الأربعاء، 23 نوفمبر 2011

سيدي امحمد المهندس


سيدي امحمد المهندس
د. عبدالجواد عباس
.. يفرح الجميع لحضوره مستبشرين بأن يسمعوا منه ما يسرهم من طيّب المزاح، يخفف عنهم ما انتابهم من هموم وتبعات الحياة فهو يثير فيهم الفرح والسرور أينما حل، حتى في الأوقات العصيبة.. فقد صارع الحياة وصرعته كثيرا فصار يعاملها بدون مبالاة، لا يعطيها ذلك الشأن الكبير من نفسه ولا ذلك الخاطر الذي يحيره.. لا يهمه أن يحصل من هذه الحياة على شيء أو لم يحصل ؛ فرغم ضيق ذات يده فهو لا يشكو ولا يتذمر، بل تراه في معظم الأوقات هاشا مبتسما للجميع، يتكلم مع أصحابه وغير أصحابه بنفس راضية وروح خالية من الخبث والأنانية.. في الواقع هو محبوب من الناس فبحكاياته الساخرة يجعلهم يضحكون، ويتقربون إليه كلما حانت الفرصة للقاء معه ليزيدهم من الدعابة والمرح ما استمرت الجلسة معهم، فكلماته واضحة وأسلوبه مغرٍ.. ينجذب الناس إليه لأنه يتحدث بلغتهم التي يعرفونها، فضلا عن معرفته الممتازة بمختلف الناس.. فمن يعرفه يفرح للقائه ويسرّ لوجوده فيسعى إليه ليستحثه على الكلام.. حتى وهو يرفض الكلام.. حتى وإن كان عكر المزاج سيقول كلمات تنشرح لها الصدور وتبتسم لها الثنايا.. فهم لا يملون استثارته ليحكي لهم عن المقالب التي حدثت معه، كمقالب على الحمّاس وسعد بوصهيبة أصدقاؤه المقربين.
يغطي رأسه بشنة لا يلبسها بطريقة اعتيادية، ولا شكلها كالشناني الأخرى فهي مستطيلة نوعا ما، ومما يزيدها تميّزا أنه يطوي مقدمتها الأمامية فتنحسر جبهته وجزء من رأسه.. يلبس عادة الملابس الإفرنجية بجاكة يميل لونها إلى اللون القاتم.. وقلما رأيته يلبس ملابسَ عربية.. ميزة أخرى عُرف بها، وهو تعوده ركوب الدراجة إلى عمله كل صباح، وقد شاهدته طيلة أعوام مدمنا على ركوبها، يعتليها في غدوه ورواحه، وربما هذه الرياضة هي التي جعلته سليم البدن حتى شارف على التسعين وهو لا يشكو من مرض، بل حتى الأمراض السارية اجتنبته كالسكر وضغط الدم فضلا عن روحه المرحة وحسن تقديره للأمور التي ساعدته على اجتياز مطبات الحياة المختلفة ؛ فهو ليس ممن يضخمون المشكلة أو ممن يجعلون من الحبة قبة كما يقولون.
دعته الحاجة ذات مرة للذهاب إلى درنة.. وذهب إليها ثم رجع فسأله أصدقاؤه عن الاستقبال الذي استقبل به، فبادرهم بأنه ما أن وصل إلى المنحدر المعروف بالعقبة الذي يؤدي إلى درنة حتى رحبوا به، فقد قوبل بالسيارات الصاعدة التي لابدّ أنها كانت تحييه وتستقبل قدومه.. ثم سئل عما إذا كان قد تناول الغداء هناك في درنة فقال : والله كنت على عجل جئتُ وتركت اللحم الوطني الذي ذُبح من أجلي معلقا بالمجازر لم أذقه.. نعم لقد كنت على عجل.
ومن مآثره أيضا التي يمتاز فيها بسرعة البديهة والرد المباشر الذي لا يبطئ إنه كان جالسا إلى جانب سور مسجد الخلفاء القريب من بيته فمر به أحد معارفه الشيّاب يهرول فقال له : لماذا تجري يا رجل ؟ فقال الشايب أريد أن أصلي.. فقال المهندس : أنت وصلت وستصلي فلِمَ العجلة ؟ فقال الشايب : أنا خائف، خائف من النار.. فقال المهندس بلهجته المعهودة : اللي تخاف منها ما تخطاك.
اسمه امحمّد طاهر السعيطي..أما سبب تسميته بالمهندس فلذلك قصة.. فقد لازم العمل مع محمد سالم العبيدي مهندس الأشغال في فترة الخمسينيات إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي، وله مع صاحبنا مقالب وحكايات طيلة تلك الفترة يجل الموقف عن الحديث عنها.. المهم أن الطـرّاد الذي يضخ المياه من عين الدبوسية إلى البيضاء مرورا بالقبة والأبرق قد تعطل.. ولزم هذا الحدث تجمّع المسؤولين من تلك المناطق للأشراف والمشورة على إصلاح تلك المضخة، وذهب صاحبنا برفقة محمد سالم الذي كان يحبه ولا يستغني عنه.. ووصلوا عين الدبوسية وجدوا جمعا خفيرا من الناس تنتظر وصول طاقم الصيانة.. وتعرّف امحمد صاحبنا على بعض من كانوا مشرفين على إدارة المضخة الذين كانوا ينتظرون المهندس الميكانيكي الذي سيصلح الآلة، وكان بيد صاحبنا عود التقطه عندما اقترب من المضخة وضربها به وقال لهم بلهجته المازحة (ولعوا الموتور يا أولاد) وكانت قد أعيتهم محاولات التوليع السابقة وقد باءت كلها بالفشل، ولكنهم قالوا ها نحن نولع جبرا لخاطرك فقط، غير أن المحرك اشتغل، نعم اشتغل بقوته الكاملة ورفع المياه سريعا إلى مناطقه البعيدة، مما جعل الواقفون جميعا يصفقون لعودة المحرك واستحسانا بالفأل الحسن الذي كان بقدوم صاحبنا وضربة عوده على المحرك.. ومنذ ذلك اليوم لصق به لقب المهندس ولم يذكروا اسمه الحقيقي إلا لماما.. ومقارنة بهذا الحدث فقد مرَّ سيدي امحمد بعد حادثة طراد المياه، وكان الخبر قد انتشر بين الناس وصار كل من يقابله يدعوه بالمهندس من باب المودة والاستظراف.. المهم إنه مرَّ على السينما الشرقية وهي في دور البناء، وقد كان ذلك اليوم هو يوم صب الخرسانة، فوقف سيدي امحمد قرب العجنة ولمسها وقرّبها إلى فمه كمن يتذوقها وقال لهم : هذه العجنة ليست جيدة، وهذه الألواح غير محكمة، أوثقوها جيدا وإلا ستقع ثم مضى ولم تغطي العجنة بعد مغادرته غير نصف السقف ثم تداعت مما جعل من سمع كلمة سيدي امحمد يقولون (من بدري قالها المهندس).
سيدي امحمد المهندس من رموز البيضاء التي لا يمكن نسيانها، فالناس الظرفاء الذين يحملون الود لجميع الناس على السواء، يحبون الخير المطلق للجميع ويكرهون الشر المطلق لهم لا يمكن أن ننساهم فدائما نحن في ذكرهم الطيب ومآثرهم التي لا تغيب عن الأذهان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق