السبت، 26 نوفمبر 2011

ضلالة الضلالات

ضلالة الضلالات


د. عبدالجواد باس

بابان اثنان فـُتِحا علينا فأذعنا لهما وأعلنا الطاعة والاستسلام وكأنهما سيفان مسلطان علينا فلم نرفع رؤوسنا المنحنية المطيعة.. إنهما صالات الأفراح والهاتف النقال، أما الأولى ففرضها علينا سوء تدبيرنا، وسوء تقديرنا للأمور وعجزنا عن أخذ القرار المناسب لأنفسنا، وربما كان لدروشتنا وبساطتنا وطيبة عقولنا دخل في ذلك، بل وحتى طاعتنا لنسائنا وبناتنا وأولادنا السُّـذج.. وأما الثاني ففرضته علينا العولمة والسير في ركب المعاصرة، وهذا لا تثريب عليه لو أن ثمن الكروت في متناول الجميع، ولكنها تكاليف بالغة القسوة، ففي كل بيت لا تقل تكاليف النقالات مجتمعة في الأسرة الواحدة عن مئتي دينار، هذا باب جديد للصرف لم نعهده من قبل جعلنا مجبرين أن ندفع بطيب خاطر أو بعدمه.. وأصبح الكل يعز عليه رفض فكرة استبعاد النقال بعد أن عُرف به وصار ملازما له كشخصيته التي بين جنبيه، وبدونه أصبح المرء وكأنما فقد شيئا ما أو كأنما فقد الصلة مع العالم بأسره..التواصل مع المجتمع ومع العالم هذا جيد لو أن الخمسة دنانير التي هي ثمن أقل قسيمة للدفع المسبق لو أنها تتيح الكثير من المكالمات بتخفيض أجرة دقيقة المكالمة إلى ثمن أقل مما هي عليه الآن، وهو ثمن فاحش يمتص النقود من أيدي الناس، خاصة الفقراء والمعوزين منهم قبل غيرهم تحت وطأة غلو الأسعار لمواد المعيشة المختلفة، ما جعل الكثير منهم يعيشون حياة اجتماعية متردية، وهذا سبيل طويل آخر...



والآن وقد أصبح من الأمور الأكيدة أن المواطن لن يتخلى عن الهاتف النقال فإن ثمن الكروت لن ينخفض أبدا وإنما سيكون في ازدياد، بل تلحق به كل يوم ميزات واختيارات تقلل من قيمة الكرت وتنقص رصيده، فلن يعمر يوما أو يومين إلا ويتجدد.. وينضم الهاتف الريفي إلى الهاتف النقال في تعدد المصاريف فإنه بالغ التكلفة أيضا، وليس صحيحا أنه مريح بل إنه يعلن نفاذ القيمة بعد أسبوعين من تجديد الرصيد على الأكثر وإن قيل أن الناس يستغلون الهواتف استغلالا جائرا ويتناولون المهم وغير المهم فهذا شأنهم، دعهم أحرارا، ودع مسألة القناعة للزمن، ولكن لا تزيد الطين بلة، ولا نلذعهم بهذه النار المستعرة، وكأنما تمُنّ عليهم بشيء جادت به الحضارة والمعاصرة، كان من المفروض أن يتمتع به الجميع.. أما عن الكهرباء التي هي أهم مهمات حياتنا بعد الماء ولها علاقة وطيده بهذه الأمور وغيرها من الأمور الأساسية في حياتنا فحدّث ولا حرج، فالكهرباء باهضة الثمن، وهم لا يرحمون أبدا حتى ولو أبكيت الحجر أو كنت بكاء قبور في الأصل، والجدال لا ينتهي معهم، وفي نهاية الأمر يكونون هم الغالبون المنتصرون ؛ فليس بخافٍ عنهم مدى الاحتياج الشديد للكهرباء في تسيير أعمال ثقيلة وقـيّمة، ويدركون جيدا أنه بدون الكهرباء تتوقف قمة النشاطات فنعود للقرون الوسطى، نّبحث عن الحطب وزيب الاستصباح.



أما أصحاب الصالات، ومن هم أصحاب الصالات ؟ إنهم أيَادٍ جشعة، لا تشبع من النقود طالما هناك أغبياء يدفعون لهم بسخاء.. ليتهم أدّوا الخدمة بشيء من اليسر وتبسيط الثمن فلم يكن لنا عليهم بعد ذلك لومٌ أو مقت، بل سيكون الأمر مقبولا في حدود الثلاثمائة دينار فيستريحون هم ويستريح المواطن، بل يذهبون مشكورين لأنهم أدّوا خدمة للمجتمع مقابل مكسب معقول.. وليتهم فعلوا ذلك ؛ ولكنهم تمادوا وأخذوا في المقابل مبلغا ليس من حقهم، ولم يكن في حجم العمل الذي قدموه أو موازيا للخدمة التي أدّوها.. والأمر كله عبارة عن ساعة أو ساعتين أو حتى أكثر يبقاها صاحب المناسبة وضيوفه في الصالة ثم يغادرونها، إضافة إلى استغلال أوانِ لم تمسّ بسوء كبير، وحتى ولو حدث لبعضها شيء فإن مبالغ مثل 1300 دينار و1500 وقد يصل المبلغ في بعض الصالات إلى 1800 دينار أو حتى 2000 دينار.. هذه مبالغ فاحشة لا توازي الخدمة المقدمة حتى لو تشوهت بعض الفرش أو أصيبت بعض الأواني أو كُسرت أكواب.. علمت أن إيجار الصالات المرتفع قد استرعى انتباه بعض المسؤولين، وبرز من يفكر بالفعل في تخفيض هذه المبالغ، وعُقد اجتماع من أجل ذلك بين الإدارة المحلية وأصحاب الصالات، ولكني علمت أيضا أن ضغوطا كبيرة مارسها أشخاصٌ من عُِـلْـية القوم، يملكون تلك الصالات ما جعل ذلك الاجتماع يفشل، وبقيت مبالغ إيجار الصالات آنفة الذكر على ما هي عليه الآن وغدا وبعد غد إن لم يفق المواطن الغبي من نومه.



من المُلام في ذلك.. من المسؤول عن التبذير وضياع الأموال ؟ ليس أصحاب الصالات القابعين في مكانهم، فهم لم يضربوا أحدا على يده ولم يرغموا أحدا في السعي إليهم، هذا صحيح..المسؤول هو المواطن الغبي الذي طأطأ رأسه ودفع ويحسب أن عمله فيه من الفخامة ما فيه، وفيه من الكرم ما فيه، ويحسب أن هذا التصرف عملا من أعمال المروءة، في الوقت الذي لا يعدو فيه الأمر عن تقليد ومنافسة للأثرياء، ومباهاة و إرضاء لشهوات النساء والأولاد، واستحسانا للركون إلى الراحة والدعة، وعدم توسيخ الأيدي والثياب بالطهي وغسل الأواني ما جعله يرضخ في نهاية الأمر إلى دفع هذا المبلغ الكبير، وسبعون في المئة من هؤلاء الدافعين للصالات متحاملون على أنفسهم ويستقطعون من مرتباتهم المعاشية، وقد يلجأ كثير منهم إلى سلفة من المصرف أو استدانة من أحد معرضا نفسه للإفلاس والصغار..



ماذا لو عدنا إلى الطريقة القديمة وبقي الحفل في بيوتنا طالما هذه الصالات لا تقدم العون المناسب بالمبلغ المناسب الذي يستطيع المواطن دفعه عن رضا.. فلتكن الخيام إذن، ولا تقنعني أنها مقاربة لثمن الصالة فليس هذا صحيحا، فهي أقل بكثير، وإن لزم الأمر الحدُّ من غلوائها أيضا بخفض الأثمان التي عليها الآن.. فلتكن المناسبات في بيوتنا، ولا تتأفف النساء من الطهي وغسل الأواني الذي أصبح عملا مؤسسيا بالحجز المسبق.. ليس عذرا تبديلها بالصالات لتبقى البيوت نظيفة لا دوشة فيها ولا حوسة وتبقى فُرشه وأوانيه سليمة وبمنجاة عن العبث والضياع والفوضى، لا تكلمني في ذلك، فليحدث هذا كله، ولكن لا تصل الخسارة المزعومة إلى نصف المبلغ الذي تطالب به الصالات.. ولو طالبت بكشف صحيح صادق عن حساب المصروفات الحقيقية التي يتكبدها أصحاب الصالات نظير استعمالها لليلة واحدة فلن يفوت المبلغ الثلاثمائة دينار مقابل أجرة العمال والأواني والفرش.. وإن كان لا، فستكون الإجابة متلجلجة محرجة لهم، ولن تصل إلى نتيجة حتمية، عدا عذر الضرائب و الرخص.. وفي الواقع الملموس لا تفوت تكاليف الليلة الواحدة عن المبلغ المذكور، مغطية لكل التكاليف، بما فيها الإدارية.. هذا هو الحق الحلال، أما ما عدا ذلك فهو نصب واحتيال، ووقوع في حبائل المصيدة بالرضا وتحت السمع والبصر..



وفي هذا الصدد خطر ببالي أمثلة غير مسبوقة ـ وإن تباعد الزمن واختلفت ظروف الحياة ومتطلباتها ـ إلا أنها تمثل نوعا من الإيجابية التي كان لها أن تستثمر وتحسّن كانت بادرة طيبة للاقتصاد وعدم تبذير الأموال ؛ أولهم ما كان يقوم به بعض عائلات القطعان بمنطقة الوسيطة في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فقد كانوا يمارسون خطوة تعد في حكم زمننا هذا تقدمية.. كانت العائلات تجتمع وتجعل أفراحها في مكان واحد، على أن تحضر كل عائلة شاتين فقط، فتكون في مجملها شياه كثير بتضافر العائلات الأخرى، فيصبح عرسا فخما ممتازا، وبعد الانتهاء من الفرح يذهب كل إلى مكانه، هذه الطريقة رأيتها حديثا في بعض البلاد العربية.. أما المثال الثاني هو ما كانت تقوم به عائلة البجاجتة بالبيضاء، فقد كانت لهم خيام وأوانٍ للمآتم بالذات تملكها العائلة كلها، تُستغل لمناسباتها دون اللجوء إلى الإيجار، ولكن ذهب كل ذلك أدراج الرياح.. وهناك محاولات جادة قامت بها قبيلة الحاسة في التسعينيات، في شحات، تتمثل في موقفهم الترشيدي بعدم الذبح في المآتم بتاتا، وكنا ننتظر منهم بعض الترشيد للتوفير في الأفراح أيضا.. ولكن ذلك التصميم أخذ يتناقص ويتناقص حتى أصبح في خبر كان وعلى الله العوض والفرج وللحديث بقية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق