ساعــة التجلـّـي
د. عبدالجواد عباس

-1-
إنه لن يقول كان ذلك
أو عندما كنت كذلك، أو حتى مررت بكذا فحصل ما حصل، ما كان في نيته فتح الحكاية
وإنما ليـبُـثّ هموما أو ربما أحلاما قد ضاعت أو قد ستأتي. لا يدري ماذا يفعل
وماذا يخمن لنفسه، إنه قد باع أفكاره في سوق البلاغة بالمزاد، لا يمكن تحديد ما
أحبّ وما لم يحب مشكلة الذوق عنده قد دخلت في ذوق الآخرين رغم أنفه. ما أن ضُرب
بالسوط الأول حتى قال إن الأرض ليست كروية.
المجاملات ضيعتْ عليه
فرصا عديدة، التربية والمثل العليا عاشت هناك في المستنقع، خدعته حتى في حبه حين
جابه تيار الواقع، تلقـّـى الصدمة الأولى في عشقه، اكتشف سذاجته وظل يقول سأظفر بك
يا حبيبتي عندما تفقد الأشياء الثمينة لمعانها، الزمن لم يفعل، فما انتصر السؤدد
ولا الإرادة الطيبة.
إنه يجترّ اللحظات
السعيدة من الزمن الغابر والقريب مع من لهم معه رصيد كبير من الذكريات المشتركة.
يالها من رتابة ونمط متكرر ؛ إلى البيت، إلى العمل، إلى السوق، لا بل ازدحام
وطوابير تمسخه ذئبا وإلا... سنوات عديدة واجهها مدعوما بثرائه العاطفي، لكنه الآن
ماذا ؟! قد جاوز الخمسين، تردد على الأماكن ذاتها.
كانوا معه عندما قال
: آه، لو تعود عجلة الزمن إلى عربات الخيول ومواقد الفحم، فليذهب الدرهم والدولار
إلى الجحيم عليه وعلى أعدائه. إنه يحلم بذلك الفانوس القديم، لكن من ذا ينادمه في
شهقة هواء حقيقية، سيظلّ وحيدا منبوذاً، بل سيبقى نديم الفرقدين.
الآن ترك سيارته
المهزومة وحلـّـق في فيافي المدينة مترجلا في حذائه الثقيل. خامرهم الشك حتى في
سلامة عقله عندما طلب حرية غير مشروطة، سار على قدميه وكأنه يطل على العالم من
شرفة. ربما دخـّـن سيجارته بملء رئتيه حتى أطفأها الأطفال ورياح الصبا بماء
الشباب، وربما أطفأها البحث عن مركز الحياة على طريقة فرويـد.
الأصدقاء يستقرون
ويفرون، فقد كشرت المصالح عن أنيابها حتما، لقد بدأ يصعد السلالم إلى الطابق
العلوي المهجور كطائر بري ينشد الدفء في شقوق الخرائب. لقد اختفت من أمامه أمواج
ريح السنابل، ربما إلى غير رجعة. إنه يجفف أوراقه ويدمغها بتوقيع نهائي : لن
يتردد، لن يجوع بعد الآن، العقيدة وحدها ستظل الأصيلة وباختصار شديد.
-2-
بات لا ينتظر من الغد
ودّا مذ أخذت صحته في الانسحاب. بدأ يجفوه أقرب الناس إليه، لم يعد ذلك مهماً ؛
الأسماك في بحارها والطيور في أجوائها كانت مَـثـَـلـَه الأعلى في الحرية حتى أنه
لم ير أحدَها يشيخ. كذلك (مرزوق) عاش حياته يانعا مشرقا، أحبّ الحياة كما لو كان ابناً
بارا للأرض، التصق بها كدودة الطين وراح يحفر ويحفر ستين عاما بطيئة. نعم، الأيام
الأولى من عمره تمشي رويداً، يتملـّى بكل لحظة، يستطيبها على خيرها وشرها، لكن
بقية السنوات مرتْ سراعا كالسحاب، عاشها في ظل تيّار المرأة المغرّد العاصف،
لـُبـَد الغيوم تتجمع وتـنـزاح بالرأي حينا وباللـّـذة أحيانا.
وقف مرزوق على الشاطئ
وأخذ يحسب مرات العنفوان، إنها كثيرة جدا, الأهداف رآها، وصلها وامتصّ رحيقها وردة
ً وردة. الهزيع الأول يغدق على نفسه بدون حساب، لما شعر بإسرافه أمسكه وأودعه
السجن، لكنه في كل مرة يخرج بكفالة زوجته أو بكفالة أولاده أو بكفالة العنفوان
نفسه، غير أنه دمّر العنفوان ورماه جانبا ليشتريه باعة الخردة بدراهم معدودة.
انزاحت من أمامه ضوضاء الحياة وبات يحصي بحزن ثلاثينياته وأربعينياته المفعمة
بحرية النوارس وليونة السنونو. النورس سيد البر والبحر، ينتقل كيفما شاء، يعبر
العالم من جهة إلى أخرى دون أوراق، إذا اشتهى غاص في مكمن اللؤلؤ حيث لا مكان
لخشاش الطير. يا إلهي ! حتى شحارير الحديقة القابعة في الظل جعل يستمع إليها وهي
تملى شروطها بتهكم، تترك المجلس متى شاءت. رقطاء المحاجر لا تعرف غير الظلمة،
نهشته النهشة تلو النهشة ولم تترك في جسده سوى زعاف يطارد كل سنة من سنواته
الستين.
ذات يوم عندما كان يسابق الريح، ربما
أخذته العزة بالإثم وطـَـفِـقَ يصطاد الحجل في وقت تكاثره، أو لعله نصب الشباك
الضيقة العيون ليغرف صيصان الأسماك المحظورة، لكن ما أن يشرع في ذلك حتى ترميه
نفسه بوابل من الحكمة المرتعشة فلا يتقن هذا ولا ذاك. كما أسرفت أسنانه في سحق
الحلوى الفاخرة والرديئة بعفوية وبدون تحفـّظ، بل استطاعت تهشيم حصى البحر
واستطابة أملاحه بسبب وبدون سبب، فقط الهزيع الأول يناغيها، والآن ماذا ؟ يفت في
عضدها ويتركها على قارعة الطريق وقد فات الأوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق