى تتراءى صور البؤس والجفاء بروءى التشاؤم، واستشعار الشر والخيانة الآتية من الآخر.. الريح الموحشة والبحر الهائج والظلال السوداء.. ليست الظلال التي كنا نعرفها للرومانسيين، مبعثها الحب والهُـيام في مظاهر الكون، والاستشفاء بصوت الطبيعة وتعبيرها عن نفسها، لكنها أفكار أقرب ما تكون أنها وجودية الطلعة، تقلب الشعور نحو الطبيعة رأسا على عقب، فـ "الليل دخان أسود يحجب عنا السماء.. لا يمنحنا سوى ثقوب ذات أشكال مختلفة، يتوهج منها الضوء، تُسمَى القمر والنجوم"(1)
فسالم الهنداوي في المقطع السابق من قصة (التفاصيل) يتصرف بعوامل الطبيعة تصرفا خارجا عما نعرفه عنه من الهيام بالأشياء الجميلة، وكأنما هو في عداء معها، وكأنما الطبيعة لا تُشعّ ذلك الجمال القديم الذي لمسه الكتاب والشعراء الرومانسيون ؛ فبدل إسباغ الدخان الأسود على صورة الليل يراه الآخر عشقا ينتشي به ويقرنه بجمال حبيبته :
أنت كالليل فيه كَمَن النور ومنه مد الصباح تليله (2)
أو يجعل الليل كالصديق الذي يستر عيوب صديقه:
صديق لنا كالليل يستر الدخان ويبدي النور للمتنور(3)
لكن سالم الهنداوي على هذا النسق التجريبي المشع بالقلق السيريالي يناصب عناصر الطبيعة العداء، يسقط عليها جام قلقه، ولا يفتأ يصفها بنعوت لا تليق بها، وقد نزل بجمالها إلى الحضيص ؛ فالليل (دخان أسود).. ونجوم السماء الزاهرة (ثقوب).. والقمر والنجوم (تُسمّى) بدل أن تُعرف، استنكارا لوجودها وتجاهلا لعظمتها، فهو لا يقول خيرا في اللحظات الرومانسية الدافئة التي تنبع بالبساطة وسذاجة الطبية الطريّـة، وكأنما هناك تناص في الفكرة تذكّـرنا بـ(البير كامو) وتوجسه من الطبيعة كافة.
ويقابلنا هذا التشاؤم ضد عناصر الطبيعة في ثنايا قصصه الأخرى، فلا يفتأ يقابلنا بعبارات يوظّف فيها الريح والمطر لمواقف الخوف والتوجس مثل :
"لم يخش الأولاد عواء الريح المتوحش الذي قابلهم عند بوابة المعبد المهجور"(4). أو: " كنت أودّ النوم، الريح تصرصر في عتو، سحبت الخطاء على وجهي " (5). أو : " محاصران بالغيم والبرق والرعد والمطر" (6)
تجربة الهنداوي الشخصية مع الحياة لا تُحمد عنده، فهو حريص ومتوجس، غير واثق وغير طموح في عطف الآخرين، ولذلك نرى قلق المستقبل يتسلل في ثنايا قصصه ومقالاته، وكأنما يخاطب به ما بقي من إنسانية العالم المتوحش في حلـّه وفي ترحاله " وفي مدينة قدّمتني ذات مرّة في الحُلـُم على أنني ابنها.. ثم علمتني الخوف بسبب أناس لا أعرفهم، ادّعوا معرفتي في أول الطريق ؛ قرأنا معا القصص والروايات والأشعار، ثم تخلوا عني ودخلوا الجامعة، وبقيت وحدي أكتب عن الخوف والجوع. وهاهم مرّة أخرى يتخلـّون عنـّي، يقفلون الأبواب في وجهي، وينامون على أرصدتهم من النساء والنقود وتذاكر السفر." (7)
ضجّ الهنداوي كثيرا في قصصه من هموم الزمن وإن كان يسقطها على شخصياته، تقلقه المعاناة، تقلقه الحياة التعسة، لأنه يعرف الحياة السعيدة، إنه لا يحسّ إحساس الدهماء بالرضا والقناعة وكيفما اتفق، إنه يعرف الحياة الناعمة ولكن لم يظفر بها، وجد نفسه على الهامش، لذلك تمرّد، لم يسكت ويستكين، بل وزع مقته وحبه للأشياء في أكثر من نص، وخاصة في (العودة المحزنة)، حيث يقع في المفارقة، ففي بداية حياته الأدبية تكلّ يده من العمل المضني في النهار للحصول على لقمة العيش، و "في الليل تكتب عن المدافئ والمرافئ والحب، وتكتب عن الحدائق والأطفال والأحلام الشديدة، وتكتبُ عن حلمي الصغير ببيت وزوجة طيبة تطهو لي الطعام وتدثرني بحنانها.. أصبحت على الرصيف بلا شيء، إلا من الجوع والخوف "(8)
كلما شعر بالجفوة والخوف، يلجأ إلى خيال المرأة يهدئ بها قلقه.. وكثيرا ما كان يلجأ إلى هذا الخيال، فقارئ الهنداوي يكتشف مع طول الوقت أن المرأة هي مصدر إلهامه وتعبيره، يستعين بها على التشاؤم والقلق والخوف فهي مصدر الحنان الأكبر يمزجها في كل الخواطر ليستشعر بها الراحة والاطمئنان، عندما يفقد الود والأصحاب والأهل تبقى هي العزاء الأوحد الذي يستنجد به أينما حل..فقلما لا يصورها كالملاك، يعبر عنها بصور حداثية جديدة كل الجدة، أليس هناك أبهى من تصويرها بقوله : "ذلك الوجه الذي يأخذ كل المصابيح إلى وجنتيه"(9).. ولكي يأتي بالواقع والمتخيل معا نراه يقول: "وتذكرتني، ودون أن تنبس بكلمة، أخذتني من يدي وفؤادي"(10).. فالقلب أهم ما يقود إلى المرأة ولذلك كان لكمة (فؤادي) صدىً كبير في الأسلوب أعطاه الألق والتفوق.
كان الهنداوي متمرّدا لا مستكينا، يطالب أولئك وأولئك بقوة، بأنهم سرقوا منه أحلاما يجب أن يستردها بشرف.. يشعر في القرار بأن له عزّة نفس، ولكن الآخرين يمنعونها عنه، قسوة الحياة تصدّه للوصول إلى مرافئ السعادة، ويتوزع هذا التمرّد في قصصه ومقالاته، إنه لا يجحده بل يطالب به حثيثا :" هل أجد عندكم سريرا لأحلامي؟!.. هل أجد عندكم ماءً للشرب أو للغسيل؟!.. هل أجد عندكم ثيابا قديمة كانت لابنكم الكبير الذي له في بيتكم غرفة، وفي أحلامكم دار، وفي قلبكم حديقة أمنيات؟! هل أجد عندكم بنتا تقبلني زوجا بلا نقود؟!.. تقبلني هكذا بأحلام مؤجلة، تختارني أنا وترفض أصدقائي الذين سيختارون بنقودهم وشهاداتهم العالية من بنات الأعيان.. يقيمون لهنّ الأعراس في القصور العائمة، وأنا خلف السياج أتفرّج على العزّ!" (11)
أمّا فانتازيا الموت فإنها تداعيات سيريالية تغمر بعض الكتاب فتحيلهم إلى خواطر سوداء، حالة من التفرّد واليُـتم، حالة من الكآبة أو الرهبة، ربما نتيجة تعرضهم لمضايقات قاسية، أو مللهم من الثواء الطويل بلا طائل وبلا فائدة وبلا تأثير.. فالكاتب في قصة (التفاصيل) تلك يشكو الليل ويشكو السحاب والمطر، إنه يُسقط ألمه على هذه العناصر الطبيعية بدون مبرر، سوى مبرر التبرّم الملل أو حتى التمرد.
ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد من الألم النفسي الذي أدّى به إلى تمزيق سُـتُر الجمال الطبيعي من حوله، ولكنه يتمادى في عمق العتامة النفسية، ربما كان في حالة بين الحلم واليقظة، فهو يقول : " لم نكن نعلم ونحن نيام أن للّيل دخان مخيف من حرائق الأحلام البعيدة. ألهذا الحد يتملّك المدينة ويمشي في شوارعها كالتتري !" (12)
ولم تتركه تلك الخيالات السوداء حتى يرى نفسه مطاردا من قبل مجهول بشع، فاحش الخلقةً فيرديه قتيلا : " ما إن صاح أحد المارة في الصباح الباكر حتى تزاحمت الأصوات متلعثمة، تمتمات وهمهمات، ثم حملتني أيدٍ تتعوّذ وأيد تتصفح أوراق هويتي المبللة... في ذات اليوم بعدما اشتعل الشارع بالنواح والولولة حملوني بعد صلاة العصر إلى المقبرة، وكنت أسمع وأنا داخل التابوت صراخ أمّي الحاد الأليم يقلق راحتي، والتعاويذ ومقرئ القرآن والهمهمة (13)
الراوي/الكاتب دخل في جوّ من الهذيان الذي يعتري المأزومبن، معادل موضوعي لهستيريا الضحك نتيجة الإذلال والقهر.. أو أنه محض التصوّر الإرادي لتيار الوعي الذي وضع فيه الراوي نفسه ليرينا جزءا من حياته الدنيوية(14) في لمحة السرد الأخروي الذي تحدثت به نفسه أو قد رآه في الحلم، وهو متماهٍ بشيء من السخرية المرّة :
" هسهستْ الريح تعبث بأعشاب القبور المجاورة. فسمعت رفرفة أوراق خارج القبر، فقلت هذا أكيد حارس المقبرة يطالع دروسه، لكن الصوت الآن فوق رأسي مباشرة، فأدركت خلال حزن مرير أنها أوراقي وكتبي حزمتها أمي بإحكام في كيس نايلون ووضعتها عند رأسي لأقابل بها وجه الله إنها تعرف أنني لا أعشق غيرها.. لكنها لا تعرف أنني قد نسيتها منذ الليلة الماضية حين رأيت ذلك الرجل البشع ونفخ فيّ رائحته الكريهة " (15)
تراجيديا الموت التي تغرق وتوغل في عمق المأساة... تلك كانت بضمير المتكلم، وهي أقرب إلى خواطر الكاتب من المروي عنه، ومن ثم يلتبس الموقف بثنائية التأويل أو حتى بتعددها، في مثل هذه الفانتازيا السيريالية..وفي هذه الصورة لا تخفى مخايلة الأنين والألم النفسي والندامة والتمرد على شكل الحياة التي كان يمارسها أو تمارس عليه في الواقع، ولذلك سخر(16) منها في الحلم أو في تيار الوعي، على الاعتبارين.
هذا الشكل السردي، والتيار الفكري الذي سطره الهنداوي في قصة (تفاصيل) السابقة يخالف إلى حد كبير فانتازيا الموت عند القاص خليفة حسين مصطفى ـ مثلا ـ ؛ فهو في قصة (صخب الموتى) لم يتحدث بضمير المتكلم كما فعل الهنداوي، وإنما تحدث بضمير الغائب، مما يبعده عن الإسقاطات النفسية إلى حدٍّ ما، ولذلك جعل الراوي أبطاله في قصة (صخب الموتى) (17) محايدين. فهي إذن أحداث تبتعد عن الذاتية، وربما كانت تشير إلى الضمير الجمعي والجانب المشغوف بالمرأة عنده.، وبأن ممارسة الذكورية لا تنقطع من هذا العالم مقابل الأنثى، طالما يوجد رجال ونساء، ولهذا أشار إليها الكاتب بواقعية رمزية.
ولا سبيل للأموات غير مواراتهم التراب، هكذا جرت العادة منذ القدم حتى ولو كانوا أقرب الأقربين، وأحب الإنسان إلى نفسه.. فما الفكرة التي يرمي إليها القاص أحمد يوسف عقيلة في قصته (الشبح) (18)، التي مضمونها أن شخصا دفن، ولكن بعد انصراف الناس من المقبرة مباشرة وجد نفسه حيا.. عالج القبر حتى فتحه، ثم خرج فوجد الوقت نهارا، انتظر حتى حلّ الليل ثم خرج وقد لف نفسه بالكفن، حسبه الناس المجاورين للمقبرة شبحا فاستنفروا الناس وحارس المقبرة الذي كان قد أقرّ بوجود شبح في المقبرة من قبل.. وعلى الرغم من أن الرجل كان يستغيث، ويهتف باسمه: " صدقوني، دفنتموني هذا المساء، ألا تذكرون ؟ دفنتموني حيا.. لم أر ولم أسمع شيئا في القبر حتى الله لم يستقبلني، لا منكر ولا نكير، لسبب بسيط ؛ فالوقت لم يحن بعد "(19)
لم يُصدقه أحد، أطلقت عليه النار، ومات مرة أخرى موتة حقيقة..فماذا يريد القاص وراء هذا الحدث ؟.. ربما لمجرد استعجال الأحياء في دفن الأموات للتخلص منهم في الحدث الأول.. ربما لرهبة الإنسان من الكائنات الماورائية التي ورثها عبر أجيال وسنين فحاربها بمقت وكراهية كما في الحدث الثاني، وربما أيضا لرفض فكرة عودة بعض الأموات إلى الحياة لغرض مكتوم في النفس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) من ديوان فؤاد بليبل ـ الموسوعة الشعرية ـ المجلس الثقافي للإمارات العربية المتحدة دبي 2000 ـ ص 532
2) نفسه، والبيت من ديوان أسامة الشيزري.
3) ظلال نائيةـ ص 129.من قصة ( إلى مركيز قبل تورد الدم )
4) نفسه ـ ص 27 من قصة (سبع اتجاهات نحو الأفق)..
5) نفسه ـ ص 75 ـ ـ من قصة ( خط مائل تلاحقه ممحاة).
6) نفسه ـ ص 192 ( مصدر سابق).
7) نفسه ـ ص 193.
8) نفسه ـ ص (211) ـ قصة جسد روما.
9) نفسه ـ قصة(أغنية على جشر أبيض).
10) نفسه ـ ص194.
11) نفسه ـ ص180 من قصة التفاصيل.
12) نفسه ـ ص181 و 182 .
13) ربما كانت قصة(الخوف) ص37 بمجموعته القصصية (الدوائر) توحي بمثل ذلك.. فهي أيضا لكاتب شنق نفسه لأنه أصيب بالإحباط في حياته، ولم يتحمّل المقاومة والتأقلم مع الواقع.
14) ظلال نائية ـ ص 137.
15) وهي قريبة من السخرية في قصة ( حوار ميت حول رجل ميت) ص 55، للصديق بودوارة، في مجموعته القصصية (شجرة المطر).
16) خليفة حسين مصطفى ـ صخب الموتي ـ الدار العربية للكتاب ليبيا / تونس 1975 ـ ص17 (.وملخص القصة اثنان متجاوران مدفونان في مقبرة، تدب فيهما الحياة ويخرجان عاريين من قبريهما، ويكلم كل منهما الآخر.. وهما في حالة ذهول تخرج امرأة جميلة من قبرها أيضا وتنضم إليهما، فيتنازعان الظفر بها، فيسمع أحد الشرطة صوتهما وصوت المرأة فيفزع للمكان إذ حدثته نفسه بجريمة تدبر، فيعود الرجلان إلى قبريهما وتظل المرأة خارج قبرها، ويسألها الشركي فلا تعلم شيئا عن هويتها، فيطمع فيها ويحاول الإيقاع بها غير أنه وجد ميتا في الصباح وهو نصف عار.))
17) أحمد يوسف عقيلة ـ عناكب الزوايا العليا ـ منشورات المؤتمر2003 ـ ص 73.
18) نفسه ـ ص 75.
19) ربما نلمح ذلك في قصة (جديدة جداً) ص45. لنجوى بن شتوان، بمجموعتها القصصية بعنوان (قصص ليست للرجال)، ومضمونها أن الراوية تسكن بمنزل وتسمع جارتها تتكلم وتعمل بمنزلها بصورة أعجبتها، حتى رغبت التعرف إليها، ولكن زوجها قال لها أن تلك عبارة عن أشباح، فالمنزل خال، وإن سُمعت فيه صوت وحركتهم من حين إلى آخر.
د.عبدالجواد عباس
هناك من يستهوون العزف لفنتازيا المفارقات، يحتفلون بها وكأنما هي ملح الطعام.. ينبث في سراديب أسلوبهم، ربما بأوهام النفس المسروقة من الخيال الغاضب ؛ فما يشرع أحدهم في قصته حتى تتراءى صور البؤس والجفاء بروءى التشاؤم، واستشعار الشر والخيانة الآتية من الآخر.. الريح الموحشة والبحر الهائج والظلال السوداء.. ليست الظلال التي كنا نعرفها للرومانسيين، مبعثها الحب والهُـيام في مظاهر الكون، والاستشفاء بصوت الطبيعة وتعبيرها عن نفسها، لكنها أفكار أقرب ما تكون أنها وجودية الطلعة، تقلب الشعور نحو الطبيعة رأسا على عقب، فـ "الليل دخان أسود يحجب عنا السماء.. لا يمنحنا سوى ثقوب ذات أشكال مختلفة، يتوهج منها الضوء، تُسمَى القمر والنجوم"(1)
فسالم الهنداوي في المقطع السابق من قصة (التفاصيل) يتصرف بعوامل الطبيعة تصرفا خارجا عما نعرفه عنه من الهيام بالأشياء الجميلة، وكأنما هو في عداء معها، وكأنما الطبيعة لا تُشعّ ذلك الجمال القديم الذي لمسه الكتاب والشعراء الرومانسيون ؛ فبدل إسباغ الدخان الأسود على صورة الليل يراه الآخر عشقا ينتشي به ويقرنه بجمال حبيبته :
أنت كالليل فيه كَمَن النور ومنه مد الصباح تليله (2)
أو يجعل الليل كالصديق الذي يستر عيوب صديقه:
صديق لنا كالليل يستر الدخان ويبدي النور للمتنور(3)
لكن سالم الهنداوي على هذا النسق التجريبي المشع بالقلق السيريالي يناصب عناصر الطبيعة العداء، يسقط عليها جام قلقه، ولا يفتأ يصفها بنعوت لا تليق بها، وقد نزل بجمالها إلى الحضيص ؛ فالليل (دخان أسود).. ونجوم السماء الزاهرة (ثقوب).. والقمر والنجوم (تُسمّى) بدل أن تُعرف، استنكارا لوجودها وتجاهلا لعظمتها، فهو لا يقول خيرا في اللحظات الرومانسية الدافئة التي تنبع بالبساطة وسذاجة الطبية الطريّـة، وكأنما هناك تناص في الفكرة تذكّـرنا بـ(البير كامو) وتوجسه من الطبيعة كافة.
ويقابلنا هذا التشاؤم ضد عناصر الطبيعة في ثنايا قصصه الأخرى، فلا يفتأ يقابلنا بعبارات يوظّف فيها الريح والمطر لمواقف الخوف والتوجس مثل :
"لم يخش الأولاد عواء الريح المتوحش الذي قابلهم عند بوابة المعبد المهجور"(4). أو: " كنت أودّ النوم، الريح تصرصر في عتو، سحبت الخطاء على وجهي " (5). أو : " محاصران بالغيم والبرق والرعد والمطر" (6)
تجربة الهنداوي الشخصية مع الحياة لا تُحمد عنده، فهو حريص ومتوجس، غير واثق وغير طموح في عطف الآخرين، ولذلك نرى قلق المستقبل يتسلل في ثنايا قصصه ومقالاته، وكأنما يخاطب به ما بقي من إنسانية العالم المتوحش في حلـّه وفي ترحاله " وفي مدينة قدّمتني ذات مرّة في الحُلـُم على أنني ابنها.. ثم علمتني الخوف بسبب أناس لا أعرفهم، ادّعوا معرفتي في أول الطريق ؛ قرأنا معا القصص والروايات والأشعار، ثم تخلوا عني ودخلوا الجامعة، وبقيت وحدي أكتب عن الخوف والجوع. وهاهم مرّة أخرى يتخلـّون عنـّي، يقفلون الأبواب في وجهي، وينامون على أرصدتهم من النساء والنقود وتذاكر السفر." (7)
ضجّ الهنداوي كثيرا في قصصه من هموم الزمن وإن كان يسقطها على شخصياته، تقلقه المعاناة، تقلقه الحياة التعسة، لأنه يعرف الحياة السعيدة، إنه لا يحسّ إحساس الدهماء بالرضا والقناعة وكيفما اتفق، إنه يعرف الحياة الناعمة ولكن لم يظفر بها، وجد نفسه على الهامش، لذلك تمرّد، لم يسكت ويستكين، بل وزع مقته وحبه للأشياء في أكثر من نص، وخاصة في (العودة المحزنة)، حيث يقع في المفارقة، ففي بداية حياته الأدبية تكلّ يده من العمل المضني في النهار للحصول على لقمة العيش، و "في الليل تكتب عن المدافئ والمرافئ والحب، وتكتب عن الحدائق والأطفال والأحلام الشديدة، وتكتبُ عن حلمي الصغير ببيت وزوجة طيبة تطهو لي الطعام وتدثرني بحنانها.. أصبحت على الرصيف بلا شيء، إلا من الجوع والخوف "(8)
كلما شعر بالجفوة والخوف، يلجأ إلى خيال المرأة يهدئ بها قلقه.. وكثيرا ما كان يلجأ إلى هذا الخيال، فقارئ الهنداوي يكتشف مع طول الوقت أن المرأة هي مصدر إلهامه وتعبيره، يستعين بها على التشاؤم والقلق والخوف فهي مصدر الحنان الأكبر يمزجها في كل الخواطر ليستشعر بها الراحة والاطمئنان، عندما يفقد الود والأصحاب والأهل تبقى هي العزاء الأوحد الذي يستنجد به أينما حل..فقلما لا يصورها كالملاك، يعبر عنها بصور حداثية جديدة كل الجدة، أليس هناك أبهى من تصويرها بقوله : "ذلك الوجه الذي يأخذ كل المصابيح إلى وجنتيه"(9).. ولكي يأتي بالواقع والمتخيل معا نراه يقول: "وتذكرتني، ودون أن تنبس بكلمة، أخذتني من يدي وفؤادي"(10).. فالقلب أهم ما يقود إلى المرأة ولذلك كان لكمة (فؤادي) صدىً كبير في الأسلوب أعطاه الألق والتفوق.
كان الهنداوي متمرّدا لا مستكينا، يطالب أولئك وأولئك بقوة، بأنهم سرقوا منه أحلاما يجب أن يستردها بشرف.. يشعر في القرار بأن له عزّة نفس، ولكن الآخرين يمنعونها عنه، قسوة الحياة تصدّه للوصول إلى مرافئ السعادة، ويتوزع هذا التمرّد في قصصه ومقالاته، إنه لا يجحده بل يطالب به حثيثا :" هل أجد عندكم سريرا لأحلامي؟!.. هل أجد عندكم ماءً للشرب أو للغسيل؟!.. هل أجد عندكم ثيابا قديمة كانت لابنكم الكبير الذي له في بيتكم غرفة، وفي أحلامكم دار، وفي قلبكم حديقة أمنيات؟! هل أجد عندكم بنتا تقبلني زوجا بلا نقود؟!.. تقبلني هكذا بأحلام مؤجلة، تختارني أنا وترفض أصدقائي الذين سيختارون بنقودهم وشهاداتهم العالية من بنات الأعيان.. يقيمون لهنّ الأعراس في القصور العائمة، وأنا خلف السياج أتفرّج على العزّ!" (11)
أمّا فانتازيا الموت فإنها تداعيات سيريالية تغمر بعض الكتاب فتحيلهم إلى خواطر سوداء، حالة من التفرّد واليُـتم، حالة من الكآبة أو الرهبة، ربما نتيجة تعرضهم لمضايقات قاسية، أو مللهم من الثواء الطويل بلا طائل وبلا فائدة وبلا تأثير.. فالكاتب في قصة (التفاصيل) تلك يشكو الليل ويشكو السحاب والمطر، إنه يُسقط ألمه على هذه العناصر الطبيعية بدون مبرر، سوى مبرر التبرّم الملل أو حتى التمرد.
ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد من الألم النفسي الذي أدّى به إلى تمزيق سُـتُر الجمال الطبيعي من حوله، ولكنه يتمادى في عمق العتامة النفسية، ربما كان في حالة بين الحلم واليقظة، فهو يقول : " لم نكن نعلم ونحن نيام أن للّيل دخان مخيف من حرائق الأحلام البعيدة. ألهذا الحد يتملّك المدينة ويمشي في شوارعها كالتتري !" (12)
ولم تتركه تلك الخيالات السوداء حتى يرى نفسه مطاردا من قبل مجهول بشع، فاحش الخلقةً فيرديه قتيلا : " ما إن صاح أحد المارة في الصباح الباكر حتى تزاحمت الأصوات متلعثمة، تمتمات وهمهمات، ثم حملتني أيدٍ تتعوّذ وأيد تتصفح أوراق هويتي المبللة... في ذات اليوم بعدما اشتعل الشارع بالنواح والولولة حملوني بعد صلاة العصر إلى المقبرة، وكنت أسمع وأنا داخل التابوت صراخ أمّي الحاد الأليم يقلق راحتي، والتعاويذ ومقرئ القرآن والهمهمة (13)
الراوي/الكاتب دخل في جوّ من الهذيان الذي يعتري المأزومبن، معادل موضوعي لهستيريا الضحك نتيجة الإذلال والقهر.. أو أنه محض التصوّر الإرادي لتيار الوعي الذي وضع فيه الراوي نفسه ليرينا جزءا من حياته الدنيوية(14) في لمحة السرد الأخروي الذي تحدثت به نفسه أو قد رآه في الحلم، وهو متماهٍ بشيء من السخرية المرّة :
" هسهستْ الريح تعبث بأعشاب القبور المجاورة. فسمعت رفرفة أوراق خارج القبر، فقلت هذا أكيد حارس المقبرة يطالع دروسه، لكن الصوت الآن فوق رأسي مباشرة، فأدركت خلال حزن مرير أنها أوراقي وكتبي حزمتها أمي بإحكام في كيس نايلون ووضعتها عند رأسي لأقابل بها وجه الله إنها تعرف أنني لا أعشق غيرها.. لكنها لا تعرف أنني قد نسيتها منذ الليلة الماضية حين رأيت ذلك الرجل البشع ونفخ فيّ رائحته الكريهة " (15)
تراجيديا الموت التي تغرق وتوغل في عمق المأساة... تلك كانت بضمير المتكلم، وهي أقرب إلى خواطر الكاتب من المروي عنه، ومن ثم يلتبس الموقف بثنائية التأويل أو حتى بتعددها، في مثل هذه الفانتازيا السيريالية..وفي هذه الصورة لا تخفى مخايلة الأنين والألم النفسي والندامة والتمرد على شكل الحياة التي كان يمارسها أو تمارس عليه في الواقع، ولذلك سخر(16) منها في الحلم أو في تيار الوعي، على الاعتبارين.
هذا الشكل السردي، والتيار الفكري الذي سطره الهنداوي في قصة (تفاصيل) السابقة يخالف إلى حد كبير فانتازيا الموت عند القاص خليفة حسين مصطفى ـ مثلا ـ ؛ فهو في قصة (صخب الموتى) لم يتحدث بضمير المتكلم كما فعل الهنداوي، وإنما تحدث بضمير الغائب، مما يبعده عن الإسقاطات النفسية إلى حدٍّ ما، ولذلك جعل الراوي أبطاله في قصة (صخب الموتى) (17) محايدين. فهي إذن أحداث تبتعد عن الذاتية، وربما كانت تشير إلى الضمير الجمعي والجانب المشغوف بالمرأة عنده.، وبأن ممارسة الذكورية لا تنقطع من هذا العالم مقابل الأنثى، طالما يوجد رجال ونساء، ولهذا أشار إليها الكاتب بواقعية رمزية.
ولا سبيل للأموات غير مواراتهم التراب، هكذا جرت العادة منذ القدم حتى ولو كانوا أقرب الأقربين، وأحب الإنسان إلى نفسه.. فما الفكرة التي يرمي إليها القاص أحمد يوسف عقيلة في قصته (الشبح) (18)، التي مضمونها أن شخصا دفن، ولكن بعد انصراف الناس من المقبرة مباشرة وجد نفسه حيا.. عالج القبر حتى فتحه، ثم خرج فوجد الوقت نهارا، انتظر حتى حلّ الليل ثم خرج وقد لف نفسه بالكفن، حسبه الناس المجاورين للمقبرة شبحا فاستنفروا الناس وحارس المقبرة الذي كان قد أقرّ بوجود شبح في المقبرة من قبل.. وعلى الرغم من أن الرجل كان يستغيث، ويهتف باسمه: " صدقوني، دفنتموني هذا المساء، ألا تذكرون ؟ دفنتموني حيا.. لم أر ولم أسمع شيئا في القبر حتى الله لم يستقبلني، لا منكر ولا نكير، لسبب بسيط ؛ فالوقت لم يحن بعد "(19)
لم يُصدقه أحد، أطلقت عليه النار، ومات مرة أخرى موتة حقيقة..فماذا يريد القاص وراء هذا الحدث ؟.. ربما لمجرد استعجال الأحياء في دفن الأموات للتخلص منهم في الحدث الأول.. ربما لرهبة الإنسان من الكائنات الماورائية التي ورثها عبر أجيال وسنين فحاربها بمقت وكراهية كما في الحدث الثاني، وربما أيضا لرفض فكرة عودة بعض الأموات إلى الحياة لغرض مكتوم في النفس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) من ديوان فؤاد بليبل ـ الموسوعة الشعرية ـ المجلس الثقافي للإمارات العربية المتحدة دبي 2000 ـ ص 532
2) نفسه، والبيت من ديوان أسامة الشيزري.
3) ظلال نائيةـ ص 129.من قصة ( إلى مركيز قبل تورد الدم )
4) نفسه ـ ص 27 من قصة (سبع اتجاهات نحو الأفق)..
5) نفسه ـ ص 75 ـ ـ من قصة ( خط مائل تلاحقه ممحاة).
6) نفسه ـ ص 192 ( مصدر سابق).
7) نفسه ـ ص 193.
8) نفسه ـ ص (211) ـ قصة جسد روما.
9) نفسه ـ قصة(أغنية على جشر أبيض).
10) نفسه ـ ص194.
11) نفسه ـ ص180 من قصة التفاصيل.
12) نفسه ـ ص181 و 182 .
13) ربما كانت قصة(الخوف) ص37 بمجموعته القصصية (الدوائر) توحي بمثل ذلك.. فهي أيضا لكاتب شنق نفسه لأنه أصيب بالإحباط في حياته، ولم يتحمّل المقاومة والتأقلم مع الواقع.
14) ظلال نائية ـ ص 137.
15) وهي قريبة من السخرية في قصة ( حوار ميت حول رجل ميت) ص 55، للصديق بودوارة، في مجموعته القصصية (شجرة المطر).
16) خليفة حسين مصطفى ـ صخب الموتي ـ الدار العربية للكتاب ليبيا / تونس 1975 ـ ص17 (.وملخص القصة اثنان متجاوران مدفونان في مقبرة، تدب فيهما الحياة ويخرجان عاريين من قبريهما، ويكلم كل منهما الآخر.. وهما في حالة ذهول تخرج امرأة جميلة من قبرها أيضا وتنضم إليهما، فيتنازعان الظفر بها، فيسمع أحد الشرطة صوتهما وصوت المرأة فيفزع للمكان إذ حدثته نفسه بجريمة تدبر، فيعود الرجلان إلى قبريهما وتظل المرأة خارج قبرها، ويسألها الشركي فلا تعلم شيئا عن هويتها، فيطمع فيها ويحاول الإيقاع بها غير أنه وجد ميتا في الصباح وهو نصف عار.))
17) أحمد يوسف عقيلة ـ عناكب الزوايا العليا ـ منشورات المؤتمر2003 ـ ص 73.
18) نفسه ـ ص 75.
19) ربما نلمح ذلك في قصة (جديدة جداً) ص45. لنجوى بن شتوان، بمجموعتها القصصية بعنوان (قصص ليست للرجال)، ومضمونها أن الراوية تسكن بمنزل وتسمع جارتها تتكلم وتعمل بمنزلها بصورة أعجبتها، حتى رغبت التعرف إليها، ولكن زوجها قال لها أن تلك عبارة عن أشباح، فالمنزل خال، وإن سُمعت فيه صوت وحركتهم من حين إلى آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق