الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

أحمد رفيق المهدوي إقامة قليلة ووطنية كثيرة

أحمد رفيق المهدوي
إقامة قليلة ووطنية كثيرة
د. عبدالجواد عباس
الملاحظ أن معظم الشعراء الذين عاصروا طغيان المحتلين، لم يسخِّروا إلا جزءا يسيرا من شعرهم في الوطن، إنما كان معظم شعرهم لأغراض أخرى، في الوقت الذي قضوا فيه عمرهم كله أو أغلبه في الوطن.. لكن رفيقا غير ذلك ؛ فلم يبق في الوطن إلا وقتا قصيرا ؛ فقد ولد سنة1898 وغادر البلاد وهو في الثالثة عشرة من عمره، فلم يع الكثير عن الحياة من حوله، سوى ما يحتفظ به من رؤىً طفولية بعيدة، حيث رحل به والده إلى مصر قبل انقضاء عام من الاحتلال الإيطالي لليبيا سنة 1911.. وفي هذه السن ؛ سن الثالثة عشرة، لم تتضح أمام الطفل مواقف مؤثرة، ولم يتنسم ثرى الوطن إلا قليلا، حتى أنه لا يكاد يذكر مكان مولده في شعره إلا قليلا :
ذهبتْ بالصيتِ فساطو وإن لم يدعْها غيرُها أن تستــــقل
لي إليها نسبة تجعلني بكمـا أعلــنُ إعـــلانَ المــدلْ
مسقط الرأس لها في عنقي مـن أياديها وفـي القلبِ محلْ
وإنما بعد أن تفجرت موهبته الشعرية في سن العشرين، لم يؤثر من الأماكن بالذكر الكثير سوى مدينة بنغازي ونواحيها، يضمنها حنينه إلى الوطن :
فارقتكم وفــــؤادي لا يفارقكم قيـــدتمُوه بأسبابٍ وثيقاتِ
أهلُ الودادِ وحبِّي للبلادِ هُما أسبابُ تعذيبِ قلبي واشتــــياقاتي
ما كان أقصرُه عمراً وأسرعُهُ مَـــرّا كــذلك أوقات المسرََّاتي
إذا تذكرتُ أيامَ الربيعِ وقَــــــدْ كسا الرَّوابي بألوانِ النباتاتِ
وفتّح النُّوْرُ أفواهاً معطرةً سَكِرتْ مِنْ نَفْحِ هاتيك الفُويهَاتِ
والملاحظ أيضا أن أحمد رفيق المهدوي عاد إلى أرض الوطن عودته الأخيرة، سنة 1946، وكان عمره ثمانية وأربعين عاما، أي أنه قضى الجزء الثري من حياته خارج الوطن، الجزء الذي كان يجب أن يحمل ذكريات الوطن الساذجة منها والجادة، الجزء الذي كان يجب أن يحمل الثراء العاطفي الجزء الذي كان يجب أن يحمل الخلفية التراثية عن العادات والتقاليد وشكل المعيشة، الجزء الذي كان يجب أن يحمل المحك الخطير عن حياة المجتمع الليبي داخل وطنه في تلك المرحلة العصيبة من التاريخ.. رغم أن أحمد رفيق المهدوي لم ينغمس في هذا كله، إلا أن الوطن كان الهاجس وكان المنى وكان القيمة العظمى في نفسه، فلا غرو أن نسميها وطنية مفرطة، وحبذا هي...
هذا مع أن أحمد رفيق المهدوي لم يطلـْه ما طال المواطن العادي من قهر وعسفٍ وإظلام، نعم هو لم يتعرض لذلك بالصورة التقليدية، وإنما تعرض لشيء آخر من القمع ؛ لقد تعرض إلى محاربة الوعي فيه، فالاحتلال لا يحبذ الأذكياء والنابهين، وكان هو نفسه يدرك هذا، فأحمد رفيق المهدوي عاد إلى أرض الوطن بمعطيات أخرى ؛ عاد إليه مشحونا بزاد من الوعي الإنساني والقومي والسياسي، أضف إلى ذلك شاعريته المصقولة التي جعلته يمثل أقوى صوت عرفه الشعر الوطني (1). وكاد ينفرد ـ في نظر النقاد ـ بقضية النضال كلها في شعره، مضمنا إيّاها حنينه وتعلقه بالوطن :
حنيناً وشوقاً يا بلادي فإنّني وإنْ طــالَ عنـك العهــدُ لستُ بخوانِ
فما كان بُعْدي عنك إلا ترفعاً عن الضيمِ لا بغضاً ولا قصدَ هجرانِ
وإني لأُخفي في الجوانحِ لـوعةً لِحُبِكِ يذكيها علي البعــدِ تحْنَاني
هذا على الرغم من أن أحمد رفيق لم يقض في الوطن إلا بضع سنين متقطعة، عدا الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته، إلا أنه لم ينسَه، كان وفيّا ً له، شديد الانتماء إليه، فخورا بأهميته، حقيقة لا رياء، كما تستشفه من هذا المجهود الشعري.. مع أن هذا الوطن لم يعطه شيئا كثيرا، ولا يملك فيه سوى بيته، وقد فتح عينيه علي الحياة والوطن محتل، وهاجر منه وهو محتل.. إنها لحظات مسروقة من الزمن الرديء، تلك التي يذكر فيها رفيق المهدوي مآثر الوطن، مع أن معظم تجاربه الواعية ليست في أرض الوطن ؛ فبعد الثالثة عشر من عمره أمضى رفيق في الإسكندرية ثماني سنوات دارسا قارئا متأملا، وهي السنوات التي انتقل خلالها من مرحلة الصِّبا إلى مرحلة الشباب, والتي تكوّن فيها عقله، وتفتّــح فيها وجدانه وتعينت اتجاهاته، وشهد فيها من التجارب ما هو كبير الأثر في رجولته ولا ريب (2).
لذلك، لا غرو أن نعجب بهذا التعلق بالوطن، بهذا الشعر الذي نلمح فيه صدق التجربة، حتى ولو لم يقدّم له هذا الوطن شيئا، حتى ولو تعقبوا خطواته، إلا أن أحمد رفيق المهدوي أدرك أخيراً بأن الوطن هو خير مأوى لبث همومه وامتصاص آلامه، مهما كانت الظروف...
لم أكن يوم خروجي من بلادي بمصيب عجبا لي ولتركي وطنا فيه حبيبي
عجبا لي يا بلادي كيف ضيعت رشادي لم أوفق في اجتهادي
حين فارقت حماك وتوطنت ســـواك بــان لـي قـــــدر الغريب
وبالتأكيد، فإن ما بذله أحمد رفيق المهدوي من قصائد طوال يميزه عن غيره ويدفع عنه الزعم بأن شعره الوطني مجرد وصف خارجي للموقف ومبررات للهجرة وترك البلاد، وأن خصائص الشعر الفنية هي التي جعلت منه أقوى صوت عرفه الشعر الليبي...
ثمة شيء آخر، هو شعر الحنين لدى رفيق المهدوي، فهو لا يمثل الوطنية بصورة شاملة، وعميقة في بعض جوانبه، وإنما هو عبارة عن حنين إلى أماكن متعته أو أصدقائه :
مـــا ســرَّنا بعــد ما ولـــّت شبيبتنا إلا صداقـــة من بالصدق صافانا
وفي الصداقة عن فقد الصِّبا عوض إن الصديق صديقٌ عزّ أو هانا
نحن شـوقا إلــى أوطاننا فــإذا تــبسّم البـارق الـغربيّ أبـكانا
ومن ســـوانا جدير بالبكاء علي ذكرى الفويهات والبـْركة وجليانا
وليس فيها ذلك التداعي والإلحاح والتألم كما في قصيدته السالفة ( لم أكن يوم خروجي من بلادي بمصيب ).. وقد يلتبس الحنين إلى الوطن بالحنين إلى المكان، أيُّ مكان، والرغبة في العودة إليه ومشاهدة معالمه بما فيها من مبان وطرقٍ وأشجار وبشر ٍ وأشباه ذلك، مما كان يألفه الشخص ويتردد عليه، تحقـّقَ له أو خُيل إليه بأنها أوقات سعيدة تلك التي قضاها فيه، بحيث لو يظفر بها ثانية لكان أسعد الناس، حتى ولو كانت هذه السعادة بسيطة أو ساذجة، فهو يقدرها ويجلها.. والإنسان يحن إلى أماكن صباه وأماكن لذاته أو شبابه، حتى ولو لم يكن ذلك في موطنه الأصلي، فهاهو شوقي يحن إلى ذكرياته بزحلة لبنان التي كان قد زارها أيام شبابه، ثم زارها في شيخوخته:
يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك
فثمة فرقٌ بين الوطنية والحنين، وقد وقع ابن الرومي في هذا المقلب، في بيته المشهور :
وحبّب أوطان الرجال إليهمُ مآربُ قضّاها الشباب هنالك
ومع ذلك لم يقل أحمد رفيق المهدوي ما قاله اعتباطا، فالقصائد الوطنية لا يدانيه في كثرتها أحد، فلو لم يكتو ِ بنار الضغينة، بنار الظلم، بنار الحاجة ما عانى في نظمها هذه المعاناة، وحتى لو لم يعش في عمق المأساة المتمثل في المعتقلات والمشانق والسياط، حتى ولو لم ينضم إلى المقاومة، إلا أنه جاهد بالقلم، جاهد بالشعر والمهجة والوجدان.. وفوق ذلك كله يبقى رفيق المهدوي صاحب فضل وشاعرية منّ بها علينا، بدواوين تزين مكتباتنا، فكم من مغترب عن الوطن ومقيم فيه لم يتحفنا بهذا الكم الوافر من الوطنية، ولم يكلف نفسه ولو كلمة وفاء يسديها لوطنه المفقود.. ويبقى أحمد رفيق المهدوي أيضا الشاعر الحقيقي المطبوع, حتى ولو لم يقل بيتا واحدا في الوطنية.

ــــــــــــــــ
(1) طه الحاجري ـ الحياة الأدبية في ليبيا ـ معهد الدراسات العربية 1962 ـ ص 92.
(2) نفسه ـ ص 94

هناك تعليق واحد:

  1. في اي قصيدة توجد الابيات التالية (احمد رفيق المهدوي)
    ساعيش في مرح فلا معنى للياس في حياتي
    متفائلا متطلعا كالمشرئب لما سياتي

    ردحذف