صبرا غاباتنا
د. عبدالجواد عباس
الغابة مساحة واسعة، ذات أشجار كثيرة، مختلفة الأنواع والأشكال، أنشأتها الطبيعة وحدها في غير ما اتّساق ولا تخطيط ؛ فيها الأشجار الطويلة السامقة، وفيها الشجيرات القصيرة التي تفترش من الأرض مساحة حولها، وفيها ما بين ذلك وتلك. إضافة إلى أنواع شتى من الحشائش والنباتات المتسلقة والساحبة علي وجه التربة. يُجمَع إلى ذلك جيوش من الطير والحشرات، كلٌّ له صلة وثيقة مع الغابة، حددتها له الطبيعة منذ القدم يزاولها ؛ فهو يأخذ ويعطي، يفيد ويستفيد.. وبالطبع لا تخلو الغابة من الحيوانات الشرسة واللطيفة، ولها منوالها وأسلوبها الثابت أيضا في العيش والتكيّف مع الطبيعة من حولها.. هذا هو مجتمع الغاب.
منذ الخليقة الأولى كانت الغابة الغذاء والمأوى والحماية للإنسان ؛ فهي مسرح عملياته كلها في نهاره وليله. وهكذا كانت أحقابا من الزمن، حتى نشأت البشرية وترعرعت، فكان منها الوقود والدفء والقوس والرمح، والكوخ والسفين والمحراث والعربة، والآنية والأدوات.. " الغابات نعمة من الله، ذلك ما نتفق عليه جميعا، فقائمة المكاسب التي تقدمها لنا ابتداء من دعم التربة إلى الثروة الخشبية، ومن الأعشاب الطبية إلى الوقاية من الرياح، قائمة طويلة بالغة الطول. كما أنها تثير فينا شعورا بالإعجاب والامتنان"*.. والغابة أينما كانت لها سحرها وجمالها الخلاب الذي يستهوي أصحاب النفوس السمحة والميول المعتدلة، وما أكثرهم في هذا المعمورة المترامية الأطراف، إلى جانب إعجابهم بما يسكنها من طير وحيوان.. وقد دأبت دول العالم المتقدم إلى اتخاذ السبل نحو الاستغلال الأمثل للغابات في أوطانها، فعملت علي حمايتها واستغلالها معا ؛ فمن جانب تستهلك الغابات في شؤونها المختلفة، إلا أنها من جانب آخر تعمل علي تنميتها بالزراعة والاستنبات ، وكأنما هي كنز متجدد، وقد سنت بذلك القوانين منذ زمن بعيد، لا يتخطاها أحد، حتى صار تقديس الغابة عرفا ساريا بينهم يعتنقه المواطن مختارا لا مجبرا.. والغابات في العالم المتقدم تلقى عناية كبيرة، فهي تزرع الشّتـْـل مكان المساحات المقطوعة والأشجار المعفاة، وتعهد بذلك إلى من يهتم بها من أصحاب الخبرة والدراية، حيث يتصرف بها حسب شروط، تعود عليه وعلي المجتمع بربح وفير، خاصة في أوربا والأمريكتين، وقد يزيد طول الشجرة هناك علي ثلاثين مترا. وفي الصين تمكنوا بالطرق العلمية من زراعة كثير من سفوح الجبال الصخرية الجرداء.. وهذه كلها بلدان وفيرة المياه، ولقلتها لا تعدو الغابات في أكثر أقطار العالم العربي علي كونها أحراش، كما هو الحال في الجبل الأخضر، فمع أن غاباته قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرنا في العالم الآخر، إلا أنها تؤدي دورها في الاستمتاع والتنزه البريء، لكن من يؤدي هذا الدور بسلام، إننا لا نعدم أن نجد من يقطع ويحرق، بسبب وبدون سبب، إننا لا نعدم أن نجد حتى من يقطف خصنا أو أوراقا وهو يمشي، لا لشيء غير العبث، ليس إلا، لكن الموضوع مازال في متناول الأيدي، فالمحافظة علي الغابة وإنمائها مازالت قائمة، فما تبقـّى منها قابل للزيادة في المساحة وفي النمو، بدليل أن الذين سيجوا بعض المساحات بالأسلاك الشائكة أزدادت الغابة فيها ونمت بشكل ملحوظ، كما هو ماثل في منتزه وادي الكوف، ومساحات الغابات الملحقة بمزارع مسيجة، خاصة منطقتي الوسيطة وقندولة وشمال شحات وقصر ليبيا غربا حتى طلميثة.. وهي مناطق عامرة بمختلف النباتات التي عُرف بها الجبل الأخضر منذ أزمان؛ كالبطوم والخروب والشماري، والعرعر الذي يشكل النسبة الكبرى من الغابة، وهو إذا نزع من مكان لا يستخلف بالسهولة التي تعود بها النباتات الأخرى إلي حالتها الطبيعية .. وهذه السنة، والسنة التي قبلها لم ينبت شيء من ثمار الشماري، قد تعرض للإصابة، كذلك لم تثمر شجيرات البطـّوم ، ونقص المياه كان معينا على ذلك، وربما تعرضت سائر النباتات للجفاف في الماضي ولكنها تتماسك حتى مجيء سنة مطيرة، فإنها تنتعش من جديد، ويرى علماء النبات أن للملوثات دخل كبير فيما يحل بالغابة من أمراض.. وعلى كل الأحوال فلن يُرى الجبل إلا أخضرَ، غير أن كبار السن يؤكدون أن الغابات كانت غزيرة ومكتملة وشديدة الخضرة منذ سبعين عاما، وتعج بأنواع مختلفة من الطيور كالحجل، والحيوانات البرية كالشياهم (صيد الليل).. وقد أخبرني من أثق به؛ أنه في السنين التي حُشر فيها الأهالي في المعتقلات، إبّان الاحتلال الإيطالي الغاشم كان ينزل إلى الجبل فيجده خاليا، متهدج الغابة، ولا من صوت غير أصوات الطيور، والشياهم والذئاب والثعالب والضباع تمشي في النهار، مستترة بالظلال الكثيفة، وعسل النحل يُشتم في كل مكان، ولا تكاد تنتقل من مكان إلى آخر حتى تجد خلية، وقد فاض منها العسل إلى الخارج.. وهكذا أوت غابات الجبل الأخضر بعض الهاربين من عسف السلطات الإيطالية، فالمختفي يأكل ويصطاد مما يجد، وهكذا كانت الغابة تفعل منذ الإنسان الأول، والتاريخ يعيد نفسه.
د. عبدالجواد عباس
الغابة مساحة واسعة، ذات أشجار كثيرة، مختلفة الأنواع والأشكال، أنشأتها الطبيعة وحدها في غير ما اتّساق ولا تخطيط ؛ فيها الأشجار الطويلة السامقة، وفيها الشجيرات القصيرة التي تفترش من الأرض مساحة حولها، وفيها ما بين ذلك وتلك. إضافة إلى أنواع شتى من الحشائش والنباتات المتسلقة والساحبة علي وجه التربة. يُجمَع إلى ذلك جيوش من الطير والحشرات، كلٌّ له صلة وثيقة مع الغابة، حددتها له الطبيعة منذ القدم يزاولها ؛ فهو يأخذ ويعطي، يفيد ويستفيد.. وبالطبع لا تخلو الغابة من الحيوانات الشرسة واللطيفة، ولها منوالها وأسلوبها الثابت أيضا في العيش والتكيّف مع الطبيعة من حولها.. هذا هو مجتمع الغاب.
منذ الخليقة الأولى كانت الغابة الغذاء والمأوى والحماية للإنسان ؛ فهي مسرح عملياته كلها في نهاره وليله. وهكذا كانت أحقابا من الزمن، حتى نشأت البشرية وترعرعت، فكان منها الوقود والدفء والقوس والرمح، والكوخ والسفين والمحراث والعربة، والآنية والأدوات.. " الغابات نعمة من الله، ذلك ما نتفق عليه جميعا، فقائمة المكاسب التي تقدمها لنا ابتداء من دعم التربة إلى الثروة الخشبية، ومن الأعشاب الطبية إلى الوقاية من الرياح، قائمة طويلة بالغة الطول. كما أنها تثير فينا شعورا بالإعجاب والامتنان"*.. والغابة أينما كانت لها سحرها وجمالها الخلاب الذي يستهوي أصحاب النفوس السمحة والميول المعتدلة، وما أكثرهم في هذا المعمورة المترامية الأطراف، إلى جانب إعجابهم بما يسكنها من طير وحيوان.. وقد دأبت دول العالم المتقدم إلى اتخاذ السبل نحو الاستغلال الأمثل للغابات في أوطانها، فعملت علي حمايتها واستغلالها معا ؛ فمن جانب تستهلك الغابات في شؤونها المختلفة، إلا أنها من جانب آخر تعمل علي تنميتها بالزراعة والاستنبات ، وكأنما هي كنز متجدد، وقد سنت بذلك القوانين منذ زمن بعيد، لا يتخطاها أحد، حتى صار تقديس الغابة عرفا ساريا بينهم يعتنقه المواطن مختارا لا مجبرا.. والغابات في العالم المتقدم تلقى عناية كبيرة، فهي تزرع الشّتـْـل مكان المساحات المقطوعة والأشجار المعفاة، وتعهد بذلك إلى من يهتم بها من أصحاب الخبرة والدراية، حيث يتصرف بها حسب شروط، تعود عليه وعلي المجتمع بربح وفير، خاصة في أوربا والأمريكتين، وقد يزيد طول الشجرة هناك علي ثلاثين مترا. وفي الصين تمكنوا بالطرق العلمية من زراعة كثير من سفوح الجبال الصخرية الجرداء.. وهذه كلها بلدان وفيرة المياه، ولقلتها لا تعدو الغابات في أكثر أقطار العالم العربي علي كونها أحراش، كما هو الحال في الجبل الأخضر، فمع أن غاباته قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرنا في العالم الآخر، إلا أنها تؤدي دورها في الاستمتاع والتنزه البريء، لكن من يؤدي هذا الدور بسلام، إننا لا نعدم أن نجد من يقطع ويحرق، بسبب وبدون سبب، إننا لا نعدم أن نجد حتى من يقطف خصنا أو أوراقا وهو يمشي، لا لشيء غير العبث، ليس إلا، لكن الموضوع مازال في متناول الأيدي، فالمحافظة علي الغابة وإنمائها مازالت قائمة، فما تبقـّى منها قابل للزيادة في المساحة وفي النمو، بدليل أن الذين سيجوا بعض المساحات بالأسلاك الشائكة أزدادت الغابة فيها ونمت بشكل ملحوظ، كما هو ماثل في منتزه وادي الكوف، ومساحات الغابات الملحقة بمزارع مسيجة، خاصة منطقتي الوسيطة وقندولة وشمال شحات وقصر ليبيا غربا حتى طلميثة.. وهي مناطق عامرة بمختلف النباتات التي عُرف بها الجبل الأخضر منذ أزمان؛ كالبطوم والخروب والشماري، والعرعر الذي يشكل النسبة الكبرى من الغابة، وهو إذا نزع من مكان لا يستخلف بالسهولة التي تعود بها النباتات الأخرى إلي حالتها الطبيعية .. وهذه السنة، والسنة التي قبلها لم ينبت شيء من ثمار الشماري، قد تعرض للإصابة، كذلك لم تثمر شجيرات البطـّوم ، ونقص المياه كان معينا على ذلك، وربما تعرضت سائر النباتات للجفاف في الماضي ولكنها تتماسك حتى مجيء سنة مطيرة، فإنها تنتعش من جديد، ويرى علماء النبات أن للملوثات دخل كبير فيما يحل بالغابة من أمراض.. وعلى كل الأحوال فلن يُرى الجبل إلا أخضرَ، غير أن كبار السن يؤكدون أن الغابات كانت غزيرة ومكتملة وشديدة الخضرة منذ سبعين عاما، وتعج بأنواع مختلفة من الطيور كالحجل، والحيوانات البرية كالشياهم (صيد الليل).. وقد أخبرني من أثق به؛ أنه في السنين التي حُشر فيها الأهالي في المعتقلات، إبّان الاحتلال الإيطالي الغاشم كان ينزل إلى الجبل فيجده خاليا، متهدج الغابة، ولا من صوت غير أصوات الطيور، والشياهم والذئاب والثعالب والضباع تمشي في النهار، مستترة بالظلال الكثيفة، وعسل النحل يُشتم في كل مكان، ولا تكاد تنتقل من مكان إلى آخر حتى تجد خلية، وقد فاض منها العسل إلى الخارج.. وهكذا أوت غابات الجبل الأخضر بعض الهاربين من عسف السلطات الإيطالية، فالمختفي يأكل ويصطاد مما يجد، وهكذا كانت الغابة تفعل منذ الإنسان الأول، والتاريخ يعيد نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق