رماد السنوات
المحترقة.. رومانسية عشق
د. عبدالجواد
عباس

إذا شئت أن تسمِّي مجموعة (رماد السنوات
المحترقة) القصصية بثورة العشق أو خواطر الحب أو الرجل والمرأة أو أشباه ذلك فسمِّها،
يحقُّ لك ذلك بدون تردد ؛ فالقصص ممزوجة بالمرأة وبالهواجس نحوها، بحبها والشغف
بها.. فالقصة الأولى في المجموعة وهي بعنوان (ابتسامات) التي أجاد القاص اختيار
هذا العنوان لها ؛ لأنها بالفعل ابتسامات، مبعثها تصرف يدعو لكثير من الابتسامات..
دهشة وتحيّر لمرأى رجل قد تعوَّد مخالطوه منه أناقة الملبس وأناقة الكلمة، ولكنه
خذلهم فقد نسي هذه المرة وخرج إلى عمله بملابس النوم.. ولأنه منشغلٌ بموضوع تكريمه
الذي تأخر عنه لوقت طويل فإنه لم يمر على ذكر المرأة في هذه القصة إلا مرور الكرام
حين ارتدى تلك الملابس على عجل ومرّ بتلك " المعلمة العانس التي ظلت على
الدوام ترسل نحوي نظرات معانقة " كما يقول.
أما
في قصة (دروب) فنجد القاص يؤثث لجمال المرأة في أكثر من موضوع فيتغنى لمرآها
وتفاصيلها وصوتها ومناغاتها وحتى هيأتها ومشيتها.. إنها هفوات جنسية تنتاب
شخصياته، ولكن أسلوبها الراقي يمنعها من السقوط في الهاوية، فهي ترتفع على ركائز
صوفية غارقة في حظيرة الذات، منساقة إلى التداعي في عبق الفكر والجمال..إنه يتحدث
بلسان العاشق الحقيقي الذي استهوته المرأة وأصابه الحب إلى النخاع حين " رأى
إلى وجهها المتألق.. كان يستضيف الشمس.. شعرها يستحم بالشقرة.. ابتسمت له.. شعر
بطعم السكر في فمه.. اقتربت منه.. تثاءب عطرها في وجهه.. سرى إلى قلبه.. انتشى..
تسربت قشعريرة في جسده "(1).وفي هذه القصة لا يخلو
الأمر كله من الفلسفة في الوصف واستخراج المعاني.
وفي قصة (ارتباك) تبلغ الفلسفة قمتها حول
علاقة الرجل الكبير بالمرأة الفتية حيث التقنية السردية متداولة بين كلام المرأة
وكلام الرجل بأسلوب تيار الوعي عن عاطفة الحب الحارة عندما ينظر الرجل الكبير إلى
حاله يناقش عاطفته تجاه ما تدعوه إليها غريزته الفطرية تجاه أنثى مكتملة الأنوثة
التقى بها، يحدِّث نفسه فيها قائلا : " يا الله ! ما هذا الجمال الذي يعرض
نفسه على قلبي بعد أن أقلعت مراكب العمر نحو شطآن الكهولة..؟" (2) وكانت هي الأخرى تحاول فرض التبريرات للوقوع في حب هذا
الرجل الكبير قائلة لنفسها : " سيمنحني هوىً دافئا دافقا استوى على مرجل
التجربة.. إن التعلق به أجدى لي من عشق فتىً قليل التجربة، أمّيّ الهوى"(3).. لقد بذل القاص مجهودا فنيا كبيرا ليُوفـّق بين آراء
ومرتكزات أسلوبية ولغوية عالية المستوى.. وقصة ارتباك عبّرت بهذه المعطيات عن
كونها أحسن قصة بعد قصة (الألسن) التي تليها في الرتبة قصة (سباق جياد)،
فقصة(الملك الذي هزمته الريح ) فقصة (الشجرة).. وهكذا.
كما نجده يشخّص الأشياء فيحوّل بعضها إلى
إناث وبعضها الآخر إلى ذكور حيث الشبق يتمثـّل في كل شيء، حتى في الأحصنة والأشجار
والثمار مما يشير إلى تشبُّع وغليان أذهان شخصياته بالجنس فيعقد بذلك سيناريو من
الرؤى واللمسات والهواجس الدفينة ؛ كتلك البذرة في قصة (الشجرة)(1)
التي عبّر عن حاجتها للماء بطريقة فنية لا تخلو من المغازلة؛ إذ وصف حاجتها للماء
بأنه " في الاتجاه الآخر ثمة سحابة بكر خجول، يراودها رعد نزق عن أنوثتها..
لم تقاوم كثيرا، منحته موافقتها بغمزة من برقها.. استجابت لمراودته بدلال متصنّع..
ظل المطر المراهق يراود البذرة المتعرية عن نضجها وطراوتها مرسلا قبلا من رذاذ
رقيق "(2).. وكذلك أجرى التشخيص في قصة ( سباق جياد)
حيث حصان الأمير مغرم بابنة إحدى الأفراس، ولكنها تدعي بأنها ترفضه، قائلة :
"إني أرفضه زوجا لابنتي.. لقد ظل يتشبب بها عبر صهيل مهووس متواصل منذ الليلة
البارحة..لكني منعتها من أن تردَّ على هواتفه الملحاحة ولو ببنت صهلة.."(3)
وفي
غمرة ذلك هو لم يترك التعبير الأدبي الذي يرقى إلى مراتب الصوفية بنثر يحمل نبرة
الشعر، إذ كيف تميّز الشعر من النثر حينما نقرأ هذا العزف:"احمرّ خداها
لقبلات النسيم العاشق، اهتزّ خصرها لمخاصرة الريح الطروب، راقت لها الرقصات
الساحرة.. غنّت بهفيف كالوسوسة استجابة لمغازلات العصافير ونداءات الشموس المعانقة
"(4).. إنها رومانسية خاصة من الجمال المعتـّق لكل من
يهتزّ لجمال الربيع وبهاء السماء ونداء الطبيعة المشتاق حتى ولو غلـّـفه في هذا
القميص الأنثوي.
وقصة ( الشجرة) من ناحية أخرى بها
تكنيكات فنية خفيّة من التناص والرمز فصاحب الشجرة عندما رأى أنها أصبحت وارفة
أسقطت بعض ثمارها داخل بستان جاره، حاول منعها فرفضت أن تستجيب لإغراءاته بالعدول
عن نزق الإثمار الباذخ والظل المبدد بلا هوادة فاجتثها.. وهذا الحدث المتصوَّر
يتناص مع حدث آخر عن طريق الشعر، بعنوان ( التينة الحمقاء)(5)
لإيلياء أبي ماضي.. لكن تلك التينة رفضت أن تورق وتثمر على خلاف صاحبتنا الشجرة
التي أسرفت في الإثمار والتوريق ولكنهما يشتركان في الرفض، وهذا هو وجه التناص.
كما
هناك رمزٌ ممزوج بالتناص نحس به عندما اجتثّ البستاني الشجرة وحوّلها إلى فحم
انبثقت من الأرض بذور شجرية أخرى كثيرة، وهذا يرمز إلى عموم تكرار وتداول الحياة
والموت على وجه البسيطة.. وبهذا تتناص قصة الشجرة من جانب آخر مع قصة (الجثث)(6) لأحمد يوسف عقيلة، التي مؤداها أن جثة زحفت إلى كوخ حارس
المقبرة وقتلته وأخذت مكانه.. وفي ليلة أخرى جاءت جثة وقتلت الجثة الأولى واحتلت
مكانها، وهو ما يرمز إلى تكرار الموت والحياة، وهذا هو وجه التناص الثاني.
وعندما نأتي إلى قصة (الألسن) نجد شبقا
طفوليا مبكرا لدى طفل لا يتعدى السنوات العشر، يأتمر طربا لطلب أم الفتاة الخرساء
؛ فيجمع لها سبعة ألسن يوم عيد الأضحى لتفكَّ بها خرس ابنتها الجميلة وديعة التي
أشار الغلام إليها بأنها :"تلك الصبيّة الفاتنة التي تحتل عيونها ابتساماتها
ركنا دافئا بقلبي إن لم تكن تحتله كله"(1).
قصة (الألسن) تُعتبر من أحسن قصص
المجموعة، لأنها رُتبتْ ترتيبا سرديا شيّـقا، مما جعل الأحداث متوهجة نشطة وقد بدأ
الحدث الأول في السرد باقتراح النسوة على أم بديعة بجمع سبعة ألسن.. والحدث الثاني
هو تطوع الصبي بمهمة جمع الألسن من أجل عيون بديعة..والحدث الثالث هو حفلة شواء
الألسن، وتناول الصبي أحدها مما أغضب الأم فقامت بطرده، ثم تكرار الأم السنوي
للسبعة الألسن، ثم غياب الصبي مدة طويلة، وعندما عاد لم يجد بديعة، التي كانت
لطيفة كالفراشة وإنما وجد كومة ً من اللحم غير المتناسق، كما بادرته بما يشبه
السباب في لغة الخُرس، والبصق على وجهه، والصوت الذي يشبه الخوار حتى تخيل أن أمها
كانت تطعمها ألسن البقر أثناء غيابه الطويل.. ولا تخلو هذه القصة وغيرها من
التعبيرات الرائعة التي أعلت كيانها وزينت أسلوبها ـ وإن كانت كلها نوازع حميمة
نحو المرأة ـ وعلى سبيل المثال، تعبير الصبي عن نفسه واصفا ما أصابه من لوعة وحزن
عندما طردته أم بديعة من منزلها لأنه أكل لسانا قدمته له بديعة فأنقص بذلك واحدا
من جرعة الألسن، ما اعتبرته الأم خسارة فادحة لا يُسكت عليها فنهرته وطردته ما
جعله يقول في نفسه : " أهانت فيَّ الرجل قبل أن يزهوَ بممارسة رجولته البكر..
نتفتْ شاربيه بطريقة بشعة ".. أو قوله بعد غيابه الطويل ونسيانه تلك الواقعة
: " وشيئا فشيئا صمت الرجل القابع في أعماقي..".. وفي قصة (الربيع) كاد
الأستاذ أن يخون أمانته عندما استهوته تلميذته بعينيها الساحرتين ومطلعها البهي،
كان يدعوها إلى كتابة موضوع عن الربيع ولكنها تعتذر لأنها لم تر الربيع كما وصفه
الأستاذ فكان يردّ بعفوية قائلا : " لكنه رآك وعرفك.. استوطن عينيك وخديك
تاركا قلوبنا للخواء" (2)
الملاحظ أن شخصيات جمعه الفاخري القصصية
تذوب في عشق الجمالات إلى آخر قطرة، خاصة ما يسمّى منها بالمرأة، وقد أثـّث
الأسلوب بتعبير يسيطر عليه التشخيص والتجسيد والاستعارة وكثير من التشبيه بمختلف
أنواعه، وهذه المفردات البلاغية هي التي يرتكز عليها السرد الفني، فضلا عن تقنيات
أخرى كالتناص والرمز أكثر وضوحها في قصص (الملك الذي هزمته الريح، والشجرة، وسباق
جياد)، كما سيطر على السرد في معظم القصص ضمير المتكلم وضمير الغائب.. والملاحظ
أيضا أن القاص قد جسّد السنوات فجعل لها رمادا، فهي محترقة، ليرمز ويلمّح إلى أن
هذه القصص ما هي إلا أحداث مضت في حياته أو حياة شخصياته القصصية، ولكني أرى أنها
لم تمض، ما زال لها دخان وجمر تحت الرماد.. أحسب أن ثمة أحداث تشير إليه بلا شك
ولكنه أسقطها على غيره. ولا ينجوَ صاحب هذا السرد الجميل والقلم السيَّال من
مخالفات طفيفة منطقية ومنهجية وشكلية، وهذه الأخيرة لا دخل له فيها، أحسب أنها
نتيجة نسيان أو غفلة ؛ ففي قصة (لعنات) هناك مفارقة غير فنية ؛ ففي موقف واحد
للقصة لا يتعدّى الزمن الروائي فيه العشر دقائق قال : " كان الليل الشتائيّ
القارس يحتضن المدينة النائمة في هدوء شاعريّ..." ثم في نهاية الموقف القصير
قال : " اندفعت السيارة بقوة مخلـّـفة غبارا مختلطا بدخان كثيف..." (1)، هذه واحدة، أما المخالفة الثانية فهي منهجية، وأعجب كيف
لشفافيته أن تقبل مثل هذا الموقف المرعب الذي لا يتجانس مع بقية القصص ذات الأحلام
الوردية بكل تداعياتها ؛ وأعنى بذلك قصة ( انتقام) الموسومة بالدماء والقتل وتقطيع
الأوصال، إنها نشاز وسط بساط سندسي من القصص الرَّهيفة.. أما المخالفة الثالثة فهي
شكلية ؛ فالقصص لم تـُـكتبْ بخط جيد على الرغم من هذا العزف الجميل ؛ فثمة كلمات
باهتة، بالكاد أن تـُـقرأ، ثم هذا النوع من حروف الطباعة الذي لا يتلاءم وبهاء
القصص وعلوّ أسلوبها.
وتينـة ٌغضَّـة ُ الأفنــــــــانِ باسقة
ٌ قالت لأترابها والصيف يحتضرُ
ولستُ مثمــــــــرة ً إلا على ثقــة إن
ليس يطرقني طيرٌ ولا بشــرُ
إلى أن قال :
ولم يطقْ صاحب البستان رؤيتـَها فاجتثها
فهـــوتْ في النار تستعر
والقصيدة تعتبر من الأدب الرمزي، لأنها
تبين مصير الإنسان الذي لا يفيد غيره فيؤول مصيره على هذه الشاكلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق